المطالعة العربية
المطالعة العربية
المطالعة العربية
المطالعة العربية
لمدارس البنات
تأليف
نبوية موسى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين «وبعد»؛ فإن الأطفال يتعلمون اللغات بمجرد تعودهم سماعها، فإذا تعودوا سماع الكلام الصحيح ثبت ذلك في أذهانهم، وبعد عليهم النطق بالخطأ، وإن لم يتعلموا شيئا من القواعد؛ لما في طبيعتهم من قوة الاستعداد للتقليد.
ولما كان الغرض من تعليم اللغة العربية أو غيرها من اللغات إنما هو تعليم الطفل كيف يعبر عن مكنون صدره، بعبارة صحيحة فصيحة، وجب أن نورد عليه العبارات الراقية الجيدة المعنى والأسلوب، خالية من الحشو والتطويل، يتخللها الآراء الصائبة، فنكون قد خططنا للطفل طريقا يتبعها في سيره، ومددناه بأفكار يعمل قريحته في فهمها، والوقوف على حقيقتها، ثم ادخارها في ذاكرته، حتى إذا بلغ أشده عبر عن حاجته بما اعتاده من جودة الإنشاء، وسداد الرأي «وكل امرئ جار على ما تعودا».
Bilinmeyen sayfa
هذا، ولا أرى بأسا باستعمال بعض التشبيهات القريبة؛ فإنها وإن عجز الطفل عن الإتيان بمثلها تمثل له الشيء المعنوي بمثال محسوس يمكنه تصوره، وهي مع ذلك تقوي تخيله، وتنبهه إلى الأشياء المتشابهة، ولا بد له من قراءة بعض موضوعات في الوصف؛ ليتعلم كيف يصف لسانه ما يراه عيانه.
وإني لا أرى بأيدي التلميذات الآن كتبا تفي بهذا الغرض، مع لفتهن إلى ما يجب عليهن من محاسن الآداب، ومكارم الأخلاق، ولما كنت فتاة أشعر بما تشعر به الفتيات، وأعرف من أين يتأثرن، وما يحرك عواطفهن، ألفت هذا الكتاب لتلميذات السنتين الثالثة والرابعة من المدارس الابتدائية للبنات، وجعلته حاثا على الآداب في أسلوب لا يظهر فيه أمر ولا نهي؛ لأن الإنسان إذا أمر بشيء فربما ثقل عليه عمله، أو نهي عن شيء تاقت نفسه إليه، كما قيل: «وحب شيء إلى الإنسان ما منعا».
لذلك شرحت الأمر الحسن ومدحته، وبينت الشيء القبيح وذممته، وتركت الفتاة تختار لنفسها ما شاءت، وعضدت آرائي ببعض حكايات تاريخية، فيها شيء من أخلاق العرب وآدابهم وأشعارهم حتى تقف التلميذة على شيء من عاداتهم المحمودة، فتحترمهم وتحب لغتهم، وتنظر إليها بعين غير التي ينظر بها بعض التلاميذ الآن، ولم أقصد فيه إلى النصائح المشهورة، التي يسهل على كل أحد الاهتداء إليها مثل: «لتجلس التلميذة أمام معلمها أو والدها بغاية الأدب».
بل رأيت أن التلميذة متى انتهت إلى السنة الثالثة عرفت آداب الجلوس والمشي، ونظافة الأيدي وغير ذلك من الآداب الظاهرة التي لا تتعدى باب المدرسة، أو حضرة أبيها، لكنها يعوزها أن تحلي نفسها بالفضيلة، فتسعى وراءها، وتعلم أن لها في العالم أهمية عظيمة، وأن عليها عملا جليلا يجب إتقانه، فتعرف قدرها، وتترفع عن كل ما ينقصها أو يمس شرفها.
وقد وصفت أرض مصر وقارنتها بالبلاد الأخرى، وأظهرت فضلها وجودة تربتها وغير ذلك، مما يجعل التلميذة تفتخر ببلادها، فتحبها، وتعرف أنها نفيسة فتحرص عليها.
وقد عرضت كثيرا من موضوعاته على تلميذات السنة الثالثة فوجدتها تناسب مداركهن.
نبوية موسى
المطالعة العربية
(1) من لم ترفعه الفضيلة وضعته الرذيلة
إن الفضائل أخلاق كريمة، يحمد المرء على الاتصاف بها، مثل: الاجتهاد، والعلم، والوفاء، والصدق، والأمانة، والعدل، والتواضع، والصبر، والحزم، وكتمان السر، والقناعة، والإقدام على فعل الخير، وضد ذلك الرذائل والنقائص مثل: الكسل، والجهل، والغدر، والكذب، والخيانة، والظلم، والكبر، والجزع، والطيش، وإفشاء السر، والشره، والإحجام عن فعل الخير.
Bilinmeyen sayfa
وعلى قدر فضل الإنسان يكون حظه في الحياة الدنيا والآخرة، فإذا اتصف بالفضائل كان جديرا أن يرتفع بعد الضعة، ويسعد بعد الشقاء، ويغنى بعد الفقر، وإلا وضعته الرذيلة، ولو ارتفعت أجداده وجعلته سبة عليهم ووصمة في تاريخهم.
ومن نظر في التاريخ علم كيف ترفع المرء فضيلته. هؤلاء الخلفاء الراشدون - رضي الله تعالى عنهم - ارتقوا بالفضائل، فعاشوا مسودين، وماتوا مأسوفا عليهم، بعد أن خلفوا من الأثر الحميد ما زين كتب التاريخ، أسسوا الملك على دعائم العدل والحكمة، فأصلحوا الفاسد، ومنعوا الجور، وأدوا أعمالهم بالحزم والنشاط، فأصابوا حاجتهم، وسادوا معاصريهم من ملوك البلاد، وكانوا قدوة حسنة لمن بعدهم.
ولا فرق في التحلي بالفضل بين الرجل والمرأة؛ إذ إن كلا منهما يحتاج إلى الفضل احتياج العيون إلى الضوء، وتكاد المرأة تكون أشد احتياجا إلى ذلك من الرجل؛ لما تقوم به من تعهد الأطفال ومخالطتهم من ابتداء نشأتهم وما يتعودونه من طباعها في تلك المخالطة، وقد تكون هذه الطباع عادة لهم إذا كبروا؛ لتمكنها من نفوسهم الخالية.
وما من عصر خلا إلا واشتهرت فيه النساء بما اشتهر به الرجال، فقد اشتهرت نساء العرب بالوفاء والشجاعة والفصاحة، كما اشتهر ذلك عن رجالهن، ومنهن الخنساء، فقد اشتهرت بالشعر حتى فاقت الرجال فيه، والجيداء قد اشتهرت بالفروسية وقوة الساعد، والسيدة عائشة بنت أبي بكر - رضي الله تعالى عنهما؛ فقد كانت أحب أزواج النبي إليه؛ لما اتصفت به من الفضل وكمال الأدب، وكانت الرجال تقصدها بعد وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم
لتسألها في العلم فتفتيهم فيه من وراء حجاب، وكان لها ذوق جميل في انتقاد الشعر والكلام العربي، وكانت ذات حزم وثبات وصبر، لا تهولها المصائب.
ويحكى أنها قامت على قبر أبيها يوم وفاته فخطبت وبينت حسن أفعاله وطاعته لله - سبحانه وتعالى - ولم يبد عليها جزع، بل كانت صابرة على ما ابتليت به، وكانت مع ذلك على جانب عظيم من الشجاعة والإقدام، فقد حضرت وقعة الجمل بنفسها؛ ولذلك اشتهرت أكثر من سائر أزواج النبي
صلى الله عليه وسلم ، وخلد ذكرها في كتب التاريخ. (2) الصدق
الصدق إظهار الأمور على حقيقتها بالقول والعمل، فهو يفيد الإنسان علما صحيحا بالأشياء المحيطة به، ونعمت الفائدة؛ فإذا اعتاد الإنسان الصدق عرف به فأفاد الناس بصدقه، واستفاد منهم؛ لاعتمادهم عليه في القول والعمل، ونفيهم عنه سمة الكذب المهينة.
وإن عرف الإنسان بالكذب لم يكد
Bilinmeyen sayfa
يصدق في شيء وإن كان صادقا
هذا فضلا عن ارتكاب الكذوب الآثام لتقوله على الناس ما لم يقولوا، وظلمه لهم فيما عساه أن يصيبهم بسبب كذبه، وهو مع ذلك يخسر حسن سمعته بين الناس، ويضطرب إذا ظهر كذبه، ويتعب نفسه في اختلاق الأقاويل؛ ليستر عيب كذبه بكذبه، ولو صدق لكفى الناس شره، وأراح نفسه. (3) المتظاهرة بالقناعة
يحكى أن فتاة كانت تتظاهر بالقناعة والرضا بالقليل وعدم الاكتراث بالمآكل، وكانت مع ذلك تدخل مخزن الأكل سرا فتبحث فيه عما يطيب لها من المآكل، وتأكل جهد استطاعتها حتى إذا شعرت والدتها بتناقص الأشياء وسألتها عن ذلك أنكرته كل الإنكار، فلم يكن لوالدتها بد إذ ذاك إلا اتهام الخدم ولومهم، وأخذ بعض أجورهم، والفتاة مع كل ذلك مطمئنة القلب، لا يعنفها ضميرها على سوء فعلها، ولا تتحرك في قلبها عاطفة الرحمة على هؤلاء المساكين البرآء، فتحيرت والدتها في أمرها، وأرادت أن تقف على الحقيقة؛ فأحضرت إناء جميلا من أواني المربى، محكم الغطاء، ووضعت فيه نحلا وغطته، ووضعتها بدل المربى.
فلما جاءت الفتاة على عادتها عمدت إلى هذا المحل فوقع بصرها على الإناء، فأعجبها شكله، وأرادت أن تعرف ما فيه، فأخذته وانتحت ناحية وفتحته، فخرجت عليها النحل تلسعها، فصاحت واستغاثت، وجاءت والدتها والخدم وهي على تلك الحال، فلم يرث لها أحد، بل قالت والدتها: قد كنت تهربين من الخيانة إلى الكذب، وكلاهما شر، وقد نصبت هذا الشرك لأوقع فيه الجاني، فكنت أنت الواقعة، وقد ظهرت خيانتك، ولم يعد ينفعك كذبك، ولا يغتر الناس بريائك، ولقد صدق من قال:
ثوب الرياء يشف عما تحته
فإذا اكتسيت به فإنك عاري
فخجلت الفتاة، وأظهرت الأسف، وعزمت على التوبة، وفرح الخدم بوقوع المسيء في شر أعماله. (4) الأمانة
الأمانة محافظة المرء على حقوق غيره، كما يحافظ على حقوق نفسه، بل أشد، فهي قوام العدل، وأصل التقوى، ودليل على كرم النفس وعدم حب الذات الذي هو أصل كل شر وفساد، فلولاه ما استأثر الغني بماله دون الفقير، ولا قتل الفقير الغني طمعا في ماله، ولا كان الناس إلا كأخوة يساعد بعضهم بعضا، فتصفو قلوبهم، وتتيسر أمورهم، وتنجح مساعيهم.
والصدق والأمانة خلتان إذا كانتا في واحد وثق به الناس وأمنوه على أموالهم وأسرارهم وأرواحهم، فيكثر رزقه، وتحسن حاله، ويكتسب الشرف، وحسن الثناء. (5) الفقير الأمين
يحكى أن أحد الفضلاء غدر به الدهر، واستحالت حاله ، وافتقر بعد الغنى، فتقطعت به الأسباب، واضطر إلى بيع ملابسه لضيق ذات يده، فأعطى أحد الدلالين ثوبا، وقال له: بعه، وبين للمشتري هذا العيب الذي فيه، وأراه خرقا في الثوب، فمضى الدلال وجاء في آخر النهار، فدفع إلى الرجل ثمن الثوب، وقال: بعته لرجل أعجمي غريب بهذه الدنانير. قال الرجل: وهل أريته العيب؟ قال: لا، وإني نسيت. قال: لا جزاك الله خيرا، فقد غششت المشتري، وأخذت الدنانير ظلما، فامض معي إليه، فذهبا وقصدا مكان الأعجمي فلم يجداه، وسألا عنه، فقيل لهما: إنه رحل إلى مكة مع قافلة الحجاج، فلم تطمئن نفس صاحب الثوب بأخذ هذا المال ظلما مع ما به من الفاقة، بل عرف صفة الأعجمي من الدلال، واكترى دابة ولحق القافلة وسأل عن الأعجمي، فدله الناس عليه، فقال له: إن الثوب الذي اشتريته من الدلال فلان بكذا وكذا فيه عيب فهاته وخذ ذهبك. فقام الأعجمي وأخرج الثوب وطاف على العيب حتى وجده، فلما رآه عجب من أمانة الرجل وصدقه وشرف نفسه مع ما به من الفاقة، وقال: يا هذا، أخرج ذهبي حتى أراه، وكان الذهب مغشوشا، ولم يعلم ذلك البائع؛ لأنه لم ينظر إليه ولم ينتقده، فلما أخرج الذهب أخذه الأعجمي ورمى به إلى الأرض، وقال: إني قد كنت غششتك واشتريت منك هذا الثوب بذهب زائف طمعا مني في المال، أما الآن وقد ظهرت أمانتك وأبنت بفعلك عن فضلك، فقد اشتريت منك هذا الثوب على عيبه بمثل هذا الذهب، وأعطاه بمقدار الذهب المغشوش ذهبا جيدا، فأخذه الرجل ورجع ظافرا بالمال والشرف. (6) الاجتهاد والتقوى أصل سعادة الدارين
Bilinmeyen sayfa
إن سعادة الآخرة مرتبطة بأعمال الإنسان في هذه الحياة الدنيا، فإذا سعى في إصلاح دنياه وهو يخشى الله - سبحانه وتعالى - صلحت بذلك آخرته، واكتسب مالا يستعين به على طاعة الله، فالمثري العاقل إذا أحسن التصرف قام بما يقربه من الله - سبحانه وتعالى - فأعان الضعيف، وأعطى المعوز، وبنى المساجد والمستشفيات والملاجئ.
أما الفقير فيقوم الفقر بينه وبين ما يريد من عمل الخيرات التي تتوقف على المال كما قال الشاعر:
لحا الله دهرا خصني بخصاصة
فأقعدني عما سعى فيه أمثالي
تنوب صديقي نائبات زمانه
فتمنعني من رفده قلة المال
فوا أسفا من مكرمات أرومها
فينهضني عزمي ويقعدني حالي
هذا إذا كان الفقير ورعا تقيا شريف النفس، وإلا دفعته الحاجة إلى ارتكاب المآثم فتسوء آخرته بفساد دنياه.
فعلى العاقل أن يسعى وراء المنفعة جهد استطاعته طالبا إصلاح دنياه طلب المخلد فيها الآمن من زوالها، وهو مع ذلك يخشى الله - سبحانه وتعالى - ويعمل بما يرضيه عمل الخائف من عقابه، المترقب قرب لقائه، حتى لا يسيئ التصرف فيما أصاب من نعيم الدنيا، فيطغى فيها، ويكون حظه منها الحرمان من رحمة ربه - والعياذ بالله، بل يقوم بواجب دنياه وآخرته فيعيش سعيدا محمودا، ويفوز في الآخرة برضا الله - سبحانه وتعالى. (7) الزائر المتعجب
Bilinmeyen sayfa
زار أحد الفضلاء غنيا من أغنياء أمريكا، فرآه في قصر منيف قد أحاطت به حديقة غناء، فيها من الأزهار والثمار ما يأخذ بالأبصار، وعلى القصر من الأبهة والرواء ما يجعل الإنسان يظنه لأحد الملوك، فأخذ الزائر العجب من اتساع ثروة الرجل وكثرة خدمه وحشمه، وما في قصره من النفائس، وجعلا يتحدثان إلى أن انتهيا إلى وسط القصر، وإذا هما بكوخ صغير يظهر عليه الفقر وسوء الحال، فبهت الزائر عند رؤيته، وظهرت عليه علامات التعجب، فالتفت إليه رب المنزل مبتسما وقال له: لعلك قد راعتك رؤية مثل هذا الكوخ وسط قصري؟ قال: نعم، قد حيرني ذلك. قال: لا تعجب؛ فإن هذا الكوخ هو منبع هذه الثروة العظيمة التي أدهشتك، فهو المنزل الذي ولد فيه جدي، وهو مؤسس هذه الثروة، ورافع هذه الأسرة بعد الضعة، ولد في هذا الكوخ، وترعرع فيه، ولكنه جد وأعمل الفكرة، وساعده الحظ والاستقامة، فنال ما ترى، ولم يشأ أن ينسى منشأه، فبنى قصره حول هذا الكوخ، وجعل يزوره كلما استطاع ذلك حتى لا ينسى حالته القديمة، ولا يترك الاجتهاد والاستقامة اللذين كانا سببا في إصلاح حاله، فيحمد الله - سبحانه وتعالى - الذي هداه إلى سواء السبيل ، ويشكر له ذلك بطاعته لأوامره، وإني أحفظ هذا الكوخ أثرا حميدا لهذا المجتهد التقي، حتى لا أترك خطته، ولا أسلك غير سبيله، فإني أخشى أن مالا جمعه العلم والحزم يبدده الجهل والطيش. فعجب الزائر وتمثل بقول القائل:
العلم يرفع بيتا لا عماد له
والجهل يخفض بيت العز والشرف (8) وفاء امرأة بوعدها
لما تولى الخلافة المأمون بن هارون الرشيد خرج عليه عمه إبراهيم بن المهدي، فجهز المأمون جيشا قهر به إبراهيم، ففر مستخفيا، وجعل المأمون لمن دله عليه ألف دينار، فبينما إبراهيم سائر ذات يوم إذ بصر به جندي فعرفه، فنادى هذا والله طلبة أمير المؤمنين، وتعلق بأثوابه، فخاف إبراهيم على نفسه ودفع الجندي دفعة قوية ألقته عن ظهر جواده، فشج رأسه، وتركه ملقى على الأرض، وقد اهتم الناس بأمره، وأسرع في سيره حتى دخل زقاقا، فوجد في صدره دارا مفتوحة فدخلها مسرعا، وإذا هو بامرأة يلوح عليها الوقار والسكينة، فقالت: ما حاجتك؟ قال: إني امرؤ خائف على دمي، وقد لجأت إليكم واستجرت بكم. قالت: على الرحب والسعة، ادخل فأنت آمن، ثم أدخلته في مقصورة وأغلقت عليه الباب.
ولم يكد يهدأ روعه حتى سمع ضجة بالباب، فنظر فإذا الجندي قد دخل الدار ومعه جم غفير من الناس، وهو لا يقوى على المشي لشدة ما أصابه، وقد عصب رأسه بعصابة، فاستلقى على فراشه، وكان إبراهيم بحيث يراهم ولا يرونه، فأيقن بالهلاك، وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ لقد ساقني حتفي إلى هذه الدار، فلا مفر من أمر الله.
فلما خرج الناس إلى حال سبيلهم، جعل الجندي يتأوه، ويقول: لقد بصرت بالغنى ثم أفلت مني، فأخذت المرأة تلاطفه وتخفف مصابه حتى نام، ثم قامت إلى إبراهيم وقالت: أظنك صاحب القصة؟ قال: نعم، أنا هو. قالت: لا بأس عليك، فقد أجرتك ولا سبيل إلى نقض العهد، فانج الآن بنفسك. فخرج من عندها وهو يعجب من عقلها ووفائها وعدم طمعها في المال، مع ما علمت من وعد أمير المؤمنين.
فلما انكشف أمره للمأمون، وعفا عنه، قال له: أخبرني بما رأيت أيام استخفائك؟ فحدثه حديث المرأة، فأعجب المأمون وفاؤها، وأمر بإحضارها، وكافأها على إحسانها. (9) التربية المنزلية
إن الإنسان في سن طفولته كغصن كرم لين، يميل حيث وجهته، وتلتف فروعه على ما يجده هناك من الأشجار أو الأعمدة القريبة منه، ويصعب بعد ذلك تخليصه مما علق به، وربما تلف إن حاول صاحبه ذلك.
فإذا نشأ الإنسان في أسرة كريمة تعوده التحلي بمكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب، وتقوم بتربيته مربية فاضلة، تسلك به سبل السداد، وتجعل سيره على صراط الدين القويم، وتقوم ما اعوج من أخلاقه، وتصلح ما فسد من طباعه، شب وهو يرتاح للفضيلة، لما ألفه منها، وينفر عن الرذيلة لعدم تعوده إياها، وصادفت تلك التربية نفسا خالية، فثبتت فيها، وصحيفة بيضاء فارتسمت عليها، وتعذر بعد ذلك محوها، فهو ينشأ على ما تعوده صغيرا، وتصير الفضائل طبعا له، لا تكلف فيها حتى إذا ترعرع وذهب إلى المدرسة لم يكن للمعلمين هم إلا تعليمه، وكان طوع بنانهم فيما يرشدونه إليه من الخير، فلا يلبث أن يصير إنسانا كاملا ينفع نفسه وغيره، والفضل في ذلك للتربية المنزلية.
أما إذا نشأ في أسرة سيئة الأخلاق، فلا يلبث أن تسري في نفسه الخالية تلك الأخلاق فتتمكن منها، ويصعب عليه تركها، فيشق على المعلمين إرشاده إلى الخير أو تعليمه ما أرادوا، فيكبر على الجهل والشر، ويحرم نعيم الدنيا والآخرة.
Bilinmeyen sayfa
فلا غرو أن عظم شأن هؤلاء الأمهات في نظر البصير، ووجب الالتفات إلى تهذيبهن وتعليمهن؛ لما يترتب على أعمالهن وأخلاقهن من صلاح مستقبل أولادهن، أو فساده؛ لسبقهن المعلمين إلى غرس العادات في نفوس الأطفال، وقد قيل:
قد ينفع الأدب الأطفال في صغر
وليس ينفع عند الشيبة الأدب
إن الغصون إذا قومتها اعتدلت
ولن تلين ولو قومتها الخشب
وقال آخر:
عود بنيك اعتناق الفضل في الصغر
كيما تقر بهم عيناك في الكبر
فإنما مثل الآداب تجمعها
في عنفوان الصبا كالنقش في الحجر
Bilinmeyen sayfa
هي الكنوز التي تنمو ذخائرها
ولا يخاف عليها حادث الغير (10) السارق والجمل
يحكى أن لصا سرق بعيرا، وأراد الهرب به ليلا، فشعر به صاحب البعير، وتبعه في جماعة من قومه، فلما رأى السارق أن القوم كادوا يدركونه أراد أن ينحيهم عنه، فأطلق فيهم سهما من كنانته، فأصاب صاحب البعير فسقط ميتا، وأسرع القوم إلى اللص فأدركوه وقبضوا عليه، وأرسلوه إلى الحاكم، فزج به في السجن مكبلا بالحديد، ثم صدر الأمر بإعدامه حتى إذا كان يوم الإعدام طلب اللص أن يرى والدته؛ ليفي بعض ما لها عليه من الشكر، فأجيب إلى ما طلب، ولما حضرت قال لها: إن لي عندك حاجة أرجو قضاءها. قالت: كل حاجة لك عندي مقضية. قال: ائذني لي أن أقبل لسانك. قالت: وما يعجبك في ذلك. قال: أردت أن أقبل لسانا طالما أسمعني الخير. فأخرجت المرأة لسانها، فمال عليه بحدة أسنانه فقطعه، فلامه من حضر، وقالوا: أجناية وعقوقا بحقوق الوالدة؟! قال الرجل: لو تعلمون الحقيقة لعذرتموني. قالوا: وما ذاك؟
قال: كنت طفلا آوي إليها، فاعتدت منها سوء الخلق والكذب، وحب الباطل والطمع في أموال الناس، حتى إذا بلغت السادسة من عمري سرقت بيضة من بيت جارنا وأتيت بها والدتي، فسرت بذلك وهشت له، وقبلتني بين عيني، فشجعتني على السرقة بفعلها هذا، وما زالت سرقتي تكبر كلما ترعرعت حتى صارت جملا، ووقعت بسببها في هذه الجناية، ولو زجرتني عند سرقة البيضة لما اعتدت السرقة صغيرا، ولا شقيت بها كبيرا، فوالدتي سبب وجودي في هذه الحياة الدنيا، وهي أيضا سبب شقائي فيها، وخروجي منها جانيا كما ترون، أساق إلى النار وبئس المصير.
قال الحاضرون: صدق الرجل فيما قال، فإن أما هذه حالها تسوق بنيها إلى الهلاك وهم لا يشعرون. (11) السمعة
ينشأ الإنسان ونفسه منطوية على غرائز خلقت فيه أو ورثها عن آبائه وطباع اكتسبها، إما بالتعليم أو بالاقتداء بمن خالطهم في سن طفوليته، حتى إذا بلغ أشده ثبتت تلك الطباع في نفسه، فهو يعمل بما يميل إليه من خير أو شر، فإذا كان مجدا في عمله، قائما بالقسط، شريف النفس، عالي الهمة، بعيد النظر، حازم الرأي، صادقا في أقواله وأعماله، محبا لإصلاح الناس، حريصا على نفعهم، أمينا على أموالهم وأسرارهم، مقداما في الشدائد، اشتهر بذلك عند الناس، فتوجهت إليه أنظارهم، ونطقت بمدحه ألسنتهم، وحسنت به ثقتهم، فيلقون إليه بمقاليد الأمور، واثقين بصدقه وأمانته، وحسن تصرفه، فإن كان تاجرا راجت تجارته، أو صانعا أقبل الناس على عمله، أو موظفا قلده رؤساؤه أهم الأعمال، فينسب إليه كل خير، وينزه عن كل شر، فنعم رأس المال السمعة الحسنة.
أما إذا اتصف المرء بالرذائل، فلا يلبث أن يشتهر بها عند الناس.
ومهما تكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
فيبتعدون عنه ابتعاد الصحيح عن ذي آفة، فلا يلتفتون إليه، ولا يعاملونه، فتكسد سوق تجارته، وتتعطل أعماله ويسوء مآله.
Bilinmeyen sayfa
لذلك وجب أن نهذب أخلاق الأطفال منذ نشأتهم حتى لا تسوء سمعتهم، فيتحاماهم الناس، وتضيق أرزاقهم، وتغلق في وجوههم أبواب المطالب. (12) حاتم وضيفه
اشتهر حاتم الطائي، أحد سادات العرب بالجود والكرم، حتى قيل: إنه ربما كان يطعم الضيوف جميع زاده مع كثرته، ويبيت على الطوى مسرورا بما فعل من الإحسان، فشاع ذكره بين العرب، وضربوا بجوده المثل.
ويحكى أن أعرابيا ضافه ليلة، فلم يخرج إليه، ولم يكرمه، بل أرسل إليه بعض عبيده بقليل من الطعام، فبات الأعرابي متكدرا، وفي الغد ركب دابته وخرج من الخباء مغضبا، فتلثم حاتم وتبع الأعرابي واستوقفه وقال له: أين كنت الليلة يا أعرابي؟ قال: كنت ضيف حاتم طيئ. قال: فكيف كان مبيتك؟ قال: على أحسن حال، فقد نحر لي بعيرا وحياني وأكرمني كل الإكرام. فابتسم حاتم وقال: يا هذا، أنا حاتم، فما حملك على الكذب؟ قال: شهرتك بالجود بين العرب، فقد خفت إن قلت غير هذا أن أكذب فيه، فقلت ما قلت خشية أن ينسب إلي الكذب. فضحك حاتم ورده إلى الخباء، ونحر له بعيرا، وأكرم مثواه، وقال: ما فعلت ذلك أمس إلا مزاحا. (13) مكانة الفتاة وكيفية تربيتها تربية صحيحة نافعة
قد فرض الله - سبحانه وتعالى - على الفتاة من العبادات وغيرها مثل ما فرض على الفتى، ولم يكلفه بأكثر منها إلا قليلا، وهذا مما يدل على أن لها نصيبا وافرا من العمل في هذه الحياة الدنيا، وأن لها عقلا وذكاء، ولولا ذلك ما شرفها الله بتوجيه أوامره ونواهيه إليها، فصلاح العالم إنما يتوقف على سعي الرجل والمرأة، فلو فسدت أخلاق أحدهما فسدت بسببها أمور كثيرة، وإنما اختص كل منهما بعمل حتى لا يكون هناك اختلال في أداء الأعمال، وهكذا أمر الله في جميع الأشياء الأخرى، فقد جعل لكل عضو من الجسم عملا مخصوصا به لا يؤديه غيره، ولا يمكننا أن نفضل القلب على الرئتين مثلا لاحتياج الإنسان إلى كل منهما، ولو تلف أحدهما؛ لتعطلت أعمال الآخر، ومات الإنسان، كذلك الرجل والمرأة؛ لا يصلح أحدهما إلا بصلاح الآخر.
ولما كان الأطفال الصغار يلجئون إلى الأم؛ لتعلقهم بها، واحتياجهم إليها، وجب أن تقوم هي بتربيتهم، وتعهد المنزل، ويقوم الرجل بالسعي وراء اكتساب الرزق، وكلا العملين لا غنى عنه، فيجب أن تهذب أخلاقهما، وتطهر أنفسهما، حتى يستقيم أمرهما، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالدين الذي يحث على الفضيلة، وينهى عن الرذيلة، فإذا تمسك كل منهما بدينه كملت أخلاقه، وقام بأعماله حق القيام.
وكما أن الفتى يتعلم العلوم لتتربى مداركه، ويكتسب بها عقلا يرشده إلى تحسين أعماله، واختراع أسهل الطرق وأنفعها في تأديتها، كذلك الفتاة يجب أن تتعلم حتى يقوى تصورها، وتهتدي إلى تحسين حالها، فإن عملها يحتاج إلى الحكمة والروية، فإنها تكون رئيسة منزل تدير حركته، فلا بد لها أن تعرف كيف توزع الأعمال على خدمها، وترشدهن إلى إتقان أعمالهن، وتحسن التصرف فيما لديها، وهي مسئولة عن صحة الأطفال وأخلاقهم، فلا بد أن تعرف طبائعهم وحالة أجسامهم؛ لتتبع على علم ما ينفع صحتهم، ويؤثر في طباعهم، وإلا أضرت بهم من حيث أرادت أن تنفعهم.
ومنها يطلب حفظ الأشياء والاقتصاد فيها، فلا بد لها أن تعرف طبيعة هذه الأشياء، وتأثير الأجواء فيها، ومقدار فائدتها للغذاء حتى تجيد ادخارها سالمة، وتحسن الانتخاب فيما ادخرت.
ويلزمها إبداء رأيها فيما يصلح أحوال المنزل، وبيان ما ينشأ عن ذلك من المنافع؛ لهذا وجب أن تتعلم الإنشاء وحسن المحاورة حتى تقدر أن تعبر عما في نفسها بعبارة ترضي السامع وتقنعه، فكثيرا ما ينشأ الشقاق عن سوء التفاهم بين المتخاطبين أو عدم دراية المتكلم بمواقع كلامه من القلوب، وجهله بآداب المحادثة، وكثيرا ما يحول الإنسان آخر عن اعتقاده بكلام حسن لين، فلا يشعر السامع أن المتكلم يعارضه في الرأي فيميل إليه بارتياح تام، وبذلك يسود الوئام في الأسرة.
فالفتاة في كل ذلك تحتاج إلى تعلم علوم كثيرة، هذا فضلا عن شدة احتياجها إلى درس التربية والأخلاق، درسا تاما، ولا يمكنها كل هذا إلا إذا تمكنت من لغتها، وعرفت معانيها وأساليبها، حتى تقف على ما دون بها من هذه العلوم، وتفهمه فهما جيدا، وتعمل فكرتها في الانتفاع بما علمت منه.
وبالجملة، فكل علم اشتغلت به الفتاة أفادها، فإن لم يرتبط بعملها مباشرة فهو يقوي إدراكها، ويسدد رأيها، ويعدها لإصلاح أعمالها، وإن لم تشعر، وليكن نصب عينيها في كل ذلك العناية بتدبير المنزل، فهو أول واجباتها المعاشية.
Bilinmeyen sayfa
ولا يمنعها كل علمها من خفض جناح الذل لمن فضلهم الله عليها، ولتحترس من تقليد الرجال في خشونة الألفاظ أو تكون عديمة الحياء أو قليلته، ظنا أنها تبلغ بذلك كمالات الرجال، غير عالمة أن الشيء إنما يحسن في محله، وأن الغراب إذا حسد البلبل على حسن صوته وتغنى ليضاهيه كره الناس سماعه ورجموه بالحجارة؛ لينأى عنهم، وأن الفتاة لا يتم كمالها إلا بالتحلي بصفات النساء الممدوحة، مثل الحياء وغض الطرف، وحسن الألفاظ، ولين الجانب.
هذا، ولا يحسن أن تقتصر الفتاة على ما يؤهلها لإدارة المنزل فقط، بل يلزم أن يكون لها إلمام تام ببعض الفنون التي يسهل على السيدات القيام بها، ومشاركة الرجال فيها، مثل علم الطب والتعليم والخياطة، فربما احتاجت في المستقبل إلى اكتساب ما تقتات به.
والدهر ذو دول بالناس ينتقل
فالعلم جمال ما دامت غنية عنه وحفظ من الفاقة إن احتاجت إليه، هذا فضلا عن أن اشتغال الفتاة بهذه الفنون يفيد غيرها من السيدات فائدة أدبية عظيمة، وخير الناس أكثرهم نفعا. (14) الفتاة والدجاج
يحكى أن رجلا أرسل ابنته إلى المدرسة، ولم تكد تعرف مبادئ القراءة والكتابة، حتى أخرجها منها، واكتفى بما تعلمت، ظنا أنها بلغت من العلوم درجة يمكنها معها إعمال الفكر فيما ينفعها.
أما الفتاة، فلما رأت أنها تعرف ما لا تعرفه والدتها الجاهلة من قراءة وكتابة الرسائل أعجبت بنفسها، وظنت أنها بلغت من العلوم شأوا بعيدا لا تتنازل معه إلى النظر في تدبير المنزل، وظلت في معزل عن ذلك، تأنف أن ينسب إليها معرفة شيء منه، كأن العلم بذلك عار ونقيصة، ولبثت على ذلك سنين حتى توفيت والدتها، وصارت هي رئيسة المنزل، فاستعملت الغلظة وسوء الخلق مع خدمها حتى اضطرتهن إلى ترك منزلها، وطلب الرزق من غيره.
واتفق أن زار والدها بعض أصدقائه، ولم يكن في المنزل إلا الفتاة وخادمة لها صغيرة، لا تحسن صنع شيء من الأطعمة، فضاق الرجل ذرعا بذلك وقال لابنته: لو أمكنك أن تصنعي لنا ولو طعاما بسيطا لا يحتاج إلى التأنق لكفانا ذلك شر الاحتياج إلى المآكل المصنوعة في السوق، مع عدم ثقتنا بنظافة صانعيها، وانتخابهم أحسن الأشياء لصنعها، وقد أحضرت لك بعض دجاجات، فما عليك إلا أن تنظفيها جيدا وتصنعي لنا بمرقها ثريدا. قالت الفتاة: لا بأس بذلك، وسأريك نشاطي في العمل كما رأيته في العلم، فسر الرجل بذلك وقامت الفتاة لصنع الطعام.
حتى إذا كان وقت الغداء، ووضعت المائدة، قال الرجل لضيوفه: لا يخفى عليكم أن ابنتي صرفت كل زمنها في العلم، ولم تلتفت إلى تدبير المنزل؛ لعدم اكتراثها به، وقد تركت الخادمات منزلنا حديثا، وأملي أن أحضر غيرهن. لذلك اضطررنا أن نصنع لكم ثريدا، وهو طعام سهل الهضم مغذ، مع ثقتنا بنظافته لما أعهده في ابنتي من النشاط والتيقظ. قال الضيوف: نعم الطعام صنعتم، ولم يستتموا حديثهم حتى أحضر الخادم الطعام، فابتدروا يأكلون، ومد صاحب المنزل يده إلى دجاجة وقطعها ليقدمها لضيوفه، وما كاد يفعل ذلك حتى فاحت رائحة كريهة، وتبين للحاضرين أن الفتاة لم تخرج أمعاء الدجاج قبل طبخه، فاشمأزت نفوسهم، وندموا على تناول بعض لقيمات من الثريد.
قال أحدهم، وكان فطنا لبيبا: قد زعمت يا صاحبي أن فتاتك قد صرفت كل وقتها في العلوم، وأراها جاهلة حتى بالأشياء البديهية، ولو أعملت الفكرة لعلمت أنه لا بد للدجاجة من أمعاء تحتوي على فضلات غذائها، وإلا فأين يذهب غذاء الدجاجة، فغلطة فتاتك غلطة جاهلة، لا تدري شيئا، حتى ولا في تكوين جسمها، وهو أقرب إليها من مضيق جبل طارق وغيره، ولو تعلمت العلم الصحيح، واستضاء عقلها بالمعارف لأفلحت في كل ما قامت به من الأعمال، ولعرفت أنفع الأشياء إليها، فاهتمت به، فالعلم نور يهدي صاحبه إلى معرفة الحقائق، وهو جمال أينما كان، فلا تنسب إليه ما وقعت فيه ابنتك من خيبة الجهل، وأتم تعليمها، فربما ترى منها ما يسرك، فإن ما تعلمته مبادئ أولية لا يراد منها إلا وصول الإنسان إلى غاية محمودة، أما أنت فقد جعلت ذلك نهايتها فأخرجتها من العلم والعمل، فلا هي تعلمت فاستفادت كيف تستنتج من الأمر الواحد أمورا، ولا هي بقيت في المنزل فتعلمت ما عرفته والدتها بالتجربة والتلقين من أسلافها.
فخجل الرجل، وانصرف الضيوف يلعنون الجهل وعاقبته. (15) جمال الفتاة أدبها
Bilinmeyen sayfa
إن الفتاة تبدى حالة الصغر
كزهرة أينعت مجهولة الخبر
فإن تغذت بماء العلم نبعتها
أهدت إلى الكون طيب العنبر العطر
وزينت روضة الآداب يانعة
وأخرجت ثمرا من أحسن الثمر
وإن يفتها التحلي وهي في صغر
بالعلم ذاقت عذاب الجهل في الكبر
فلا يغر فتاة حسن منظرها
ليس التفاضل بين الناس بالصور
Bilinmeyen sayfa
ما الفضل إلا لمن طابت شمائلها
وألهمت في صباها دقة النظر
فقلدت بحلي العلم لبتها
وكحلت ناظريها فيه بالسهر
وزانها حسن ألفاظ إذا نثرت
على ترائبها أبهى من الدرر
وظل يرشدها العلم الذي علمت
فكل أعمالها نفع بلا ضرر (16) ملكة تخدم نفسها
اعتصبت الخادمات في قصر ملك أسبانيا، فأضربن عن العمل، وتركن القصر ، فاهتم الملك لذلك، أما الملكة فلم يهلها ما رأت، بل قالت: لا يهيم الملك بمثل هذا، وليعلم أن عملا تقوم به جماعة من الجاهلات لا يصعب على مثلي القيام به، ثم قامت فجهزت طعاما كان على قلب الملك أشهى من كل طعام غيره، لا لأن الملكة صنعته، ولكن لإتقان صنعته، ولذة طعمه، فإن الملكة لم يمنعها كل ما تعلمت من العلوم الراقية من تعلم تدبير المنزل، فأعملت فكرتها فيه، وساعدها اتساع عقلها بالمعارف على إتقان ما أرادات منه، فنالت العلم والعمل.
ولما رأت الخادمات أن الملكة قد استغنت عنهن بمعرفتها، عرفن قدرها، وعدن صاغرات خاضعات لأمرها، وكن من ذلك اليوم يجتهدن في تحسين ما يصنعن وإتقانه، علما منهن أن سيدتهن لها دراية تامة بكل ما يصنعن، فهي تعرف هفواتهن فيه وتنتقدها، فكن على حذر من ذلك. (17) المعلم والمتعلم
Bilinmeyen sayfa
إن الأطفال يحتاجون إلى تربية نفوسهم احتياجهم إلى تربية عقولهم؛ إذ بدون التربيتين لا يقوم الإنسان بما وجب عليه، ولا يكون لأعماله نظام يعرف.
وإن المعلم خير مثال يقتدي بأعماله وأخلاقه المتعلمون، فضلا عن تربيته عقولهم بما يلقيه من العلوم النافعة، فإذا تحلى بمحاسن الآداب، واتصف بالكمال فقد سار بتلاميذه في سبل السداد، ونهج بهم منهج النجاح، يأمرهم بالفضيلة، وينهاهم عن الرذيلة، فيشبون أناسا عقلاء أفاضل، يكبتون العدو، ويسرون الصديق.
لذلك وجبت طاعته واحترامه على المتعلمين، فينقادون له، ويصغون إليه، حتى إذا أشكل عليهم الأمر، ولم يمكنهم فهم ما يلقيه تلطفوا في السؤال عما أرادوا، غير معاندين ولا مسلمين، فإن عنادهم جحود لنعمته، وعدم مروءة؛ إذ إن المعاند يأتي بأدلة فاسدة، يحاول بها ستر الحقيقة، وهو يعلم بطلانها، فهو مخادع كاذب، أما المسلم فهو إما جبان لا يقوى على المجاهرة بما لديه، وإما غبي لا يفهم ما يلقى عليه، فهو يتبع آراء المعلم على غير علم بها.
هذا، ويجب أن يعرف المتعلم لمعلمه حق ماله عليه من الفضل، فيخفض له جناح الذل، ويخضع لسلطانه، ولا يقاوم غضبه، وإن كان محقا في جداله ؛ لأن من المروءة معرفة الفضل لأهله، ووقوف المرء عند حده، فلا يتكبر على من هو أرفع منه قدرا، بل يعظمه ويحترمه، لا سيما من له الفضل عليه، مثل الوالدين والمعلمين، هذا فضلا عن أن خضوع التلميذ لأستاذه يقربه منه، ويستميله إليه، فيبذل له مكنون صدره، ويتحفه بذخائر علمه، فيرقى سلم النجاح، وتخضع له الآمال. (18) الكسائي عند الرشيد
كان الكسائي يؤدب الأمين والمأمون ابني هارون الرشيد، فأراد يوما النهوض من عندهما، فابتدرا إلى نعله؛ ليقدماها له، فتنازعا أيهما يقدمها له، ثم اصطلحا على أن يقدم كل واحد منهما فردا منها، فلما رفع الخبر إلى الرشيد وجه إلى الكسائي، فلما دخل عليه قال له: من أعز الناس؟ قال: لا أعلم أعز من أمير المؤمنين. قال: بلى، إن أعز الناس من إذا نهض تقاتل على تقديم نعله له وليا عهد المسلمين حتى يرضى كل منهما أن يقدم له فردا منها. فأخذ الكسائي يعتذر حاسبا أنه أخطأ.
فقال الرشيد: لو منعتهما عن ذلك لأوجعتك لوما وعتبا، ولألزمتك ذنبا، وما وضع ما فعلا من شرفهما، بل رفع من قدرهما، وبين عن جوهرهما، ولقد تبينت مخيلة الفراسة بفعلهما، فليس يكبر المرء وإن كان كبيرا عن ثلاث: تواضعه لسلطانه، ولوالديه، ولمعلمه، ثم قال: وقد عوضتهما مما فعلا عشرين ألف دينار، ولك عشرة آلاف درهم على حسن أدبك لهما. (19) إصلاح العلم في أمريكا
كان يسكن أمريكا في الزمن الغابر الجنس الأحمر، وهم قوم متوحشون، كانوا يأوون إلى الجبال والغابات، ويأكلون من الحشائش البرية، أو من لحوم الحيوانات التي كانوا يفترسونها، ثم يستترون بجلودها، فكانوا عرضة لهجوم الوحوش عليهم، ونهبها نفوسهم، وكانوا لا يستغرقون في نومهم لشدة تخوفهم من تلك الوحوش حتى كانت آذانهم تتحرك وتتجه جهة الصوت؛ لكثرة تتبعهم الأصوات، حذرا من وثوب السباع عليهم، وقد أعماهم الجهل عن التمتع بخيرات بلادهم، مع ما كان فيها من المعادن النفيسة، كالذهب والفضة وغيرهما.
حتى إذا دخل الأسبانيون أرضهم بعد اكتشافها، وجدوا بها من الكنوز والذخائر ما بهرهم، وكانوا يستعملون الأمريكيين في نقلها إلى سفنهم كما تستعمل الحيوانات في حمل الأثقال، ذلك لجهل الأمريكيين، واتساع عقول الأسبانيين بالعلوم والمعارف.
ومن ثم دخل العلم أمريكا فما زالت تترقى حتى أصبحت من أحسن البلاد عمارة وتجارة وحضارة، وأصبح نساؤها من أفضل النساء علما ونشاطا في العمل حتى شاركن الرجال في كثير من الأعمال، وأحسن القيام بها، فمنهن الكاتبات البارعات، والمهندسات، والمحاميات، وغير ذلك.
ويحكى أن المهندس الذي شرع في عمل قنطرة بين نيويورك وبركلين مات قبل تتميم عمله، فحلت محله امرأته، وأتمت عمله على أحسن ما يرام من الإتقان، فنعم الذخر العلم؛ به يتقدم المتأخر، ويسود الوضيع، وتنال الآمال، وتصلح الأحوال. (20) وفاء السموءل
Bilinmeyen sayfa
اشتهر العرب بكثير من الفضائل، من ذلك: الشجاعة والحلم والجود والوفاء بالعهد وحفظ الجوار، فكانوا يبذلون كل نفيس في سبيل الوفاء بما عاهدوا الناس عليه، ويقون جارهم بأموالهم وأنفسهم، ويفتخرون بذلك، ويعيرون من نكث عهده، أو خذل جاره.
وممن اشتهر منهم بالوفاء السموءل، وكان يسكن حصنا منيعا فوق جبل لا يستطيع العدو الهجوم عليه، فكان هذا الحصن مأوى الخائفين، فلما قتل أبو امرئ القيس، وطرد امرؤ القيس الشاعر المشهور من ملك أبيه أخذ معه مائة درع وسلاحا، وأودعها السموءل، وعاهده على أن لا يسلمها لأحد غيره.
فسمع عدو امرئ القيس بها، وجاء ليأخذها منه، فأبى السموءل، وتحصن بحصنه، وكان له ابن خارج الحصن، فأخذه العدو وناداه: إما أن تسلم لي الأدراع، وإما قتلت ابنك. فأبى السموءل أن يسلم الأدراع، وقال: إنك إن قتلت ابني فعندي من يخلفه، ولا عار في قتله، فقد عاش كريما ومات كريما، أما نقض العهد فلا سبيل إليه لما يعقبه من العار. فضرب العدو وسط الغلام بالسيف فقطعه وأبوه يراه وانصرف، ومنع السموءل الأدراع إلى أن مات فضرب به المثل في الوفاء بالعهد.
ومن كلام السموءل في الفخر قوله:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه
فكل رداء يرتديه جميل
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها
فليس إلى حسن الثناء سبيل
تعيرنا أنا قليل عديدنا
فقلت لها إن الكرام قليل
Bilinmeyen sayfa
وما قل من كانت بقاياه مثلنا
شباب تسامى للعلا وكهول
وما ضرنا أنا قليل وجارنا
عزيز وجار الأكثرين ذليل
إذا سيد منا خلا قام سيد
قئول لما قال الكرام فعول
وما أخمدت نار لنا دون طارق
ولا ذمنا في النازلين نزيل (21) الدين المعاملة
إن الإنسان في جميع أطواره لا مندوحة له من مخالطة أناس يأنس بهم في وقت فراغه، ويستعين بآرائهم في بعض أعماله؛ لذلك وجب أن يحب المرء معاشريه، ويخلص لهم ويحسن معاملتهم؛ ليعيش مستريح البال، لا يعوقه عن إصلاح أمره الاشتغال بالشقاق والمنازعة، فإن حسن الأخلاق لا يكلفه شيئا، بل يكسبه أشياء؛ لأنه يستميل قلوب الناس إليه، ويدعوهم إلى مساعدته، ويكفيه شر التعرض لهم وإيذائهم بحدة لسانه، فقد يفعل اللسان من الضرر ما لا يفعله الحسام، فيتفق الناس على معاداة صاحبه، ويغضب عليه الله - سبحانه وتعالى.
فنعم عون المرء حسن أخلاقه، فهو وصف جميل يدعو إلى الاتحاد والتعاضد، وهو ضروري لاسيما للفتاة التي ربما أصبحت بين أسرة لم تعرف من بها من السيدات من قبل، ولا ما عاداتهن التي نشأن عليها، فإن لم تعرف كيف تعامل الأهل بل الناس جميعا كانت سبب تفرق الأسرة، واختلاف كلمتها، فتضعف رابطتها وتتفرق آحادها، ويستظهر عليها العدو، وتعجز عن إصلاح شئونها، والقوة في الاتحاد، كما قال أكثم بن صيفي:
Bilinmeyen sayfa
تأبى القداح إذا اجتمعن تكسرا
وإذا افترقن تكسرت آحادا
لذلك ينبغي أن تتعود الفتاة حسن الأخلاق منذ نشأتها، فتتعلم طفلة كيف تحسن معاملة إخوتها، أو من معها في المنزل من الأطفال، فلا تؤثر نفسها عليهم، ولا تتسبب في كدرهم حتى إذا ترعرعت وذهبت إلى المدرسة تعلمت كيف تحسن معاملة التلميذات وترضيهن جميعا على اختلاف مشاربهن، فتستميلهن إليها، وتأنس بهن، وتستفيد من رأيهن وعلمهن حتى إذا بلغت أشدها كان ذلك عادة لها، فتكون سرور الأسرة التي توجد فيها؛ بها يأنسون، ومن آرائها يستمدون، فتريحهم من متاعب النزاع، وتقوي رابطة اتحادهم؛ فيتفرغون للإصلاح والتعاون عليه، ويساعدهم اتحادهم على الاقتصاد في النفقات.
فإن الأخوة مثلا إذا جمعهم منزل واحد ومائدة واحدة ينفقون في أمر غذائهم ومسكنهم أقل مما ينفقون، لو كانوا متفرقين، فيستبقون من الدراهم ما يستعينون به على إصلاح شئونهم، وحسن تربية أبنائهم، وتكسب هي ثناء الناس عليها، ورضا الله - سبحانه وتعالى - عنها. (22) عبد الله بن الزبير ومعاوية رضي الله عنهما
كان لعبد الله بن الزبير أرض له فيها عبيد يعملون، وإلى جانبها أرض لأمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان، وفيها أيضا عبيد يعملون له، فدخل عبيد معاوية في أرض عبد الله، فكتب كتابا إلى معاوية يقول فيه:
أما بعد؛ يا معاوية فإن عبيدك قد دخلوا في أرضي، فانههم عن ذلك، وإلا كان لي ولك شأن، والسلام.
فلما وقف معاوية على كتابه رماه إلى ولده يزيد، فلما قرأه قال له معاوية: يا بني ما ترى؟ قال: أرى أن تبعث إليه جيشا يكون أوله عنده وآخره عندك؛ يأتونك برأسه. قال: بل غير ذلك خير منه يا بني، ثم أخذ ورقة وكتب فيها إلى عبد الله يقول:
أما بعد؛ فقد وقفت على كتاب ولد حواري رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وساءني ما ساءه، والدنيا بأسرها هينة عندي في جانب رضاه، وقد نزلت عن أرضي لك، فضمها إلى أرضك بما فيها من العبيد والأموال، والسلام.
فلما وقف عبد الله على كتابه، كتب إليه:
Bilinmeyen sayfa
قد وقفت على كتاب أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، ولا أعدمه الرأي الذي أحله من قريش هذا المحل، والسلام.
ولما وقف معاوية على كتاب عبد الله رماه إلى ابنه يزيد، فلما قرأه تهلل وجهه وأسفر، فقال له أبوه: يا بني من عفا ساد، ومن حلم عظم، ومن تجاوز استمال إليه القلوب، فإذا ابتليت بشيء من هذه الأدواء فداوه بمثل هذا الدواء. (23) بلاد مصر
إن مصر بلاد عريقة الحضارة، قد اشتهر قدماؤها بالصناعة، وشهد لهم بذلك ما خلفوه من غريب الآثار، ومن أعظمها الأهرام التي أبلت الدهر، وهي في عنفوان الشباب حتى اتفق الناس على أنها أشهر الآثار القديمة . ذلك لإتقان صنعتها، ومتانة بنائها، وعظيم منظرها الهائل الذي يأخذ بالقلوب قبل الأبصار، ومن جميل آثار مصر؛ قصر أنس الوجود، وأعمدة رمسيس، ومعبد الكرنك، وقبور بني حسن، وقبور العجل أبيس.
وهي مع ذلك بلاد معتدلة الجو، رائقة السماء، قد مر فيها النيل فأكسب أرضها خصبا، وحسن تربتها، فكانت بلادا زراعية كثيرة الخيرات، فأهلها يتمتعون بما منحهم الله - سبحانه وتعالى - من تلك الهبة الجليلة التي طالما حسدهم عليها جميع الأمم، ولو أحسنوا التصرف لكانوا من أسعد الناس حظا؛ لكثرة مزروعاتهم، واتساع ثروتهم، ووفرة أموالهم. (24) النيل في مصر
إذا ما النيل حط بنا الرحالا
وفاض على شواطئه وسالا
وأهدى مصر جلبابا موشى
بفضته فألبسها جمالا
أرادت أن تباريه فغطت
بسندس نبتها تلك الرمالا
Bilinmeyen sayfa
وأبدت درها المكنون حتى
يطيب الضيف في الأحياء حالا
وماس الغصن من طرب وأوما
بشكر النيل إذ بذل الزلالا
فنخرج من بطون الأرض تبرا
ونأكل طيبا حسنا حلالا
ولا نخشى من الأيام قحطا
ولا عسرا يكلفنا السؤالا
ولا برد يضر المرء فيها
ولا حر إذا ما الظل زالا
Bilinmeyen sayfa
فنعم الأرض ما أحسنت فيها
ولم تطع الغواية والضلالا (25) متتبع الآثار
أراد أحد المصريين السفر إلى باريس يمتع الطرف بما فيها من الآثار والمناظر، فصادف في طريقه فرنسيا عائدا من مصر إلى بلده، فأنس كل منهما بصاحبه، وأخذا يتحدثان، فقال الفرنسي: أين تذهب؟ قال: إلى باريس. قال: ألك حاجة هناك؟ قال: لا، ولكني أردت أن أرى ما فيها من الآثار، وقد علمت أن هذا يزيد الإنسان علما بتاريخ هذه البلاد، وما كان عليه أهلها من الحضارة والعلوم.
قال الفرنسي، وقد أعجب بقول المصري وأقبل عليه: لقد صدقت؛ ولهذا الغرض كنت في مصر، وإنها لفوق ما سمعت من وصفها، وقد تمتعت بكثير من مناظرها الجميلة، وأعجبني متحف الآثار العربية، ولكني أسفت لعدم معرفة اللغة العربية وقراءة شيء مما كتب على بعض هذه الآثار، فهل تحفظ شيئا من ذلك؟ قال المصري: إني لم أر هذا المتحف.
فظهرت علامات التعجب على وجه الفرنسي، ولكنه تمالك عنه، ودخل في الحديث ثانية، وأخذ يطنب في مدح مصر وما فيها من الآثار، ويذكر مشاهدته لكثير منها، إلى أن ساقه الحديث إلى ذكر الأهرام، فجعل يعجب من صنعها وعظيم مشهدها، ويسأل المصري عما يرى في ذلك، فاضطرب المصري ولم يكن يخال أن يكون لأرضه هذا التأثير في النفوس، ثم قال: إني لم أر الأهرام؛ لعدم اهتمامي بها، ولكنك عظمت ذلك في نفسي، وسأزورها بعد عودتي.
فضحك الفرنسي متهكما به، وصرف وجهه عنه، قائلا: إنك لا تدري شيئا من آثار بلادك، وأراك توغل في البلاد الأخرى؛ لتعرف من آثارها ما لم تعرفه جدودك، فماذا يكون حالك إن سألك أهل باريس أن تصف بعض الآثار الشهيرة في بلادك، وما مثلك إلا كمن يترك الدر تحت أقدامه لا يعبأ به، ويذهب في طلب الصدف جهلا منه بقيمة كل.
اذهب أيها المغرور فاعرف آثار بلادك، ثم اطلب معرفة غيرها، نعم إن الإنسان لا تكمل أخلاقه وآدابه وتحسن تجربته إلا إذا خالط أجناس الناس على اختلاف أحوالهم ومشاربهم، فيكتسب منهم علما وتجربة، ولكنه إذا أراد أن يعرف آثارهم وعاداتهم ليستفيد منها فليبدأ بمعرفة آثار بلاده وعاداتها؛ ليقارن بين هذا وذاك، وإلا كانت سياحته مجرد أسفار لا يهمه فيها إلا حسن المناظر، وتنميق الألوان، وهو في معزل عما تشير إليه هذه المناظر من الأسرار الغامضة.
فخجل المصري، وكر راجعا إلى بلاده، معولا أن يدرس أحوالها درسا جيدا. (26) وصف حالة المعيشة في مصر
ينقسم المصريون إلى قسمين متباينين في المعيشة؛ أهل القرى والمدنيين، أما القرويون: فإن منبع ثروتهم الزراعة، وهم في الغالب مستقيمو الأحوال، ولنسائهم من العمل نصيب وافر، وكل الأشياء متوفرة لديهم من خيرات أرضهم حتى إن الحازم منهم الذي لم يقتد بأشرار المدنيين في أحواله ولم يترك سنة آبائه لا يحتاج إلى شراء شيء من غير متحصلات أرضه، إلا خشب البناء، وبعض أثاث المنزل، كالفرش والأواني، وربما كان أغلب أواني الفقراء من الفخار المصنوع من طين أرضهم.
فيزرع الفلاح في أرضه ما يحتاج إليه من الغذاء والكسوة، كالقمح والذرة والفول والقطن والكتان والتيل، ويهتم باقتناء المواشي وبعض الطيور، فيعيش من لحومها وألبانها، ويلبس من صوفها، وبعد فراغه من زرع أرضه يشتغل بحراستها، وغزل القطن أو الصوف؛ لعمل ملابسه.
Bilinmeyen sayfa
أما المرأة فتقوم بأعمال منزلها أحسن قيام، فتحسن التدبير، وتساعد الرجل في بعض الأعمال، وتستخرج السمن والجبن، وفي الغالب أنها تأتي بالماء من الترع على رأسها، وتمشي به معتدلة مسرعة في خطواتها، يظهر عليها النشاط والاستقامة، وتشتغل في أوقات الفراغ بغزل الكتان لنسج ملابسها، إلا أنها لجهلها لا تحسن تعهد الأطفال والاعتناء بنظافتهم، فهي تعرضهم للمرض خصوصا مرض العيون، ولكنها تجتهد في عمل ما تقدر عليه، فلا يضطر الفلاح إلى شراء شيء إلا ما ندر، وهو مع ذلك يبيع القطن والحبوب الزائدة عن حاجته.
أما فقراؤهم فلا يعرفون من العسر إلا اسمه؛ لأنهم يشتغلون أيام الزرع والحصاد عند أصحاب الأراضي، ويأخذون أجورا كافية لسد عوزهم طول السنة، زيادة عن أكلهم، وأخذ ما أرادوا من الخضر وغيرها من الأشياء التي لا قيمة لها عند الفلاح لكثرتها، وعند الفراغ من الأعمال لا يحرمهم الأغنياء من أخذ ما تيسر من الخضر والبقول للطبخ، ولا يمنعهم أحد من تسريح ماشيتهم التي يتعيشون منها على الجسور ورعيها الكلأ.
وبالجملة، فإن فلاحي المصريين في رغد عيش وظل ظليل ما أحسنوا التصرف، واجتنبوا تقليد المدنيين التقليد الأعمى، وهم مع ذلك في تمتع مطلق؛ ليس لأحد عليهم سيطرة في جميع أحوالهم المباحة، وفيهم من مكارم الأخلاق حب المساواة بين الناس، غنيهم وفقيرهم، وترك التملق حتى إن الفقير يدعو الغني باسمه، لا يزيد عليه كما يدعوه الغني، ولا يهتمون بحسن الزي وزخرفة الملابس، ويمقتون المسرف، ولا يتظاهرون إلا بالفضائل محتقرين الفجور وأهله، كيف كانت حالهم، ولهم حرص شديد على اتحاد كلمة الأسرة، وعدم تشتيت شملها، وربما ساعدهم ذلك على تحسين حالهم، والاقتصاد في نفقاتهم، ولنسائهم من الاستقامة والصبر على مكابدة المشاق، والقدرة على مساعدة الرجال، والقناعة بما لديهن ما هو جدير بحسن الثناء.
هذه حالهم على العموم، ولا شك أن بعضهم قد تبع خطوات الأشرار، فأنفق ماله سدى وساءت حاله.
أما المدنيون: فتختلف أحوال معيشتهم باختلاف منابع رزقهم، فمنهم التجار، والموظفون، والصناع، والعملة، وأغلب أشيائهم تأتي من الخارج، حتى إن الفقراء منهم يستبدلون
1
شراء الدقيق الآتي من البلاد الأجنبية بشراء القمح لقلة ثمنه.
أما أغنياؤهم: فأغلبهم يفضل شراء الأشياء المصنوعة، كالملابس وغيرها على صنعها في المنزل، حتى إنهم فضلوا شراء الخبز من المخابز على تجهيزه في المنزل، وهذا لكسل النساء، وتركهن أعمال المنازل في أيدي الخادمات يتصرفن فيها ما شئن؛ ولذلك كان شراء الخبز على علاته أقل نفقة من القمح؛ لعدم تمكن الخادمات من سرقة الخبز، كما يسرقن القمح والدقيق؛ لأن الخبز يأتي كل يوم على قدر الحاجة.
وقد اعتادت نساؤهم الكسل، ونمن على فراش الراحة، فلم يهمهن إلا تحسين زيهن، والتغالي في الترف، حتى فضلن زينتهن على جميع ما عداها، فما يسعى الرجل في جمعه تجتهد المرأة في تشتيته وإنفاقه على مطالبها التافهة، فيضطر الرجل إذ ذاك إلى كثرة الكد والتعب، وتزداد هي من التبرج والزينة، غير مبالية بما يقاسيه الرجل من المشاق، فتترك منزلها في أيدي الخادمات يبددن الأشياء ويتلفن أخلاق الأبناء؛ لكثرة المخالطة، وتخرج في زيارتها من منزل إلى آخر.
هذا، ولا أنكر أن بعضهن يعتنين بمنازلهن والقيام بنظافة الأطفال وحسن تربيتهم، وهن مع ذلك يساعدن الرجال في التدبير، ويدخرن بعض المال لتعليم أبنائهن، ويستبقين بعضه أمانا من الفقر، حتى إذا مات الرجل أو أصابه أمر وجد الأطفال من المال ما يسد عوزهم، ويقوم بتربيتهم.
Bilinmeyen sayfa