وتقصيرهم عن مراتب العلماء قبلهم، ... فلم يعتنوا بحفظ سنة، ولا الوقوف على معانيها ...، ولا اعتنوا بكتاب الله جل وعزّ فحفظوا تنزيله، ولا عرفوا ما للعلماء في تأويله (أي تفسيره)، ولا وقفوا على أحكامه، ولا تفقهوا في حلاله وحرامه، قد اطرحوا علم السنن والآثار، وزهدوا فيها، وأضربوا عنها، بل عَوَّلُوا على حفظ ما دُوِّن لهم من الرأي والاستحسان، الذي كان عند العلماء آخر العلم والبيان ... وإن الفروع لا حد لها تنتهي إليه، ولذلك تشعبت، فمن رام أن يحيط بآراء الرجال، فقد رام ما لا سبيل له ... " (١).
قلت: وقد أدّى ابن عبد البر -رحمة الله عليه- دوره على أحسن وجه وأكمله بردّ الناس إلى فقه الكتاب والسنة، فشرح لهم الموطأ على طريقة أهل الأثر، وكتب لهم التآليف النافعة في الفقه والتاريخ، فنفع الله بها العباد والبلاد، وتكوَّن بطريقته هذه فقهاء عظام أمثال أبي الوليد الباجي (ت: ٤٧٤) صاحب التآليف المشهورة، وابن السِّيدِ البَطَلْيَوسي (ت: ٥٢١) شارح الموطأ، وأبي بكر بن العربي الذي رجع في كتبه بالفقه إلى صفائه العلمي يفكه من قيود الجدليات والعصبيات، فسلك في خدمة المذهب المالكي مسلكًا فريدًا، يضبط ما تناثر في مصادره من الأقوال، بما قاله مالك وخالفه فيه أصحابه أو ما وافقوه فيه، أو ما انفرد أصحاب مالك ومن بعدهم بتقريره من الأحكام، فدرس الأقوال الفقهية وحقق الصور التي تتعلق بها، حيث كانت صورة واحدة واختلفت فيها الأنظار، أو صور مختلفة يرجع كلّ قول إلى واحد منها، واهتم بوضع كل حكم في نصابه وذلك بضبط الأركان والشروط التي تتحقق بها ماهية كل موضوع من مواضيع الأحكام الفقهية (٢)، فكان بذلك عمادًا متينًا لدور الانتعاش في المذهب المالكي يوازي عمل ابن زمنين (ت: ٣٣٩) وابن عبد البر ﵏ جميعًا وجزاهم عنا وعن الإِسلام كل خير.
_________
(١) جامع بيان العلم وفضله: ٢/ ٢٠٧ (ط: السلفية بالمدينة).
(٢) على الوجه المعلوم في كتبه، انظر دراستنا لمؤلفات ابن العربي وبخاصة الفقهة والحديثية منها.
1 / 36