ومن الممكن تحقيق الجمل على أنحاء متعددة؛ فأبسط طرق التحقيق هي الملاحظة المباشرة، غير أن هذه الطريقة لا تسمح إلا بتحقيق مجموعة محدودة من الجمل، مثل «المطر يهطل» أو «زيد أطول من عمرو»، فإذا كانت الجملة المبنية على الملاحظة تشير إلى الماضي، فإننا نرى التحقيق ممكنا حتى لو لم يكن هناك ملاحظ. مثال ذلك أن الجملة «كان الثلج يسقط على جزيرة مانهاتن (في مدينة نيويورك) في الساعة الرابعة صباحا من يوم 28 نوفمبر.» هي جملة قابلة للتحقيق، وبالتالي ذات معنى؛ لأنه كان من الممكن وجود ملاحظ عندئذ، ولكن هناك جملا أخرى لا يمكن تحقيقها مباشرة. فالجملة القائلة إنه قد أتى على الأرض وقت كان يسكنها فيه حيوان «الديناصور»، ولم يكن الجنس البشري قد وجد فيه بعد، أو القائلة أن المادة تتألف من ذرات، لا يمكن تحقيقها إلا بطريق غير مباشر، بواسطة استدلالات استقرائية مبنية على ملاحظات مباشرة. ولكن لهذه الجمل معنى لأنها تقبل التحقيق غير المباشر. ويقدم إلينا حساب الاحتمالات القواعد الخاصة بهذا النوع من التحقيق. والجملة التي تحقق على هذا النحو تقال على أساس أنها ترجيح
. فإذا كانت متعلقة بالمستقبل، أمكن استخدامها مرشدا لأفعال مقبلة. ويتميز تركيب نسق العلامات المبني على هذا التعريف للمعنى بأن من الممكن استخدامه أداة للتنبؤ. وهذه هي وظيفته بالنسبة إلى من يستخدم العلامات. فإذا حقق هذا الفرض، سمي معرفة.
ولقد اعترض البعض بقولهم إن للمعنى طبيعة ذاتية، وإن أحدا لا يستطيع أن يقول لشخص معين ما يعنيه، وإن من الواجب السماح لكل شخص باستخدام ألفاظه بالمعاني التي تبدو له ملائمة. وعلى أساس هذا الاعتراض يكون إصرار الفيلسوف العلمي على استبعاد الجمل غير القابلة للتحقيق، أو على ضرورة جعل الملاحظة الحسية، مقترنة بالاستدلالات الاستقرائية أو الاستنباطية، أساسا للتحقيق - يكون هذا الإصرار تعسفا لا مبرر له في استخدام اللغة. ومع ذلك فإن هذا الاعتراض ينطوي على سوء فهم للطبيعة المنطقية للنظرية القائلة إن المعنى هو قابلية التحقيق. فليس المقصود من هذه النظرية أن تكون ضربا من الأمر الأخلاقي، بل إن الفيلسوف العلمي متسامح، وهو يدع كل شخص يعني ما يشاء. غير أنه يقول له: إذا استخدمت معاني لا يمكن تحقيقها، فإن كلماتك لن تستطيع أن تقدم وصفا لأفعالك. ذلك لأن ما تفعله موجه دائما إلى المستقبل، ولا يمكن ترجمة الأحكام المتعلقة بالمستقبل إلى تجارب ممكنة إلا بقدر ما يكون من الممكن تحقيقها. فالنظرية التجريبية في المعنى لا تقدم وصفا للمعاني الذاتية لدى الشخص، وإنما هي قاعدة تقترح بالنسبة إلى صورة اللغة، وهي قاعدة يستحسن اتباعها لأسباب مقنعة؛ فهي تحدد نوع المعنى الذي لو افترضناه لكلمات شخص معين لجعل كلماته متمشية مع أفعاله. وهذه الصفة الأخيرة هي كل ما يكون من المعقول اشتراطه بالنسبة إلى نظرية للمعنى. فأولئك الذين يتخذون من القابلية للتحقيق معيارا للمعنى يتكلمون لغة تتمشى مع سلوكهم، واللغة بالنسبة إليهم تؤدي وظيفة لا يمكن الاستغناء عنها في القيام بالأفعال، وهي ليست نسقا فارغا منقطع الصلة بعالم التجربة.
إن الفهم الوظيفي للمعرفة يخلص اللغة من جميع الأسرار التي أقحمها فيها المذهب العقلي طوال ألفي عام. وهي تؤدي إلى جعل طبيعة اللغة غاية في البساطة، ولكن الحل البسيط كثيرا ما يكون الاهتداء إليه هو الأصعب؛ فقد كان على ذرية المعرفة أن تتحرر أولا من وهم التركيبية القبلية، وهو الأثر المتخلف عن اتجاه صوفي نحو عالم من الكيانات التي تتجاوز الأشياء الملاحظة، قبل أن تشرع في التعبير عن المعرفة بوضوح على أنها وظيفية. ولم يكن من الممكن تقديم الدليل على أن المعرفة وظيفية وعلى أنها أفضل أداة للتنبؤ، قبل الاهتداء إلى تفسير مرض للاحتمال. فطوال الوقت الذي ظلت فيه التجريبية عاجزة عن تفسير استخدام الاستدلالات الاستقرائية والاحتمالات، كانت مجرد برنامج، لا نظرية فلسفية. ولم يكن من الممكن تنفيذ برنامج التجريبية، أعني المبدأ القائل أن كل حقيقة تركيبية تستمد من الملاحظة، وأن كل ما يسهم به العقل في المعرفة ذو طبيعة تحليلية، إلا بعد أن هيأ العلم في القرنين التاسع عشر والعشرين الوسائل الضرورية لذلك. فعصرنا هذا أول عصر يشهد نزعة تجريبية متسقة مع ذاتها.
إن النظرية القائلة إن المعنى هو قابلية التحقيق هي الأداة المنطقية التي يستطيع بها المذهب التجريبي أن يتغلب على ثنائية عالم المظاهر وعالم الأشياء في ذاتها. فهي تستبعد الأشياء في ذاتها لأنها تؤكد أن الكلام عن أشياء لا تقبل المعرفة من حيث المبدأ هو كلام لا معنى له. وبدلا من أن يتحدث التجريبي عن أشياء لا تقبل المعرفة، فإنه يتحدث عن أشياء لا تقبل الملاحظة، غير أن المعرفة تستطيع الوصول إلى هذه الأشياء الأخيرة، كما أن من الممكن التحدث عنها بطريقة ذات فالأحكام المتعلقة بأشياء لا تقبل الملاحظة يمكن أن يكون لها معنى بقدر ما يكون من الممكن استخلاصها من ملاحظات، وهي تكتسب معنى عن طريق التحويل، أي بفضل علاقتها بأشياء يمكن ملاحظتها. وقد نوقشت هذه العلاقات في الفصل الحادي عشر في صدد مشكلات فيزياء الكوانتم. ولا بد لنا من دراستها بمزيد من التفصيل، وفي صدد جميع ضروب المعرفة.
إن مشكلة الواقع، أي مسألة ما إذا كان العالم واقعيا، تنشأ من تجربة نفسية مألوفة: هي التمييز بين الحلم واليقظة. وهذا التمييز، بالطبع، ذو معنى، ولكن من الضروري بيان معناه وأصله بمزيد من الوضوح، لكي نتغلب على النتائج الباطلة الكثيرة التي استخلصها الفلاسفة منه.
فلنتخيل شخصا غير شاعر بالفرق بين الحلم واليقظة، ويكتب تقارير عن كل ما يلاحظه، مثل هذا الشخص سيكتب جملا مثل: «هناك كلب» و«زيد أتى لرؤيتي» و«السيارة لم يدر محركها» و«الفتاة وقفت في إناء الحساء»، وما إلى ذلك. ومن الواضح أن العبارة الأخيرة تشير إلى ما نسميه «حلما»، ولكن يوميات مثل هذا الشخص لا تتضمن إشارة صريحة إلى الحلم. ولم يكن من الممكن أن تكون هناك إشارة صريحة لأن ظواهر الحلم، في الوقت الذي تمر فيه بتجربتنا، لا تختلف من حيث الكيف عن الملاحظات الفعلية. وبعبارة أخرى فلا يمكن أن يعرف أي شخص، أثناء حلمه، أنه يحلم، ونستطيع أن ننظر إلى اليوميات الكاملة من هذا النوع، التي تجمع تقارير عن جميع ملاحظاتنا، ولكنها تفعل ذلك دون نقد. وتمتنع عن استخلاص استدلالات تتجاوز ما يجرب بالفعل - نستطيع أن ننظر إلى هذه اليوميات على أنها هي الأساس المنطقي للمعرفة البشرية. وعلى الفيلسوف. لكي يدرس بناء المعرفة، أن يبحث في الاستدلالات التي تؤدي من هذا الأساس إلى أحكام عن الموضوعات الفيزيائية، والأحلام، وكل أنواع التراكيب العلمية. كالكهرباء، أو المجرات، أو عقدة الذنب. فلنتخيل إذن شخصا يحاول بناء نسق للمعرفة من الجمل التي يسجلها في تقاريره المتضمنة في يومياته الكاملة هذه.
إنه سيحاول إيجاد نظام في هذه الجمل، بترتيبها في جماعات. وصياغة قوانين عامة تسري عليها؛ مثال ذلك أنه سيكتشف القانون الآتي: حيثما كانت هناك جملة تقرر أن الشمس مشرقة، توجد جملة لاحقة تقرر أن الجو يزداد دفئا. فيصوغ هذه النتيجة بعد ذلك على أنها علاقة بين الأشياء؛ فكلما أشرقت الشمس أصبح الجو أدفأ. ومع ذلك فإنه سرعان ما يكتشف أن هناك مجموعة معينة من الجمل، كالجملة المتعلقة بوجود الفتاة في إناء الحساء، ينبغي عزلها عن الأخريات، فهو لا يستطيع إدراجها في النسق المنظم؛ لأنها لا تؤدي إلى تنبؤات صحيحة، وبالتالي لا تؤدي إلى قوانين عامة. مثال ذلك أنه سيجد تبريرا يقول له إنه كلما وضع إصبعه في إناء الحساء ابتل ذلك الإصبع، ولكن يبدو أن أرجل الفتاة لم تظهر فيها هذه النتيجة بعد خروجها من إناء الحساء. وعلى ذلك فهو يسمي هذه المجموعة من التقارير التي تكون جزيرة منطقية، باسم الأحلام.
فالنتيجة المنطقية التي يؤدي إليها هذا التحليل هي أن من الممكن تحقيق الفارق بين الحلم واليقظة عن طريق فوارق تركيبية في مجموعة التقارير، وهذا فارق ذو معنى؛ لأن من الممكن ترجمته إلى علاقات قابلة للتحقيق؛ فالأحلام لا تمدنا بملاحظات تتيح التنبؤ بتجارب أخرى. هذه النتيجة تؤدي إلى تصنيف للجمل الواردة في تقاريره إلى جمل ذات صحة موضوعية وجمل ذات صحة ذاتية فحسب. ولكي يكون لدينا اسم ينطبق قبل القيام بهذا التمييز، فسوف أصف جميع الجمل الواردة في تقاريره بأنها ذات صحة مباشرة؛ أي إن من المفترض أنها ليست أكاذيب. وتنقسم الصحة المباشرة إلى صحة موضوعية وصحة ذاتية، نتيجة لإجراءات التنظيم الداخلي، أي لتنظيم لا يتجاوز نطاق الجعل الواردة في اليوميات الكاملة.
ومن الجمل ننتقل إلى الأشياء؛ فالتقارير التي تتصف بالصحة الموضوعية، يقال عنها إنها تشير إلى أشياء موضوعية. والتقارير التي لا تتصف إلا بالصحة الذاتية وحدها يقال عنها إنها تشير إلى أشياء ذاتية. وهكذا يكون لدينا الآن نوعان من الأشياء كلها تعد أشياء مباشرة. ولكن الأولى وحدها هي الأشياء الموضوعية أو الواقعية. فما هي الثانية؟
Bilinmeyen sayfa