كم أقمت كذلك؟! خمس دقائق! عشر! ساعة كاملة! لا أدري، ثم قمت فتقدمت إلى الباب ففتحته معتزمة أن أنحدر مسرعة إلى الخارج ... لكني وجدته أمامي كأنه ينتظرني، فلما رآني حدق بوجهي وقال: أتبكين؟!
فأشرت إليه بيدي وقلت: وداعا. ثم تركته ونزلت فناديت عربة حملتني إلى بيتي.
دخلت إلى البيت والشمس موشكة أن تنحدر إلى مغيبها، فإذا أبنائي يلقونني وما يزال في نفس أكبرهم من الحزن لفقد أبيه ما أذهب عنه شيئا من مرح الطفولة المتقدمة إلى الصبا. ونظرت إليهم جميعا فازددت هما على همي. أيهم ابن لمن يعرف الناس أنه أبوه؟ وأيهم ابن الجريمة التي اشتركت مع ذلك الوغد في ارتكابها؟ عرتني هزة تناولت كل جسمي من مفرقي إلى أخمصي، وأحسست كأن الحمى تلبسني، فجلست على مقعد وأخبرتهم أني متعبة وأني لذلك غير قادرة على تناول طعام العشاء معهم. وذهبت ما تكاد تحملني رجلاي من فرط الإعياء إلى غرفة زينتي، ألقيت بها ملابسي. والحمى في أثناء ذلك تزداد وأشعر بدوار يكاد يغمى علي معه. وجاءت الخادم تعاونني على خلع ملابسي وتسألني ما بي؟ وماذا كان بي. حمى دوار، اضطراب في الأعصاب؟ ربما كان بي هذا كله. وبينما ألبس قميص نومي ارتميت على صدر الخادم مغشيا علي، ولم أفق حتى كنت ممدة في سريري.
تذكر يا صاح ذلك المرض الذي أصابني وألزمني الفراش أسابيع عدة، والذي كنت ترعاني في أثنائه بزيارتك وجميل عطفك، هو هذا الذي أعقب ما رويت لك، وقضيت الأيام الطوال ما يكاد يعرف النوم إلى جفني سبيلا؛ لأنني كنت كلما أغمضت عيني ارتسمت أمام بصيرتي أشباح مزعجة لجرائم مروعة تقع كلها بين جدران ذلك الوكر الذي قضيت فيه لبانات حبي سنوات متعاقبة، والذي أصبح من بعد مقابلة الوغد الأخيرة فيه مملوءا أفاعي وعقارب تنفث سموما قاتلة. لقد كانت هذه الأفاعي والعقارب تنفث سمومها منذ اليوم الأول الذي عرفت فيه هذا الوكر، لكني كنت في ضلال العماية فلم أرها، بل حسبتها بدائع فن منثورة في المكان، وحسبت فحيحها أناشيد الحب ونجوى الغرام. ويدخل الحين بعد الحين أحد أبنائي يرمقني في عيونه البريئة الطاهرة بعين العطف، فتغمد نظرته في صدري خنجرا ... إذ تجعلني أسأل نفسي: أي الرجلين أبوه؟ وتجعل الطعنة أشد وقعا إذا رأيته ثمرة غرام غير مشروع. كانت هذه الآلام النفسية أشد قسوة من كل آلام المرض، وكنت أحسبها تنتهي بمعاونة المرض على البلوغ بي إلى خاتمة ما كان أشهاها إلى نفسي: إلى الموت. لكنني أحسست بنفسي أتماثل إلى الشفاء، فأيقنت أن الله يريد أن أذوق من عذاب الضمير ما أكفر به عن ثورتي عليه وخيانتي لأقدس الروابط. ابتهلت وأطلت الابتهال، دعوت الله أن يغفر لامرأة ضعيفة خاطئة كي تقوم على تربية أبنائها بكل ما وهبها الله القادر من ذكاء وحسن رعاية، لكن هؤلاء الأبناء أنفسهم كانوا بعض العذاب الذي أعد الله لي، فرجوت أن أنقطع إلى خلوة أديم فيها العبادة أكفر بها عن ذنبي، لكني سمعت من أعماق نفسي صوتا يناديني: إن ذنبك لا كفارة عنه إلى أن يفني الألم هذا الجسم الذي استعذب حلاوة القبلات الآثمة حين نسيت أنت أن لله عينا لا تنام. وفيما أنا في هذا العذاب أقاسي أهواله اتصل بي ما يقول الناس عني فابتسمت إشفاقا: أي شيء من كل ما يستطيعون أن يقولوا يوازي برهة مما أعاني؟! وأسأل نفسي: أيشعر الوغد بشيء مما أشعر به؟ أم هو فخور بما جنى مغتبط بأن يلبس وسامه ويجلس ليقضي بين الناس زاعما أنه يقيم العدل على الأرض وقد كان معي أفحش الظالمين؟ ولكني ما لي وشعوره، إنه رجل ... وأنانيته لا تعرف مثل عذابي لأنه لا يرى آثار جريمته تلاحقه أينما ذهب كما تلاحقني. ثم أنظر إليهم بعطف ومحبة وإعزاز، لا يرى هؤلاء الأبناء الذين لا يقول أحد إنهم أبناؤه، ولكن الناس جميعا يعرفون أنهم أبنائي.
وبرئت من سقمي وعادت إلي قوتي، فحاولت أن أشغل نفسي لعل ذلك يقوم حجابا بيني وبين هذا الماضي الذي يجثم على صدري. وبرغم محاولاتي لم أنجح ولم يسكت صوت ضميري، وكان ما أتظاهر به أمام الناس من سكينة أرد بها عني نظرات الشامتين أشد إلحاحا في تعذيبي من كل شماتة بي. وما أزال حتى اليوم أفكر، وما أزال أضرع إلى الله أن يخفف عني العذاب بعد أن قضيت الشهور تلو الشهور أكفر عن خطيئتي، ثم أراها بعد ذلك كله ماثلة أمامي في صورة هذه الأفاعي والعقارب التي تملأ الوكر وتنفث سمومها فيه وتملأ بفحيحها جوه.
سكتت زهيرة عن هذا الحديث برهة أمسكت على أثرها برأسها ثم قالت: أشعر بصداع. ودقت الجرس لخادمها وطلبت إليها كوب ماء.
فلما خرجت الخادم لتلبي طلبها نظرت إلي وقالت: ألا تراني وذلك شأني، كفارة الحب؟!
ووضعت في الماء المسحوق الأبيض الذي أخرجته من حقيبتها، ثم اعتذرت بحاجتها إلى الراحة، فاستأذنتها وجئت إليكم. وهأنذا الآن قد قصصت حديثها عليكم. •••
أصاح الأصدقاء لحديث زهيرة وكلهم آذان، فلما فرغ حمزة من قصصه جعلنا - وكلنا مأخوذ حزين - نتبادل العبارات في غدر القدر وضعف الإنسان وباطل كبريائه. وقضينا في ذلك وقتا غير قليل قص بعضنا في أثنائه قصصا، وتحدث البعض بأحاديث. وإنا لفي سمرنا إذ دق التليفون وسأل المتكلم فيه عن حمزة، وتناول حمزة السماعة وأجاب السائل ... ثم سمع له وأساريره تنقبض شيئا ووجهه يتجهم من الهم أضعاف ما رأينا عليه ساعة جاء إلينا. فلما أعاد السماعة إلى مكانها سألناه: ماذا؟ وأي أمر عساه؟ فترقرقت في عينه دمعة لم تبد ولم تنحدر، ثم أجاب: انتهى! ماتت كفارة الحب!
ووجم برهة سادنا جميعا في أثنائها صمت مجاملة، أو صمت وجل من الموت وذكره ... وعاد حمزة إلى ملك نفسه، ثم قال: مسكينة هي البائسة التي قضت نحبها بإرادتها كفارة لذنوب لم تكن عليها أثقل تبعتها. لقد كان هذا المسحوق الأبيض الذي وضعته في الماء سما. وهذه خادمتها تخبرني أنها لم تلبث طويلا بعد أن غادرتها لموعدكم هنا حتى بدأت تتلوى من فرط الألم وترفض مع ذلك استدعاء طبيب بدعوى أنه مغص سرعان ما يزول! ولما لم يبق لها باحتمال الألم طاقة نودي الطبيب من غير علمها، فلما بصرت به داخلا عليها يسألها عن حالها، قالت له في لهجة المنتصر: لا فائدة يا سيدي الطبيب، لم يبق بي إلى علاج من حاجة. إنني أرى الخاتمة تدنو، وإذا استغرق ما بقي علي أن أعاني من ألم سويعة أو بعضها حتى يتم السم الذي تناولت واجبه، فهجرة الناس جميعا هي الراحة الكبرى، وهي أكبر انتصار لي عليهم وعلى الحياة.
Bilinmeyen sayfa