وبإرجاع رسل الرياضة إلى المنطق على هذا النحو، فقد أكمل تطورا بدأ بالتغيير الذي طرأ على الهندسة، وهو التغيير الذي وصفته من قبل بأنه قضاء على المعرفة التركيبية القبلية، ذلك لأن «كانت» كان يعتقد أن الحساب، لا الهندسة فقط، له طبيعة تركيبية قبلية. ولكن رسل أوضح، بإثباته أن أساسيات الحساب يمكن أن تستمد من المنطق الخالص، أن الضرورة الرياضية ذات طبيعة تحليلية. فليس ثمة عنصر تركيبي قبلي في الرياضيات.
ولكن إذا كان المنطق تحليليا، فإنه فارغ، أي أنه لا يعبر عن خصائص الموضوعات الفيزيائية. ولقد حاول الفلاسفة العقليون مرارا أن ينظروا إلى المنطق على أنه علم يصف بعض الخصائص العامة للعالم، أعني علما للوجود، أو أنطولوجيا. وهم يعتقدون أن مبادئ مثل «كل شيء في العالم في هوية مع ذاته» تنبئنا بخصائص عن الأشياء. ولكن فاتهم أن كل المعلومات التي تمدنا بها هذه الجملة إنما تنحصر في تعريف يحدد شروط استخدام كلمة «الهوية»، وأن ما نعرفه من الجملة ليس صفة للأشياء، وإنما هو قاعدة لغوية. فالمنطق يصوغ قواعد اللغة ولهذا كان المنطق تحليليا وفارغا.
وأود أن أوضح بمزيد من الدقة تلك الطبيعية التحليلية للمنطق، والسبب الذي يوصف المنطق من أجله بأنه فارغ. فالمنطق يربط جملا على نحو من شأنه أن يكون التجمع الناتج صحيحا على نحو مستقل عن صحة الجمل المنفردة. مثال ذلك أن التجمع الآتي للجمل: «لو أن نابليون أو قيصر لم يبلغا سن الستين، فإن نابليون لم يبلغ سن الستين» هذا التجمع صحيح سواء أكان نابليون، أو قيصر، قد مات بالفعل قبل سن الستين أم لم يكن، وعلى ذلك فإن هذا التجمع لا ينبئنا عن السن الذي بلغه الشخصان المشار إليهما، وهذا هو المقصود بكون المنطق فارغا، ومن جهة أخرى، فإن المثل يوضح لماذا كانت العلاقات المنطقية صحيحة بالضرورة؛ فهي صحيحة لأن أية ملاحظة تجريبية لا يمكنها أن تكذبها، فلو رجعنا إلى أحد القواميس ووجدنا أن نابليون مات في سن الرابعة والخمسين، فإن هذه النتيجة لا تكذب التجمع السابق للجمل، وكذلك فإننا لو وجدنا أن نابليون مات في سن الخامسة والستين، لما أدت هذه النتيجة بدورها إلى تكذيبه. فالضرورة المنطقية والفراغ صفتان متلازمتان، وهما معا تؤلفان الطابع التحليلي للمنطق، أو صفة تحصيل الحاصل فيه. فكل العبارات المنطقية البحتة تحصيل حاصل، كالمثل الذي أوردناه من قبل، وهي لا تقول شيئا، وبالتالي فإن ما تنبئنا به لا يزيد ولا ينقص عما ينبئنا به تحصيل الحاصل الآتي: «غدا ستمطر السماء أو لا تمطر.» ومع ذلك فليس من السهل دائما كشف الطابع التحليلي لتجمع من الجمل. فلنتأمل مثلا التجمع الآتي: «إذا كان أي شخصين يحب كل منهما الآخر أو يكره كل منهما الآخر، فإما أن يكون هناك شخص يحب الناس جميعا، وإما أن يكون لكل شخص شخص آخر يكرهه.» إن المنطق يثبت أن هذا التجمع تحليلي، وإن لم يكن الطابع التحليلي واضحا على الإطلاق.
ولقد أثار رأي رسل في الطابع التحليلي للرياضيات اهتماما عظيما، وأبدى بعض الرياضيين نفورا من ذلك التفسير الذي يقدمه رسل لعلمهم، والذي لا تختلف فيه النظريات الرياضية، من حيث فراغها، عن مبادئ المنطق. ولكن هذا الحكم يكشف عن سوء فهم لطبيعة المنطق؛ إذ إن وصف الرياضيات بأنها تحليلية لا ينطوي على أي إقلال من شأنها. بل إن فائدة التفكير الرياضي ذاتها إنما تستمد من طبيعته التحليلية. فكون النظريات الرياضية فارغة، هو ذاته الذي يجعلها مضمونة على نحو مطلق، ويسمح باستخدامها في العلوم الطبيعية. ولكن لا يمكن تكذيب أية نتيجة علمية باستخدام الرياضة، لأن الرياضة لا تستطيع أن تضيف إلى العلم مضمونا خفيا لم يتم إثباته. ومع ذلك فالقول إن العلاقات الرياضية فارغة لا يعني أن من السهل الاهتداء إليها، فكشف العلاقات الفارغة، كما أوضحنا من قبل، يمكن أن يكون عملا شديد الصعوبة، وإن مقدار الجهد والبراعة اللازمين في الرياضة لدليل على الأهمية البالغة للبحث الرياضي.
ولقد استخدم المنطق الرمزي على نطاق واسع في وضع مبحث رياضي جديد أرسيت دعائمه في القرن التاسع عشر: هو نظرية المجموعات
sets . وكلمة «المجموعة» لها نفس معنى كلمة «الفئة
Class » الذي أوضحناه من قبل في صدد المنطق الأرسططالي. ولكن ما أعظم الفارق بين نظرية المجموعات كما وضعها رياضيو القرن التاسع عشر، وبين حساب الفئات في المنطق الأرسططالي! الحق أنه من غير المفهوم أن يظل منطق الفئات يملأ الكتب المدرسية في المنطق، في وقت يختلف عن عهد أرسطو بقدر ما تختلف القطارات الحديدية عن العربة التي تجرها الثيران.
غير أن المنطق الرمزي لم يجلب النجاح لعالم المنطق على الدوام؛ فقد أوقعه أيضا في صعوبات كشف عنها رسل وصاغها في نقائض منطق الفئات. ولنضرب مثلا نوضح به المشكلة.
إننا نستطيع، عندما نتأمل صفة، أن نتساءل عما إذا كانت هذه الصفة ذاتها لديها نفس الصفة، ولكن الأمر عادة لا يكون كذلك؛ فالصفة أحمر ليست حمراء. ولكن الأمر يختلف في صفات أخرى: فصفة «القابلية للتخيل» يمكن تخيلها، والصفة «محدد» هي ذاتها محددة، والصفة «قديم» هي ذاتها قديمة؛ إذ إن من المؤكد أنها موجودة حتى في عصر ما قبل التاريخ. فلنستخدم اسم «القابل للحمل
» للدلالة على هذا النوع الثاني من الصفات، أما الصفات الأخرى فسوف نسميها «غير القابلة للحمل
Bilinmeyen sayfa