ويغمر الفيضان مصر في فصل الصيف، فيخصب الحقول الجافة بالغرين، ويكون الشتاء لطيفا غير حار كما في المناطق الاستوائية فينبت الحب من تلقاء نفسه، ويأتي الفيضان الحبشي في الوقت المناسب إذن، ويكون على عكس الفيضان الذي يغمر العراق إذن، ونعرف مقدار الزمن الذي تدوم فيه رحلة الموجة، ففي النيل الأزرق الأعلى يبدأ الفيضان في أبريل ويبلغ أسوان في يونيو، ويصل إلى الدلتا في يوليو.
ومعظم المياه يصب في البحر منذ ألوف السنين من غير أن ينتفع به، وكان لا بد من حلول عصرنا حتى يشاد سد أسوان وسواه في مصر وتسقى الأراضي على طول النيل وإلى ارتفاع ما، فتعطي الأطيان محصولين أو ثلاثة محاصيل وتغدو الصحراء من ورائها خصيبة.
الفصل الحادي والعشرون
ترى ابن ضفاف كل جدول منذ أقدم الأزمنة في غم من أعمال ابن المجري الفوقاني وحركاته فيسأل في نفسه عن استنفاد هذا الجار كثيرا من الماء، وعن تحويل إياه إلى مصلحته، وتحمي قوانين جميع البلدان ابن المجري التحتاني من اعتداء ابن المجري الفوقاني إذا كان كلا الفريقين يسكن بلدا واحدا على الأقل. وإذا كان منبع جدول خاصا بمالك أرض آخر فإن الانتفاع الصحيح بمجاري الماء يصبح صعبا لما يصير به جميع الدواليب التي يديرها وجميع الأموال الخاصة في خطر، ويبدو الوضع أشد خطرا عندما يتوقف أمر بلد بأسره على مجرى ماء عظيم، لا من أجل مائه الصالح للشرب، بل من أجل الحبوب التي تغذي سكانه، وذلك عندما يكون منبع مجرى الماء هذا في بلد آخر، وعلى أصحاب السلطة في المصب أن ينفذوا في نفس أصحاب السلطة في المنبع نفوذا تاما حتى يعرفوا مقاصدهم. وماذا يقع لو تنافر الفريقان فصرف ساكن المجرى الفوقاني منبع الماء عن وجهته عن خبث غير خائف مقابلة بالمثل؟ فالاشتراع الدولي في أمور الري وهمي ككل حق دولي.
وما كان يساور قدماء المصريين من غم فمثل ما يساور المصريين المعاصرين، وذلك تجاة أمة إثيوبية البعيدة النكرة التي وضعت الآلهة منبع النيل الأزرق بين يديها كما وضعت الفيضان الأكبر والغرين المولد اللذين لا يمكن مصر أن تعيش بدونهما، وفي الأساطير والكتابات شواهد على تنازع أهل المجرى التحتاني وأهل المجرى الفوقاني وتفاوضهما. وقد أدى هذا الوضع إلى مخاوف مخالفة للعقل في الغالب.
وفي القصة أن الفيضان لم يقع في سنة 1106 فضربت المجاعة أطنابها في مصر فأوفد السلطان الأمير النصراني والبطرك القبطي، ميخائيل، إلى نجاشي الحبشة النصراني مع كثير من الهدايا، وقد أثر الذهب في النجاشي وثارت فيه عاطفة الحنان فخرق السد الصغير الذي يحول الأباي الأعلى، فلم يلبث الفيضان أن عم السودان صاعدا في كل يوم ثلاثة قراريط،
1
وفي نهاية الفيضان استقبل ميخائيل في الدلتا استقبال الظافرين، لما كان من سياحته بأبطأ من الماء، وخشي السلطان أن يسلم النصارى البيض مصر إلى أخيهم النصراني القمص، كما خشي هذا القمص النجاشي أن يغير عليه السلطان بغتة راغبا في الاستئثار بالنيل كله إلى الأبد، والنهر إذ يتفلت من المناقع، يتورط في المنازعات الدينية، أو في عالم من الأفكار غريبة عنه غربة الغرين البركاني عن مذاهب الأنبياء.
وما روي من قصة الاجتماع في القاهرة سنة 1488 فيصف لنا السلطان وهو متكئ على أريكته في خيمته الذهبية وسفراء جميع ملوك البيض يقبلون الأرض مرتين أمامه، ويصل رسول النجاشي وحده مضطجعا في محفة
2
Bilinmeyen sayfa