قالت الأشعرية لسنا نسلم أن كل آمر بالشيء مريد حصوله بل كل آمر بالشيء عالم بحصوله مريد له حصولا وكل آمر يعلم حصول ضده لا يكون مريدا لحصوله فإن الإرادة على خلاف العلم تعطيل لحكم الإرادة وتغيير لأخص وصفها وقد بينا أن أخص وصفها التخصيص وحكمها إنما يتعلق بالمتجدد من المقدورات والمتخصص من المقدورات فإذا علم الآمر أن المأمور به لا يحصل قط ولا يتجدد ولا يتخصص قط فيستحيل أن يريده فإنها توجد ولا متعلق لها يتعلق ولا أثر لتعلقها وذلك محال ولو كانت الإرادة خاصيتها أن تتعلق بالممكن فقط كالقدرة لكان جائزا أن تتعلق بخلاف المعلوم.
ومن العجب أن متعلق القدرة أعم من متعلق الإرادة فإن الجائز الممكن من حيث هو ممكن متعلق القدرة والمتجدد من جملة الممكنات هو متعلق الإرادة والمتجدد أخص من الممكن.
ثم قال بعض المخالفين أن خلاف المعلوم غير مقدور وهو أعم فخلاف المعلوم كيف يكون مرادا وهو أخص ثم نقول من رأيي الآمر بالشيء لا يكون مريدا لمأمور به من حيث أنه مأمور به قط سواء كان المأمور به طاعة أو غيره وقد علم الآمر حصولها وسواء كان الآمر بخلاف ذلك فإن جهة المأمور به هو كسب المأمور وقد بينا أن ذلك أخص وصف للفعل سمي به المرء عابدا مطيعا مصليا وصائما مزكيا حاجا غازيا مجاهدا والفعل من هذا الوجه لا ينسب إلى الباري تعالى فلا يكون مريدا له من هذا الوجه بل ينسب إليه من حيث التجدد والتخصيص وما لم يكن الفعل فعلا للمريد لا يكون مرادا له فما كان من جهة العبد من الذي سميناه كسبا ووقع على وفق العلم والأمر كان مرادا ومرضيا أعني مرادا بالتجدد والتخصيص مرضيا بالثناء والثواب والجزاء وما وقع على وفق العلم وخلاف الأمر كان مرادا غير مرضي أعني مرادا بالتجدد غير مرضي بالذم والعقاب وهذا هو سر هذه المسئلة ومن اطلع عليه استهان بتهويلات القدرية وتمويهات الجبرية فعلى هذا لم يكن الباري تعالى مريدا للشرور والمعاصي والقبائح من حيث أنها شرور ومعاصي وقبائح ولا هو مريد للخيرات والطاعات والمحاسن من حيث أنها كذلك بل هو مريد لكل ما تجدد وحدث في العالم من حيث أنها متخصصة بالوجود دون العدم ومتقدرة بأقدار دون أقدار ومتأقتة بأوقات دون أوقات ثم ذلك الموجود قد يقع منتسبا إلى استطاعة العبد كسبا على وفق الأمر فسمي طاعة مرضية أي مقبولة بالثناء ناجزا والثواب آجلا وقد يقع على خلاف الأمر فيسمى معصية غير مرضية أي مردود بالذم ناجزا وبالعقاب آجلا ولولا قدرة العبد في الشيء لكان الفعل فعلا متجددا مختصا بما خصصته الإرادة من غير أن يقال هو خير أو شر إيمان أو كفر فالأفعال كلها من حيث تجددها واختصاصها مرداة للباري تعالى وهي متوجهة إلى نظام في الوجود وصلاح العالم وذلك هو الخير المحض وكانت وجوهها إلى الخير وظهورها من الخير وكان بيده الخير وكلما ورد في القرآن من إرادة الخير المخصوص بأفعال العباد مثل قوله يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولكن يريد ليظهركم إلى غير ذلك فهو محمول على أحد معنيين إما ثناء ومدح في الحال وإما على ثواب ونعمة في المال وإلا فالإرادة الأزلية لا تتعلق إلا بما هو متجدد من حيث أنه متجدد فلا متجدد إلا وهو فعل للباري تعالى من حيث أنه متجدد وذلك لا ينسب إلى العبد كما بينا في خلق الأعمال فاختصت الإرادة بأفعال الله سبحانه على الحقيقة دون الوجوه التي تنسب إلى العبد واختص الآمر بأفعال العباد حقيقة دون الوجوه التي تنسب إلى الحق تعالى فلم يجب تلازم الآمر والإرادة وقد يرد الآمر بمعنى الإرادة والإرادة بمعنى الآمر فيكون الإطلاق باشتراك في اللفظ فكان المشركون تمسكوا بهذا اللفظ حيث أخبر التنزيل عنهم " وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء " أرادوا بذلك المشيئة بمعنى الأمر وعن هذا طالبهم بإخراج العلم بذلك وإظهار الحجة عليهم من كتبهم وقال " إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون " إذ لم يرد بذلك أمر ولا وجدوا في كتبهم بذلك تكليفا فرد عليهم بإثبات المشيئة بمعنى التخصيص بالوجود والتصريف للأمور فقال تعالى " قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين "
Sayfa 87