وإليك حادثا يدلك على شدة عنايته بعامة الأمة وطبقات العمال: حدث سنة 1811 أن طلائع موسم القمح كانت سيئة، فأخذ نابوليون يشتغل آناء الليل وأطراف النهار ليهيئ غذاء الشعب، ثم جرى حديث بينه وبين الموسيو مونتاليفيه الذي كان يشتغل معه، فقال مونتاليفيه: «سيكون الخبز موجودا ولكنه سيكون غاليا.» فما سمع نابوليون هذا الكلام حتى قفز من كرسيه سخطا وحنقا وقال له: «ماذا تقول؟ أتقول إن الخبز سيكون غاليا؟ لمن نشتغل وبمن نهتم منذ شهرين؟ أتظن أنا نهتم بالأغنياء؟ هؤلاء لا يهمونني؛ لأن من يملك مالا يملك على الدوام خبزا، فإنما همي أن يحصل الشعب على الخبز الرخيص الجيد الوافي، وأن يتمكن العامل من العيش هو وعيلته بأجرة يومه ...»
وما انحصر تأثير الإمبراطورية البونابارتية، «إمبراطورية الثورة الفرنسية» كما لقبها أحد المؤرخين في الشئون السياسية، بل تناول مبدأ الحرية الدينية أحد مبادئ تلك الثورة ، فإن الكاثوليك الألمانيين لم يكونوا قبل عهده متمتعين بحريتهم المذهبية التامة؛ لأن الحكومة الألمانية وسائر أهل النفوذ من البروتستان كانوا يحرجونهم وينظرون إليهم بعين حمراء.
وصفوة القول أن تأثير حكم نابوليون في العالم كان عظيما من الوجوه الحربية والسياسية والأدبية والدينية، وأن الثورة الفرنسوية تمثلت في رجل بدل تمثلها في مئات من النواب، ولا شك في أن مبادئها الدستورية السامية لم تكن بمأمن دائم؛ لأن نابوليون كان إنسانا قابلا للموت، فلما رحل عاد الدستور إلى نظامه الطبيعي بعد التقلب والتراوح.
الفصل الثاني والعشرون
كيف كان مع أعدائه؟
لم يكن نابوليون يحمل الحقد ولا يود الانتقام، وحسبنا دليلا سلوكه مع أعدائه المجاهرين والمتنكرين، ونحن نضرب للقارئ هنا بعض الأمثال: ما ارتقى نابوليون إلى عرش الإمبراطورية حتى وقف كارنو أحد رجال الديركتوار في صفوف الحزب المعارض، فلو كان نابوليون إمبراطورا غشوما كما زعم بعض خصومه لقذف به إلى وهدة العدم، ولكن نابوليون كان إمبراطورا ذا طابع خاص، فصبر عليه، ثم اتفق يوما أن كارنو وقع في ضائقة مالية وأبلغ أمره إلى نابوليون - كما جاء في كتاب لنابوليون نفسه مؤرخ في 17 يونيو سنة 1809 - فاهتم به وأبى مراعاة لكرامته أن ينفحه بشيء على سبيل التعطف والتكرم، بل أمر بأن يدفع له متأخر راتبه كجنرال في الجيش، ثم عين له مرتبا قدره عشرة آلاف فرنك بحجة أنه كان وزيرا قديما.
ولما كان نابوليون قائدا أكبر لجيش إيطاليا في عهد حكومة الديركتوار، أرسلت هذه الحكومة الجنرال كلارك إلى ساحة القتال ليراقب سلوك نابوليون سرا ويتجسس عليه - كما ذكر أرنول في «مذكراته» - فعلم نابوليون بأمره ساعة وصوله ولكنه تعالى عن الإضرار به، ولما غضب ولاة الأمور في باريس على هذا الجنرال، هب نابوليون للدفاع عنه، وكتب إلى وزير الخارجية يقول: «لا أريد أن أبحث لأعلم هل أرسل هذا الجنرال في البدء ليكون جاسوسا علي أو لا، وهب أن هذا الخبر صحيح، فأنا وحدي يحق لي أن أستاء منه، وأنا أجاهر بأني أسامحه.» وبعد مدة أعاد نابوليون هذا الجنرال إلى وظيفته السابقة، ثم عينه سفيرا ثم حاكما لفينا فبرلين، ثم وزيرا للحربية، ولما تزوجت ابنته حباها الإمبراطور بمبلغ من المال.
ولما كان نابوليون بمصر اتضح له أن القائد الشهير دافو كان مواليا لخصومه، فأبى نابوليون أن يلحق به ضررا، ثم أغدق عليه الألقاب والمواهب.
ولما أعلن ارتقاء نابوليون إلى عرش الإمبراطورية أرادت جنود الكولونل موتون أن تهتف للإمبراطور فصاح فيهم الكولونل: «اصمتوا!» فعلم نابوليون وغفر له.
وكان الكولونل «فوا» في مقدمة الذين أبوا الموافقة على الإمبراطورية ومن المتهمين في بعض المؤامرات، ولكن هذا كله لم يحل دون العفو عنه وترقيته بعد مدة إلى رتبة جنرال، وإعطائه عشرين ألف فرنك مكافأة على خدمته في البورتغال.
Bilinmeyen sayfa