ويكتشف الرجل الراقي عمق ما يملك في الأدب، في القصص الخرافية كلها وفي التاريخ. ويجد أن الشاعر لم يكن رجلا شاذا عندما وصف مواقف عجيبة ومستحيلة، وأن ذلك الرجل العالمي قد كتب بقلمه اعترافا يصدق على الفرد كما يصدق على الجميع. يجد هذا الرجل الراقي تاريخ حياته الخفي مدونا في سطور مفهومة له بشكل عجيب، وقد كتبت قبل أن يولد، وأنه ليشارك في مغامراته الخاصة حكايات أيسوب الخرافية، وقصص هومر وحافظ وأريستو وشوسر وسكوت واحدة بعد الأخرى، ويحققها برأسه ويديه.
إن أقاصيص الإغريق الجميلة حقائق عالمية ؛ لأنها من الخلق الصحيح للخيال لا من خلق الوهم. ما أكثر المعاني المتنوعة وما أدوم المغزى الذي تنطوي عليه قصة «بروميثيس»! فإنها إلى جانب قيمتها الأولية باعتبارها الفصل الأول من تاريخ أوروبا (فالأسطورة تستر الحقائق الثابتة سترا رقيقا، كاختراع الفنون الآلية، والهجرة إلى المستعمرات) تقدم لنا تاريخ الدين مع شيء من الصلة بإيمان العصور المتأخرة؛ فبروميثيس هو يسوع الأساطير القديمة، هو صديق الإنسان، يقف بين «العدالة» المتعسفة «للأب الأبدي» وجنس الإنسان الفاني، ويتحمل بثبات كل شيء في سبيلهم. ولكن القصة حينما تبعد عن المسيحية الكلفنية وتصور بروميثيس متحديا لجوف، تمثل حالة عقلية تظهر كلما بشرنا بمبدأ الإيمان بالله - مع إنكار الوحي - في صيغة ساذجة موضوعية، حالة عقلية يبدو أنها دفاع الإنسان عن نفسه ضد هذه الأكذوبة، وهي عدم الرضا بما يعتقد فيه الناس من أن الله موجود، والشعور بأن الخضوع لفكرة التقديس أمر شاق، وأنها لتسرق لو استطاعت نار الخالق وتسكن بعيدة منه ومستقلة عنه. إن بروميثيس فنكتس هي القصة الخيالية للشك. وتفصيلات هذه القصة العظيمة تصدق على جميع الأزمنة، كما تصدق على زمانها. ولقد قال الشعراء إن أبولو احتفظ بقطعان أدميتس. إن الآلهة لا تعرف عندما تأتي إلى الناس، ولم يكن كذلك يسوع، ولم يكن كذلك سقراط أو شكسبير. وقد اختنق أنتيوس من قبضة هرقل، ولكنه كلما مس أمه الأرض تجددت قواه. الإنسان هو العملاق المتحطم، وبرغم ضعفه كله، ينتعش جسمه وعقله بتعوده مناجاة الطبيعة. وقوة الموسيقى، وقوة الشعر في نزع الأجنحة من الطبيعة الجامدة أو إلصاقها بها، تفسر لغز أورفيس. والإدراك الفلسفي المتشابه بين الأشياء مهما تعددت أشكالها تجعله يعرف تقلبات بروتيس. ماذا عسى أن أكون غير ذلك، وقد ضحكت أو بكيت بالأمس، ونمت ليلة الأمس كالجثة الهامدة، ثم نهضت هذا الصباح وعدوت. وماذا أرى في أي جانب سوى تناسخ الأرواح لبروتيس؟ إني أستطيع أن أرمز لفكري باستخدام اسم أي مخلوق أو أية حقيقة؛ لأن كل مخلوق إنسان عامل أو عليل. وليس تانتلاس سوى اسم لك ولي. تانتلاس معناها استحالة شرب مياه الفكر التي تضيء دائما وتتماوج على مرأى من الروح. إن تناسخ الأرواح ليس خرافة. وددت لو كان كذلك ، ولكن الرجال والنساء ليسوا إلا أنصاف بشر. كل حيوان في مخزن الغلال، وفي الحقل، والغابة، وفي الأرض والماء تحت الأرض، حاول أن تكون له قدم وأن يترك آثارها وصورتها في أحد هؤلاء المتكلمين المغتصبين الذين يواجهون السماء. أي أخي! كف عن انكماش روحك، انكماشها إلى الأشكال التي انزلقت في عاداتها عدة سنوات. وكذلك تلك الخرافة القديمة، خرافة ذلك المخلوق العجيب الذي يتكون من رأس إنسان وجسم أسد، ويقال إنه كان يجلس في الطريق ويضع الألغاز لكل من يمر به، فإذا عجز الرجل عن الإجابة ابتلعه حيا، وإن استطاع حل اللغز قتل ذلك المخلوق. وليست حياتنا سوى سرب طويل من الحقائق أو الحوادث! هذه الحوادث تعرض لنا متنوعة تنوعا كبيرا، كل منها يقدم الأسئلة للروح البشرية. وأولئك الرجال الذين لا يستطيعون الإجابة عن حقائق الزمن أو مشكلاته هذه بحكمة عليا يخدمونها؛ فالحقائق تعرقل سيرهم، وتتعسف معهم، وتجعل من رجال العمل اليومي رجالا ذوي حس، الطاعة العمياء للحقائق تطفئ فيهم كل شرارة من ذلك الضوء الذي يجعل الإنسان إنسانا حقا. أما إن كان الإنسان صادقا نحو غرائزه أو عواطفه الأولى، ويرفض تسلط الحقائق عليه، كأنه آت من جنس أعلى، ويتمسك بالروح ويراعي المبادئ، فإن الحقائق تركد مكانها في مرونة وخضوع؛ ذلك لأنها تعرف سيدها، وأقلها شأنا يمجده.
وفي «هلنا» لجيته نلمس الرغبة عينها في أن تصبح كل كلمة شيئا. إنه يقول إن هذه الشخصيات، شيرون وجريفن وفوركياس وهلن وليدا إن هي إلا أشياء، ولها تأثير معين على العقل. ولذلك فهي إلى الآن موجودات أبدية، واقعية اليوم كما كانت في أول أولمبياد. فكر فيها كثيرا، ثم كتب ما رأى بطلاقة، وجسدها في خياله. وإن كانت هذه القصيدة غامضة وهمية كالحلم، إلا أنها أشد جاذبية من القطع التمثيلية، التي تفوقها نظاما لنفس المؤلف؛ وذلك لأنها تخلص العقل بطريقة عجيبة من مألوف الصور المعتادة، وهي توقظ ما عند القارئ من اختراع ووهم بما تتضمنه من حرية طليقة في التصوير، وما فيها من تتابع متصل من صدمات المفاجأة العنيفة.
إن الطبيعة المطلقة أقوى من طبيعة الشاعر الهينة؛ فهي تمتلك رقبته وتكتب عن طريق يده، وقد يبدو كأنه ينفس عن مجرد خاطرة طارئة وخيال جامح وهو في الواقع يخرج قصة رمزية دقيقة. ولذا قال أفلاطون: «إن الشعراء ينطقون عن أشياء عظيمة وحكيمة لا يفقهونها هم أنفسهم.» وكل قصص العصور الوسطى الخيالية يمكن تفسيرها على أنها تعبير مستتر أو فكاهي عما كان العقل في تلك العصور يعمل جاهدا لتحصيله في جد رزين. والسحر كل ما ينسب إليه إحساس داخلي عميق بقوى العلم. وحذاء السرعة، والسيف الحاد، والقدرة على إخضاع عناصر الطبيعة، واستخدام المزايا الخفية للمعادن، وفهم أصوات الطيور، كل أولئك جهود عقلية غامضة في اتجاه سليم. وبسالة البطل الخارقة للطبيعة، وهبة الشباب الدائم، وما إلى ذلك، هي كذلك محاولة الروح البشرية «أن تخضع مظاهر الأشياء لرغبات العقل».
وفي برسفرست وإمادس دي جول يزدهر الإكليل والزهر على رأس من يؤمن، ويذوي على جبين من يتردد. وفي قصة الولد والعباءة، قد يدهش حتى القارئ الناضج ويخالجه وميض من السرور البريء لانتصار جنلاس المهذب، وفي الحق إن كل ما تفترضه أقاصيص الجن - من أنها لا تحب أن يذكر لها اسم، وأن مواهبها متقلبة لا يوثق فيها، وأن من يبحث عن كنز ينبغي له ألا يتكلم، وما إلى ذلك - كل ذلك أجده صادقا في كنكورد، مهما يكن أمره في كورنوول أو بريتانيا.
فهل الأمر على خلاف ذلك في أحدث القصص الخيالية؟ لقد قرأت «عروس لامرمور». ووجدت أن السير وليم آشتن قناع للإغراء الشعبي، و«رافنزوود كاسل» اسم جميل للفقير المتكبر، وأن إرسالية الدولة الأجنبية هي كزي بنيان الذي تنكر فيه كي يعمل عملا خالصا. كلنا نستطيع أن نستفز العجل المتوحش الذي يلقي بالخير والجمال أرضا، وذلك بأن نصرع الظالمين والشهوانيين. ولوس آشتن اسم آخر للإخلاص، الذي يتصف بالجمال دائما ويتعرض في هذه الدنيا للمصائب دائما.
وإلى جانب تاريخ الإنسان المدني والميتافيزيقي يسير كل يوم تاريخ آخر إلى الأمام. هو تاريخ العالم الخارجي ، ليس الإنسان فيه بأقل اشتباكا وتلاصقا؛ فالإنسان هو خلاصة الزمن، وهو متصل العلاقة بالطبيعة، وتنحصر قدرته في كثرة علاقاته، أو في أن حياته مشتبكة بسلسلة الكون العضوي وغير العضوي كلها. كانت الطرق العامة في روما القديمة تبدأ عند فورم وتسير شمالا وجنوبا وشرقا وغربا إلى مركز كل إقليم من أقاليم الإمبراطورية، فتجعل كل مدينة تجارية في بلاد الفرس وإسبانيا وبريطانيا سهلة الاقتحام لجند العاصمة، وكذلك فإن الوشائح تخرج من القلب البشري إلى قلب كل شيء في الطبيعة، كي تخضعه لسلطان الإنسان. الإنسان مجموعة من العلاقات، أو عقدة من الجذور، العالم زهرتها. ومواهبه تشير إلى طبائع خارجة عنه، وتنبئ بالعالم الذي يسكنه، كما تتوقع زعانف السمكة وجود الماء، أو تفترض أجنحة النسر في البيضة وجود الهواء. إنه لا يستطيع أن يعيش بغير عالم. ضع نابليون في سجن جزيرة، ولا تدع مواهبه تلتقي بإنسان يؤثر فيه، أو بجبال كجبال الألب يتسلقها، أو خطر يستهدف له، إذا فعلت به ذلك ضرب الهواء وبدا عليه الغباء. أما إن نقلته إلى أقطار فسيحة وشعب كثيف، وأمور معقدة يهتم بها، وقوى معادية، وجدت أن نابليون الرجل الذي يحده شكل الوجه وهيئة الجسم ليس نابليون الحقيقي، إنما ذلك شبح تالبوت الذي قيل عنه في مسرحية هنري السادس:
إن مادته ليست هنا؛
لأن ما ترون ليس سوى أدنى الأجزاء،
وأصغر نصيب من الإنسانية.
Bilinmeyen sayfa