2
التي ظلت ترى حتى بعد أن اختفت القطة.
غير أنني لا أود أن أسخر من أفلاطون؛ ذلك لأن مجازاته تتحدث بلغة بلاغية تثير الخيال، وكل ما في الأمر أن من الواجب ألا تعد تفسيرا؛ فكل ما أبدعه أفلاطون كان شعرا، ومحاوراته كانت من أروع الأعمال في الأدب العالمي. وإن قصة سقراط الذي يعلم الشبان بطريقة توجيه الأسئلة، إنما هي مثل رائع للشعر التعليمي، الذي وجد له مكانا إلى جانب إلياذة هوميروس وتعاليم الأنبياء، ولكن ليس لنا أن نأخذ آراء سقراط مأخذ الجد أكثر مما ينبغي؛ إذ إن المهم هو الطريقة التي يقول بها هذه الآراء، وكيف يستثير تلاميذه للدخول في مناقشة منطقية. ففلسفة أفلاطون إنما هي نتاج لفيلسوف انقلب شاعرا.
وإنه ليبدو أن الفيلسوف، عندما يصادف أسئلة يعجز عن الإجابة عليها، يشعر بإغراء لا يقاوم لكي يقدم إلينا لغة مجازية بدلا من التفسير. ولو كان أفلاطون قد بحث مشكلة أصل المعرفة الهندسية من وجهة نظر العالم، لوجب أن يكون رده اعترافا صريحا هو: «لا أعرف.» فالعالم الرياضي إقليدس، الذي شيد بعد جيل واحد من أفلاطون نسق البديهيات الهندسي، لم يحاول تقديم تفسير لمعرفتنا بالبديهيات الهندسية. أما الفيلسوف فيبدو عاجزا عن السيطرة على رغبته في المعرفة. وإنا لنجد العقل الفلسفي، طوال تاريخ الفلسفة، مقترنا بخيال الشاعر؛ فحيثما كان الفيلسوف يسأل، كان الشاعر هو الذي يجيب؛ لذلك فإن من الواجب، عند قراءتنا للعرض الذي يقدمه الفلاسفة لمذاهبهم، أن نركز انتباهنا في الأسئلة، لا في الإجابات المقدمة؛ ذلك لأن كشف الأسئلة الأساسية هو في ذاته إسهام عظيم الأهمية في التقدم العقلي. وعندما ينظر إلى تاريخ الفلسفة على أنه تاريخ للأسئلة، فإن الوجه الذي يتبدى عليه يغدو أخصب بكثير من ذلك الذي يبدو لنا عندما ننظر إليه على أنه تاريخ للمذاهب. وهناك بعض من هذه الأسئلة يرجع إلى عهود غابرة في التاريخ، لم يتم التوصل إلى إجابات علمية عليه إلا في أيامنا هذه. ومن هذه الأسئلة، السؤال عن أصل المعرفة الرياضية. وسوف نتناول في الفصول المقبلة أسئلة أخرى كان لها تاريخ مماثل.
إن التحليل الذي قدمناه في هذا الفصل هو الإجابة الأولى على السؤال النفسي المتعلق باللغة الفلسفية، الذي أثير عند مناقشة الفقرة التي استهللنا بها هذا الكتاب. فالفيلسوف يتحدث لغة غير علمية؛ لأنه يحاول الإجابة على الأسئلة في الوقت الذي تعوزه فيه الإجابة العلمية. ومع ذلك فإن صحة هذا التفسير التاريخي محدودة النطاق؛ فهناك فلاسفة يظلون يتحدثون بلغة مجازية في الوقت الذي تتوافر فيه بالفعل وسائل الوصول إلى حل علمي. وعلى حين أن التفسير التاريخي ينطبق على أفلاطون، فإنه لا يمكن أن يصدق على كاتب بالفقرة القائلة: إن العقل هو جوهر الأشياء جميعا. إذ كان في وسع هذا الكاتب أن يفيد من المعرفة المتراكمة طوال ألفي عام من البحث العلمي بعد عصر أفلاطون، غير أنه لم ينتفع منها.
الفصل الثالث
البحث عن اليقين والفهم العقلي للمعرفة
تبين لنا من الفصل السابق أن أصل المفاهيم الغامضة للمذاهب الفلسفية يرجع إلى نوع من النوافع الخارجة عن مجال المنطق، التي تتدخل في عملية التفكير؛ فعن طريق اللغة المجازية، يقدم الفيلسوف إرضاء وهميا لسعيه المشروع إلى تقديم تفسير يتسم بالعمومية. ومما يغري على إقحام الشعر في مجال المعرفة على هذا النحو، الميل إلى تشييد عالم خيالي من الصور، وهو ميل يمكن أن يصبح أقوى من السعي إلى الحقيقة، ويستحق هذا الميل إلى التفكير المجازي أن يسمى دافعا خارجا عن مجال المنطق؛ لأنه لا يمثل نوعا من التحليل المنطقي، وإنما يرجع أصله إلى حاجات ذهنية لا تنتمي إلى مجال المنطق.
وهناك دافع ثان خارج عن مجال المنطق، كان في كثير من الأحيان يتدخل في عملية التحليل. فعلى الرغم من أن المعرفة المكتسبة بالملاحظة الحسية هي على وجه العموم ناجحة في الحياة اليومية، فإن في وسعنا أن ندرك منذ وقت مبكر أننا لا نستطيع الاعتماد عليها أكثر مما ينبغي. فهناك بضعة قوانين فيزيائية بسيطة يبدو أنها تصح بلا استثناء، كالقانون القائل إن النار ساخنة، أو إن البشر فانون، أو إن الأجسام التي لا ترتكز على شيء تهوي. غير أن هناك قواعد أخرى كثيرة جدا لها استثناءات، كالقاعدة القائلة إن البذرة التي تغرس في الأرض تنمو، أو كقواعد الطقس أو قواعد شفاء الأمراض البشرية. وكثيرا ما تؤدي الملاحظة الأكثر شمولا إلى كشف استثناءات حتى في القوانين ذات الصبغة الأدق. مثال ذلك أن نار حشرة «ذبابة النار» ليست ساخنة، وذلك على الأقل بالمعنى المعتاد لكلمة «ساخنة»، كما أن فقاعات الصابون قد ترتفع إلى أعلى (وإن لم تكن مرتكزة على شيء). وعلى حين أن من الممكن تفسير هذه الاستثناءات بوضع صيغة أدق للقانون، تحدد شروط سريانه ومعاني ألفاظه بطريقة أدق، فإننا نظل مع ذلك نشك إن كانت الصيغة الجديدة خالية من الاستثناء، أو إن كانت ستظهر كشوف جديدة تكشف عن نوع من النقص في الصيغة المعدلة. ولا شك أن لهذا الشك مبرراته القوية، التي ترجع إلى ما أدى إليه تطور العلم مرارا من استبعاد للنظريات القديمة والاستعاضة عنها بنظريات جديدة.
وهناك مصدر آخر للشك، هو أن تجاربنا الداخلية تنقسم إلى عالم للواقع وعالم للأحلام. ولقد كانت ضرورة القيام بهذا التقسيم، من الوجهة التاريخية، كشفا تم في فترة متأخرة إلى حد ما من تطور الإنسان. فنحن نعلم أن الشعوب البدائية في عصرنا هنا لا تضع بين العالمين حدا فاصلا واضحا؛ فالإنسان البدائي الذي يحلم بأن شخصا آخر هاجمه قد يعد حلمه حقيقة، ويقتل الرجل الآخر، أو قد يحلم بأن زوجته تخدعه مع رجل آخر، فيقوم بأعمال انتقامية مماثلة أو يتخذ تدابير للقصاص، وذلك تبعا لوجهة نظره إلى الموضوع. وقد يكون المحلل النفسي على استعداد لالتماس عذر لهذا الرجل إلى حد ما، وذلك بأن يشير إلى أن مثل هذه الأحلام ما كانت لتحدث دون أسباب، وأنها تبرر الشك على الأقل، إن لم تكن تبرر العقاب. غير أن الإنسان البدائي لا يسلك على أساس اعتبارات التحليل النفسي، وإنما يسلك لافتقاره إلى تمييز واضح بين الحلم والواقع. وعلى الرغم من أن الإنسان العادي في عصرنا هذا يشعر بأنه في مأمن من هذا الخلط، فإن قليلا من التحليل يبين لنا أن ثقته هذه لا ترقى إلى مرتبة اليقين؛ ذلك لأننا عندما نحلم لا نعلم أننا نحلم، وإنما نعرف أن حلمنا كان حلما فيما بعد؛ أي عندما نستيقظ فقط. فكيف ندعي أن تجاربنا الحالية يمكن الاعتماد عليها أكثر من الحلم؟ إن كون هذه التجارب مقترنة بشعور من الواقعية لا يجعلها أكثر قابلية للاعتماد عليها؛ إذ إن هذا الشعور ذاته يكون لدينا في الحلم، فليس في وسعنا أن نستبعد تماما احتمال أن التجارب التالية ستثبت أننا نحلم الآن. وليس الغرض من إثارة هذه الحجة هو زعزعة ثقة الإنسان العادي في تجاربه، وإنما تبين هذه الحجة أننا لا نستطيع أن نعتمد على هذه الثقة اعتمادا مطلقا.
Bilinmeyen sayfa