التفت حسين ناحية كمال قائلا بصوت لم يخل من أثر للغيظ: القاعدة المتبعة في أسرتنا هي العمل على زيادة الثروة، ومصادقة ذوي النفوذ، فتأمل من وراء ذلك في رتبة البكوية، وعليك بعد ذلك مضاعفة الجهد؛ لإنماء الثروة ومصادقة النخبة الممتازة حتى تنال الباشوية، وأخيرا أن تجعل غايتك العليا في الحياة التودد إلى الأمراء، والقناعة بذلك ما دامت الإمارة لا تنال بالعمل أو اللباقة، أتدري كم كلفتنا زيارة الأمير الأخيرة؟ ... عشرات الألوف من الجنيهات ضاعت في ابتياع أثاث جديد وتحف نادرة من باريس.
فعارضته عايدة قائلة: لم ينفق ذلك المال توددا لأمير من حيث هو أمير فحسب، ولكن لكونه شقيق الخديو؛ فالدافع إلى المجاملة كان الوفاء والصداقة لا التودد والزلفى، وهو بعد شرف لا يماري فيه عاقل.
ولكن حسين تمادى في عناده قائلا: ولكن بابا لا يفتأ يوطد علاقته بعدلي، وثروت، ورشدي، وغيرهم ممن لا يمكن أن يتهموا بالإخلاص للخديو ... أليس في ذلك تسليم بالحكمة القائلة بأن الغاية تبرر الواسطة؟ - حسين!
هتفت به بصوت لم يسمعه من قبل، بصوت نم عن الكبرياء، والاستياء والتأنيب، كأنما أرادت أن تنبهه إلى أن هذا الكلام لا يجوز أن يقال أو في الأقل لا يجوز أن يجهر به على مسمع من «غريب» فاحمر وجهه خجلا وألما، وفترت السعادة التي حلق في أجوائها ساعة بالاندماج في هذه الأسرة الحبيبة. وكانت هامتها مرفوعة، وشفتاها مضمومتين، وفي عينيها نظرة موحية بالتقطيب وإن لم يلمح له أثر في جبينها، كانت بالجملة غضبى، ولكن كما يخلق بالملكة العريقة أن تغضب، ولم يكن رآها من قبل منفعلة، ولم يكن يتصور أنها تنفعل، فرنا إلى وجهها في دهش وارتياع، وامتلأ إحساسا بالحرج حتى ود لو ينتحل عذرا يتنحى به عن متابعة الحديث، ولكن لم يمض على ذلك ثوان حتى أفاق من غشيته وراح يتملى جمال الغضب الملكي في الوجه الملائكي، ويتذوق لفحة الكبرياء، واستعلاء الإباء، وتجهم السماء، ثم عادت كأنما لتسمعه هو: إن صداقة بابا لمن ذكرت تعود إلى تاريخ قديم سابق على خلع الخديو.
عند ذلك رغب كمال صادقا في أن يبدد هذه السحابة، فساءل حسين مداعبا: إذا كان هذا رأيك فكيف تحتقر سعد لأنه كان أزهريا؟
فضحك حسين ضحكته الصافية وهو يقول: إني أكره التودد إلى الكبراء، ولكن لا يعني هذا أن أحترم العامة ... إني أحب الجمال وأزدري القبح، ومن المؤسف أن الجمال قل أن يوجد في العامة.
ولكن عايدة تدخلت في الحديث قائلة بصوت معتدل: ماذا تعني بالتودد إلى الكبراء؟ إنه سلوك يعاب على من ليس منهم، ولكن أظننا من الكبراء أيضا، وليس توددنا إليهم دون توددهم إلينا.
فتطوع كمال للإجابة عن حسين قائلا بإيمان: هذا حق لا مراء فيه.
وما لبث أن نهض حسين وهو يقول: حسبنا جلوسا، هلموا نواصل السير.
نهضوا فاستأنفوا السير متجهين نحو أبي الهول في جو ظليل انتشرت تجمعات السحب في آفاقه حتى تعانقت وحجبت الشمس بستار شفاف، فاكتسى منها لونا أبيض ناصعا يقطر صفاء وملاحة. والتقوا في طريقهم بجماعات من الطلبة والأوروبيين نساء ورجالا، فقال حسين مخاطبا عايدة، ولعله أراد أن يسترضيها بطريق غير مباشر: إن الأوروبيات يتفرسن في فستانك باهتمام، مبسوطة؟
Bilinmeyen sayfa