ولولا سوء التصرف لكان المصريون من أسعد سكان المعمورة حالا؛ لتوفر أسباب المعيشة، واعتدال الجو الذي يساعد الإنسان على قضاء حاجاته، فيمكن الفقير أن يعيش في مصر سعيدا لا يعرف للجوع ألما، ويتقي شر البرد بقليل من الملابس، كما تقيه الأشجار حر الشمس، فلا يحتاج إلى كثرة النفقة كغيره من سكان البلاد الباردة، كالروسيا وغيرها، الذين ربما ماتوا من البرد والجوع، وهو مع ذلك مستريح من شدة حر الشمس الذي يمنع الإنسان من العمل، ويضطره إلى الراحة والكسل، كما يقاسي ذلك سكان المنطقة الحارة، فهو في هناء ورغد عيش. (27) القروية وجرتها
أرادت فتاة مدنية من أهل الثروة أن تستريض، فتردت بأنفس حللها، وتزينت بحليها، وخرجت تخطر في جماعة من خدمها، وقصدوا قرية قريبة منهم، حتى إذا وصلوها وقفت الفتاة على شاطئ نهر، تنعم النظر في جمال ما صنعته القدرة الإلهية، وقد أعجبها انحدار سبائك الماء الفضية بين تلك المروج الزبرجدية، وراقها اهتزاز الغصون وتمايل الأشجار التي كانت كأنها تشير بأكف أوراقها الخضراء قائلة لمن أضر بهم الإعياء:
إلي إلي تستريحوا من العنا
فظلي من حر السماء ظليل
وتحت غصوني يكتسي الجسم صحة
لأن نسيمي رق فهو عليل
وبينما هي تسرح الطرف بين تلك الحقول والغدران، إذ بصرت بفتاة قروية تملأ جرتها من النهر، وقد زان جمالها الطبيعي بشاشة وجهها، واعتدال صحتها، فأخذت الفتاة تردد الطرف في محاسنها، وتود لو تكلمها لتعرف بعض عاداتها، وما زالت كذلك إلى أن ملأت القروية جرتها، والتفتت يمينا وشمالا لترى أحدا تستعين به على حمل الجرة، فلم تجد، فجثت على ركبتيها، ورفعت الجرة على رأسها، وقامت بها تمشي معتدلة القامة مسرعة الخطوات.
فدنت منها المدنية وحيتها وسألتها: كيف استطاعت أن تحمل تلك الجرة مع ثقلها، ولم تستعن على ذلك بأحد؟ قالت القروية: قد اعتدت ذلك، فسهل علي عمله، فأبدت المدنية أسفها على حالة الفتاة، وقالت: أظن أن أباك فقير يضطرك إلى هذا. قالت القروية: كلا يا سيدتي، فإن أبي متوسط الثروة، وعندنا خير كثير. قالت المدنية: هذا والله هو الظلم؛ كيف يكون والدك غنيا وأنت تقومين بمثل هذا العمل الشاق؟!
فابتسمت القروية وقالت: لا ظلم في ذلك يا صاحبتي، فإن لكل إنسان عملا في هذه الحياة الدنيا، وإن لأبي نفسه أعمالا كثيرة، فكيف يتركني بلا عمل، أوليس لك عمل تقومين به؟ قالت: حاشا لله، فإن عندنا من الخدم ما يكفيني شر هذا. قالت القروية: أوليس لأبيك عمل أو صناعة؟ قالت: بلى ، إنه رئيس قلم في بعض الدواوين. قالت: وهل يتحمل في ذلك مشقة؟ قالت: نعم، فقد يسهر أحيانا إلى جزء من الليل في تتميم عمله.
فصاحت القروية: هذا والله هو الظلم لا ذاك، أيقوم والدك بمثل ذلك العمل الشاق وتتركين بلا عمل، ولو زهيدا، تظهرين به مقدار شكرك له، وعنايته بك، وقيامه بشئونك! قالت المدنية: تلك سنتنا، ولا باس بها، وإني آسف على سوء حالكن أيتها القرويات. قالت القروية: لو تعلمين الحقيقة لأسفت على حالكن أكثر مما تأسفين علينا؛ لأننا عددنا أنفسنا من جنس الإنسان، فشاركنا الرجال في العمل، ولم نكن عالة على غيرنا، فضميرنا مرتاح لعلمنا أننا نقوم بأعمال نستحق عليها ما ينالنا من مال أهلنا، وقد اعتدنا تحمل المشاق، والصبر عليها، والرضا بما لدينا، ومساعدة الرجال في الاقتصاد في المعيشة.
Bilinmeyen sayfa