فافتر ثغرها عن ابتسامة عجب وارتياح، وقالت بلهجة تنم عن ثقة مكينة بالنفس وهي ترفع رأسها في كبرياء لطيف: طبيعي ...!
فضحك حسين، وابتسم كمال، ثم قال الأول يخاطب الآخر: عايدة تعد مرجعا للذوق الباريسي في حينا جميعه.
فقال كمال وهو لا يزال يبتسم: طبيعي ...
فكافأته عايدة بضحكة رقيقة خافتة كسجع الحمام، مسحت عن قلبه الأثر الخفيف الذي تركه النزاع الأرستقراطي البديع! ... العاقل من يعرف لقدمه قبل الخطو موضعها، فاعرف أين أنت من هؤلاء الملائكة، المعبود الذي يشرف عليك من فوق السحاب يتعالى حتى على أهله المقربين، فما وجه العجب في هذا؟ ما كان ينبغي أن يكون له أهل أو أسرة، فلعله اتخذهم ليكونوا وسطاء بين ذاته وبين عابديه، أعجب به في هدوئه وحدته، وتواضعه وتكبره، وإقباله وإدباره، ورضاه وغضبه، كل أولئك صفاته فارو بالعشق قلبك الظامئ، انظر إليها، إن الرمال تعوق مشيتها فتوانت خفتها، واتسعت خطواتها، وتمايل أعلاها كالغصن الثمل بالنسيم الواني، ولكنها وهبت الأبصار صورة جديدة من محاسن المشي تضارع في جمالها مشيتها المعروفة فوق فسيفساء الحديقة، وإذا التفت إلى الوراء فرأيت آثار القدمين اللطيفتين مطبوعة فوق الرمال، فاعلم أنها تقيم معالم للطريق المجهول يهتدي بها السالكون إلى سبحات الوجد وإشراقات السعادة، في زياراتك السالفة لهذه الصحراء كان نهارك ينقضي في اللعب والوثب سادرا عن نفحات المعاني؛ لأن برعمة قلبك لم تكن تفتحت، أما اليوم فأوراقها ندية برضاب الهوى، تقطر بهجة، وتنز ألما فإن تكن سلبت طمأنينة الجهالة فقد وهبت القلق السامي، حياة القلب، وأنشودة النور. - جعت.
ندت الشكوى عن ثغر بدور، فقال حسين: آن لنا أن نعود، ما رأيكم؟ على أي حال أمامنا مسافة طويلة سيجوع في نهايتها من لم يجع.
ولما بلغوا السيارة أخرج حسين الحقيبة والسلة المملوءتين بالطعام، فوضعهما على مقدمة السيارة، وراح يزيح الغطاء عن سلته، غير أن عايدة اقترحت أن يتناولوا الطعام على درجة من درجات الهرم، فمضوا إليه وارتقوا درجة من درجات الأساس فحطوا الحقيبة والسلة في وسطها، وجلسوا على حافتها تاركين أرجلهم تتدلى. بسط كمال جريدة كانت في حقيبته، وطرح عليها الطعام الذي جاء به، دجاجتين، وبطاطس، وجبنا، وموزا، وبرتقالا، ثم تابع يدي حسين وهو يستخرج من السلة طعام «الملائكة»، فإذا به: سندويتشات أنيقة، وأكواب أربع، وترموث ... ومع أن طعامه كان أدسم فإنه بدا - في ناظريه على الأقل - عاطلا عن حلية الأناقة، فساوره قلق وحياء. وتساءل حسين وهو يرمق الدجاجتين بنظرة ترحاب: عما إذا كان صاحبه قد أحضر أدوات مائدة، فأخرج كمال من الحقيبة سكاكين وشوكا، وشرع يقطع الدجاجتين شرائح. وهنا نزعت عايدة سدادة الترموث وراحت تملأ الأكواب الأربع، فإذا بها تمتلئ بسائل أصفر كالذهب، فلم يملك كمال أن يسأل داهشا: ما هذا؟
فضحكت عايدة ولم تجب، أما حسين فقال ببساطة وهو يغمز أخته بعينه: بيرة. - بيرة؟!
هتف كمال كالخائف، فقال حسين بتحد وهو يشير إلى السندوتشات: ولحم خنزير. - أنت تعبث بي! لا أصدق هذا. - بل صدق وكل، يا لك من جحود! جئناك بأنفس ما يؤكل، وألذ ما يشرب.
أفصحت عينا كمال عن دهش وانزعاج، وانعقد لسانه فلم يدر ماذا يقول، وكان أشد ما يزعجه أن هذا الطعام والشراب جهز في البيت، وبالتالي عن علم أهله ورضاهم. - ألم تذق شيئا من هذا من قبل؟ - سؤال في غير حاجة إلى جواب. - إذن ستذوقه لأول مرة، والفضل لنا. - هذا محال. - لمه؟ - لمه! سؤال في غير حاجة إلى جواب أيضا.
رفع حسين وعايدة وبدور أكوابهم وشربوا جرعات ثم أعادوها، ونظر الأولان إلى كمال مبتسمين كأنما يقولان له: «أرأيت أنه لم يحدث لنا شيء!» ثم قال حسين: الدين! هه؟ كوب من البيرة لا يسكر، ولحم الخنزير كله لذة وفوائد، لست أدري ما حكمة الدين في شئون الطعام!
Bilinmeyen sayfa