لقد كان القرن التاسع عشر في كثير من الأحيان هدفا لازدراء المؤرخ؛ ذلك لأن الكتاب الذين تعد الشخصية العظيمة للفرد أو للعبقري هي في نظرهم هدف التطورات التاريخية، والذين يقيسون أهمية أية فترة على أساس عدد ما فيها من الأذهان الجبارة؛ قد تحدثوا باستخفاف عن قرن لم يتحدد طابعه الحضاري على أساس من فيه من الشعراء أو المصورين أو الفلاسفة. فلو قارنا بين قرن العلم والصناعة هذا وبين عصر النهضة الأوروبية، أو عهود الأدب الكلاسيكي في إنجلترا وفرنسا وألمانيا، لكانت الصورة التي يتمثل عليها لنا صورة مدنية لا لون لها، تسعى إلى الآلية والاطراد الرتيب. وبالفعل كانت الألقاب أو الشعارات التي يوصف بها القرن التاسع عشر في التفسير الرومانتيكي للتاريخ هي: الإنتاج بالجملة بدلا من الخلق على يد الفنان أو الصانع الماهر، وإرضاء الجماهير بدلا من معايير الذوق والسمو العقلي، والعمل الذهني الجماعي بدلا من العمل الخلاق للمفكر الفرد.
غير أن المؤرخ الرومانتيكي لن يستطيع أبدا أن يفهم تاريخ عصر العلم والصناعة؛ فمن المستحيل أن تقاس الإنجازات العقلية التي حققها القرن التاسع عشر على أساس الشخصيات العظيمة - وإن كان ذلك القرن قد أنتج بالفعل شخصيات عظيمة - لأن الدور الذي قام به كل فرد، مهما كانت ضخامته، ضئيل بالقياس إلى الإنتاج الجماعي. والحق أن عدد الكشوف العلمية التي تمت بالعمل الجماعي في هذه الفترة كان هائلا. فالفترة التي بدأت بالآلة البخارية وكشف التيار الكهربائي، واستمرت باختراع السكك الحديدية والمولد الكهربائي والمذياع والطائرة، والتي بلغت قمتها في أيامنا هذه بوسائل المواصلات التي تفوق سرعتها سرعة الصوت واستغلال الطاقة الذرية؛ هذه الفترة ليست مجرد مسيرة ظافرة لكشوف صناعية، وإنما هي تمثل في الوقت ذاته اتجاها إلى التقدم السريع في القدرة على التفكير المجرد، وهي قد أدت إلى بناءات نظرية بحتة تتسم بأعلى درجة من الكمال، مثل نظرية التطور عند دارون ونظرية النسبية عند أينشتين، وهي قد دربت العقل البشري على فهم العلاقات المنطقية التي كانت تبدو مستغلقة على فهم الإنسان المثقف في القرون السابقة.
إن نمو القدرة على التجريد ظاهرة تلازم المدنية الصناعية بالضرورة؛ ذلك لأن المهندس الذي يصمم الآلات أو الطائرات لا يماثل عامل المصنع الذي يصنع الآلة أو الطائرة؛ إذ إن إنتاجه يتمثل لخيال كاملا، دون أن يتجسد إلا في صورة تصميم على الورق، قبل أن يصبح حقيقة واقعة. وعالم الفيزياء الذي يجري التجارب في معمله، يقف أمام مجموعة شديدة التعقيد نظاما من الأسلاك وأنابيب الاختبار والقضبان المعدنية، ولكنه يرى في هذه المجموعة المعقدة نظاما من الدوائر الكهربائية، يجعله يسيطر على عملياته اليدوية على نحو من شأنه إنتاج ملاحظات تكشف عن القوانين العامة للطبيعة. والعالم الرياضي، المزود بورق وقلم، يصل إلى أرقام تتحكم في تشييد جسر أو صنع طائرات أو بناء ناطحات سحاب. فلم يحدث قط في تاريخ البشر أن اقتضت مدنية مثل هذا التدريب العقلي المركز من أولئك الذين يعملون على إعلائها.
ولقد كانت فلسفة القرن التاسع عشر نتاجا لهذه القدرة على التجريد؛ فهي لا تقدم تلك الحلول المغرية التي تقدمها مذاهب تتحدث لغة مجازية وتهيب بالميول الجمالية، وإنما تقدم إجابات لا يفهمها إلا ذهن مدرب على التفكير المجرد. وهي تقتضي من تلاميذها دراسة كل جزء منها بدقة العالم الرياضي وانضباط المهندس. ومع ذلك فإنها تقدم إلى من يبدون استعدادا لالتزام هذه الشروط مكافأة هائلة من البصيرة العقلية؛ فهي تجيب على الأسئلة التي لم يستطع مؤسسو المدارس الفلسفية الكبرى الإجابة عنها، وإن كانت تضطر في كثير من الأحيان إلى إعادة صياغة السؤال على نحو من شأنه أن يجعله قابلا لأن يجاب عليه. وهي تبين لنا أن تركيب العالم الذي نعيش فيه أعقد بكثير من ذلك الذي كان يسلم به الفيلسوف الكلاسيكي. وهي قد تمكنت من وضع أساليب لمعالجة هذه التركيبات، وجعل العالم مفهوما في نظر الذهن البشري.
وإنا لنجد عادة في الكتب الفلسفية المدرسية فصلا عن فلسفة القرن التاسع عشر مكتوبا بنفس الروح التي كتبت بها الفصول المتعلقة بالقرون السابقة عليه. في هذا الفصل نجد أسماء «فشته» وشلنج وهيجل وشوبنهور وبرجسون، ونجد وصفا لمذاهبهم تبدو فيه هذه المذاهب خلقا فلسفيا يماثل ما نجده في مذاهب الفترات السابقة، غير أن فلسفة المذاهب تنتهي بمذهب «كانت». ولو فهمنا المذاهب التي ظهرت بعد ذلك بنفس الطريقة التي نفهم بها مذهب «كانت» أو أفلاطون، لكان في ذلك سوء فهم لتاريخ الفلسفة؛ فقد كانت المذاهب الأقدم عهدا تعبر عن علوم عصورها، وقامت بتقديم إجابات وهمية حين كانت تعوزها الإجابات الأفضل. أما المذاهب الفلسفية في القرن التاسع عشر فقد شيدت في وقت كان يجري فيه بناء فلسفة أفضل، وكانت هذه المذاهب من عمل أناس لم يدركوا الكشوف الفلسفية الكامنة في العلم الموجود في عصرهم، فشيدوا، تحت اسم الفلسفة، مذاهب من التعميمات والتشبيهات الساذجة. وكان ما يعجب قراء هؤلاء الفلاسفة فيهم، وما يساعد على شهرتهم ، هو أحيانا تلك اللغة البراقة التي عرضوا بها مذاهبهم، وأحيانا أخرى جفاف أسلوبهم العلمي الوهمي. ومع ذلك فلو نظرنا إلى مذاهبهم هذه تاريخيا لكان الأفضل تشبيهها بالطرف المسدود لنهر كان يتدفق في أرض خصبة، وانتهى به الأمر إلى الجفاف في الصحراء.
والواجب أن نقول إن الحركة التي استمر بها تاريخ الفلسفة بعد «كانت»، وهو التاريخ الذي ظل حتى عصر «كانت» يتمثل في صورة مذاهب فلسفية، ليست تلك المذاهب الوهمية التي قام بها مقلدو الماضي الفلسفي العريق، وإنما تلك الفلسفة الجديدة التي نشأت بفضل علم القرن التاسع عشر، واستمرت في القرن العشرين؛ ففي خلال هذه الفترة القصيرة من الزمن، مرت تلك الفلسفة بتطور سريع، كان متمشيا مع تقدم العلم خلال الفترة ذاتها. وينبغي أن نلاحظ بوجه خاص أن النتائج المترتبة على نظرية النسبية عند أينشتين، وعلى نظرية الكم (الكوانتم) عند بلانك، تقع بأسرها في القرن العشرين؛ ومن ثم فإن من الضروري أن يختلف المظهر الفلسفي لهذا القرن عن مظهر القرن التاسع عشر اختلافا كبيرا. ومع ذلك فإن الانقلاب في التفكير، الذي يعزو الكثيرون الفضل فيه إلى القرن العشرين، إنما كان نتيجة طبيعية للتطورات التي بدأت في القرن التاسع عشر؛ ولذلك كان الأصح أن نسميه تطورا سريعا.
وكما أن الفلسفة الجديدة قد ظهرت في الأصل بوصفها نتاجا ثانويا للبحث العلمي، فإن الأشخاص الذين قامت هذه الفلسفة على أكتافهم لم يكونوا، في معظم الأحيان، فلاسفة بالمعنى الاحترافي؛ فقد كانوا علماء في الرياضة أو الفيزياء أو البيولوجيا أو علم النفس، وكانت فلسفتهم نتيجة لمحاولاتهم الاهتداء إلى حلول لمشكلات يصادفها العالم خلال بحثه العلمي، وهي مشكلات تتحدى الوسائل الفنية التي كانت تستخدم حتى ذلك الحين، وتقتضي إعادة اختبار أسس المعرفة وأهدافها. ونادرا ما كانت هذه الفلسفة مفصلة أو صريحة، كما أنها لم تكن تمتد إلى ما وراء حدود المجالات الخاصة التي يرتكز عليها اهتمام واضعها. وبدلا من ذلك تجد فلسفات هؤلاء الناس ماثلة في تصديرات كتبهم ومقدماتها، وفي ملاحظات تظهر من آن لآخر في مؤلفاتهم التي كان طابعها العام فنيا بحتا.
ولم تظهر فئة جديدة من الفلاسفة، درب أفرادها على الأساليب الفنية للعلم، وضمنها الرياضيات، وركزوا جهودهم في التحليل الفلسفي، إلا في جيلنا هذا؛ فقد أدرك هؤلاء أنه لا مفر من توزيع العمل، وأن البحث العلمي لا يترك للمرء وقتا يكفيه للقيام بأعمال التحليل المنطقي، وأن التحليل المنطقي، من ناحيته، يقتضي تركيزا لا يبقى معه وقت للعمل العلمي، بل إنه تركيز قد يعوق القدرة الإبداعية العملية؛ لأنه يهدف إلى الإيضاح لا إلى الكشف. وكان فيلسوف العلم المحترف هو نتاج هذا التطور.
أما فيلسوف المدرسة القديمة فإنه يرفض في كثير من الأحيان أن يعترف بأن تحليل العلم فلسفة، ويظل يعرف الفلسفة بأنها اختراع المذاهب الفلسفية، وهو لا يدرك أن المذاهب الفلسفية قد فقدت معناها، وأن فلسفة العلم قد شغلت وظيفتها. على أن فيلسوف العلم لا يخشى هذه الخصومة؛ فهو يترك لفيلسوف الطراز القديم مهما ابتدع مذاهب فلسفية قد يكون لها مكان في ذلك المتحف المسمى بتاريخ الفلسفة، ويواصل عمله غير عابئ بشيء.
الفصل الثامن
Bilinmeyen sayfa