وأجابها فريد: بل خلقت واختارها الله إلى جواره من زمن طويل.
رحم الله عزة، ويرحم الله وفاء!
شاهد الملك
كانت المحكمة العسكرية البريطانية تعقد جلساتها لمحاكمة الذين اعتدوا على القوات البريطانية المسلحة في أثناء الثورة المصرية في سنة 1919. وكانت بعض الاعتداءات شديدة إلى حد أثار نفوس البريطانيين، وجعلهم يرون قمعها بغاية الشدة. فقد قتل من الضباط والجنود البريطانيين عدة أفراد، ومثل ببعضهم. وقد بلغ في بعض الأحايين حدا لم تحتمله دولتهم، ولم يحتمله زملاؤهم من رجال الجيش، ولهذا اتجه التفكير إلى توقيع عقوبات صارمة، لا تحقيقا للعدالة وكفى، بل ردعا كذلك لكل من تحدثه نفسه بارتكاب مثل هذه الحوادث.
وكان نظام «شاهد الملك» متبعا أمام المحاكم العسكرية البريطانية. وشاهد الملك هو الشريك في الحوادث، الذي يتبرع بالشهادة على كل من اشتركوا معه فيها، أو يسهل للقضاء العسكري الوقوف على الحقيقة كاملة في أمرها.
وكان شاهد الملك يعفى من كل عقاب، بل كان لا يقدم للمحاكمة. وذلك خلافا للمبادئ المقررة أمام القضاء المصري، والقضاء الفرنسي، من أن اعتراف متهم على متهم لا يؤخذ به إلا إذا أيدته أدلة وقرائن أخرى تقنع القاضي بصحة هذا الاعتراف.
وكان الناس يتطلعون مشفقين إلى القضية التي يجري تحقيقها، والتي قبض فيها على أكثر من ثلاثين بتهمة الاعتداء على القوات البريطانية، اعتداء أدى إلى قتل بعض أفرادها، والتمثيل ببعض من قتلوا. وكان بين المقبوض عليهم جماعة من الأعيان، وآخرون من المثقفين الحاصلين على شهادات عليا، من مصر ومن أوروبا، ومن إنجلترا نفسها. وكان أكبر ما يرجوه المشفقون ألا يكون في هذه القضية شاهد ملك، وألا يعترف أحد من المقبوض عليهم فيها، فلم يكن متوقعا أن يتبرع أحد غير المقبوض عليهم بالشهادة؛ لأن الناس كانوا إذ ذاك يؤمنون بأن هذه الحوادث لم يدفع إليها دافع إجرامي، وأنها نوع من الحرب بين دولتين، تريد إحداهما تحقيق استقلالها وقد اعتدت عليه الأخرى. ولا عقاب على ما يقع في الحرب من مثل هذه الحوادث.
وكان بين المقبوض عليهم في القضية، رجل من الأثرياء ذوي الوجاهة، اتهم بالتحريض على قتل من قتلوا. فلما دخل السجن مع رفاقه، دخله رافعا رأسه، فخورا بأنه اشترك في عمل مجيد، لحرية وطنه واستقلاله. ولم يدر بخاطر أحد من الذين اعتقلوا معه، ولا من غيرهم، أنه عرضة للضعف أو التخاذل؛ فثروته الطائلة تسمح له بأن يوكل عنه أقدر المحامين، وأن يوكل محاميا إنجليزيا كبيرا، يحضر من لندن خصيصا للدفاع عنه. فلما وضع بالسجن الانفرادي، في إحدى الزنازين، وقضى به أياما، لا يسأله أحد عن التهمة الموجهة إليه، بدأت الحيرة تدب إلى نفسه، وبخاصة لأنه كان يرى في بعض الأحايين جماعة من المفتشين الإنجليز - مفتشي الداخلية، ومفتشي النيابات - يمرون بالسجن، وينظرون إليه وإلى زملائه نظرة حقد وكراهية!
وكان يخشى في كل ساعة أن يدخل عليه في زنزانته من يسأله ويحرجه، ولم يخطئ حدسه؛ فقد دخل عليه يوما مفتش إنجليزي يعرفه، ويتكلم العربية، وخاطبه باسمه، وقال له: أتعلم أن بعض الشهود قرروا أنك حرضت على قتل الجنود البريطانيين؟
وجمع الرجل كل شجاعته حين سمع هذا الكلام، وقال: ما أظن أن أحدا يوجه إلي مثل هذه التهمة الكاذبة، فأنا لا أعلم عن هذه القضية شيئا قط، وليس لي أعداء يريدون لي السوء فيلفقون ضدي وقائع لا أصل لها، بعد أن أقسموا اليمين على أن يقولوا الحق.
Bilinmeyen sayfa