وأود أن أعبر عن هذا النقد ل «كانت» بمزيد من الدقة؛ فقد أكد «كانت» على الدوام أنه يبحث عن الشروط المنطقية المسبقة للمعرفة، مميزا إياها من الشروط النفسية المسبقة: «فلا يمكن أن يكون ثمة شك في أن كل معرفة لنا تبدأ بالتجربة، ولكن لا يلزم عن ذلك القول إنها كلها مستمدة من التجربة.» بهذه الكلمات قدم «كانت» كتابه «نقد العقل الخالص». ولو طبقنا حجته هذه على مشكلة السببية، لكان معناها أننا نتوصل إلى فكرة السببية بالاهتداء إلى أسباب معينة، غير أن معرفة المبدأ العالم للسببية لا تستمد منطقيا من التجارب؛ فهذا المبدأ، في رأي «كانت»، هو الشرط المنطقي المسبق لأي قانون سببي محدد؛ ومن ثم كان من الضروري التسليم بصحته إذا شئنا الاهتداء إلى مثل هذه القوانين السببية.
إن لفظ «شرط منطقي مسبق
logical presupposition » يعني علاقة منطقية، ومعناه هو: إذا كان القانون السببي المعين صحيحا، فإن القانون السببي العام صحيح. على أن هذه العبارة ينبغي أن تكون مقرونة بتحفظ معين؛ فلكي تسري السببية على نوع معين من الحوادث، لا يلزم أن تكون سارية على بقية الأنواع، وكل ما يمكن أن يقال هو: إذا كان القانون السببي الخاص صحيحا، فهناك إذن سبب في هذه الحالة؛ وبهذه الصورة المحدودة وحدها يمكن إقامة علاقة اللزوم. وعلى ذلك، فإن الشرط المنطقي المسبق لأي قانون سببي خاص ليس المبدأ العام للسببية، وإنما هو مبدأ مناظر لا يقال إلا بالنسبة إلى الحادث المعين موضوع البحث.
وعلينا أن نتساءل عما يمكن استخلاصه من هذا اللزوم المحدود؛ فإذا كنت قد وجدت السبب المعين، فهناك إذن سبب لهذا الحادث. ويعتقد «كانت» أن في استطاعتنا أن نستخلص من هذا اللزوم النتيجة الآتية: إذا كنت تبحث عن السبب الخاص، أي سبب ظاهرة المد مثلا، فعليك أن تفترض أن هناك سببا، وإلا لكان من غير المعقول، في رأي «كانت»، أن تحاول البحث عن سبب.
على أن في هذه الحجة مغالطة؛ فإذا كنا نبحث عن سبب معين، فلسنا بحاجة إلى افتراض وجود مثل هذا السبب، وإنما نستطيع أن نترك المسألة مفتوحة، مثل مسألة تحديد كنه السبب. وكل ما يمكن أن يقال هو أننا لو كنا نعلم أنه ليس ثمة سبب لكان من غير المعقول أن نبحث عن سبب خاص، ولكن إذا لم نكن نعرف شيئا عن مسألة وجود سبب، ففي استطاعتنا أن نبحث في وقت واحد عن السبب الخاص، وعن الجواب عن السؤال المتعلق بوجود سبب أو عدم وجوده. فإذا نجحنا في الاهتداء إلى سبب معين، فإنما نعلم أننا قد أثبتنا أن هناك سببا للحالة موضوع البحث. هذه النتيجة التافهة هي كل ما يتبقى من حجة «كانت»؛ فصحة القضية المتعلقة بالسبب المعين تفترض مقدما صحة القضية المتعلقة بوجود سبب، غير أن البحث في صحة القضية الأولى لا يفترض مقدما صحة الثانية.
هذا التحليل يؤدي في الوقت ذاته إلى البت في مسألة المبدأ العام للسببية، وهو المبدأ القائل إن لكل الحوادث أسبابا؛ فمن المؤكد أن عبارة تبلغ هذا القدر الهائل من العمومية ليست هي الشرط المنطقي المسبق للقانون السببي العام موضوع البحث، ولا يمكن أن يكون لها دور إلا بعد بحث القوانين السببية لجميع الحوادث. ولو طبقنا النتائج السابقة على هذه الحالة، لتوصلنا إلى العبارة الآتية: لو كان قد تم الاهتداء إلى قوانين سببية لكل الحوادث، لكان لكل الحوادث أسباب، غير أن البحث عن كل هذه القوانين السببية لا يفترض مقدما التسليم بأن لكل الحوادث قوانين سببية؛ فمن الممكن أن تترك المسألة الأخيرة معلقة، على أن تتم الإجابة عنها بعد أن يكون البحث قد نجح في جميع الحالات.
وهكذا تنهار خطة «كانت» في الاهتداء إلى عنصر تركيبي قبلي عن طريق الكشف عن الشروط المنطقية المسبقة للمعرفة؛ فوجود شروط مسبقة للمعرفة العلمية لا يعني أن هذه الشروط صحيحة. ولو شئنا أن نعرف إن كانت هذه الشروط صحيحة فعلينا أولا أن نثبت أن المعرفة العلمية الصحيحة؛ وعلى ذلك فإن صحة الشروط المسبقة لا تثبت على نحو أفضل مما تثبت صحته المعرفة العلمية. هذا التحليل المنطقي البسيط يدل على أن فلسفة «كانت» في المعرفة التركيبية القبلية لا يمكن قبولها.
إن تفسير المذهب العقلي للفيزياء الكلاسيكية لم يحل المشكلات التي أثارها تفسير المذهب التجريبي. تلك هي النتيجة التي تؤدي إليها كل هذه المناقشة؛ فالدقة الرياضية للفيزياء لا ينبغي لها أن تدفعنا إلى الاعتقاد بأن في استطاعة المناهج الاستنباطية أن تشرح وتعلل جميع العمليات الفكرية المتضمنة في بناء هذا العلم؛ ذلك لأن الفيزيائي يعتمد، إلى جانب الاستنباط، على استخدام الاستقراء، ما دام يبدأ بملاحظات ويتنبأ مقدما بمزيد من الملاحظات. فالتنبؤ بالملاحظات المقبلة هو هدفه ومعيار صحة فرضه في آن واحد. ولقد تمكنت الفيزياء الكلاسيكية، بفضل تشييدها لشبكة معقدة من الاستدلالات الاستنباطية والاستقرائية، من أن تصطنع مناهج تنبئية لها درجة عالية من الكفاءة، غير أنه لا الفيزيائي ولا الفيلسوف استطاع أن يجيب عن السؤال الخاص بالسبب الذي يجعلنا نثق في هذه المناهج عندما نطبقها على المزيد من التنبؤات.
وبانتهاء القرن الثامن عشر، كانت فلسفة الفيزياء قد وصلت إلى طريق مسدود؛ فقد ظل النسق الشامل للمعرفة، الذي خلقه الذهن البشري، غير قابل للفهم. والواقع أن هذا الاعتراف الصريح الذي صدر عن الفيلسوف التجريبي هيوم يبدو أرفع من زعم الفيلسوف العقلي «كانت» القائل إن أسس الفيزياء نتاج للعقل.
على أن الفيزيائيين أنفسهم لم يلاحظوا ذلك الطريق الفلسفي المسدود، وإنما واصلوا القيام بملاحظات ووضع نظريات، وساروا من نجاح إلى نجاح، حتى وصلوا بدورهم إلى طريق مسدود. ومن هذا الطريق الفيزيائي المسدود انبثقت فيزياء جديدة أمكن بواسطتها، آخر الأمر، الخروج من الطريق الفلسفي المسدود بدوره. فلنتحدث عن هذه التطورات في سياق العرض الذي سنقدمه للقرنين التاسع عشر والعشرين.
Bilinmeyen sayfa