وأمسك حمزة طربوشة بيده وأردف: والآن أستاذنكم لأداء الواجبات الأخيرة لهذه الضحية التعسة. لقد انتصرت حقا على الناس وعلى الحياة، لكنها لم تنتصر على أبنائها.
وغادرنا منصرفا إلى واجبه المقدس ونحن نرمقه بعيون ذاهلة ملأها حديث زهيرة وما أعقبه من موتها هما وألما.
ميراث
كان مشرع ذلك العهد في مصر يجيز الوقف الأهلي، وكان فقهاؤه يقررون أن شرط الواقف كنص الشارع. فكان كثيرون يتخذون من نظام هذا الوقف وسيلة للتخلص من أحكام الميراث الثابتة في القرآن الكريم. يحرمون به ورثتهم من يريدون حرمانه، ويتخطون به أحكام الوصية؛ إذ كانت لا تجيزها لوارث إلا إذا أقرها سائر الورثة، ولا تجيز الوصية لغير وارث في أكثر من الثلث، لقوله عليه السلام: «الثلث، والثلث كثير؛ لأن تترك أولادك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس.»
وشاعت في ذلك العهد عند ذوي اليسار، وعند المتوسطين كذلك، فكرة حرمان البنات من التركة، أو جعلهن تبعا لإخوتهن الذكور، ينلن منهم نفقة تكفيهن العيش المتواضع. ذلك أنهم كانوا يعتبرون أن البنات يخرجن من الأسرة يتزوجن، والملك ملك الأسرة، فلا يجوز أن يأخذ أزواج البنات. أما والشرع يجيز حرمان البنات بالوقف، فلا وزر عليهم في حرمانهن. وأزواجهن ملزمون شرعا بالإنفاق عليهن، فإن لم يتزوجن، فلهن على إخوتهن الذكور نفقة تكفل الكفاف!
وكان عاكف بك من المؤمنين بحرمان البنات إيمانا عميقا؛ لذلك رأى أن يقف أملاكه الواسعة على الذكور من ذريته. فلما كان في المحكمة الشرعية لتحرير وقفيته، مس قلبه شيء من الرحمة، فنص فيها على أن يكون للإناث من الذرية نفقة يدفعها لهن إخوتهن الذكور. ولم يرد بخاطره أن يورد نصا على ما يجري إذا كان الورثة كلهم إناثا، اقتناعا منه بأن ذلك لا يمكن أن يحدث في أسرته، أو نسيانا منه لهذا الاحتمال!
وتوراث ذريته هذا الوقف جيلا بعد جيل، ولم يحدث بالفعل أن خلا الورثة في الأجيال الأولى من واحد أو أكثر من الأولاد الذكور يعيش أخواته البنات في كنفهم، ويتمتعن برعايتهم وعطفهم. وتكاثرت فروع الأسرة على الأجيال، وحدث أن مات الذكور جميعا قبل الإناث في أحد فروعها، فاختصم الذكور - من فرع آخر - هاتيك الإناث، يطلبون الانفراد بريع الوقف كله، نزولا على شرط الواقف. وأقر القضاء وجهة نظر هؤلاء الذكور، ولم ينل الإناث الباقيات من الفرع الذي مات ذكوره كبير ضرر؛ فقد كن في عصمة رجال ذوي يسار، فلم يزعجهن هذا الحكم، وإن أزعج أزواجهن بعض الإزعاج. •••
وتعاقبت الأجيال كرة أخرى، ثم أخذت تنقرض شيئا فشيئا، حتى آل معظم الوقف إلى الشاب المهذب الرقيق «عبده عاكف». وكان طبيعيا أن يعيش هذا الشاب عن سعة، وألا يعني نفسه بأمر غده، وله من إيراد الوقف ما يغنيه عن عمل وكل عناء. وطمعت كثيرات من بنات طبقته في الزواج منه، ثم وقع اختياره على «هيفاء»، مما دل على حسن ذوقه وتقديره. فقد كانت هيفاء - إلى جمالها - تعدله في كرم النسب، وإن لم تكن تعدله في سعة الثراء. صحيح أنها ورثت عن أبيها ما يكفل لها عيشا كريما، لكن ما ورثت لم يكن يكفل أكثر من هذا العيش الكريم.
وقبل أن تدور السنة أنجب الزوجان طفلة بارعة الجمال، اغتبطا بها أشد الاغتباط. ولم يدر بخاطر أيهما ذكر لوقف عاكف بك وشروطه، فهما لا يزالان في إقبال الشباب: وهما يذكران ما يجري على ألسنة النساء: «خيركن من بشرت بأنثى.» لذلك خلعت الأم على طفلتها من ألوان العناية والرعاية ما زاد الأب تعلقا بها وحبا لأمها. وأخذت الصغيرة تنمو وتكبر، وتملأ البيت على أبويها بضحكاتها ولعبها وعبثها، فتزيدهما تعلقا بها، ورعاية لها.
وبعد سنتين وضعت الأم الشابة بنتا ثانية، فلم يغير ذلك من مرح الأسرة وغبطتها. فالشباب لا يسهل أن تشوب الهموم أجواءه. إن أمامه في الحياة أملا طويلا عريضا، فما يفوته اليوم يمكن تحصيله غدا. ولم تبلغ «هيفاء» بعد الثالثة والعشرين من عمرها، ليدور بخاطرها ما قد يخبئ الغد بعد عشرين سنة أو ثلاثين سنة من أيام زوجيتها السعيدة الهنيئة. أما أمها فلم تلبث حين رأت الوليدة الثانية، أن ذكرت وقف عاكف بك وشروطه، وهي تستعجل الغلام الذي تطمئن به إلى أن ابنتها وحفدتها، سيكونون في رخاء من العيش، يستمتعون من رغد الحياة بخير أنعمها. ولقد جاوزت هذه الجدة الشباب إلى الكهولة، فهي حريصة على أن تطمئن في حياتها على مستقبل هؤلاء الحفدة الأعزاء!
Bilinmeyen sayfa