غير أن بوانكاريه يخطئ لو قال إن العالمين 1 و2 متماثلان؛ فهما من الوجهة الموضوعية مختلفان. وعلى الرغم من أنه توجد في كل عالم فئة من الأوصاف المتكافئة، فإن الفئتين المختلفتين ليستا متساويتين من حيث قيمة الصواب، فلا يمكن أن تكون هناك إلا فئة صائبة واحدة بالنسبة إلى نوع معين من العالم، ولا يمكن أن يتحدد أي هاتين الفئتين هي الصائبة إلا بالملاحظة التجريبية. فالمذهب الاصطلاحي لا يدرك إلا تكافؤ الأوصاف في داخل الفئة الواحدة، ويعجز عن إدراك الفوارق بين الفئتين، ومع ذلك فإن نظرية الأوصاف المتكافئة تتيح لنا أن نصف العالم موضوعيا بأن ننسب حقيقة تجريبية إلى فئة واحدة من الأوصاف فحسب، وأن تكون لكل الأوصاف في داخل كل فئة قيمة متساوية من حيث الصواب.
ولكن الأنسب، بدلا من أن نستخدم فئات من الأوصاف، أن نخصص في كل فئة وصفا واحدا على أنه هو النسق السوي، ونستخدمه ممثلا للفئة بأكملها؛ وبهذا المعنى يمكننا أن نختار الوصف الذي تختفي فيه القوى الكونية على أساس أنه النسق السوي، ونسميه بالهندسة الطبيعية. وبهذه المناسبة، فليس في وسعنا حتى أن نثبت أن من الضروري وجود نسق سوي، أما أن هناك نسقا واحدا، وواحدا فقط، من هذا النوع في عالمنا، فلا بد أن تعد هذه واقعة تجريبية (مثال ذلك أن هندسة الأشعة الضوئية قد تكون مختلفة عن هندسة الأجسام الصلبة).
وهكذا فإن نظرية الأوصاف المتكافئة لا تؤدي إلى استبعاد المعنى التجريبي للهندسة، وإنما هي تقتضي فقط أن نعبر عن التركيب الهندسي للعالم الفيزيائي بإضافة شروط معينة؛ أي في صورة قضية عن الهندسة الطبيعية. وبهذا المعنى تعد تجربة «جاوس» دليلا تجريبيا؛ فالهندسة الطبيعية للمكان الموجود في بيئتنا هي إقليدية، وذلك في حدود الدقة التي يمكننا التوصل إليها، أو بعبارة أخرى فإن الأجسام الصلبة والأشعة الضوئية في بيئتنا تسلك وفقا لقوانين إقليدس. ولو كانت تجربة جاوس قد أفضت إلى نتيجة مختلفة، أي لو كانت قد كشفت عن انحراف عن العلاقات الإقليدية يمكن قياسه، لكانت الهندسة الطبيعية لبيئتنا الأرضية مختلفة؛ وعندئذ كان يتعين علينا، لكي نطبق هندسة إقليدية، أن نفترض قوى كونية تحرف الأشعة الضوئية، وتشوه الأجسام المنقولة بطريقة خاصة؛ وإذن فكون الهندسة الطبيعية في بيئتنا في هذا العالم إقليدية، ينبغي أن يعد واقعة تجريبية ترجع إلى حسن الحظ.
هذه الصياغات تتيح لنا التعبير عن الإضافات التي قام بها أينشتين بالنسبة إلى مشكلة المكان؛ فقد توصل من نظريته النسبية العامة إلى النتيجة القائلة إن الهندسة الطبيعية للمكان في الأبعاد الفلكية هندسة لا إقليدية. وهذه النتيجة لا تتناقض مع قياس «جاوس» الذي يؤدي إلى القول إن هندسة الأبعاد الأرضية إقليدية؛ إذ إن من الصفات العامة للهندسة اللاإقليدية أنها تكاد تكون مماثلة للهندسة الإقليدية بالنسبة إلى المساحات الصغيرة، والأبعاد الأرضية صغيرة بالقياس إلى الأبعاد الفلكية. فنحن لا نستطيع ملاحظة ما يحدث من انحرافات عن الهندسة الإقليدية عن طريق الملاحظات الأرضية؛ لأن الانحرافات في هذه الأبعاد ضئيلة إلى أبعد حد. ولكي نثبت وجود انحراف عن الدرجات المائة والثمانين التي تمثل مجموع الزوايا، فلا بد من القيام بقياس جاوس بقدر من الدقة يفوق ما قام به هو ذاته عدة آلاف من المرات، غير أن مثل هذه الدقة بعيدة كل البعد عن متناول أيدينا، وأغلب الظن أنها ستظل كذلك إلى الأبد؛ وإذن فلا يمكن قياس الطابع اللاإقليدي إلا بالنسبة إلى مثلثات أكبر، ما دام انحراف مجموع الزوايا عن 180 درجة يزداد بازدياد حجم المثلث. ولو أمكننا أن نقيس زوايا مثلث تكون أركانه هي النجوم الثوابت الثلاثة، أو المجرات الثلاث - وهو الأفضل - للاحظنا بالفعل أن مجموع زوايا المثلث يزيد على 180درجة، ولكن لا بد لنا من الانتظار حتى يتحقق السفر الكوني في الفضاء قبل أن يتسنى القيام بمثل هذا الاختبار المباشر، ما دام سيكون علينا أن نزور كلا من النجوم الثلاثة على حدة لكي نتمكن من قياس الزوايا الثلاث؛ وعلى ذلك فلا بد لنا من الاكتفاء بالطرق غير المباشرة في الاستدلال، التي تدل، حتى في المرحلة الراهنة لمعرفتنا، على أن الهندسة النجمية لا إقليدية.
وهناك إضافة أخرى قام بها أينشتين؛ فسبب الانحراف عن الهندسة الإقليدية هو في رأيه قوى الجاذبية التي يرجع أصلها إلى كتل النجوم؛ فعلى مقربة من النجم تكون الانحرافات أقوى مما هي في الفضاء الواقع بين النجوم. وهكذا أثبت أينشتين وجود علاقة بين الهندسة والجاذبية. والحق أن هذا الكشف العجيب، الذي أيدته قياسات أجريت خلال كسوف الشمس، والذي لم يسبقه إلى توقعه أحد من قبله، إنما هو تأييد جديد للطابع التجريبي للمكان الفيزيائي.
إن المكان ليس نوعا من النظام يشيد به الملاحظ البشري عالمه، وإنما هو نسق يحدد صيغة علاقات النظام التي تسري بين الأجسام الصلبة المتحركة والأشعة الضوئية؛ وبالتالي يعبر عن سمة عامة جدا للعالم الفيزيائي، تكون أساس كل القياسات الفيزيائية الأخرى؛ فالمكان ليس ذاتيا، وإنما هو واقعي. تلك هي النتيجة التي يؤدي إليها تطور الرياضة والفيزياء الحديثتين. وإنه لمن العجيب حقا أن يؤدي هذا التطور التاريخي الطويل آخر الأمر إلى العودة مرة أخرى إلى الموقف الذي كان سائدا في بدايته؛ فقد بدأت الهندسة بوصفها علما تجريبيا عند المصريين القدماء، ثم أصبحت علما استنباطيا عند اليونانيين، وأخيرا عادت لتصبح علما تجريبيا مرة أخرى، بعد أن كشفت تحليلات منطقية على أعلى درجة من الكمال، عن كثرة من الهندسات، لا بد أن تكون واحدة منها، وواحدة فقط، هي هندسة العالم الفيزيائي.
هذه الفكرة تدل على أن من الواجب التمييز بين الهندسة الرياضية والهندسة الفيزيائية؛ فهناك، من وجهة النظر الرياضية، كثرة من النسق الهندسية، وكل منها متسق منطقيا، وهذا كل ما يطلبه الرياضي؛ فهو لا يهتم بحقيقة البديهيات، وإنما بعلاقات اللزوم بين البديهيات والنظرية، فالقضايا الهندسية التي يقول بها الرياضي تتخذ صورة «إذا كانت البديهيات صحيحة، كانت النظريات صحيحة»، غير أن علاقات اللزوم هذه تحليلية، تتحقق صحتها بواسطة المنطق الاستنباطي؛ وعلى ذلك فإن هندسة الرياضي ذات طبيعة تحليلية. ولا تؤدي الهندسة إلى قضايا تركيبية إلا عندما تفكك علاقات اللزوم، وتؤكد البديهيات والنظريات على حدة؛ وعندئذ تقتضي البديهيات تفسيرا بواسطة تعريفات إحداثية، وبذلك تصبح قضايا عن موضوعات فيزيائية، وعلى هذا النحو تصبح الهندسة نسقا يصف العالم الفيزيائي، غير أنها في هذا المعنى لا تكون قبلية، بل تكون طبيعتها تجريبية، فليس ثمة عنصر تركيبي قبلي في الهندسة؛ إذ إن الهندسة إما أن تكون قبلية، وعندئذ تكون هندسة رياضية وتحليلية، وإما أن تكون تركيبية، وعندئذ تكون هندسة فيزيائية وتجريبية. وهكذا تؤدي أعلى درجات تطور الهندسة إلى انحلال المعرفة التركيبية القبلية.
ولكن ما زال أمامنا سؤال ينبغي الإجابة عنه، وهو السؤال عن التصور البصري
visualization . فكيف نستطيع أن نتصور العلاقات اللإقليدية بصريا بالطريقة التي يمكننا بها رؤية العلاقات الإقليدية؟ قد يكون من الصحيح أن في استطاعتنا، بواسطة صيغ رياضية، أن نتعامل مع الهندسات في أي وقت قادرة على أن تعرض علينا مثلما تعرض الهندسة الإقليدية؛ أعني هل سنتمكن من أن نرى قواعدها في خيالنا مثلما نرى القواعد الإقليدية؟
إن التحليل السابق يتيح لنا أن نقدم إجابة مرضية عن هذا السؤال؛ فالهندسة الإقليدية هي هندسة بيئتنا الفيزيائية، فلا عجب إذن إن أصبحت تصوراتنا البصرية مكيفة مع هذه البيئة، ومتبعة بالتالي للقواعد الإقليدية. ولو تسنى لنا أن نعيش في بيئة يكون تركيبها الهندسي مختلفا إلى حد ملحوظ عن الهندسة الإقليدية، لتكيفنا مع البيئة الجديدة، وتعلمنا كيف نرى مثلثات وقوانين لا إقليدية بنفس الطريقة التي نرى بها الآن تركيبات إقليدية؛ وعندئذ نجد من الطبيعي أن يكون مجموع زوايا المثلث أكبر من 180 درجة، ونتعلم تقدير المسافات على أساس التطابق الذي تحدده الأجسام الصلبة في ذلك العالم؛ ذلك لأن تخيل العلاقات الهندسية بصريا يعني تخيل التجارب التي نمر بها لو كنا نعيش في عالم تسري عليه هذه العلاقات. ولقد كان الفيزيائي هلمولتس
Bilinmeyen sayfa