وكان جوزيف شانيه يسلق نابوليون بألسنة حداد في مقالاته، فعف نابوليون عن ضربه حتى رجع إلى نفسه، فعينه مفتشا عاما في الجامعة الإمبراطورية ودفع عنه ديونه وعين له مرتبا.
وروى كثيرون من المعاصرين لنابوليون في مذكراتهم كشاتوبريان وفوشيه وتيبودو أن برنادوت اشترك في جميع المؤامرات والمكايد على نابوليون، ومع ذاك كله فإن نابوليون جعله مرشالا أكبر ولقبه بأمير بونت كورفو وحباه بمواهب جمة، وانتهى الأمر بأن جلس برنادوت على عرش أسوج، فلو كان نابوليون لم ينظر إلا مصلحته الخاصة ولم يشأ أن يبعد عنه قائدا بارعا كما قيل، لاكتفى بأن يبقى برنادوت في درجة لا يتعداها، وربما كان الأولى به وبمصلحة فرنسا أن ينهج مثل هذا النهج، فإنه لو فعل لكفى أمته عار زحفه مع أعداء فرنسا بعد مدة.
وقس على من ذكرنا كثيرين ممن لم نذكر، أما قول بعض النقاد أن نابوليون كان يخشى عاقبة التشديد على خصومه، فهو قول واهن؛ لأن نابوليون رأى أوقاتا كان فيها التخلص من أعدائه أسهل عليه من قتل الذبابة، وما كان بالرجل الرعديد ليخشى الفتك، فإن تعنيفه لبعض القواد وطرده لبعضهم وضربه على أيدي أناس من أهل السطوة، كل ذلك دليل كاف على أنه كان قديرا على فعل ما شاء، ولكن طبعه كان يصرفه عن ارتكاب الفظائع في رجاله ويحمله على إصلاحهم حيث كان يرجو الإصلاح والصلاح، ولقد ذهب بعض المؤرخين المدققين إلى أن تطرفه في التسامح وتماديه في الصفح كانا أحد أسباب فشله. وقال أرتور ليفي بعد أن طالع مذكرات أصدقاء نابوليون ومذكرات خصومه أن «العيب الأكبر في خلق نابوليون والسبب التالي إن لم نقل الأول لأكبر فشل أصابه هو أنه لم يظهر إرادة راسخة للمقربين إليه، ولم يضرب بكف من حديد، فيبيد كل مقاومة ظاهرة أو خفية أبداها أولئك الذين أغدق عليهم الثروة وأسبغ عليهم ألقاب الشرف، ولكن نابوليون سلك مع قواده السبيل الذي اتبعه مع إخوته، فكان يضحي بأعلى المصالح شأنا وخطورة على مذبح المبدأ الأدبي ... والواقع أن ذكر خدمة في إيطاليا أو غيرها كان يكفي ليصرف نابوليون عن القسوة، كما جرى للقائد فيكتور حين أراد إبعاده عن الجيش.»
الفصل الثالث والعشرون
هل كان نابوليون شجاعا بالمعنى الصحيح؟
بلغت الجرأة ببعض خصوم نابوليون أن طرح هذا السؤال، وكان السبب في وضعه على بساط البحث حكايتان هاك تفصيل الأولى منهما: لما تنازل نابوليون عن العرش في فونتباو وخرج قاصدا جزيرة ألب التي نوى الاعتزال فيها رأى من عامة الشعب في طريقه عداء شديدا، واجتمع كثيرون من الرعاع حول المركبة التي كانت تقله مع المندوبين الأجانب وأخذوا يسبونه ويلقبونه بالغول الكورسيكي وبالجائر الغشوم، واندفع بعضهم إلى المركبة، فتشبث بدواليبها بينما كان الجبناء لا يجسرون على الاقتراب منها ويكتفون برجمها، وذكر الكونت والدبور أن الخطر أصبح شديدا هائلا، حتى إن حاشية الإمبراطور نابوليون ألحت عليه في وجوب تغيير زيه اتقاء لجناية قبيحة، فوافقها نابوليون ولبس ملابس أحد الخدام الذين كانوا يسيرون أمامه، ثم أخذ يعدو أمام المركبة، فأي إنسان تحت السماء رأى هذا التناقض العجيب في حياته؟ إن الذي قاد الجيوش في أوروبا وآسيا وأفريقيا، ودخل مئات البلدان ظافرا منصورا، وقهر من الأعداء أضعاف أضعاف جيشه، وكانت الملوك تلتف حوله كالأتباع وتعد كل لحظة من لحظاته، اضطر إلى التنكر بزي خادم وإلى الركض أمام مركبة حراسه ليأمن شر الزمر الهائجة من شعبه! ...
هذا هو الحادث الذي أسال المداد على بعض الطروس، فبقي أن ننظر هل تنكر نابوليون عن جبن ونذالة؟
كلا! إن العاطفة التي مالت به إلى التنكر هي التي تميل بكل إنسان إلى التستر أو الاختفاء حين يرى ذئابا أو كلابا هائجة تريد عضه ونهشه. وليست الشجاعة أن يقذف المرء بنفسه إلى الإهانة والتهلكة بلا نفع ولا جدوى، وإن رجلا قاد الجيوش بنفسه واستهدف للقنابل والرصاص في ستمائة وقعة وخمس وتسعين معركة كبيرة، والإمبراطور الذي فضل المعسكر على قصر التويلري، وفتح صدره بعد رجوعه من جزيرة ألب للجنود الذين أرسلوا لمنعه من دخول باريس وقال لهم: «من منكم يريد إطلاق الرصاص على إمبراطوره فليفعل.» لا يصح أن توضع شجاعته موضع البحث، وجل ما يقال فيها أنها الشجاعة المقرونة بالرأي والعرفان، والبسالة اللائقة بعقل الإنسان، وربما صح أن يقال فوق ما تقدم أن ضغط الحوادث الأليمة حال بين نابوليون وبين استنباط طريقة أخرى أفضل من التنكر في زي خادم والسير أمام المركبة، ولكن هذا النقد الوجيه لا يكفي لجعل بسالة ذاك البطل الخالد محلا للمظنة ومدعاة للريبة. •••
أما الحكاية الثانية فهي أن نابوليون فكر بعد معركة واترلو في الانتحار تخلصا من إهانة النفي والأسر، ثم عدل عن هذا الرأي ورضي بالعيش في جزيرة قاحلة، واحتمل فظاظة رئيس حراسه وحرمانه من رؤية ابنه وفلذة كبده، فأجاز بعضهم لنفسه أن يحسب تفضيل هذا العيش المر على الانتحار ضربا من ضعف القلب، ولكن نابوليون قال شيئا يوضح لنا سر نكوصه «وهو أن كل إنسان في هذا المعمور خلق لأمر يقوم به، فيجب أن يبقى حيا ليتمه إلى آخره»، ثم إن نابوليون كان على رأي العلماء البسيكولوجيين الذين يقولون إن إقدام المرء على الانتحار خوفا من ضيق العيش أو احتمال التعب هو ضعف في النفس وجبن في القلب، والرجل الحزوم هو الذي تكون همته أقوى من كل المصاعب والمتاعب التي تحيق به.
وزد على ما تقدم أن نابوليون فكر في الانتحار يوم كان مبحرا إلى جزيرة القديسة هيلانة، وفي ذاك اليوم كان أمله بحسن المعاملة لم ينقطع، وبقي على هذا الأمل إلى ما قبل موته بمدة.
Bilinmeyen sayfa