وذهب النجار إلى أن معنى كونه مريدا أنه غير مغلوب ولا مستكره.
وذهب الجاحظ إلى إنكار أصل الإرادة شاهدا وغائبا وقال مهما انتفى السهو عن الفاعل وكان عالما بما يفعله فهو مريد وإذا مالت نفسه إلى فعل الغير سمي ذلك الميلان إرادة وإلا فليست هي جنسا من الأعراض وهو الأولى بالابتداء وهو الأهم بالرد عليه.
فيقال له إثبات المعاني والأعراض ثم التمييز بين حقيقة كل واحد منها إنما يبتني على إحساس الإنسان من نفسه وكما يحس الإنسان من نفسه علمه بالشيء وقدرته عليه يحس من نفسه قصده إليه وعزمه عليه ثم قد يفعله على موجب إرادته وقد لا يفعله على موجب إرادته وربما يريد فعل الغير من غير ميل النفس والتوقان إليه وكذلك يريد فعل نفسه من غير ميل وشهوة كمن يريد شرب الدواء على كراهية من نفسه وبالجملة الإحساس حاصل ورده إلى العلم بالفعل باطل فإن العلم تبين وإحاطة فقط وهو يطابق المعلوم على ما به من غير تأثير في المعلوم ولا تأثير منه وكذلك يتعلق بالقديم والحادث والقصد والإرادة يقتضي ويخصص فيؤثر ويتأثر ولذلك لا يتعلق إلا بالمتجدد والحادث فبطل مذهب الجاحظ.
وأما الرد على الكعبي والنظام بعد اعترافهما بكون الإرادة جنسا من الأعراض في الشاهد أن نقول قام الدليل على أن الاختصاص ببعض الجائزات دون البعض في أفعال العباد دليل على الإرادة والقصد والدليل يطرد شاهدا وغائبا فإن الأحكام والإتقان لما دل على علم الفاعل شاهدا دل عليه غائبا والدليل العقلي لا ينتقض ولا يقتصر.
قال الكعبي إنما دل على الاختصاص على الإرادة في الشاهد لأن الفاعل لا يحيط علما بكل الوجوه في الفعل ولا بالمغيب عنه ولا بالوقت والمقدار فاحتاج إلى قصد وعزم إلى تخصيص وقت دون وقت ومقدار دون مقدار والباري تعالى عالم بالغيوب مطلع على سرائرها وأحكامها فكان علمه بها مع القدرة عليها كافيا عن الإرادة والقصد إلى التخصيص وأنه لما علم أنه يختص كل حادث بوقت وشكل وقدرة فلا يكون إلا ما علم فأي حاجة به إلى القصد والإرادة وأيضا فإن الإرادة لو تحققت فإما أن تكون سابقة على الفعل أو حادثة مع الفعل فإن كانت سابقة فهي عزيمة والعزم لا يتصور إلا في حق من يتردد في شيء ثم أزمع عليه أو انتهى عن شيء ثم أقبل إليه وإن كانت مقارنة فهي إما أن تحدث في ذاته أو في محل أولا في ذاته ولا في محل والأقسام الثلاثة باطلة بما سبق بطلانها فتعين أن الإرادة للقديم سبحانه لا معنى لها إلا كونه عالما قادرا فاعلا.
قيل له قد سلمت في الأفعال وجوها من الجواز في تخصيصها ببعض الجائزات دون البعض فينظر بعد ذلك أهو من دلائل العلم أو من دلائل الإرادة.
فنقول قد بينا بأن العلم يتبع المعلوم على ما هو به سواء كان العلم محيطا بجميع الوجوه في الفعل وقتا ومقدارا وشكلا أو لم يكن فالعلم من حيث هو علم لا يختلف وإن قدر اختلاف في العلم حتى يكون أحد العلمين مخصصا دون الثاني فلنقدر مثل ذلك فيه حتى يكون أحدهما موجدا والثاني غير موجد ويقع الاجتزاء بالعلم عن القدرة كما وقع به عن الإرادة فيعود الكلام إلى مذهب الفلاسفة أن علمه تعالى علم فعلي فيوجد من حيث يعلم ويختار الأفضل من حيث يعلم وإن وجب أن تعطى كل صفة حظها من الحقيقة فالعلم ما يحصل به الإحكام والإتقان والإرادة ما يحصل بها التخصيص والقدرة ما يحصل بها الإيجاد والقضايا مختلفة فالمقتضيات إذا غير متحدة.
وأما قوله إثبات الإرادة في الشاهد لامتناع الإحاطة بالمراد من كل وجه فباطل لأنا لو فرضنا الإحاطة بالفعل من كل وجه بإخبار صادق أو غيره من الطرق كان يجب أن يستغنى عن الإرادة وليس الأمر كذلك وتقسيمه القول بأن الإرادة إما سابقة وإما مقارنة.
Sayfa 81