وتركه المفتش الإنجليزي، وانصرف ولم يناقشه في شيء. فلما انفرد الرجل بعد ذلك في زنزانته وأقفل عليه بابها، بدأ يضطرب، وأخذ يسأل نفسه: من هم أولئك الشهود الذين أدلوا بشهادتهم ضدي؟! ثم خشي أن يكون المفتش قد أراد استدراجه لعله يعترف بشيء، وظل في هذا الاضطراب طول ليله، يذكر أحيانا ما أصدرته المحاكم العسكرية البريطانية من أحكام بالإعدام، أو بالأشغال الشاقة المؤبدة، وكيف نفذت هذه الأحكام لفورها؟!
ترى لو صح ما يقوله المفتش الإنجليزي، وكان بعضهم قد شهد ضده، فأي عقوبة توقع عليه: الإعدام، أم الأشغال الشاقة؟
واقشعر جسمه، وجعل يتصور نفسه معلقا في حبل المشنقة، أو راسفا في الأغلال، يجره قيد الحديد في رجليه، والسجان من ورائه يدفعه ليقطع الحجر. واستعاد أمام ذاكرته ما حدث منه، فتصور أن حماسته لحرية وطنه قد كانت حماسة حمقاء، وأن ما كان يدبره مع بعضهم لارتكاب هذه الجرائم، التي ذهب بعض الضباط الإنجليز ضحيتها، ليس من شأنه أن يؤدي إلى استقلال كما كانوا يظنون، وأنهم إنما ألقوا بأنفسهم إلى التهلكة جريا وراء خيالات لا تتحقق ... ترى: أيستطيع المحامون ببلاغتهم إنقاذه؟ لو أن ذلك كان في الإمكان، لأنفق فيه كل ماله. فهو الذي كسب بجده معظم هذا المال، وهو قدير على أن يكسب مثله إذا كفلت له الحياة من جديد ... وهل تراه إذا دافع عنه أكبر محام إنجليزي في العاصمة البريطانية، أكفل ببراءته، أو بحكم مخفف ينجيه من الموت، ومن عذاب الأشغال الشاقة؟
لكن هذه أمان قل أن تصدق، فقد ترافع محام إنجليزي كبير، جاء خصيصا من لندن، فلم ينج ذلك موكله من الحكم عليه بأشد العقوبة ... أوليس الأفضل أن يعترف بإجرامه، وأن يطلب من المحكمة الرأفة؟ فهؤلاء الضباط الإنجليز، الذين تتألف منهم المحكمة، يقدرون ذلك، ويدخلونه في حسابهم حين يحكمون ... وهب المحكمة سألته عن شركائه، فماذا يقول؟ أيعترف عليهم فيعتبره الناس نذلا خائنا حقيرا فاقد المروءة، فيحتقرونه ولا يضع أحد منهم يده في يده ما عاش؟!
لكن المروءة والكرامة والشهامة، واحترام الناس ... لها قيمتها عند الأحياء فيما بينهم، فأما المعرض للشنق أو الأشغال الشاقة فلا ينبغي أن يكون لهذه الاعتبارات قيمة عنده. فأين مروءته، وأين احترام الناس إياه يوم يشنق؟! وأين شهامته، وأين كرامته، حين يضربه السجان الغليظ القاسي ليقطع الحجر، فلا يستطيع أن ينظر إليه معاتبا، أو لائما، مخافة ما هو شر من الضرب ... مخافة الإذلال والازدراء؟!
وجعلت هذه التصورات المتناقضة تعبث بالثري الوجيه أياما وليالي، وهو منفرد في زنزانته، لا يستطيع أن يقضي بشيء منها لأحد. وبعد أسبوع أو نحوه من عبثها به، مر به المفتش الإنجليزي الذي يعرفه، فلما رآه الرجل خيل إليه أنه ملاك بعثته السماء لإنقاذه. ولم يطل بين الرجلين الحديث؛ إذ قال الثري الوجيه لزائره: وماذا فعل شاهد الملك في القضية المنظورة الآن بالقاهرة؟
وأجابه المفتش الإنجليزي، وعلى شفتيه ابتسامة صفراء: «إنه يتمتع بحريته كاملة، فقد نقل أول أمره من السجن إلى المستشفى، ثم لم يقدم للمحاكمة، وعين له بعد انتهاء القضية حارسان يتبعانه كأنهما ظله، احتياطا له من أن يعتدي عليه أحد.»
وسكت الثري الوجيه طويلا ثم قال: «هل أستطيع أنا كذلك أن أكون شاهد ملك؟»
وأجابه المفتش الإنجليزي: «ذلك يتعلق بقيمة المعلومات التي تدلي بها، فإن كشفت للمحققين عن الحقيقة الكاملة، ودلتهم على الذين ارتكبوا هذه الجرائم، كنت شاهد ملك. أما إن لم تكشف شهادتك عن الحقيقة كاملة، فقد تؤدي إلى تشديد العقوبة عليك!»
وانصرف المفتش الإنجليزي، مطمئنا إلى أن صاحبه هذا يوشك أن تنهار أعصابه، فلا يخفي على المحققين ولا على المحكمة شيئا.
Bilinmeyen sayfa