تقديم المترجم
العالم الأمريكي
خطاب
المقالات: المجموعة الأولى
التاريخ
الاعتماد على النفس
التعويض
الحب
الصداقة
البطولة
Bilinmeyen sayfa
العقل
المقالات: المجموعة الثانية
الشاعر
الخبرة
الشخصية
الآداب
السياسة
تقديم المترجم
العالم الأمريكي
خطاب
Bilinmeyen sayfa
المقالات: المجموعة الأولى
التاريخ
الاعتماد على النفس
التعويض
الحب
الصداقة
البطولة
العقل
المقالات: المجموعة الثانية
الشاعر
Bilinmeyen sayfa
الخبرة
الشخصية
الآداب
السياسة
مختارات من مقالات أمرسن
مختارات من مقالات أمرسن
جمع وترجمة
محمود محمود
تقديم المترجم
رالف والدو أمرسن كاتب أمريكي، بل كاتب عالمي، عاش في القرن التاسع عشر، ونشر بين معاصريه كثيرا من الآراء الطريفة والأفكار النافذة. وقد ولد في اليوم الخامس والعشرين من شهر مايو من عام 1803م في مدينة بوستن بأمريكا لأب من رجال الدين. وبعدما تخرج في جامعة هارفرد اشتغل بالتعليم. ولكنه لم يلبث على هذه الحرفة طويلا، بل التحق بإحدى الكنائس قسيسا كأبيه. ولما كان يميل بطبعه إلى حرية الفكر، فقد أخذ يذيع على الناس خلال عظاته مبادئ ثورية لم تتفق وعقائدهم في ذلك الحين، فاشتد سخط العامة عليه، وتبرمهم به، حتى اضطر إلى التخلي عن عمله، ثم رحل إلى أوروبا، والتقى بكبار كتابها وشعرائها، وتعرف إلى كولردج ووردزورث وكارليل. وعاد بعدئذ إلى أمريكا واشتغل أستاذا بجامعة بوستن، وألقى كثيرا من المحاضرات العامة التي لفتت إليه الأنظار، وحينئذ أدرك الناس أن بينهم أديبا كبيرا وقائدا عظيما من قادة الفكر، وقوة تدفع الرأي الأمريكي إلى الأمام. ومات أمرسن في عام 1882م بعدما اعترف له الأمريكيون جميعا بالصدارة في الأدب، والزعامة في الفكر.
Bilinmeyen sayfa
كان أمرسن عميق الفكر، ولكنه لم يكن فيلسوفا بما تحمل هذه الكلمة من معنى. لم يكن فيلسوفا له مذهب خاص وطريقة خاصة، بل إنه كثيرا ما يناقض نفسه فيما يكتب وما يقول. وأشهر ما خلف لنا هذا الكاتب العظيم «مقالاته» و«كتاب الطبيعة» و«خصائص الإنجليز» الذي نشره إثر عودته من زيارة إنجلترا، و«نماذج الرجال»، الذي صاغه على صورة كتاب كارليل «الأبطال وعبادة البطولة»، وله فوق هذا بعض المقطوعات الشعرية الرائعة.
وقد رأيت أن أقدم إلى قراء العربية في هذا الكتاب بضع صفحات من «مقالاته»، ليتدبروها ويتأملوا معانيها، كما يتزودوا مما اشتملت عليه من فلسفة وحكمة، وهي مجموعة من الآراء العميقة الثاقبة لا يدرك مراميها القارئ المتعجل العابر، وإنما يبلغ كنهها من يقف عند كل كلمة من كلماتها مترويا ومفكرا، وهي لا تتضمن علما مجردا لا نزاع فيه، أو معرفة دقيقة لا يرقى إليها الجدل، ولكنها إيحاء وإلهام، تبعث في قارئها الثقة بنفسه وبالله.
ولعل في هذه المنتخبات التي أوردناها هنا حافزا إلى الاستزادة لمن أراد مزيدا.
ومن النقاد من يعتقد أن «نماذج الرجال» من خير ما كتب أمرسن إطلاقا. وفي هذا الكتاب تخير أمرسن تلك الشخصيات التي كان يراها نماذج للبشرية. ولو ألقينا نظرة عاجلة على من كتب عنهم من الرجال عرفنا كثيرا من مبادئه في الحياة؛ فلم يشتمل كتابه على رجل من رجال الدين أو رجال الأخلاق والإصلاح الاجتماعي؛ إذ لم تكن له ثقة بأمثال هؤلاء من عظماء الرجال، إنما الأبطال عند أمرسن هم: أفلاطون الفيلسوف، وسودنبرج المتصوف، ومونتيني المتشكك، وشكسبير الشاعر، وجيته الكاتب، ونابليون رجل الدنيا، وهو عنده مثل أعلى للقدرة على العمل والتنفيذ، يقدره لأنه طهر الجو من أدران الإقطاع والامتيازات والملكية المستبدة، وربما لجأ إلى حشد الجيوش وإلى العنف والقوة، ولكن القوة عند أمرسن وسيلة ممقوتة تبررها الغاية النبيلة.
ويقول أمرسن عن أفلاطون: «ليس في العالم في وقت واحد أكثر من اثني عشر شخصا يقرءون أفلاطون ويفهمونه، وليس من بين هؤلاء من يستطيع أن يشتري نسخة واحدة من مؤلفاته، ومع ذلك فإن هذه المؤلفات تنحدر من جيل إلى جيل من أجل هذه القلة من القراء، كأن الله يحملها لهم بين يديه.» وهذه العبارة عن أفلاطون تنطبق على أمرسن نفسه إلى حد كبير.
عاش هذا الكاتب حياته للحكمة الخالصة والفكر المجرد، وكان يتوق دائما إلى زيارة مصر؛ ليستمد من وحي طبيعتها الجميلة وآثارها القديمة موضوعات للفكر والتأمل. فلما احترق مسكنه في عام 1872م وأوشك أن يعيش عيشة مشردة، أشفق عليه رفاقه ، وأرادوا أن يدخلوا على قلبه العزاء والسلوى، فلم يجدوا وسيلة خيرا من أن يقدموا له من معونة المال ما يكفي لبناء مسكن جديد، والقيام بالرحلة إلى مصر التي طالما كان يحلم بها. فاستطاع في أخريات حياته أن يحقق إحدى رغباته الدفينة، ورحل إلى مصر في شتاء عام 1872م، فجددت شمسها الدفيئة قواه، وأنعشت سماؤها الصافية ونيلها وصحراؤها وآثارها نفسه وقلبه، وكأنه التمس الحل للغز الحياة عند أبي الهول. وطاف بأنحاء الإسكندرية والقاهرة، ثم استقل «دهبية» نيلية سارت به جنوبا يشق بها صعيد مصر حتى بلغ الأقصر، فشهد آثارها، ثم واصل رحلته إلى أسوان؛ لأنه كان يتحرق شوقا إلى أن يطأ بقدميه جزيرة فيلة التي كان يعتقد أنها مستقر أوزيريس. وجاء في إحدى رسائله: «إن الرحلة إلى مصر كانت مليئة بما يسر الفؤاد، ولقد تنبهت إلى ما في هذه البلاد القديمة من عجائب. وسوف أذكر معابدها الضخمة التي تنتشر فوق مئات الأميال، والتي تتحدى زماننا الذي نعيش فيه، وترغمنا على التقدير والاحترام.» وفي موجز العبارة، كان لأمرسن في شتاء مصر الدافئ الدواء الناجع لجسمه الضعيف، وفي آثارها وصفاء سمائها تجديد لنشاطه الذهني واطمئنانه الروحي. •••
هذه كلمة أقدم بها هذا الكاتب الأمريكي الخالد إلى قراء العربية، وأختتمها بهذه العبارة التي وردت في إحدى مقالاته:
يؤثر الكاتب في عقول الجماهير بمقدار ما عنده من عمق التفكير ... فالكاتب الذي يستمد موضوعه من أذنه ولا يستمده من قلبه، ينبغي أن يعلم أنه يخسر بمقدار ما يربح ... ولا تقوم الشهرة الأدبية على الحظ؛ فإن أولئك الذين يصدرون الحكم النهائي على الكتاب ليسوا هؤلاء القراء المتحيزين الصاخبين الذين يضجون للكتاب عند ظهوره، إنما هي محكمة كأنها من الملائكة، هي جمهور لا يرتشي، ولا يتوسل إليه ولا يروع، ذلك الجمهور هو الذي يقرر شهرة الكاتب، ولا يبقى من الكتب إلا ما يستحق البقاء؛ فالغلاف المذهب، والورق الصقيل، والجلد المتين، ونسخ الهدايا الفاخرة التي تقدم للمكاتب، وكل أولئك لا يكفل للكاتب الذيوع إلا إلى أمد قصير.
وليس من شك في أن «مقالات» أمرسن التي نقلنا إلى العربية بعضها من بين تلك الكتب الخالدة، التي يشير إليها الكاتب، والتي لا تقوم شهرتها على ما يثور حولها من صخب وضجيج، ولكن على ما لها من قيمة ذاتية.
محمود محمود
Bilinmeyen sayfa
مقدمة
بقلم بروكس أتكنسن
كان رالف والدو أمرسن أول فيلسوف أمريكي الروح؛ فمع أن أمريكا قد نالت استقلالها السياسي قبل مولده باثنين وعشرين عاما، إلا أنها كانت لا تزال تستمد ثقافتها من الخارج؛ فكان كوبر يكتب طبقا لتقاليد سكوت، وواشنطن إيرفنج يكتب بأسلوب أديسون. وقد عاش أمرسن سني حداثته في عصر من عصور التوسع حينما كان الأمريكان يتقدمون غربا بأعداد وافرة لم يسبق لها مثيل، ويطبقون مبدأ الديمقراطية في عزة وحماسة. وساد الجو في كل مكان استقلال تام في الروح وفي الواقع. وأعلن الرئيس منرو هذا الاستقلال للجمهور في مبادئه عام 1823م، كما صرح كلاي بشجاعة: «إننا (أي الأمريكان) نتطلع إلى الخارج أكثر مما ينبغي ... ولنكن أمريكيين حقيقيين صادقين.»
وما حققه رجال الدولة في ميدان السياسة طبقه أمرسن في مجال الثقافة، لا بطريق العمل، ولكن بالإرشاد والتوجيه. وقد ذكر في مقدمة كتابه الأول في عام 1836م: «إن عصرنا رجعي، يعيش على الماضي، فلماذا لا تكون لنا علاقة أصيلة بالعالم؟ لماذا لا يكون لنا شعر وفلسفة يتميزان بنفاذ البصيرة لا بالتقاليد، ودين من وحي أنفسنا؟ ... دعنا نطالب بأن تكون لنا أعمال خاصة وقوانين وعبادة خاصة.» وفي خطاب جريء له في العام التالي عن «العالم الأمريكي» يقول: «لقد أطلنا الاستماع إلى آلهة الفنون الأوروبية الظريفة.» ثم نصح أمرسن العلماء المجتمعين في كمبردج أن يعيشوا ويفكروا كما يعيش ويفكر أحرار الرجال. وفي العام التالي هاجم في أحاديثه الشعائر والتقاليد الدينية. وما ذكره في هذه الأحاديث كان منفرا لكثير من الناس في بوسطن وكمبردج، حتى لقد انقضى زهاء الثلاثين عاما قبل أن تشعر جامعة هارفارد أنه رجل ليس من ورائه خطر فترده إليها.
ولم يكن ذلك راجعا إلى أن له برنامجا أو أسلوبا خاصا في التفكير ، وإنما كان أمرسن فيلسوفا شاعرا يركن إلى الإلهام أكثر مما يركن إلى العقل، وكان يدرك دائما أن محاضراته ومقالاته ينقصها الاتصال، فيتألم من أجل ذلك. وكان يعجز عن الجدل، ويتحاشى - ما استطاع ذلك - الكلام في الموضوعات ذات الأهمية الشائعة؛ لأنه كان يعتقد أن مواهبه يجب أن تتجه نحو تنوير العقل عامة؛ فقد كان رجلا حرا في روحه وعقله، وكان من الناحية الشخصية رجلا ذا صفات ممتازة، تأثيره عظيم بالغ، فأشعل عقول الرجال والنساء في العالم أجمع. كان رجلا جازما في حزم. وما دام موضوعه الأساسي هو قدرة الفرد التي لا حد لها على الإسهام في كل ما يمتد إليه الكون، فإن كتاباته ما فتئت جديدة كما كانت حينما جمعها في مشقة من الآراء الشتيتة، ومن لمحات البصيرة الزائلة. •••
ولا مراء في أنه كان رجلا ثائرا، وإن شق علينا أن ننعته بهذا الوصف؛ لأنه كان لينا ضعيفا ودودا دمث الأخلاق. وقد عاش عيشة هادئة في كنكورد بمساشوستس كأكثر المواطنين وقارا. وهو ينحدر من سلالة عريقة من رجال الدين في «نيو إنجلند». وكان أحد أفراد أسرة تميل بطبعها إلى الكهنوت؛ فقد ولد في بوسطن في اليوم الخامس والعشرين من شهر مايو من عام 1803، وهو ابن راعي الكنيسة الثانية وواحد من أخوة خمسة، ثم مات أبوه بعد ثماني سنوات. ومع أن أمه قد أصبحت تعول أسرة في سبيل النمو وفي ظروف مالية يائسة، إلا أنها كانت سيدة ذات إرادة قوية جدا، فصممت على تربية أبنائها، وقد أفلحت؛ فأتم أربعة منهم تعليمهم الجامعي، وكان كل واحد منهم يعاون من يتلوه وهو على أهبة الدراسة. وكانت حياة شاقة عسيرة، تركت من غير شك أثرها في صحة الأطفال؛ فمات منهم اثنان وهما لا يزالان في سن الشباب. ولم تكن صحة رالف قوية في يوم من الأيام؛ فقد ساءت إلى حد الخطر مرتين، ولم يخل أخوه الأكبر البتة من الألم والاضطراب الجثماني، ويبدو أن سلالة أسرة أمرسن لم تكن قوية البنية في عهد رالف؛ فقد مات له أخ وأخت في سن الطفولة، وأخ آخر لم ينضج عقله قط. وكان للفاقة التي منيت بها أسرة أمرسن بعد وفاة الوالد أثر سيئ بنوع خاص على أجسام عليلة.
التحق أمرسن بكلية «هارفارد» في عام 1817م وهو في الرابعة عشرة من عمره. ومع أنه كان في النصف الأعلى من فصله، إلا أنه لم يظهر امتيازا، وتخرج في عام 1821م، وظل أربع سنوات يعاون أخاه باشتغاله بالتعليم في مدرسة تكميلية للبنات في بوسطن. وبعد التعليم في المدارس في مناطق أخرى التحق بمدرسة هارفارد الدينية، غير أن ضعف رئتيه وبصره وما أصابه من روماتزم كاد يحول دون تعليمه الديني من أول الأمر، واضطر إلى قضاء شتاء بأكمله للاستشفاء في الجنوب. وبعدما أتم تعليمه في عام 1829م عين راعيا مساعدا للكنيسة الثانية حيث كان أبوه يقوم بالوعظ، وسرعان ما خلف الراعي، وبات يحمل تبعة الدائرة الدينية بأكلها. وعندئذ تزوج من «إلن تكر الكنكوردية» من نيو هامبشير، ولكنها عاشت بعد الزواج عاما ونصف العام فقط.
ولما خاب أمله في حياته المهنية، وأزعجه موت زوجته وأحد إخوته، وكان هو نفسه معتل الصحة، فقد أقلع إلى إيطاليا في الشتاء. واسترد صحته في هذه الرحلة، التي كانت حافزا لعقله؛ فقد استمتع بكنوز الفن العظمى في إيطاليا. وزار لاندر الذي أعجب بكتابته. وفي إنجلترا التقى بكولردج ووردزورث وكارليل الذين كان يهتم بمؤلفاتهم بنوع خاص. وكانت زيارته لكارليل حدثا له أهميته في حياته؛ فقد ألفاه حافزا على التفكير خفيف الظل في شخصه كما هو في مؤلفاته. وعاد إلى أمريكا معافى بعد عام، واستقر به المقام نهائيا في كنكورد حيث كان والد زوج أمه الدكتور أزرا ربلي يعيش في مانس القديمة. وسارع أمرسن إلى شراء بيت وقطعة من الأرض عن طريق بوسطن بوست، وتزوج من لديان جاكسن من أهالي بليموث، واستقر في حياة سعيدة تطورت به إلى مستقبل عظيم. وكان وقتئذ في الثانية والثلاثين من عمره. وانتهى كل ما أصابه من حرمان في طفولته وما لاقى من صراع روحي في حياته المهنية. ولبث سبعة وأربعين عاما بعد ذلك يزداد عظمة وحكمة ويضفي على العالم من فضله.
كانت كنكورد خير البلدان لأمرسن؛ لأنها كانت مدينة جميلة، يغرم أهلها بحب الطبيعة، هذا الحب الذي يكمن وراء فلسفته. وكانت لها مكانة عالية في قصة قتال أمريكا في سبيل الاستقلال؛ فقد حدثت موقعة كنكورد قريبا من مانس القديمة، وأثلج هذا التاريخ المشرق للمدينة صدر أمرسن. وكانت الحياة الاجتماعية في كنكورد كذلك فاتنة؛ فقد ضمت في حياته برنسن إلكت المدرس الملهم، وناثانيل هورثون الروائي الخجول المعتزل، وهنري ثورو فارس الطبيعة، ووليم ألري تشاننج الشاعر المحدث، ورجالا أفاضل من أمثال صمويل هور والقاضي أ. ر. هور وأدمند هوزمر المزارع صاحب العقل الراجح، وصاحب القداسة أزرا ربلي، الراعي المسيحي القوي صاحب الضمير الحي.
ولعب أمرسن دورا فعالا في حياة المدينة؛ فقد انتخب في إحدى الوظائف العامة عند أول إقامته في كنكورد، وكان عضوا في جمعية إطفاء الحريق، وكانت الدلاء الجلدية والكيس الصوفي دائما مدلاة من السلم عند المدخل الجانبي، وبالاشتراك مع جيرانه كان يكافح حرائق الغابات بأغصان الصنوبر. وفي أول عهده بالمدينة ألقى خطبة من أكثر الخطب التاريخية أهمية في عيد انقضاء مائتي عام على استعمار كنكورد. وكان بين الحين والحين يعتلي منبر الخطابة في المدينة. كما كانت معلمات مدارس الأحد يلتقين بمسز أمرسن في البهو الأمامي. وباعتباره مديرا لنادي كنكورد الأدبي عاون على إيجاد غرفة عامة للمطالعة حيث كانت الصحف والمجلات تحفظ في أكداس مرتبة. وبالمحافظة على نشاط النادي الأدبي عمل هو وثورو على تنبيه الحياة العقلية في كنكورد.
Bilinmeyen sayfa
وانتعشت حياة أمرسن كلها هناك، فزرع حديقة واشتغل بها مستهينا بالوقت الذي كان ينبغي له أن ينفقه في مكتبه. وزرع حديقة للفاكهة أفرط في اعتزازه بها. وأخيرا اشترى قطعة أخرى من الأرض واشتغل بمزرعة صغيرة استأجر فيها العمال. وأغرم بغابات والدن فاشترى بها رقعة من الأرض لمجرد المتعة. وقد أقام ثورو منسكه المشهور في غابات أمرسن. وكانت كنكورد كذلك قريبة من بوسطن التي كانت تسيطر على الحياة العقلية في أمريكا في تلك الأيام. وكانت عربة الانتقال تقف بجوار بيت أمرسن وتبلغ بوسطن في خلال ساعتين أو ثلاث. وبعد ذلك بقليل قرب خط فتشبرج الحديدي بوسطن من كنكورد؛ فكانت كنكورد من جميع نواحيها مجتمعا مثاليا لرجل في مثل مزاج أمرسن. أحبها في شبابه عندما زار الدكتور ربلي في بيته القديم، ولبث على حبه لها، وبمرور الزمن أحبته كنكورد باعتباره شيخ المدينة الوقور.
وفي أول إقامته في بيته الخاص مع زوجته الشابة اعتلى المنابر هنا وهناك وألقى الخطب بين الحين والحين. بيد أنه كان لفترة ما يتدبر كتابا فلسفيا شعريا عن تأثير الطبيعة الأساسي في حياة البشر، وأسماه في بساطة «الطبيعة»، وأتمه ونشره في عام 1836م. نشر منه خمسمائة نسخة غفلا من اسم المؤلف. ومع أن كارليل قد هلل لهذا الكتاب فإنه لم يقابل بحماسة ولم يعد طبعه حتى عام 1847م.
غير أن أمرسن كان قد بدأ عمله الذي شغل به حياته. وكان خطابه عن «العالم الأمريكي» أمام جمعية هارفارد في بيتاكبا في عام 1837م حدثا مثيرا في تاريخ الثقافة الأمريكية، وقد وصفه أولفر وندل هولمز بأنه «إعلان استقلالنا العقلي». وأثار هذا الخطاب الشباب خاصة، وأقبل الناس بحماسة على شراء النسخ المطبوعة منه بأعداد وافرة بمجرد ظهوره في المكتبات. وفي العام التالي ألقى أمرسن خطابا على الطلبة المتخرجين في مدرسة اللاهوت، وعارض فيه القيمة الحقيقية لتاريخ المسيحية الأولى، وقدح في الأسلوب الرسمي المتكلف للخطب المنبرية. وقابل رجال الدين هذا النقد للكهنوت والتفكير الديني بالاستنكار والسخط، ووصموه بالضلال، ووسموا أمرسن بالكفران، ولم يلق بعد ذلك ترحيبا فوق المنابر أو على منصات المحاضرات التي كانت من قبل تكرم وفادته. ومع أنه لم يشترك في الجدل الذي ثار حوله عدة أشهر، إلا أنه ظن لفترة ما أنه ربما اضطر إلى البحث عن طريقة جديدة للعيش لكي يعول نفسه وأسرته.
بيد أنه سرعان ما اكتشف أن الناس يستمعون بالترحاب يوم الأربعاء إلى الأمور التي تبدو لهم كفرا يوم الأحد؛ فقضى بقية حياته يحاضر بنوع خاص في موضوعات روحية وفلسفية في جميع أرجاء البلاد. وكان في فصل الصيف من كل عام يجمع شتات أفكاره في صيغة خطب. وعندما كان يستيقظ في الفجر وينسل من غرفة النوم تسأله زوجته: «هل أنت مريض؟» فيجيبها: «كلا، إنما أنا أتصيد فكرة.» وكان في فصل الشتاء من كل عام يقرأ محاضراته حيثما دعي، متنقلا بالعربات ومركبات الجليد، والزوارق والبواخر والقطارات، مخترقا نيو إنجلند وولايات الأطلنطي والغرب الأوسط، ويقيم في الفنادق البدائية بجميع أنواعها، ويعبر المسيسبي فوق الجليد، ويستمتع أشد الاستمتاع بتقدم الحياة في البلاد. ومع أنه كان رجلا ذا جسم نحيل وكتفين محدودبين، إلا أنه كان خطيبا شعبيا مصقعا، يجذب إليه الناس بشخصيته الرفيقة، وبصوته ذي الرنين الذي يذهل الأسماع، فاعترف له الجميع بأنه أستاذ في فن الخطابة.
وكانت حياة المحاضرة شاقة؛ إذ إن أمرسن كان رجلا فقيرا من رجال الأعمال، يخطب عادة بأي أجر يقدم إليه، فلم يكسب قط مالا كثيرا، إلا أنه كان ذا مزاج متفائل بطبعه، يعتقد بسهولة في أوجه الخير من كل شيء، وقد أدخل السرور على نفسه طوال حياته إيمانه العميق؛ إذ إن واجب العالم في اعتقاده هو: «أن يدخل البهجة في النفوس، وأن يسمو بالناس، ويرشدهم، ويبين لهم الرشد من الغي.» وفي غضون أسفاره في عرض البلاد «مفرغا ما بجعبته من حكمة شعبية» - على حد تعبيره عن محاضراته - كان يحس أنه يغني حياة الناس ويقوم بالعمل الذي يلائم نبوغه. وكان يلقي محاضراته كتجربة على أوساط مختلفة من المستمعين، ثم يعيد كتابتها كمقالات وينشرها في صورة كتاب. وتكاد كتاباته كلها - ما خلا الشعر - أن تكون حديثا في مبدأ الأمر ملقى من فوق منصة الخطابة.
ولم يفقه كل الناس ما كان يتحدث عنه، أو يوافقه عليه. ويبدو أن الشباب كان أسلس له قيادا من الشيوخ. وقد قال أحد وكلاء النيابة في بوسطن إن محاضرات أمرسن «لا معنى لها البتة لدي، ولكن ابنتي، وعمر إحداهما خمس عشرة سنة والأخرى سبع عشرة سنة، يفقهانها تماما.» وقد سألت مسز هور مرة خادمة كانت تواظب دائما على الاستماع إلى محاضرات أمرسن في كنكورد: «هل تفهمين مستر أمرسن؟» فأجابت الخادمة بقولها: «لا أفهم كلمة واحدة، ولكني أحب أن أذهب وأشاهده واقفا هناك وهو يبدو كأنه يحسب كل فرد إنسانا طيبا مثله.» ويفتخر أحد الفلاحين في بوسطن بأنه استمع إلى كل محاضرات أمرسن في النادي الأدبي «بل وقد فهمها». وقد أدركها بوضوح أحد المواطنين البارزين في كنكورد إلى حد أنه اعترض على ما تضمنته من آراء ثائرة، فاستوقف أمرسن في الطريق ذات يوم وقال له: «لست أعرف غير أشخاص ثلاثة تمقت آراءهم هذه الجماعة، وأولئك هم تيودور باركر ووندل فلبس وأنت يا سيدي، إن جاز لي أن أخلص القول.»
وبعد أكثر من عشر سنوات قضاها أمرسن في البحث المضني والمحاضرة، لبى بسرور بالغ في عام 1847م دعوة لإلقاء بعض محاضراته في إنجلترا، وقضى هناك عاما. وفي أسفاره في بطون إنجلترا أتيحت له فرصة الاتصال الوثيق بكثير من طبقات الشعب الإنجليزي. وباعتباره من رجال أمريكا المشهورين، دعته كثير من البيوت الإنجليزية دعوات خاصة واستقبلته استقبالا حارا. وجدد صداقاته القديمة وبخاصة مع كارليل الذي تغضن قليلا من فعل السنين. وزار أمرسن كذلك فرنسا في خلال فترة من القلاقل السياسية العظيمة. وأهم ما أسفر عنه عام من العمل قضاه أمرسن في الخارج كتاب «الصفات الإنجليزية»، وهو تاريخ وتحليل نفسي في آن واحد للخلق الإنجليزي.
ومع أنه كان رجلا محببا، إلا أنه كان خجولا متواضعا، تنقصه الروح الحية، وكان يحس أن به فتورا لا يمكنه من الاختلاط الاجتماعي. وفي خلال الأيام التي قضاها في التعليم بالمدارس كان اضطرابه أليما، وقد استغل الطلبة هذا الاضطراب للتفكه به. ولم يسيطر على الجماعات بقوة الشخصية، وكانت أقوى أفكاره تطرأ له في خلوته. غير أن الفترة التي عاش فيها كانت فترة اختمار اجتماعي غير عادي؛ فكان المصلحون يجذبون العالم من جذوره، ويصوغون من الأهواء الفردية نظما عامة، تلك كانت فترة الجمعيات الفلسفية، كجمعية بروك فارم وفروت لاندز. وباعتبار أمرسن الفيلسوف الأول لما فوق العقل في عهده، كان يستشيره ويتوسل إليه كل من يبتدع نظاما جديدا، من المتنبئين الصادقين إلى الشواذ وضعاف العقول. كانوا جميعا يقصدون بيته، ويجلسون إلى مائدته، فيستقبلهم ويكرم وفادتهم. غير أن أمرسن لم يكن يستسيغ فكرة الاجتماع، فانتزع نفسه من بينهم في ثبات وحزم، وكانوا يبدون له كأنهم أصحاب آراء متحيزة.
وكان من الناحية السياسية محجما. وقد اعتقد من أول الأمر أن العبيد يجب أن يتحرروا، غير أنه تحاشى ما استطاع الجمعيات الثورية التي كانت تعمل على إلغاء الرق، وحينما استحث لكي يسهم في العمل المباشر قال: «إن روحي حبيسة سجن سحيق، لا يزوره أحد إذا لم أفعل أنا ذلك.» ولكن لما علا الضجيج حول الرقيق بدأ أمرسن يأخذ فيه بنصيب. وحينما صدر قانون العبيد الهاربين، واعتقد أمرسن أن بطله دانيل وبستر قد خان عهد الجمهور، ظهر في المجتمعات العامة في كنكورد وبوسطن ونيويورك وتكلم بحرارة غريبة على رجل في مثل رزانته. وبالرغم من أن غرائزه كلها كانت تعارض في الإسهام في العمل السياسي، وبالرغم من انعدام ثقته في معرفته بالشئون السياسية، فقد ارتبط ارتباطا وثيقا بقضية إلغاء الرق بعد صدور قانون العبيد الهاربين. وذات مرة أبدى لأحد أطفاله ملاحظة، وكان على هذا الطفل أن يكتب موضوعا مدرسيا عن بناء المنزل، فقال له أمرسن: لا ينبغي أن يبنى منزل دون أن يكون فيه مكان لإخفاء عبد هارب. واستضاف جون براون في بيته، وأسهم في قضية الإلغاء بأكثر مما تستطيع مقدرته المالية، وتكلم مدافعا عن جون براون بعد هاربرز فري. وكان في السابعة والخمسين من عمره عندما اشتعلت الحرب الأهلية ولم يأخذ في القتال بنصيب.
وفي عام 1865م دعي أمرسن لإلقاء خطاب في بيتاكبا في هارفارد مرة أخرى. وكانت هارفارد في هذه المرة قد نسيت فضيحة خطبة البكالاريا في عام 1838م. وبعد ذلك بقليل انتخب عضوا في مجلس المراقبين. وفي عامي 1870م و1871م حاضر في الفلسفة في هارفارد، غير أن السن تقدمت به، وبدأت تظهر عليه علامات جهد عمر قضاه في نشاط عقلي متواصل، كما بدأت تخونه الذاكرة؛ فقد كان يقترب من نهاية مستقبل عظيم . وفي يوليو من عام 1872م أتلفت النيران جزءا من بيته، فهرع هو وزوجته للنجاة بحياتهما ولم يتسع لهما الوقت لارتداء ملابسهما، وأجهدا قوتيهما محاولين أن ينقذا بعض ما يملكان. وكانت صدمة هذه الكارثة أشد مما يستطيع أمرسن احتماله؛ فقد كادت أن تودي به، وانتقل مرة أخرى إلى مانس القديمة، حيث قضى طفولته السعيدة، وأعد له مكتب في القرية.
Bilinmeyen sayfa
ولكن سرعان ما اتضح أنه لا يستطيع العمل، وأخيرا تدخل في الأمر بعض أصدقائه، وأرسلوه إلى مصر مع ابنته ألن، وفي أثناء غيبته أعادوا بناء بيته وجددوه. وعندما عاد في شهر مارس التالي دقت نواقيس المدينة وصحبه حشد كبير من الأطفال والجيران والأصدقاء من محطة السكة الحديدية وتحت قوس من أقواس النصر إلى بيته الجديد. واستقر شاكرا وأخذ يعد كتاب مقالات كان قد وعد به أحد الناشرين في لندن، ولكنه لم يعد قادرا على السير في عمل متصل. وفي نهاية الأمر اضطر صديقه جيمس إليت كابوت إلى أن يضمن الكتاب كثيرا من المحاضرات والمقالات وإلى تنسيق المذكرات تنسيقا حسنا.
وعاش أمرسن حياة هادئة قانعة مع أسرته وأصدقائه حتى أبريل من عام 1882م حينما أصيب بالتهاب رئوي بسبب سيره في المطر دون قبعة أو معطف. وقضى نحبه في مساء 27 أبريل. وبعد الساعة التاسعة من ذلك المساء دق ناقوس كنيسة يونتاريان تسعا وسبعين دقة معددة سني حياته، ومعلنة النبأ المفجع في كل أنحاء القرية. وعرفت كنكورد - التي عاش فيها أمرسن مواطنا معظم حياته - أن أعظم أبنائها قد انتهى. وكانت وفاته نبأ قوميا، فدبج كتاب المقالات الصحفية والنعاة أعمدة كثيرة في الصحف فيها معلومات وفيها تقدير نقدي. وحضر إلى الجنازة في قطار خاص من بوسطن كثير من الأصدقاء الممتازين. وحضر كذلك الرئيس أليوت من هارفارد وأولفر وندل هولمز وجورج وليم كيرتس وتشارلس أليوت نورتن. وقرأ من الإنجيل في صلاة الجنازة الدكتور و. ه. فرنس من رجال الدين في فيلادلفيا وصاحب القداسة جيمس فريمان كلارك من بوسطن.
غير أن كنكورد التي أحبت أمرسن باعتباره أعظم مواطنيها تأثرت تأثيرا بالغا وساد الجنازة جو محلي، وتكللت بالسواد المساكن والمخازن والمنشآت العامة في كل مكان. وبعد الظهر بعد الانتهاء من صلاة الجنازة الخاصة، سار القرويون وراء النعش من البيت الكبير في طريق بوسطن بوست إلى الكنيسة القديمة. وتكدست حول المذبح أغصان من شجر الصنوبر التي كان يقدسها أمرسن. وعزفت على القيثار الأوسط في ذكراه بأعواد النرجس الصفراء لويزام. الكت. أما القاضي أ. ر. هور الذي لم يكن من أهل القرية فحسب، بل كان كذلك جارا حميما وعضوا في نادي السبت المشهور، فقد تكلم بالنيابة عن أهل بلده وعبر عن محبتهم الخاصة له. وأما برنسن ألكت المعلم الذي ألهم أمرسن وأزعجه عدة سنوات، فقد قرأ بصوت جهوري أنشودة وضعت لهذه المناسبة.
وبعدما انتهت الصلوات انسل خلف النعش، الذي استقر فيه هادئا في النهاية ذلك الرجل النحيل صاحب الملامح المدببة، انسل أولئك الذين أفلحوا في اقتحام الكنيسة وأولئك الذين تجمعوا محزونين عند الأبواب في الخارج. وقرابة المساء في يوم من أيام الآحاد الدفيئة الصافية من شهر أبريل، تحرك موكب الجنازة إلى مقبرة سلسيبي هولو حيث دفن ثورو وهوثورن، ثم إلى أعلى الجبل بين صفوف مكشوفة من الأوساط الاجتماعية بكنكورد، ووري أمرسن التراب تحت شجرة من أشجار الصنوبر إلى جوار قبر أمه وقبر ابنه والدو. •••
كان أمرسن في فلسفته يتخطى العقل، ويعتقد في «روح عليا»، وهي تلك الروح المطلقة التي يكون كل شيء حي جزءا منها. وحتى في أيام أمرسن كان هذا التعبير «فوق العقل» يعتبر من دواعي الارتباك الذهني، وما زال المعنى الشائع للكلمة «غامضا، مبهما، خياليا». ولم يستطع العلماء الذين ألفوا المعرفة الدقيقة أن يفقهوا معنى لمدرسة أمرسن في الفكر. ولم يكن ذلك عجيبا، فإن «ما فوق العقل» مذهب لا نظام له، فهو إلى الشعر أقرب منه إلى الفكر. قال أمرسن مرة: «إن ما يسميه العامة بيننا فوق العقل إن هو إلا المذهب المثالي.» إن الرجل المادي يستمد منطقه من الحقائق الواقعة، ومن تاريخ الإنسان وحاجاته الحيوانية، وعلى خلاف ذلك الرجل المثالي الذي يعتقد في «قوة الفكر والإرادة، وفي الإلهام والمعجزة، وفي الثقافة الفردية.» فالمثالية تكشف عن الإيمان بالله بقوة تنفي كل ما يعارض هذا الإيمان.
وفي بلد ناهض، بدأ من عهد قريب فقط يستمتع باستقلاله ويتوسع منهوما في كل ناحية من النواحي، كان هذا الأسلوب من أساليب الفكر طبيعيا ومرضيا؛ فهو يعتقد أن أي شيء يمكن إنجازه، كما أن أساليب التفكير وطرائق التعليل تبدو خانقة لقوم ذوي مزاج مبتهج يتطلعون إلى كل ثمار الأرض فيجدونها طيبة. كان يسيرا عليهم أن يؤثروا البداهة على التجربة، فيبدو لهم أن الحق الأسمى لا ينحصر فيما تم عمله وإنما ينحصر فيما يمكن أداؤه؛ فالحياة تدب في الرجل الذي يؤمن بما فوق العقل من الزهور والسحب والطيور والشمس، ومن برودة الطقس ودفئه، وجمال المساء، ومن المزارع ومحلات التجارة والسكك الحديدية حيث تنبض الحياة وتقع الحوادث الطيبة.
وبالرغم من أن فلسفة أمرسن لم تكن نظاما شاملا، فقد سارت على شبه خطة في الطريقة التي عالجها بها. كان موقفه من الحياة يقوم على حبه الطبيعة، وقد ذكر ذلك في أول كتابه «الطبيعة»، وهو كتاب صغير نشره دون ذكر اسم مؤلفه. وقد عاب عليه نقاد الكتب أنه تعبير مرح عن وحدة الكون، أسلوبه فاتن غير أنه تافه الدلالة. ومع ذلك فإن هذا الكتاب يمثل سنوات عدة من التفكير المقصود حينما كان أمرسن يحاول أن يصوغ آراءه على نسق معين. وقد بدأ في المقدمة بتعريف المصطلحات، فهو يقول: «الطبيعة في المعنى العام تشير إلى الجوهر الذي لا يغيره الإنسان، هي الفضاء والهواء والنهر وأوراق الشجر. والفن يطلق على امتزاج إرادة الإنسان بهذه الأشياء، فمنه البيت والقناة والتمثال والصورة.» ومن دواعي السرور عند أمرسن أن يكون الإنسان جزءا من الطبيعة، وأن تكون الطبيعة موطنه.
وبعد ذلك بخمس سنوات نشر أمرسن كتابه الأول من «المقالات»، وهو يتألف من المحاضرات التي ألقاها في بوسطن خاصة. وقد حوى هذا الكتاب الجديد مقالا عن «الروح العليا» ويمكن اعتبار هذا المقال حجر الزاوية في عقيدة الرجل .
وكانت عقيدة منشئة؛ فقد بدت الحياة طيبة في أساسها، وأمكن الوثوق في الطبيعة والإنسان، وباتت الحياة شيئا لا نتعلمه ولكن نحياه. وأصبح ذلك الوقت هو الساعة الملائمة لبداية جديدة. كانت هذه العقيدة مذهبا يقبل الجديد، ويؤمن بأن النظرية الناقصة التي تحتوي على لمحات من الحق خير من النظم المهضومة التي أدركها الفناء.
كانت عقيدة أمرسن قوة محركة، ومن ثم بدا لشباب عصره كأنه المحرر الثقافي الأعظم. كان دائما يؤيد الكشف بالخيال؛ فهو يقول في مقاله «العالم الأمريكي» إن المنفعة الوحيدة للكتب هي الإلهام، «إنما ينبغي للمرء أن يكون منشئا لكي يحسن القراءة.» وبدا له أن اشتغال العالم بعلم الكتاب يودي به إلى الهلاك، واستحث العالم لكي يصبح من رجال العمل فيتعلم من الحياة رأسا: «الحياة قاموسنا، وإنك لتحسن إنفاق عمرك لو عملت في الريف، وفي المدينة، وفي تبصر الحرف والصناعات، وفي الاتصال الخالص بكثير من الرجال والنساء، وفي العلم، وفي الفن، وذلك لكي تحذق في كل الحقائق لغة توضح بها مدركاتك وتصوغها فيها.»
Bilinmeyen sayfa
وإذا كان مقاله عن «الروح العليا» هو حجر الزاوية من فلسفته، فإن مقاله عن «الاعتماد على النفس» هو أقوى إعلان عن معناها. وكثير من مقالاته غير قاطع، وكثير منها يفتقر إلى التنسيق. ولم يستطع في كل موضوع أن يستجمع شتيت تأملاته. غير أنه في مقاله «الاعتماد على النفس» يحض قراءه في شجاعة على أن يعملوا وفقا لخير ما لديهم من دوافع وألا يتهاونوا في الواجب؛ فهو يقول: «من العبقرية أن تعتقد في رأيك الخاص، وأن تعتقد أن ما تراه حقا في نفسك حق للناس جميعا.» ثم يقول إنه من الطبيعي للإنسان أن يكون في سلوكه شيء من عدم الاكتراث وشيء من الأنفة. ويقول لا رياء في العادات، ولا ضعف في حب البشر، ولا عملا طيبا نفاقا لضمائر الناس، ولا انقيادا أعمى، ولا تشبث بثبات الرأي خوفا وفزعا. الجماعة تحض على الحذر، والعادات الاجتماعية تحد من حرية العمل. والاتباع مريح. ولكن أمرسن يرى «ألا شيء في النهاية مقدسا ، اللهم إلا نزاهة عقلك.» وبالرغم من أنه كان رجلا لين العريكة في شخصه، إلا أنه يدعو في هذه الرسالة بحرارة إلى الاستقلال، فيقول: «ليعلم الإنسان إذن قيمته، ويجعل الأشياء تحت قدميه، فلا يسترق النظر أو يسرق، أو يسير متخفيا كأنه يطلب الإحسان، أو كأنه ابن زنا، أو مدسوسا على الدنيا التي وجدت له.» لا تندم، ولا تقلد. وينتهي بقوله: «لا شيء يجلب لك الطمأنينة غير نفسك، ولا شيء يجلب لك الطمأنينة سوى انتصار المبادئ.» وبعد ذلك بعدة أعوام نفي طالب روسي إلى سيبريا لحيازته نسخة من رسالة أمرسن «الاعتماد على النفس».
وقد انتقد بعض الناس أمرسن لصراحته، فقالوا إنه قبض على زمام الناس «من خير مقابضهم»، واعتقد بسهولة زائدة في خيارهم. وعندما سلط خياله على السكة الحديدية أو التلغراف الكهربائي - وكانا مستحدثين في عهده - تنبأ لهما بمستقبل باهر، ولما فكر في إمكانيات البلاد كانت آماله كذلك فوق العقل. خاطب جمعية المكتبة التجارية في بوسطن قائلا: «هناك مصير سام ودي يسترشد به الجنس البشري.» فهل يا ترى كان يفكر كذلك في القرن العشرين، إنه سؤال نظري، غير أن الإجابة عنه يسيرة، فالجواب «نعم»؛ لأن عقائده الثابتة التي ارتآها، والتي كانت تلائم حالة أمريكا في عهده، إنما صدرت عن مزاجه؛ فإنه كان بطبعه يتطلع وراء التفصيلات إلى حقائق الطبيعة والبشرية الأساسية، ومن ثم كان يعتقد أن «الإبداع يمكن أن يكون الآن، وفي هذا المكان» على حد تعبير ثورو.
وكانت هناك أسباب تكفي لليأس في عهده؛ فشئون السياسة كانت فاسدة، واستولت المادية على عقول الناس وأرواحهم، وما عتمت البلاد تخون الهنود. والحرب المكسيكية نقضت رأي كل إنسان عادل في الاعتدال. وقد انقلب على إحدى الأفكار التي كان ينافح عنها أمرسن دانيل وبستر، وهو أحد الأوثان التي كان يقدسها الرجل. واعترضت مستقبل أمرسن المأساة الكبرى، مأساة الحرب الأهلية التي كان المواطنون في بلد واحد يقتل فيها أحدهم الآخر. كما أن نهب الجنود بصورة مفزعة بعد الحرب الذي قام به رجال السياسة الانتهازيون والمختلسون المتبجحون ، هذا النهب كان يمثل موضع الانحطاط في أخلاقنا القومية. وكذلك الجهل والشر أسدلا ستارا أسود على حياة أمريكا في عصر أمرسن، فعلت الكآبة نفوس الكثيرين من معاصريه.
عرف أمرسن هذه الأشياء وعانى من أجلها. وبعدما كان يفرغ من قراءة الصحف كثيرا ما كان يسير إلى غاباته في والدن كي يسترد عقله ويعيد توجيه نفسه في هذا الكون. ولكن شيئا لم يستطع أن يهز عقيدته في خير الكون؛ لأنه كان ملهما. وبينما كان يجوب البلاد في أسفاره ومعه حقيبة محاضراته البالية، ويتفرس وجوه الأمريكيين، لم يسعه إلا أن يعتقد في الخير. كان معلم أمريكا، دمث الأخلاق، رفيقا، مستقيما، وما برحت أقواله وكتاباته «الإنجيل» الذي نفهمه في سهولة كبرى.
العالم الأمريكي
(هذا هو خطاب في «بيتاكبا» الذي ألقاه أمرسن في هارفارد عام 1837م، وقد قوبل بحماسة شديدة.)
سيدي الرئيس، سادتي:
أحييكم في بداية عامنا الأدبي مرة أخرى. إن عيدنا السنوي عيد أمل، وربما لا يكون عيد عمل كاف. إننا لا نجتمع لاستعراض حذقنا لألعاب القوة وإثبات مهارتنا، أو لرواية التاريخ والمآسي والأناشيد كما كان قدماء الإغريق يفعلون، أو لمجالس الحب والشعر كما كان يفعل التروبادور، ولم نجتمع لدراسة تقدم العلوم مثل معاصرينا في العواصم البريطانية والأوروبية. لقد كانت عطلتنا حتى اليوم مجرد علامة ودية على بقاء حب الأدب في شعب أكثر انشغالا من أن يعطي الأدب أكثر من ذلك. ومن ثم فإن للعطلة قيمتها كعلامة على ميل لا يمكن القضاء عليه. وربما حان الوقت لوجوب تغيير هذا الميل، ولسوف يتغير. ربما حان الوقت لكي يتطلع العقل المتبلد في هذه القارة من تحت غطائه الحديدي ويحقق أمل العالم المنتظر بشيء أحسن من ممارسة المهارة الآلية. إن يوم اعتمادنا على غيرنا، وتتلمذنا الطويل على علم بلاد أخرى، يقترب من نهايته. إن الملايين من حولنا التي تندفع نحو الحياة، لا تستطيع دائما أن تعيش على البقايا الذابلة من المحصول الأجنبي؛ فهناك أحداث وأعمال تنشأ وينبغي أن نتغنى بها. ولربما أنشدت بنفسها. من ذا الذي يستطيع أن يشك في أن الشعر سوف ينتعش وتكون له الصدارة في عصر جديد، كالنجم في مجموعة «هارب» الذي يشتعل الآن فوق سمت الرأس، والذي يصرح الفلكيون بأنه سوف يصبح النجم القطبي ذات يوم ويبقى كذلك ألف عام؟
بهذا الأمل أقبل الموضوع الذي يبدو أن العادة، بل وطبيعة اجتماعنا هذا، قد كرست له هذا اليوم، وأعني بهذا الموضوع «العالم الأمريكي». إننا نؤم هذا المكان عاما بعد عام لكي نقرأ فصلا جديدا من تاريخ حياته، ولنبحث عن الضوء الذي ألقته الحوادث والأيام الجديدة على شخصيته وآماله.
من الأساطير القديمة التي تنقل إلينا من عهد قديم غير معروف حكمة غير منظورة أن الآلهة في بداية الأمر قد قسمت الإنسان إلى أناسي كي يكون أكثر عونا لنفسه، كما انقسمت اليد إلى أصابع لكي تحسن أداء الغرض منها.
Bilinmeyen sayfa
وهذه الأسطورة القديمة تشتمل على مبدأ دائم الجدة والسمو، وهو أن هناك «إنسانا واحدا» يوجد في كل فرد على حدة، إما وجودا جزئيا أو في إحدى كفاياته العقلية، ولا بد لك أن تأخذ الجماعة كلها لكي تجد هذا الإنسان كاملا. ليس «الإنسان» مزارعا أو أستاذا أو مهندسا، إنما هو كل ذلك. الإنسان قسيس وعالم ورجل دولة ومنتج وجندي. وفي حالة الاجتماع - أو حالة الانقسام - تتوزع هذه الوظائف على الأفراد، ويهدف كل منهم إلى أداء نصيبه من العمل المشترك، ويؤدي كل من الآخرين نصيبه كذلك. وترمي الأسطورة إلى أن الفرد لكي يملك نفسه يجب أحيانا أن يعود من عمله الخاص لكي يحتضن كل الأعمال الأخرى. ولكن - لسوء الحظ - هذه الوحدة الأصيلة، هذا الينبوع من القوة، قد توزعت بين الجماهير، وانقسمت أجزاء صغيرة وانتثرت، حتى باتت تتساقط قطرات لا يمكن جمعها. إن التجمع حالة يكابد فيها الأفراد البتر من الجذع، ويخطرون في مشيتهم مخلوقات شائهة، أصبع جيدة، أو رقبة، أو معدة، أو مرفق، ولكنه ليس البتة إنسانا.
وهكذا يتحول الإنسان إلى شيء، أو إلى عدة أشياء؛ فالزارع - وهو الإنسان الذي يخرج إلى الحقول ليجمع الطعام - قلما يبتهج لأية فكرة عن كرامة مهنته. إنه يرى مكياله وعربته، ولا يرى غير ذلك، ثم يرتد فلاحا، بدلا من أن يرتد إنسانا فوق الحقل. والتاجر قلما يقدر عمله قدرا رفيعا، وإنما يخضع لسياق مهنته، كما تخضع روحه للمال. ويصبح القسيس صورة، ووكيل النيابة كتابا من كتب القانون، والميكانيكي آلة، والبحار حبلا من حبال السفينة.
وفي هذا التقسيم للوظائف يكون العالم هو العقل المبعوث، وهو في وضعه الصحيح «الإنسان المفكر»، أما في حالة التدهور حينما يكون فريسة للمجتمع، فإنه يميل إلى أن يتحول إلى مجرد مفكر، بل إلى أسوأ من ذلك، فقد يتحول إلى ببغاء يردد تفكير غيره من الناس.
وفي وصفه ب «الإنسان المفكر» تنحصر نظرية وظيفته. الطبيعة تحركه بكل صورها الهادئة والصاخبة، والماضي يعلمه، والمستقبل يدعوه. أفليس كل إنسان حقا طالب علم، وهلا توجد الأشياء لفائدة طالب العلم؟ وأخيرا، أليس العالم الحق هو وحده السيد الحق؟ غير أن كاهنا قديما قد قال: «لكل شيء يدان، وحذار من اليد الخاطئة.» وفي الحياة كثيرا ما يخطئ العالم مع البشر ويفقد ميزته. دعنا نشاهده في مدرسته، ونتدبر أمره بالإشارة إلى المؤثرات الرئيسية التي تؤثر فيه: (1)
إن أول هذه المؤثرات في العقل من حيث الزمن والأهمية هو الطبيعة، الشمس تشرق كل يوم، ثم بعد غروب الشمس يقبل الليل ونجومه. والريح لا ينقطع هبوبها، والعشب لا يتوقف نموه، وحديث الرجال والنساء يستمر كل يوم، يشهدون ويشاهدون. والعالم من بين الناس جميعا هو الذي يشغله هذا المنظر، ولا بد له من تقدير قيمته في عقله. ماذا تكون الطبيعة بالنسبة إليه؟ ليس لنسيج الله هذا المتصل المبهم أول ولا آخر، وإنما هو قوة دائرية تعود إلى نفسها دائما. وهو في هذا يشبه روح العالم نفسه، التي لا يجد لها أولا أو آخرا، فهي شاملة جدا، ليس لها حدود. تسارع الطبيعة إلى أن تعرض نفسها على العقل كلما أشرق سناؤها، على نظام في إثر نظام، ينطلق كالأشعة إلى أعلى وإلى أسفل، ليس له مركز أو محيط، كتلة واحدة أو جزءا جزءا . ويبدأ التقسيم، فيرى العقل الصغير كل شيء مفردا قائما بذاته. ثم يعرف بعد فترة كيف يصل بين شيئين ويرى فيهما طبيعة واحدة. ثم يصل بين ثلاثة أشياء، فثلاثة آلاف. وهكذا تتحكم فيه غريزة التوحيد، فيواصل ربط الأشياء بعضها ببعض، ويقلل مما بينها من فروق، ويكشف عن الجذور تمتد تحت الأرض فتربط بين الأشياء المتنافرة المتباعدة، وتزهر من ساق واحدة. وسرعان ما يعلم أنه كان هناك منذ فجر التاريخ استجماع وتصنيف دائم للحقائق. ولكن التصنيف ليس سوى الإدراك بأن هذه الأشياء ليست مشوشة وليس بعضها غريبا عن بعض، وإنما لها قانون، هو كذلك قانون العقل البشري. يكتشف الفلكي أن الهندسة، وهي تجريد مطلق للعقل البشري، هي قياس حركة الكواكب. ويكتشف الكيمائي النسب والقواعد المعقولة في المادة كلها، وليس العلم سوى كشف التشابه والتطابق في أكثر الأجزاء تباعدا. وتقف الروح الطموحة أمام كل حقيقة منفصلة، فتخضع كل المركبات الغريبة وجميع القوى الجديدة، واحدة بعد الأخرى، إلى أصنافها وإلى قانونها، وتستمر كذلك إلى الأبد تبعث بالبصيرة الحياة في آخر خيط من خيوط النظام العام، في أطراف الطبيعة.
وهكذا يلمح هذا الصبي الدارس، وهو تحت قبة النهار المستديرة، أنه هو والطبيعة قد نشآ من جذر واحد، أحدهما ورقة والآخر زهرة، الصلة والتعاطف بينهما تهتزان في كل عرق. وماذا عسى أن يكون الجذر؟ أليس هو روح روحه؟ يا لها من فكرة جريئة، وحلم شارد! ومع ذلك فإنه عندما يكشف هذا الضوء الروحاني قانون طبائع أرضية أخرى، أي بعدما يتعلم أن يعبد الروح وأن يرى أن الفلسفة الطبيعية الكائنة الآن ليست سوى تحسس الروح الأولى بيدها الضخمة، حينئذ يتطلع أمامه إلى معرفة دائمة التوسع كأنه يتطلع إلى خالق آت. سوف يرى أن الطبيعة تجابه الروح، وتجيبها جزءا بجزء، أحدهما الخاتم والآخر المختوم، جمالها جمال عقله. عندئذ تصبح الطبيعة لديه مقدار ما يحصله، وبمقدار ما يجهل من الطبيعة يكون القدر من عقله الذي لا يملكه، وفي عبارة موجزة يصبح المبدأ القديم «اعرف نفسك» والمبدأ الحديث «ادرس الطبيعة » في النهاية مبدأ واحدا. (2)
والمؤثر الكبير الثاني في روح العالم هو عقل الماضي، في أية صورة ينطبع هذا العقل، سواء في الأدب أو الفن أو النظم. والكتب خير مثال لأثر الماضي، وربما أدركنا الحقيقة، وعرفنا مقدار هذا الأثر في سهولة أكثر، إذا تدبرنا قيمة الكتب وحدها.
نظرية الكتب نظرية نبيلة. كان العالم في العصر الأول يتلقى في نفسه العالم الذي حوله، ويتدبره، ثم يضفي عليه ترتيبا جديدا من عقله، ويعبر عنه ثانية. كان العالم يدخل في نفسه حياة ويخرج منه صدقا، كان العالم يأتيه حركات قصيرة المدى ويخرج منه أفكارا خالدة، يأتيه عملا ويصدر عنه شعرا. كان حقيقة ميتة ثم أصبح فكرا خاطفا يستطيع أن يظهر ويستطيع أن يختفي. وهو مرة يثبت وأخرى يتبدد وثالثة يوحي. ويتناسب عمق العقل الذي تصدر عنه الأفكار تناسبا دقيقا والارتفاع الذي تحلق فيه هذه الأفكار وطول النغم الذي ترنمه.
ولعلني أستطيع أن أقول إن الفكرة تتوقف على مدى ما تصل إليه عملية تحويل الحياة إلى صدق. وعلى قدر كمال عملية التقطير يكون نقاء الإنتاج وصلابته. غير أنك لن تجد أحدا كاملا كل الكمال. وكما أن مضخة الهواء لا تستطيع البتة أن تخلق فراغا كاملا، فكذلك لا يستطيع الفنان حينما يكتب أن يستبعد البتة التقاليد المرعية أو اللون المحلي أو ما هو زائل، وهو أيضا لا يستطيع أن يكتب كتابا من الفكر الخالص، يكون له - من كل نواحيه - من الأثر على الأجيال البعيدة ما له على المعاصرين أو حتى على الجيل التالي. ولقد تبين أنه لا بد لكل عصر من أن يكتب كتبه، أو قل إن كل جيل يكتب للجيل التالي، فكتب العهد القديم لا تلائم هذا العهد.
ومن ثم ينشأ ضرر بليغ، فإن القداسة التي تتصل بعملية الإبداع وعملية التفكير تنتقل إلى ما يدون. كان الشاعر ينشد فيشعر الناس أنه رجل مقدس، ومن ثم كان إنشاده مقدسا كذلك. وكان الكاتب روحا عادلة حكيمة، ومن ثم يتقرر كمال الكتاب، ذلك لأن حب البطل يفسد فيصبح عبادة تمثاله. ثم سرعان ما يصبح الكتاب شرا وبيلا، والكاتب مستبدا. إن فكر الجماهير خامل معوج، لا يغزوه العقل في يسر. فإن غزاه مرة واستقبل كتابا من الكتب، تراه يتشبث به، ويصيح إذا أسيء إليه. وعلى هذا الكتاب تقوم الكليات الجامعة، وعليه يضع المفكرون الكتب، ولا أقول «الإنسان المفكر»، وإنما أقصد ذوي المواهب الذين يبدءون بداية خاطئة، وينطلقون من المذاهب الثابتة، لا من رأيهم الخاص في المبادئ العامة. وينشأ الشباب الذليل في المكتبات، وهم يعتقدون أن من واجبهم أن يقبلوا الآراء التي أدلى بها شيشرون ولوك وباكون، ناسين أن شيشرون ولوك وباكون إنما كانوا شبابا في المكتبات عندما ألفوا هذه الكتب.
Bilinmeyen sayfa
ومن ثم فبدلا من «الإنسان المفكر» يكون لدينا قراء الكتب، فتنشأ طبقة المتعلمين من الكتب الذين يقيمون للكتب وزنا لأنها كتب، لا لأنها ترتبط بالطبيعة وتكوين الإنسان، ولكن لأنها تكون مع العالم والروح ثالوثا متباعد الأطراف. ومن ثم يظهر أولئك الذين يردون كل مقروء إلى أصله، ومصححو الكتب، والمولعون باقتنائها على اختلاف درجاتهم.
الكتب خير الأشياء إذا أحسن استعمالها، أما إذا أسيء فهي من شر الأمور. ما هو الاستعمال الصحيح؟ ما هو الغرض الوحيد الذي تهدف إليه كل الوسائل؟ ليس للكتب غرض سوى الإيحاء، وإنه لخير لي ألا أرى كتابا من أن تضللني جاذبيته عن مجالي ضلالا مبينا، أو أن أصبح تابعا بدلا من أن أكون صاحب رأي مستقل. إن الشيء الوحيد الذي له قيمة في العالم هو الروح الفعالة، وكل إنسان جدير بها، وكل إنسان يضمها في دخيلته، وإن قامت أمامها العقبات فلم تولد عند أكثر الناس. الروح الفعالة ترى الحق المطلق وتنطق الحق، أو تبتدع. وهي في هذا العمل موهبة، وليست ميزة يختص بها هذا الرجل المعزز أو ذاك، ولكنها ملك خالص لكل إنسان، وهي في صميمها تقدمية. والكتاب والكلية ومدرسة الفن وأي نوع من أنواع النظم ، كل هذا ينتمي إلى ما تفوه به قديما نابغة من النوابغ. يقولون: هذا حسن، دعنا نتمسك به، إنهم بذلك يحنقونني ، لأنهم يتطلعون إلى الوراء لا إلى الأمام. ولكن العبقرية تنظر إلى الأمام، فإن عيني الإنسان في مقدمة رأسه وليستا في مؤخرته. الإنسان يأمل، والعبقرية تخلق. ومهما تكن المواهب فإن الإنسان إذا لم يخلق لا يكون النور الإلهي الخالص ملكا له. وقد يكون لديه رماد ودخان، ولكن لن تكون لديه شعلة النار. وهناك آداب خالقة، وأعمال خالقة، وكلمات خالقة، أي هناك آداب وأعمال وكلمات لا تدل على عادة أو سلطان، ولكنها تنبع تلقائيا من إحساس العقل نفسه بالخير والعدل.
ومن ناحية أخرى، فبدلا من أن يرى العقل بنفسه، تراه يتقبل الصدق من عقل آخر، كأنه في فيض من النور، بغير فترات من العزلة أو البحث أو استجمام النفس، وحينئذ يتحقق ضرر قاتل؛ ففي عبقرية الفرد دائما عداء كاف لعبقرية فرد آخر، وذلك بتأثيرها الزائد. ويؤيدني في ذلك الأدب في جميع الأمم، فإن شعراء الدراما الإنجليز قد ترسموا أثر شكسبير حتى اليوم مائتي عام.
وليس من شك في أن هناك طريقة صحيحة للقراءة بحيث تصبح خاضعة للقارئ خضوعا شديدا. ولا ينبغي «للإنسان المفكر» أن يخضع لأدواته. إنما الكتب لتزجية فراغ العالم؛ فإنه إن استطاع أن يطالع الله رأسا عز وقته فلا ينبغي أن ينفق فيما دونه الآخرون من مطالعاتهم. ولكن إذا ما حان حين الظلام، ولا بد أن يحين - عندما تختفي الشمس وتسحب النجوم ضياءها - نعود إلى المصابيح التي أشعلت من أشعتها لكي نرشد خطانا صوب «الشرق» مرة أخرى حيث مطلع الفجر. ونتسمع لكي نستطيع أن ننطق. وفي ذلك يقول المثل العربي ما معناه: «إن شجرة التين إذا أطلت على شجرة للتين أخرى أثمرت.»
ما أعجب لون السرور الذي نستمده من خير الكتب. إنها تحملنا على أن نعتقد أن الكاتب والقارئ من طبيعة واحدة؛ فنحن نقرأ ما نظمه أحد كبار شعراء الإنجليز، مثل شوسر، أو مارفل، أو دريدن، بأحدث سرور، أقصد إننا نقرؤه باستمتاع ينشأ إلى حد كبير عن تجريد «الزمان» كله من نظمهم. ويمتزج سرور الدهشة بشيء من الرهبة حينما نجد أن هذا الشاعر الذي عاش في عالم قديم منذ مائتي أو ثلاثمائة عام يعبر عما يقع قريبا من روحي، أو عما فكرت فيه وعبرت عنه أنا كذلك منذ وقت قريب. ولولا ما قدمنا من دليل على المذهب الفلسفي الذي يقول بوحدة جميع العقول لافترضنا ثبوت نوع من أنواع الانسجام بين الأرواح قديم، أو لون من الألوان بعد النظر عند الأرواح من عهد بعيد، وضرب من ضروب إعداد المؤن لحاجات المستقبل، كالذي نشاهد بين الحشرات التي توفر الطعام قبل موتها للديدان الصغيرة التي لن تراها.
ولن يعجل بي حب أي نظام عام، أو المبالغة في الغرائز، إلى الحط من قيمة «الكتاب»؛ فكلنا يعلم أنه كما يتغذى جسم الإنسان بأي طعام حتى إن كان عشبا مغليا ومرق الأحذية، فكذلك عقل الإنسان يتغذى بأي لون من ألوان المعرفة. وقد ظهر رجال عظماء أبطال لم تكد تبلغهم معرفة إلا عن طريق الصحف المطبوعة. إنما أقول إن استساغة هذا الطعام تتطلب عقلا قويا؛ فلكي تحسن القراءة يجب أن تكون منشئا، أو كما يقول المثل: «من يريد أن يجلب لبيته ثروة جزر الهند لا بد أن يبذل جهدا للحصول على ثروة جزر الهند.» فهنالك إذن قراءة منشئة، كما أن هناك كتابة منشئة. حينما يقوى العقل بالعمل والاختراع تصبح صفحة أي كتاب نقرأ مضيئة بالإشارات العديدة. وتتضاعف دلالة العبارة الواحدة، ويتسع فهم المؤلف اتساع العالم. حينئذ نرى ما هو حق دائما، نرى أنه كما أن الساعة من رؤيا الرائي قصيرة نادرة في خضم الأيام والشهور، فكذلك تدوينها ربما كان أقل جزء من أجزاء مجلده. وبعيد النظر هو الذي يقرأ في أفلاطون أو شكسبير ذلك الجزء القليل فقط، أي تلك الكلمات الأصيلة التي ينطق بها الملهمون، أما ما عدا ذلك فإنه ينبذه، حتى إن كان لأمثال أفلاطون وشكسبير.
وهناك جانب من القراءة بطبيعة الحال لا غنى عنه البتة للرجل الحكيم. لا بد له من دراسة التاريخ والعلوم الدقيقة عن طريق القراءة الشاقة. وللكليات كذلك وظيفتها التي لا غنى عنها، وهي أن تعلم المبادئ، ولكنها لا تؤدي لنا خدمة رفيعة إلا إذا لم يكن هدفها التدريب وإنما الإنشاء، وذلك حينما تجمع من بعيد كل شعاع من أشعة العبقرية المتنوعة إلى موئلها الذي يحسن استقبالها، ثم تشعل قلوب الشباب من هذه النيران المتجمعة. فالفكر والمعرفة من الطبائع التي لا يجديها جهاز أو ادعاء. وثياب العلماء والأسس المالية، حتى إن كانت مدائن من ذهب، لا تعوض أقل عبارة أو كلمة ينم عنها الذكاء. فإذا ما نسينا ذلك تأخرت جامعاتنا الأمريكية في أهميتها العامة، مع ازدياد ثروتها عاما بعد عام. (3)
تسود الجميع فكرة تقول بأن العالم ينبغي أن يكون ناسكا، أو كأنه مريض في دور النقاهة، لا يصلح لأشغال يدوية أو أعمال عامة، كما لا تصلح المبراة أن تكون فأسا. إن من نسميهم «رجالا عمليين» يهزءون بالرجال المتأملين، كأنهم - لأنهم يتأملون أو ينظرون - لا يستطيعون أن يعملوا شيئا. ولقد نمى إلي أن رجال الدين، وهم دائما أكثر من أي طبقة أخرى في العالم، علماء يومهم، يحبون الخطاب الرقيق، ولا يستمعون إلى حديث الرجال الجاف التلقائي، وإنما يستمعون إلى الحديث الأنيق الخفيف، إنهم كثيرا ما يحرمون فعلا من حقهم في الانتخاب، وهناك في الواقع من يدافع عن عزوبتهم. وليس من العدل والحكمة أن يصدق ذلك على الطبقات المولعة بالدرس. وإن كان العمل للعالم ثانويا فهو ضروري، وبدونه لا يكون رجلا، وبدونه لا ينضج الفكر فيثمر الحق. وما دامت الدنيا تبدو للعين كأنها سحابة من الجمال، فإننا لا نستطيع أن نرى حتى جمال الدنيا. إن عدم العمل جبن، ولا يمكن أن يكون هناك عالم بغير العقل العامل الجريء. إن مقدمة التفكير، أو التحول الذي يمر به الفكر من اللاشعور إلى الشعور، هو العمل؛ فالمرء لا يعرف إلا بمقدار ما يعيش. وبذلك تعرف في الحال من الذي كلماته محملة بالحياة، ومن الذي كلماته فارغة.
إن الدنيا - أو هذا الظل للروح، أو نفسي الأخرى - واسعة حولي، ومفاتنها هي المفاتيح التي تفتح أفكاري وتعرفني بنفسي. وإنني لأعدو بشغف في هذا الضجيج الذي يرن صداه، وإني لأمسك بأيدي جيراني وأتخذ مكاني في حلقة الناس لكي أكابد ولكي أعمل، وقد علمتني غريزتي أن الهوة الصامتة يمكن أن يرن في أرجائها الكلام. إنني أخترق نظام العالم، وأبدد مخاوفه، وأتصرف فيه في حدود دائرة حياتي الممتدة. وعلى قدر ما أعرف عن الحياة بالخبرة فقط، يكون مدى القفر الذي أغزوه وأستنبته، أو يكون مدى وجودي أو مجال نفوذي. ولست أفهم كيف يستطيع أي إنسان، من أجل أعصابه وراحته، أن يتخلى عن أي عمل يستطيع أن يسهم فيه. العمل هو اللؤلؤ والعقيق في حديث المرء. وإن الكد والكوارث والسخط والحاجة لتعلم الإنسان شيئا من الفصاحة والحكمة. والعالم الحقيقي هو الذي يحقد على كل فرصة للعمل لا يستغلها كأنها نقص في نفوذه؛ فالعمل هو المادة الخام التي يصوغ العقل منها إنتاجه العظيم. وإنها لعملية غريبة أيضا، تلك التي تتحول بها الخبرة إلى فكرة، كما تتحول ورقة التوت إلى الحرير الأطلس. وإنها لصناعة تطرد في سيرها في كل حين.
إن الأعمال والحوادث في طفولتنا وشبابنا هي اليوم موضوعات للتأمل العميق، وإنها لتبدو كالصور الحسناء في الهواء. وليس الأمر كذلك في أعمالنا التي تمت من عهد قريب، أي في العمل الذي نشغل به اليوم أيدينا، فإننا في هذا العمل عاجزون كل العجز عن التأمل؛ لأن عواطفنا ما برحت تتخلله، فلا نحسه أو نعرفه أكثر مما نحس بالقدمين أو اليدين أو الذهن في أجسامنا. العمل الجديد لا يزال جزءا من حياتنا، وهو يبقى فترة غائصا في حياتنا اللاشعورية. وفي ساعة من ساعات التأمل ينفصل هذا العمل عن الحياة كما تنفصل الثمرة الناضجة، لكي يصبح فكرة في العقل. فالعمل يرتفع في لحظة وتتغير صورته، وما كان عرضة للفساد يصبح شيئا لا يقبل الفساد، ويصير بعدئذ شيئا جميلا مهما يكن منشؤه وبيته. ثم لاحظ كذلك استحالة وقوع ذلك قبل الأوان. إن تحول العمل إلى الفكرة يمر بمرحلة كالتي تمر بها الدودة، التي لا تستطيع الطيران ولا تستطيع الإضاءة، إنما هي دودة ثقيلة، ولكنها فجأة، ودون أن نلحظ عليها ذلك، تتفتح عن أجنحة جميلة، وتصبح ملاكا من ملائكة الحكمة. وكذلك ليست هناك واقعة، وليس هناك حادث، في تاريخنا الخاص، لا يفقد - إن عاجلا أو آجلا - صورته المائعة الساكنة، ويذهلنا بالانفصال عن حياتنا ليصبح ذكرى. لقد ولى المهد وولت الطفولة والمدرسة واللعب وخوف الصبية، والكلاب والمقرعة، وحب الفتيات والتوت، وحقائق أخرى كثيرة كانت في وقت من الأوقات تملأ السماء كلها. وكذلك الصديق والقريب، والمهنة والحزب، والمدينة والريف، والأمة والعالم، كل ذلك لا بد أن يمضي ويتلاشى ثم يستحيل نشيدا.
Bilinmeyen sayfa
وإن من يضع كل قوته في أعمال مناسبة تعود إليه الحكمة - بطبيعة الحال - كأغلى ما تكون. إنني لن أحبس نفسي بعيدا عن دنيا العمل هذه، وأنقل السنديانة إلى آنية الزهر، لتجف فيها وتذبل. ولن أثق فيما تجلبه لي موهبة وحيدة، وأرهق وترا واحدا من أوتار الفكر، فأكون أشبه بأهل سافوي الذين كانوا يحصلون على عيشهم بنحت تماثيل الرعاة والراعيات والهولانديين وهم يدخنون لكل أنحاء أوروبا، فلما قصدوا الجبل ذات يوم للبحث عن الخشب اكتشفوا أنهم قد قطعوا آخر شجرة من أشجار الصنوبر ليحرقوها. لدينا مؤلفون عديدون استنفدوا قدرتهم على الكتابة، ثم دفعتهم حكمة حميدة فأقلعوا إلى بلاد اليونان وفلسطين، أو اقتفوا أثر الصائد في المروج، أو تجولوا حول بلاد الجزائر؛ لكي يزودوا أنفسهم بالبضاعة الرائجة.
لو أن العالم لا يقصد إلا التعابير فإنه لا بد يتشوق إلى العمل؛ فالحياة قاموسنا، وإنك لتحسن إنفاق السنين لو أنفقتها في العمل بالريف، أو بالمدينة، أو في تبصر الحرف والصناعات، أو في الاتصال الخالص بالرجال والنساء، أو في العلم، أو الفن، وذلك لغرض واحد هو إتقان لغة نوضح بها ونصوغ فيها آراءنا في حقائق هذه الأشياء جميعا. وإنني لأعرف في الحال من المتكلم مقدار ما أصاب من معيشة، وذلك من خلال حديثه التافه أو العظيم. إن الحياة تكمن خلفنا كأنها المحجر الذي نحصل منه على الآجر والحجارة لما نشيده اليوم. وبذلك نتعلم قواعد اللغة. أما الكليات والكتب فهي تكتفي بأن تحاكي اللغة التي صنعها الحقل وميدان العمل.
بيد أن قيمة العمل النهائية - شأنها في ذلك شأن قيمة الكتب بل أكثر من قيمة الكتب - هي أن العمل مورد من الموارد. إن القانون العظيم للتراوح في الطبيعة، الذي يتبدى في شهيق الأنفاس وزفيرها، وفي الاشتهاء والاكتفاء، وفي مد البحر وجزره، وفي الليل والنهار، وفي الحرارة والبرودة، ذلك القانون الذي يكون أشد انطباعا في كل ذرة وكل سائل، إنما نعرفه باسم «الاستقطاب»، وهذه «النوبات من الانتقال السهل والانعكاس اليسير» - كما عبر عنها نيوتن - هي قانون الطبيعة، لأنها قانون الروح.
يفكر العقل مرة، ويعمل مرة أخرى، وكل نوبة تبعث الأخرى. عندما يستنفد الفنان أدواته، فلا يصور خياله، وعندما يكف عن فهم الأفكار وتصبح الكتب مملولة، فإن لديه دائما مورد «الحياة». والشخصية أسمى من العقل. التفكير هو الوظيفة، والعيش هو صاحب الوظيفة، والتيار يتراجع إلى منبعه، والروح العظمى تقوى على العيش كما تقوى على التفكير. وهل تنقصها الأداة أو الوسيط لإذاعة ما لديها من حقائق؟ إنها تستطيع أن تركن إلى هذه القوة المبدئية، وهي قوة العيش وفقا لهذه الحقائق. وإن هذا لعمل كلي، في حين أن التفكير عمل جزئي. حينئذ يشرق على الروح جلال العدالة. ويبهج جمال المحبة مأواها، فإن أولئك «البعيدين عن الشهرة» الذين يقطنون ويعملون معها، سوف يحسون قوة بنائها في أعمال يومها وما يمر بها فيه، وذلك خير من أن يقاس هذا البناء بالتظاهر أمام الجمهور تظاهرا مقصودا. إن الوقت سوف يعلم صاحب هذه الروح. إن العالم لا يضيع الساعة التي يحياها كرجل؛ ففي هذه الساعة يكشف عن غرائزه التي تشبه الجواهر المقدسة، ويبعدها عن المؤثرات، وما يفقده في التظاهر يكسبه في القوة. إن أولئك الذين أرهقت نظم التربية ثقافتهم لا يظهر من بينهم ذلك العملاق الذي يعين على هدم القديم وبناء الجديد، وإنما يخرج هذا العملاق من الطبيعة الوحشية التي لم تلوث قط، إنما يخرج ألفرد وشكسبير في النهاية من المحارب النوردي الهمجي المتهور، ومن الكاهن الكلتي في بلاد الغال القديمة وبريطانيا.
ولذا فإني أستمع بسرور إلى كل ما بدأ الناس يذكرون عن كرامة العمل وضرورته لكل مواطن. فلا تزال للفأس والمعول فضيلتهما لأيدي المتعلمين وغير المتعلمين على السواء. مرحبا بالعمل في كل مكان، إننا دائما ندعى إليه، ولكن علينا أن نلاحظ هذا الشرط: وهو أن الرجل لا ينبغي له من أجل اتساع نطاق العمل أن يضحي بأية فكرة في سبيل أحكام العامة وأساليب العمل.
تحدثت الآن عن تربية العالم عن طريق الطبيعة، وعن طريق الكتب، والعمل، وبقي أن أقول شيئا عن واجباته.
إنها الواجبات التي تلائم «الإنسان المفكر»، ويمكن أن تشملها كلها الثقة في النفس. وظيفة العالم هي أن يدخل البهجة في نفوس الناس، ويعلو بهم، ويرشدهم، وذلك بأن يوضح لهم الرشد من الغي. إنه يثابر على القيام بالملاحظة البطيئة التي لا تجلب شرفا ولا مالا. إن فلامستيد وهرشل في مراصدهما البلورية يستطيعان أن يقرآ النجوم بما يسر الناس جميعا، وهذه النتائج العظيمة النافعة تكفل لهما الشرف الرفيع. ولكن العالم في مرصده الخاص، وهو يحسب نجوم العقل البشري المعتمة المظلمة التي لم يفكر فيها قبل اليوم إنسان، وهو يرقب بضع حقائق أياما وشهورا في بعض الأحيان، مصححا سجلاته القديمة، هذا العالم لا بد له من نبذ التظاهر والشهرة المباشرة. وفي خلال فترة استعداده الطويلة لا بد له غالبا من أن يفضح جهلا وجمودا في الفنون الشعبية، فيجلب على نفسه ازدراء القادرين الذين ينحونه جانبا. ولا بد له من التعثر طويلا في كلامه، وكثيرا ما يهجر الأحياء إلى الأموات. وأسوأ من هذا، أنه لا مناص له من قبول الفقر والعزلة، وما أكثر ما يفعل ذلك! وإنه ليستعيض عن السهولة والمتعة في طرق الطريق القديم، وقبول الطراز السائد وما تتبعه الجماعة في التربية والدين، يستعيض عن ذلك بما ينشئه لنفسه، وإنه ليصبح من أجل ذلك هدفا بطبيعة الحال لاتهام النفس وضعف القلب، والشك في قيمة الوقت وضياعه في كثير من الأحيان، وهي أمور كالحشائش والكروم المعقدة تعترض سبيل الاعتماد على النفس والتوجيه الذاتي، كما يستهدف لخصومة حقيقية يبدو فيها عدو المجتمع وبخاصة المتعلمون منه. وماذا يقابل كل هذا الخسران والازدراء؟ إنه يجد عزاءه في ممارسة أعلى وظائف الطبيعة البشرية. إنه رجل يسمو بنفسه عن الاعتبارات الخاصة ويتنفس ويعيش على الآراء المشرقة العامة. هو عين العالم، وقلبه. إنه يقاوم الرفاهية الدنيئة التي تعود بنا دائما نحو البربرية، وذلك بنقله مشاعر البطولة والسير النبيلة، وعذب الشعر، وعبر التاريخ، وكل حكمة عبر عنها قلب الإنسان في كل ظرف طارئ وكل ساعة رهيبة، تعليقا على عالم الأعمال، كل حكمة من هذا القبيل يتلقاها العالم ويعلمها غيره، وكل حكم جديد ينطق به العقل من كرسيه الحصين على ما يمر اليوم من رجال وأحداث، كل حكم من هذا القبيل يصغى إليه ويصوره.
ولما كانت هذه هي وظائف العالم، فجدير به أن يستشعر كل الثقة في نفسه، وألا يذعن أبدا لصوت الجماهير؛ فهو وحده الذي يعرف العالم. والعالم في أية لحظة من اللحظات ليس إلا مظهرا. والعمل الذي يكون له بريق، أو الحكومة التي يقدسها الشعب على غير أساس، أو الصناعة الزائلة، أو الحرب، أو الإنسان، هذه أمور قد يؤيدها نصف البشر وقد يعترض عليها النصف الآخر، كأن كل شيء يتوقف على هذا التأييد أو ذاك الاعتراض. والأرجح أن الموضوع كله لا يستحق أدنى تفكير ينفقه العالم في الإصغاء إلى الجدل. وعلى العالم ألا يتخلى عن عقيدته في أن البندقية الفارغة لا تعدو أن تكون بندقية فارغة، حتى إن أكد لنا القدامى والأشراف في هذه الأرض أنها تنطلق فتقضي على الدنيا. ليثق العالم في نفسه، في صمت وثبات وتجرد مطلق، وليضم ملاحظة إلى أخرى، صبورا على إهمال الناس له، وعلى لومهم إياه، ويترقب الوقت لنفسه، ويكفيه سعادة أنه يستطيع أن يقنع نفسه وحده أنه في هذا اليوم قد شاهد شيئا ما على حقيقته. وإن النجاح ليحدو خطوة صحيحة؛ لأن الغريزة التي تدفعه إلى أن يخبر أخاه بما يرى غريزة صادقة، وسوف يدرك بعد ذلك أنه حينما يغوص في أسرار عقله إنما يهبط إلى أسرار العقول جميعا. وإنه حينما يتحكم في أي قانون من قوانين فكره الخاص، إنما يتحكم في جميع الناس الذين يتحدث بلغتهم، وفي جميع من يتكلمون لغة يمكن أن تترجم إليها لغته؛ فالشاعر الذي يذكر في عزلته التامة أفكاره التلقائية فيدونها، إنما يدون ما يجده الناس في المدائن المزدحمة حقا لديهم كذلك. والخطيب يرتاب أول الأمر في صلاحية اعترافاته الصريحة، وفي نقص علمه بالأشخاص الذين يخطبهم، حتى يجد أنه متمم لسامعيه، وأنهم يستقون من كلماته لأنه يعبر عن طبيعتهم نيابة عنهم. وكلما اشتد غوصه في خوالجه الخاصة الدفينة يشتد عجبه حينما يجد أن ذلك هو أشد الأمور قبولا، وأكثرها شيوعا، وأصدقها عند الناس أجمعين؛ فالناس يسرون منها، ويشعر الجانب الطيب في كل إنسان أن هذه هي موسيقاه وتلك هي نفسه.
وتشتمل الثقة في النفس على جميع الفضائل؛ فالعالم يجب أن يكون حرا وجريئا. يجب أن يكون حرا على حد تعريف الحرية «دون عائق لا يصدر عن نفسه»، وجريئا لأن الخوف شيء يخلفه العالم وراءه بحكم وظيفته؛ لأن الخوف دائما ينشأ عن الجهل. وعار عليه إذا كان هدوءه، في الأوقات العصيبة، ناشئا عن افتراضه أنه من الطبقات المحمية، كالأطفال والنساء، أو إذا كان يبحث عن السلام المؤقت بتحويل أفكاره من السياسة أو الموضوعات الشائكة، مخفيا رأسه كالنعامة في الشجيرات المثمرة، ناظرا في مناظيره المكبرة، أو ناظما للشعر، كما يصفر الطفل لكي يحتفظ بشجاعته. فالخطر لا يزال هو الخطر، والخوف أسوأ. وإنما يجب عليه أن يلتفت إليه ويجابهه كما يفعل الرجال. وليحدق في عين الخطر ويبحث عن طبيعته، ويفحص أصله - ويرى منبت هذا الأسد - الذي لا يبعد وراءه كثيرا. سوف يجد في نفسه حينئذ إدراكا كاملا لطبيعته ومداه، ولسوف تلتقي يداه في الناحية الأخرى. ومن ثم يستطيع أن يتحداه ويمر به في استعلاء. إنما الدنيا لمن يستطيع أن يخترق مزاعمها بالنظر. وما ترى من صمم ومن عادة عمياء ومن خطأ متفاقم إنما مرده إلى رضا المرء باحتماله، فإن نظرت إلى ذلك على أنه أكذوبة، فقد قضيت عليه بضربة لازب.
أجل، إنما نحن الأذلاء، نحن الذين لا نثق في أنفسنا، وإنها لفكرة شريرة تلك التي تزعم أننا قد قدمنا إلى الطبيعة متأخرين، وأن العالم قد تم منذ زمان بعيد. وكما أن الدنيا كانت مرنة سائلة في أيدي الله، فهي كذلك دائمة في كثير من الصفات التي نجلبها لها، إنها كحجر الصوان عند الجاهلين والخاطئين، فأولئك ينصاعون لها ما أمكنهم ذلك، ولكن بمقدار ما في المرء من قداسة يخضع الكون له، ويتخذ طابعه وصورته. وليس عظيما من يستطيع أن يغير المادة، وإنما العظيم من يستطيع أن يغير حالتي العقلية: إنما عظماء العالم هم الذين يضفون لون تفكيرهم الراهن على الطبيعة كلها وعلى الفن كله، ويحملون الناس بمعالجتهم الأمر في جد وانشراح على أن هذا الذي يعملون هو بمثابة التفاحة التي كانت العصور الماضية تتوق إلى قطفها، والآن تم نضجها، وهي تدعو الأمم إلى جنيها؛ فالرجل العظيم هو من يحقق الأمر العظيم. فأينما يجلس «ماكدونالد» يكون رأس المائدة. ولقد جعل «لناوس» علم النبات أكثر الدراسات تشويقا، واكتسب ذلك من الفلاح والمرأة التي تجمع العشب، وكذلك فعل «ديفي» بالكيمياء، و«كوفير» بالحفريات. إنما يكسب اليوم من يعمل فيه بجد ولأغراض سامية، ويظفر بتقدير الناس - الذي لا يستقر على حال - من امتلأ عقله بالصدق، ويتراكم له التقدير كما تتراكم أمواج الأطلانطي في إثر القمر.
Bilinmeyen sayfa
والسبب في دعوتنا إلى الثقة بالنفس أعمق من أن يسبر غوره، وأظلم من أن يستنير. وربما لا أستطيع أن أظفر بمشاعر المستمعين إلي عندما أصرح لهم بعقيدتي. ولكني قد أبنت لكم أساس آمالي، وذلك عندما نبهت إلى المذهب القائل بوحدة الإنسان. وإني أعتقد بأن الإنسان قد أسيء إليه، أو أنه قد أساء إلى نفسه، وكاد أن يفقد النور الذي يمكن أن يرده إلى ما تميز به . ولم يعد للناس وزن؛ فهم في التاريخ، وهم في عالم اليوم كالهوام أو بيض السمك، ويسمون «الجموع» أو «القطيع». وفي كل قرن، أو في كل ألف عام، يظهر رجل واحد أو رجلان، أعني واحدا أو اثنين، يقربان من الحالة الصحية التي ينبغي أن يكون عليها كل إنسان، وكل من عداه أو عداهما يرى في البطل أو في الشاعر وجوده الساذج البدائي في حالة النضوج. أجل، وإنه ليرضى أن يكون أقل من ذلك، لكي يتم لذلك البطل نموه. ويا له من دليل، ينم عن المجد ويدعو إلى الحسرة، ذلك الدليل الذي يقدمه - ليلبي حاجة نفسه - الرجل الفقير في القبيلة، أو العضو المعدم في الجماعة، حينما يبتهج للمجد يظفر به زعيمه. في ذلك يجد الفقير والوضيع شيئا من العوض لكفايتهما المعنوية الهائلة، عوضا عن هبوطهم إلى الحضيض في معترك السياسة والاجتماع. لقد رضوا لأنفسهم أن يزالوا كالذباب من طريق الرجل العظيم كي يمكنوا له من إقامة العدل لتلك الطبيعة المشتركة التي يتوق الناس جميعا إلى أن يروها معظمة ممجدة. إنهم يستدفئون بالحرارة المنبعثة من الرجل العظيم، ويشعرون بأن هذه الحرارة أو ذلك الضوء من إشعاع أنفسهم. إنهم ينبذون كرامة الإنسان من نفوسهم الذليلة ليضعوها على أكتاف البطل، وإنهم ليقضون نحبهم لكي يضيفوا قطرة من دماء ينبض بها ذلك القلب الكبير، وتجعل تلك الأعصاب الجبارة تقاتل وتنتصر. هذا الرجل العظيم يعيش لنا، ونعيش فيه.
والناس - كما هم - من الطبيعي جدا أن يطلبوا المال والنفوذ، وإنما يطلبون النفوذ لأنه بمثابة المال، أو غنيمة الوظيفة كما يقال. ولم لا؟ فهم يتطلعون إلى ذروة العلا، وهذا في أحلام يقظتهم ما يعتقدون أنه ذروة العلا. أيقظهم يتخلوا عن هذا الخير الزائف ويقفزوا إلى الحقيقة، ويتركوا الحلم للكتبة والمكاتب. ويمكن إشعال هذه الثورة بترويض فكرة الثقافة تدريجا. إن أهم ما يصبو إليه العالم لبلوغ المجد واتساع الأفق هو بناء الإنسان. وها هي ذي مواد البناء ملقاة على الأرض. إن الحياة الخاصة لرجل واحد سوف تكون مملكة أبهى سناء وأشد ذعرا للعدو، وأحلى وأجدى نفوذا للصديق، من أية مملكة في التاريخ؛ لأنك إن أنعمت النظر إلى الرجل ألفيته ينطوي على الطبائع الموزعة على الناس جميعا. وكل فيلسوف وكل شاعر وكل ممثل قد أدى لي نيابة عني ما أستطيع ذات يؤم أن أؤديه لنفسي. والكتب التي كنا فيما مضى نقومها كما نقوم إنسان العين قد استوعبناها تماما. ولا يختلف ذلك عن قولنا إننا قد التقينا في وجهة النظر التي طبعها العقل العالمي في عيني الكاتب. لقد كنا ذلك الرجل، ثم انصرفنا، إننا ننزح مستودعات الماء جميعا واحدا بعد الآخر، ولما كنا ننمو من كل هذا المدد، فإننا نشتهي طعاما أحسن وأوفر. إن الرجل الذي لا يطعمنا البتة لم يعش قط. والعقل الإنساني لا يمكن أن يدخر في شخص يضع سدا في أي جانب من جوانب هذه الإمبراطورية التي لا تحد. إنها نار واحدة مركزية، تشتعل مرة بين شفتي أتنا فتضيء رءوس صقلية، ومرة أخرى من حلق فيزوف فتبعث الضوء إلى بروج نابلس وكرومها. إنه ضوء واحد يشع من ألف نجم. إنها روح واحدة تبعث الحياة في جميع الناس.
ولكني ربما أكون قد أسهبت إلى حد الإملال في الحديث عن العالم كموضوع مجرد، ولا ينبغي لي أن أتلكأ أكثر من ذلك في ذكر ما أريد التنويه عنه من الإشارة القريبة إلى هذا العصر وهذا البلد.
إننا نحسب - من الناحية التاريخية - أن هناك فارقا في الآراء التي تسود في العصور المتعاقبة، وأن هناك من الحقائق ما يميز العقلية الكلاسيكية من العقلية الرومانتيكية، ومن عقلية العصر الحديث، عصر التفكير أو الفلسفة. وبعد الآراء التي قدمتها عن وحدة العقل أو مماثلته في جميع الأفراد، لن آبه كثيرا بهذه الفوارق، بل إني لأعتقد أن كل فرد يمر بالمراحل الثلاث؛ فالصبي يوناني، والشاب رومانتيكي، والراشد مفكر. ومع ذلك فإني لا أنكر أننا نستطيع أن نتتبع في جلاء تطورا في الفكرة الرئيسية.
إننا نندب عصرنا لأنه عصر «انطواء»، ولكن هل هذا شر؟ يبدو أننا ناقدون، تحيرنا أفكار الآخرين، ولا نستطيع أن نستمتع بشيء لأننا نتلهف على معرفة مصدر السرور. نحن مبطنون بالعيون، حتى إنا لنرى بأقدامنا، وعصرنا مصاب بما أصاب هاملت من شقاء.
مرضى بألوان من التفكير شاحبة.
وهل هذا شر؟ إن النظر هو آخر ما يتحسر عليه الإنسان، هل نرضى لأنفسنا العمى؟ هل نخشى أن نرى أبعد من الطبيعة ومن الله، ونشرب الحقيقة على جفاف؟ إنني لأنظر إلى سخط طبقة الأدباء على أنه إقرار منهم بأنهم لا يجدون أنفسهم في الحالة العقلية التي كان عليها آباؤهم، ويأسفون لأنهم لم يجربوا حالة المستقبل، كما يخشى الغلام الماء قبل أن يعلم أنه يستطيع السباحة. ولو أن هناك عصرا يود الإنسان أن يولد فيه فهو ألا يكون عصر «الثورة» حينما يقف القديم والجديد وجها لوجه، ويتعرضان للمقارنة، حينما يتأثر نشاط الناس جميعا بالخوف والأمل، حينما يستعاض عن أمجاد الماضي التاريخية بإمكانيات العصر الجديد الغنية. إن هذا الوقت، كغيره من الأوقات جميعا، وقت طيب جدا، لو عرفنا كيف نستغله.
إنني أقرأ بشيء من السرور عن علامات الأيام المقبلة التي تبشر بالخير، وهي تتلألأ خلال الشعر والفن، وخلال الفلسفة والعلم، وخلال الكنيسة والدولة.
وإحدى هذه العلامات هي أن الحركة عينها التي أدت إلى رفع مستوى ما كان يسمى بأحط الطبقات في الدولة، اتخذت في الأدب صورة واضحة جدا تشبهها رفقا ورأفة. فبدلا من السامي والجميل بحث الأدباء عن القريب والوضيع والمألوف، ونظموا فيه الشعر. وما كان يدوسه بالأقدام ويهمله أولئك الذين كانوا يعدون أنفسهم ويتزودون للرحلات البعيدة في الأقطار النائية، وجد فجأة أنه أغنى من كل بلد أجنبي؛ فموضوعات اليوم هي أدب الفقير، ومشاعر الطفل، وفلسفة الشارع، ومعنى الحياة المنزلية. وإنها لخطوة عظيمة. أليس من علامات القوة أن يدب النشاط في الأطراف، وأن تجري تيارات من الحياة الدافئة في الأيدي والأقدام؟ إنني لا أبحث عن العظيم والبعيد والخيالي، ولا أسأل عما يجري في إيطاليا أو بلاد العرب، أو على الفن الإغريقي أو أناشيد «بروفنسال»، وإنما أنا أحتضن الأمر العادي، وأكتشف الشيء المألوف والشيء الوضيع وأجلس عند قدميه. بصرني باليوم، أعطك العالم القديم وعالم المستقبل. ماذا عسانا حقا نحب أن نعرف له معنى؟ الطعام في الإناء، واللبن في الوعاء، والقصة المنظومة في الشارع، وأنباء الزورق، ولمحة العين، وهيئة الجسم ومشيته. أرني الأسباب البعيدة لهذه الأمور، وأرني الوجود السامي للأسباب الروحية العليا كامنة - كما تكمن دائما - في هذه الضواحي وهذه الأطراف من الطبيعة، ودعني أرى التوافه وهي تتطاول إلى الاستقطاب الذي يردها توا إلا القانون الأبدي، دعني أرى الحانوت، والمحراث، ودفتر الحسابات الذي يصدر عن نفس السبب الذي تنشأ عنه ذبذبة الضوء وغناء الشعراء. دعني أرى كل ذلك، ولن تكون الدنيا بعد ذلك خليطا مملا كالحجرة يتراكم فيها سقط المتاع، بل تكون على صورة ونظام. ليس هناك أمر تافه، أو لغز، وإنما هناك خطة واحدة توحد بين أعلى القمم وأسفل الأخاديد وتبعث فيها الحياة.
هذه الفكرة ألهمت عبقرية جولد سمث وبرنز وكوبر، وفي عصر أحدث، ألهمت جيته ووردزورث وكارليل. هؤلاء تابعوا هذه الفكرة على صور مختلفة وبدرجات متفاوتة من النجاح. وتتباين كتابتهم مع أسلوب بوب وجونسن وجبن الذي يبدو باردا متكلفا. أما كتابتهم ففيها دفء الدماء. وإن الإنسان ليدهشه أن يرى أن الأشياء القريبة ليست أقل جمالا وعجبا من الأشياء البعيدة. القريب يفسر البعيد. وليست القطرة إلا محيطا صغيرا، والإنسان متصل بالطبيعة كلها. وهذه الفكرة عن قيمة الشيء الشائع تنفع في كشف ما استتر. ولقد كان جيته في ذلك أحدث المحدثين، ومع ذلك فقد أطلعنا - كما لم يطلعنا أحد من قبل - على عبقرية القدماء.
Bilinmeyen sayfa
هناك رجل عبقري واحد أدى خدمة كبرى لفلسفة الحياة هذه، ولم تقدر بعد تقديرا صحيحا القيمة الأديبة لهذا الرجل، ذلك هو عمانويل سودنبرج.
1
كان أبعد الناس خيالا، ومع ذلك فقد كان يكتب بدقة العالم الرياضي، محاولا أن يطبع المسيحية الشائعة في عصره بطابع قواعد الأخلاق الفلسفية الخالصة. ومثل هذه المحاولة لا بد لها - بطبيعة الحال - من أن تلقى صعوبة لا يستطيع التغلب عليها أي عبقري. ولكنه رأى العلاقة بين الطبيعة وصلات النفس وأطلعنا عليها. لقد اخترق الصفة الرمزية أو الصفة الروحية للكلمة المرئية والمسموعة والمحسوسة. وكان شيطانه في الشعر الذي يحب الظلال، يحلق خاصة فوق أجزاء الطبيعة السفلى ويفسرها. وأظهر الرابطة العجيبة التي تصل ما بين الشر الخلقي والصور المادية الدنيئة. وقدم لنا في تشبيهات من شعره القصصي نظرية عن ضعف العقل، وعن الوحوش، وعن الأشياء الدنيئة المفزعة.
وعلامة أخرى من علامات العصر الذي نعيش فيه، تتميز كذلك بحركة سياسية مشابهة، هي الأهمية الجديدة التي أعطيت للفرد، وكل ما يرمي إلى عزلة الفرد، وإحاطته بحواجز الاحترام الطبيعي، حتى يحس كل فرد أن الدنيا له، ويعامل الإنسان أخاه الإنسان كما تعامل الدولة ذات السيادة دولة أخرى ذات سيادة، يرمي كذلك إلى الوحدة الحقيقية، وإلى العظمة. يقول بستالوزي ذلك الرجل المكتئب: «عرفت أن ليس هناك إنسان في دنيا الله الواسعة هذه يحب أو يستطيع أن يعين إنسانا آخر.» إن العون لا بد أن يأتي من صميم القلب وحده. والعالم هو ذلك الرجل الذي يجب عليه أن يتقمص في شخصه كل ما في عصره من قدرة، وكل ما وهبه لنا الماضي، وآمال المستقبل. يجب أن يكون جامعة من المعارف. وإن كان هناك درس يجب أن يطرق أذنه أكثر من غيره فذلك هو: «إن الدنيا لا شيء، والإنسان كل شيء.» ففي نفس الإنسان قانون الطبيعة كلها، وأنتم لا تدركون بعد كيف ترتفع فقاعة الماء، وفي نفس الإنسان يرقد العقل كله، فعليكم أن تعرفوا كل شيء، وعليكم أن تقتحموا كل شيء.
سيدي الرئيس، سادتي:
إن هذه الثقة في قوة الإنسان التي لم تبحث بعد تخص العالم الأمريكي، بكل دوافعها وكل ما تبشر به وكل استعداد لديها. لقد استمعنا طويلا إلى آلهة الشعر الأوروبية الظريفة، ووصمنا روح الرجل الحر الأمريكي بالجبن والتقليد والاستئناس. إن الشراهة العامة والخاصة لتجعل الهواء الذي نتنفسه كثيفا غليظا. والعالم رقيق متراخ لطيف. فانظر إلى العواقب الوخيمة. إن عقل هذا البلد - الذي تعلم أن يهدف إلى الوضيع من الأمور - ليأكل بعضه بعضا. ليس هناك عمل إلا للخانع القانع. أما الشبان الذين نتوقع منهم أحسن الرجال، والذين يبدءون الحياة على شواطئنا منتفخين برياح الجبال، تسطع عليهم كل نجوم الآلهة، فإنهم لا يجدون الأرض تحتهم متفقة مع هذه الأشياء، فيعوقهم عن العمل نفور من المبادئ التي تسير عليها الأعمال، فينقلبون عمالا كادحين، أو يموتون من النفور، وبعضهم يقضي نحبه انتحارا. وماذا عسى أن يكون العلاج؟ إنهم لم يروا بعد، ولا يرى كذلك ألوف الشباب المتفائلين مثلهم والمتزاحمين الآن حول الحواجز التي تقف في سبيل مستقبلهم، لم يروا أن الفرد إذا ركن إلى غرائزه ركونا راسخا، وتمسك بها، فإن الدنيا العريضة سوف تنقاد له. صبرا، صبرا، والتمسوا الصحبة في ظلال الخير والعظمة، والعزاء فيما يتراءى أمام حياتكم التي لا تنتهي، والعمل في دراسة المبادئ ونقلها إلى الناس، وفي سيادة هذه الغرائز، وفي هداية العالم. أليس أكبر عار في الدنيا ألا يكون الفرد وحدة، وألا يعد شخصا، وألا يثمر تلك الثمرة الخاصة التي خلق كل إنسان ليثمرها، إنما يحسب في المجموع، في المئات، أو الآلاف أو الحزب أو الفريق الذي ينتمي إليه، وإن يمكن التنبؤ برأي الفرد منا جغرافيا، فيقال إنه من الشمال أو من الجنوب؟ لا تكونوا كذلك، إخواني وأصدقائي، اللهم لا تجعلنا كذلك. إنما نريد أن نمشي على أقدامنا، وأن نعمل بأيدينا، وأن نعبر عما يجول في خواطرنا. ولن تكون دراسة الآداب بعد اليوم مدعاة للإشفاق، وللشك، ولمتعة الحواس. ولسوف تكون رهبة الإنسان ومحبته سورا للدفاع وإكليلا من البهجة يكلل هامات الجميع. ولسوف توجد لأول مرة أمة من الرجال؛ لأن كل فرد يعتقد أنه ملهم من الروح المقدس الذي يلهم كذلك الناس جميعا.
خطاب
(ألقي هذا الخطاب أمام الفرقة العليا في مدرسة هارفارد للاهوت في مساء يوم الأحد، 15 يوليو من عام 1838م. وكان أمرسن قد دعي لإلقائه لا من موظفي المدرسة، ولكن من طلبة الفرقة العليا. وقد اعترض كثير من رجال الدين على ما جاء بهذا الخطاب، حتى إن موظفي المدرسة قد تنصلوا علنا من تبعته. وانقضى زهاء الثلاثين عاما قبل أن يدعى أمرسن مرة أخرى للخطابة في هارفارد.)
إنها لنعمة في هذا الصيف المتلألئ أن يستنشق المرء أنفاس الحياة؛ فالعشب ينمو وبراعم الأزهار تتفتح، والمراعي مرقشة بألوان الزهور النارية والذهبية. والهواء يموج بالطير، ويحلو برائحة الصنوبر وريحان جيلعاد والبرسيم الجاف الجديد. والليل لا يبعث في القلب الكآبة بظلاله التي ترحب بها النفوس. وخلال الظلام الشفاف ترسل النجوم أشعتها التي تكاد أن تكون روحانية. وإن الإنسان ليبدو تحت هذه النجوم كأنه طفل صغير وكرته الأرضية ألعوبة، والليل البارد يرطب الدنيا كأنه نهر، ويعد العيون مرة أخرى للفجر القرمزي. إن لغز الطبيعة لم يبد قبل اليوم أكثر من ذلك سعادة؛ فلقد نالت المخلوقات جميعا ما شاءت من حنطة ونبيذ، والصمت الذي لا يشق والذي لازمته الوفرة من قديم لم يقدم حتى الآن كلمة من كلمات التفسير. وإن المرء ليكره على تبجيل كمال هذا العالم الذي تتناجى فيه حواسنا. ما أفسحه، وما أغناه، وأية دعوة من كل خاصة من خواصه يقدمها لكل موهبة من مواهب العقل الإنساني! إن العالم في تربته المثمرة، وفي بحره الصالح للملاحة، وفي جباله المعدنية والحجرية، وفي غاباته وأحراشه، وفي حيواناته، وفي أجزائه الكيميائية، وفي قوى الضوء ومسيره، والحرارة، والجاذبية والحياة، إن العالم في كل ذلك قمين بأفئدة عظماء الرجال وقلوبهم يخضعونه ويستمتعون به. وإن التاريخ ليسره أن يكرم المزارعين والميكانيكيين والمخترعين والفلكيين، ومشيدي المدن والقواد.
ولكن عندما يتفتح العقل ويكشف عن القوانين التي تسير في العالم وتجعل الأشياء كما هي، حينئذ تتضاءل الدنيا العظيمة فورا إلى رسم أو أسطورة من أساطير العقل. إن الروح الإنساني ليتساءل في لهفة إلى المعرفة لا ينطفئ أوارها: «ماذا عساي أن أكون؟ وما هو الكائن؟» انظر إلى هذه القوانين السباقة، التي يستطيع إدراكنا الناقص أن يراها تميل في هذا الاتجاه أو ذاك، ولكنه لا يراها كاملة الاستدارة، أنظرة إلى هذه العلاقات التي لا حصر لها، تتشابه مرة، وتختلف أخرى؟ ما أكثرها، ولكنها واحدة! وإني لأحب أن أدرس، وأحب أن أعرف، وأحب أن أعجب دائما. إن أعمال العقل هذه كانت في كل العصور تسلية الروح البشري.
Bilinmeyen sayfa
ولكن جمالا أعذب وأقوى وأشد خفاء يظهر للإنسان عندما يتفتح قلبه وعقله للإحساس بالفضيلة. إنه حينئذ يتعلم شيئا أعلى منه، يعلم أن وجوده لا حد له، وأنه إنما ولد للخير والكمال، برغم المكانة الدنيئة التي جلبها له الشر والضعف. إن ما يقدسه لا يزال ملكا له، ولو أنه لم يدرك ذلك حتى الآن، وإنما ينبغي له أن يدركه. إنه يعلم معنى تلك الكلمة العظيمة، بالرغم من أن تحليله يعجز عن وصفها. إنه عندما يستطيع ببراءته أو بإدراكه العقلي أن يقول: «إنني أحب الحق، والصدق جميل دائما في الداخل وفي الخارج. أيتها الفضيلة، أنا لك، خلصيني، استخدميني، سوف أخدمك، ليلا ونهارا، في الكبير والصغير، حتى لا أكون فاضلا، بل أكون الفضيلة نفسها.» عندما يقول ذلك يتحقق الغرض من الخليقة، وتتحقق إرادة الخالق.
إن الإحساس بالفضيلة تقديس لوجود بعض القوانين الإلهية وابتهاج بها. فبهذا الإحساس نستطيع أن ندرك أن هذا الدور الساذج الذي نلعبه في الحياة ينطوي على مبادئ تذهل العقل، وإن بدا في حركات تافهة. إن الطفل وسط ألاعيبه يتعلم تأثير الضوء، والحركة، والجاذبية، والقوة العضلية. وفي لعبة الحياة الإنسانية يتفاعل الحب والخوف والعدالة والشهوة والإنسان وكل ما هو مقدس. وهذه القوانين تستعصي على التعبير الصحيح عنها. إنها لا تكتب على الورق، أو يعبر عنها باللسان. إنها تستعصي على التفكير المثابر، ومع ذلك فنحن نقرؤها كل ساعة بعضنا في وجه الآخر وفي فعاله، وفي ضمائرنا. إن الصفات الخلقية التي تتركز جميعا في كل عمل أو فكر فاضل، ينبغي لنا أن نميزها في الكلام، وأن نصفها أو نشير إليها بالتعداد المضني لكثير من التفصيلات. ولما كان هذا الإحساس هو لب الدين، فدعوني ألفت أنظاركم إلى الأهداف الدقيقة له. فأعدد لكم بعض أنواع تلك الحقائق التي يظهر فيها هذا العنصر جليا.
إن الإدراك الفطري للإحساس الخلقي هو تبصر بكمال قوانين الروح، وهذه القوانين تنفذ نفسها بنفسها، خارجة عن الزمان والمكان، ولا تخضع للظروف. ولذا فإن في روح الإنسان عدالة جزاؤها سريع وشامل. من يعمل عملا صالحا يكرم في حينه، ومن يعمل عملا طالحا ينقبض من مجرد قيامه بهذا العمل الطالح. ومن يخلع الدنس، يلبس بذلك الطهارة. وعندما يصبح الإنسان عادلا في صميمه، فإنه يحقق إرادة الله؛ لأن سلام الله، وخلود الله، وجلالة الله، سوف تتمثل في كل ما يفعله الرجل العادل. وإذا كان الرجل يتظاهر ويخدع، فهو إنما يخدع نفسه، ولا يتفق مع وجوده. الرجل أمام الخير المطلق عابد خاضع تمام الخضوع، غير أن كل خطوة يخطوها في هذا السبيل إلى أسفل هي خطوة إلى أعلى. الرجل الذي ينكر ذاته يدركها.
انظروا كيف تعمل هذه الطاقة السريعة الجوهرية في كل مكان، تصلح الأخطاء، وتصحح المظاهر، وتجعل الحقائق منسجمة مع الأفكار. وأثرها في الحياة، وإن أدركته الحواس في بطء شديد، إلا أنه في النهاية أكيد كما هو كذلك في الروح. هذه الطاقة تجعل الإنسان سيد نفسه، يصف عمله الصالح بالخير وخطيئته بالشر. فإن صفات الأشياء تعرف دائما. والسرقات لا تغني، والإحسان لا يفقر، وجريمة القتل تنطق بها الأسوار الحجرية. وأقل أثر من آثار الخداع كوصمة الغرور - أو محاولة إيجاد تأثير حسن أو مظهر ملائم - يلوث النتيجة فورا. أما إن نطقت صدقا فإن الطبيعة والأرواح كلها سوف تعينك على التقدم إلى الأمام تقدما غير منظور. انطق الصدق، وسوف يسندك كل حي وأعجم، بل إن جذور الحشاش نفسها التي تنمو على الأرض لتبدو كأنها تهتز وتتحرك لكي تشهد لك. وتأكدوا كذلك من كمال القانون وهو يطبق نفسه على ما بين الناس من صلات، ويصير قانون الجماعة. فكما نكون يكون رفاقنا. الطيب بالتشابه يبحث عن الطيب، والخبيث بالتشابه يبحث عن الخبيث. ولذا فإن الأرواح تسير إلى الفردوس أو إلى الجحيم بإرادتها.
هذه الحقائق كانت توحي دائما إلى الإنسان بالعقيدة السامية التي تؤمن بأن الدنيا ليست نتيجة لقوى متعددة، وإنما هي نتيجة لإرادة واحدة وعقل واحد، وهذا العقل الواحد ناشط في كل مكان، في كل شعاع من أشعة النجم، وفي كل مويجة من مويجات البركة. وكل ما يقف في سبيل هذه الإرادة يفشل ويتعرقل في كل مكان؛ لأن الأشياء هكذا خلقت، ولم تخلق على صورة أخرى. الخير إيجابي، والشر شخصي محض، وليس مطلقا، فهو كالبرودة التي هي انعدام الحرارة. الشر كله موات أو عدم. أما الخير فهو مطلق وحقيقي. وعلى قدر ما عند الإنسان من خير، يكون ما لديه من حياة؛ لأن كل شيء يصدر عن روح واحدة تسمى بأسماء مختلفة، كالحب والعدالة والاعتدال، حسب تطبيقها في مختلف النواحي، كما يسمى المحيط بأسماء مختلفة على الشواطئ المختلفة التي يرتطم بها. كل شيء يصدر عن روح واحدة ويتآمر معها. وما دام الإنسان يهدف إلى أغراض طيبة فإنه يزود نفسه بقوة الطبيعة كلها، وكلما بعد عن هذه الأغراض حرم نفسه القوة، وحرم نفسه كل معين، وينكمش وجوده عن كل تيار بعيد، ويتضاءل ثم يتضاءل، حتى يصبح ذرة أو قطرة، ويصير السوء المطلق موتا مطلقا.
وإدراك قانون القوانين هذا يوقظ في العقل إحساسا نسميه الإحساس الديني، وهو الذي تنشأ عنه سعادتنا القصوى. وما أعجب سحره وسلطانه! إنه جبل من الهواء، وهو الذي يعطر العالم. هو مر وميعة يابسة وكلورين وحصا البان. إنه يعلو بالسماء والجبال، وهو أنشودة النجوم الصامتة. به يسلم العالم وتحلو الإقامة فيه، ولا يكون ذلك بالعلم أو بالنفوذ. ربما كان أثر الفكر في الأشياء باردا جامدا، لا يلتمس غاية أو وحدة، ولكن إشراق الإحساس بالفضيلة في القلب يعطينا «القانون العام»، ويؤكد لنا أن هذا القانون يسود جميع الطبائع، فتبدو العوالم والزمان والمكان والأبد، كأنها تنفطر من السرور.
هذا الإحساس سماوي إلهي، هو سر سعادة الإنسان، هو الذي يجعله غير محدود. وعن سبيله تعرف الروح نفسها أولا. وهو الذي يصحح الخطأ الأكبر في الإنسان الصغير، الذي ينشد العظمة باتباع العظماء، ويأمل أن يستمد الفائدة «من غيره»، وذلك لأن هذا الإحساس يريه أن مصدر الخير في نفسه، وأنه - كغيره من الناس جميعا - منفذ إلى أعماق العقل. حينما يقول «ينبغي لي»، وحينما يدفئه الحب، وحينما يختار العمل الصالح العظيم بتبنيه من العلا ، حينما يفعل ذلك تتخلل روحه الأناشيد العميقة من «الحكمة العليا». حينئذ يستطيع أن يتعبد، وأن يعظم بالعبادة، لأنه لا يستطيع أن يتخلف عن هذا الإحساس. وفي أسمى تحليق للنفس، لا يمكن أن يقهر الصواب، أو يتفوق على الحب شيء.
وهذا الإحساس أساس من أسس المجتمع، وهو يخلق بالتتابع كل صور العبادة. إن مبدأ التقديس لا يموت أبدا، والإنسان الذي يقع فريسة للخرافة، أو للمتع الحسية، لا يفقد البتة رؤى الإحساس الخلقي. وكذلك يكون كل ما يعبر عنه هذا الإحساس مقدسا وثابتا على قدر طهارته. وما يعبر عنه هذا الإحساس يؤثر فينا أكثر مما تؤثر كل المركبات الأخرى. وعبارات الأزمنة القديمة التي تعبر عن هذا الورع ما برحت جديدة عطرة. وقد كانت هذه الفكرة دائما أشد تعمقا في نفوس الناس في الشرق التقي المتأمل، لا في فلسطين وحدها حيث بلغت أطهر صورة من صور التعبير، ولكن في مصر كذلك، وفي بلاد الفرس والهند والصين. وكانت أوروبا دائما مدينة بدوافعها الإلهية إلى العبقرية الشرقية، فإن ما قاله هؤلاء المنشدون المقدسون وجده عقلاء الرجال جميعا ملائما صادقا. والأثر الفريد ليسوع المسيح على البشر - وليس اسمه مكتوبا في تاريخ هذا العالم بل محفور فيه حفرا - لدليل على الفضل العظيم لهذه التعاليم المتغلغلة في النفوس.
وما دامت أبواب المعبد مفتحة، ليلا ونهارا، أمام كل إنسان، وما دام الكهان الذين ينطقون بهذا الحق لا يكفون، فإنه لا يبقى سوى شرط واحد صارم، وذلك هو الفطرة السليمة. فإن الحق لا يدخل النفس مبتذلا، وإنك في الواقع لا تستطيع أن تتلقى من روح أخرى علما، وإنما تتلقى حافزا. ما يبشر به غيرك لا بد أن تجده صادقا في نفسك أو تنبذه. وإن كلماته، وتبعيتك له - أيا كان هو - لا تجعلك وحدها تتلقى منه شيئا. بل على النقيض من ذلك، فإن في انعدام هذا الإيمان الأولي بذور التدهور . فكما يكون المد يكون الجزر. وإذا زال هذا الإيمان، أصبحت الكلمات نفسها التي صدرت عنه أو الأعمال التي قام بها زائفة مؤذية، وبذلك تنهار الكنيسة، والدولة، والفن، والأدب، والحياة. إذا نسينا مبدأ تقديس الطبيعة الإنسانية أصيبت النظم بالعلة التي تجعلها تتضاءل. كان الإنسان فيما مضى كل شيء، وهو اليوم زائدة تدعو إلى القلق، وحيث إن «الروح العليا» الكامنة في كل شيء لا يمكن تحاشيها كلية، فإن المبدأ الذي يبشر بها لا يحتمل هذا التناقض، وهو أن الطبيعة الإنسانية المقدسة تنسب إلى شخص أو شخصين، وتنكر على بقية الأشخاص، بل وتنكر في غضب شديد. لقد فقدنا مذهب الإلهام، واغتصب المبدأ الوضيع - مبدأ أكثرية الأصوات - مكانة مبدأ الروح. ولا توجد المعجزات والنبوءات، والشعر، والحياة المثالية، والحياة المقدسة، إلا باعتبارها تاريخا قديما فحسب؛ فهي ليست من عقائد الناس أو من آمالهم، وتبدو مضحكة حينما يشار إليها. والحياة تكون مدعاة للهزل أو للإشفاق بمجرد ما تختفي عن الأبصار أغراض الوجود السامية، ويصبح الإنسان قصير النظر، ولا يستطيع أن يلتفت إلا إلى ما يخاطب الحواس.
هذه الآراء العامة - التي لا ينازعها أحد ما دامت عامة - تجد لها أمثلة وافرة في تاريخ الأديان، وبخاصة في تاريخ الكنيسة المسيحية، وفي هذه الكنيسة ولدنا جميعا ونشأنا، وستشرعون يا أصدقائي في تعليم الصدق الذي تتضمنه هذه الحقيقة. وإن لها لأهمية تاريخية كبرى. ولستم بحاجة إلى أن أحدثكم عن كلماتها المباركة التي كانت عزاء الإنسانية. وسوف أحاول أن أؤدي واجبي نحوكم في هذه المناسبة بالإشارة إلى خطأين في إدارة الكنيسة، يتضخمان يوما بعد يوم من وجهة النظر التي اتخذناها منذ حين.
Bilinmeyen sayfa
إن يسوع المسيح ينتمي إلى الجنس الصادق من الأنبياء، ولقد رأى بعين مفتوحة لغز الروح، وجذبه انسجامها الشديد وفتنة جمالها، فعاش فيها، وكان وجوده هناك. وهو وحده في التاريخ كله الذي قدر عظمة الإنسان. رجل واحد كان مخلصا لما في نفسك وما في نفسي. رأى أن الله يجسد نفسه في الإنسان، ويتقدم دائما من جديد لكي يستولى على دنياه . وفي عيد الذكر لهذه العاطفة السامية يقول: «أنا مقدس، والله يعمل من خلالي، ويتكلم من خلالي. إن أردت أن ترى الله فانظر إلي، أو انظر إلى نفسك إذا كنت كذلك تفكر كما أفكر أنا الآن.» ولكن أي تحريف عانى مبدؤه وعانت ذكراه في عصره، وفي العصر الذي تلاه، والعصور المتعاقبة! ليس هناك مبدأ من مبادئ «العقل» يمكن أن يعلم عن طريق «الفهم». إنما أصغى فهم الإنسان إلى هذه النغمة العالية من بين شفتي الشاعر، وقال في العصر التالي: «هذا هو الله (يهوه) نزل من السماء، وسأقتلك إن قلت إنه كان إنسانا.» واحتلت تعابير لغته وضروب فصاحته مكانة صدقه، ولم تبن الكنائس على مبادئه، وإنما بنيت على استعارته ومجازه، وصارت المسيحية أسطورة، كما صارت من قبل التعاليم الشعرية اليونانية والمصرية. تحدث عن المعجزات لأنه أحس بأن حياة الإنسان معجزة، وكل ما يعمل الإنسان معجزة، وعرف أن هذه المعجزة اليومية تشرق كلما ارتفعت الشخصية. غير أن كلمة المعجزة كما تنطق بها الكنائس المسيحية تعطي معنى زائفا. إنها كالحيوان الخرافي، ولا تتفق والطبيعة التي تتمثل في البرسيم المزهر والمطر المتساقط.
وأحس بالاحترام لموسى والأنبياء، ولكنه لم يشعر بأن وحيهم الأول يصلح للبقاء للساعة الراهنة وللإنسان الحالي، أو يصلح أن يكون وحيا أبديا في القلب. ولم يعطف على هذه الفكرة. وهكذا كان المسيح إنسانا حقا. ولما رأى أن القانون الكامن في أنفسنا متسلط لم يرض له بالخضوع، وأعلن شجاعة، وبيده وقلبه وحياته أن هذا القانون هو الله. هذا هو المسيح، كما أظن، الروح الوحيدة في التاريخ التي قدرت قيمة الإنسان. (1)
من وجهة النظر هذه ندرك العيب الأول للمسيحية التاريخية. لقد وقعت المسيحية التاريخية في خطأ يفسد كل محاولة لنشر الدين. فإنها تبدو لنا - كما بدت عدة عصور - كأنها ليست مذهب الروح، وإنما مبالغة فيما هو شخصي وما هو إيجابي، مبالغة في الطقوس. ولقد اهتمت - ولا تزال تهتم - في مبالغة شديدة بشخص المسيح، ولكن الروح لا تعرف الأشخاص، إنها تدعو كل فرد إلى أن يمتد حتى يبلغ دائرة الكون بأسرها، وهي لا تؤثر شيئا سوى المحبة التلقائية. بيد أن هذه المسيحية التي تشبه الملكية الشرقية، التي قامت على التراخي والخوف، قد جعلت صديق الإنسان رجلا مؤذيا له. والطريقة التي يحاط بها اسمه بعبارات كانت فيما مضى نفحات من الإعجاب والمحبة، ولكنها تحجرت الآن في ألقاب رسمية، هذه الطريقة تقتل كل عطف كريم أو محبة. وكل من يستمع إلي يحس أن اللغة التي يوصف بها المسيح في أوروبا وأمريكا ليست من أساليب الصداقة والحماسة لقلب طيب نبيل، ولكنها لغة خاصة رسمية، تصور نصف إله، كما كان الشرقيون أو الإغريق يصفون أوزيرس أو أبولو. لو قبلتم التعاليم التي فرضت عليكم فيما مضى بطريقة السؤال والجواب فأوذيتم بها لوجدتم أن الأمانة نفسها وإنكار الذات إنما كانتا من الخطايا الكبرى إذا لم تتصفا باسم المسيحية. وإن المرء لخير له أن يكون «وثنيا يرضع لبان مذهب بال» من أن يخدع في حقه الإنساني، فيأتي إلى الطبيعة ويجد أن الأسماء والأماكن، والبلدان والمهن - ليست وحدها - بل كذلك الفضيلة والحق، قد حبست واحتكرت. بل إنك لن تكون رجلا. لن تملك الأرض، لن تجرؤ على العيش في سبيل القانون الأبدي الذي يحل بك، ويصحب الجمال الأبدي الذي تعكسه لك الأرض والسماء في كل صورة جذابة. وإنما ينبغي لك أن تخضع طبيعتك لطبيعة المسيح. ينبغي لك أن تقبل تفسيرنا وترى صورته كما ترسمها العامة.
إن خير الأمور ما يسلمني إلى نفسي. وإن المذهب الرواقي العظيم: «أطع نفسك» ليثير في نفسي السمو والرفعة. ما يظهر الله في نفسي يعززني، وما يظهر الله خارج نفسي يجعلني زائدة جلدية أو غدة دهنية، فلا تبقى علة ضرورية لوجودي. وإنما تزحف علي ظلال النسيان قبل الأوان، فأموت إلى الأبد.
المنشدون المقدسون أصدقاء فضيلتي، وعقلي، وقواي. إنهم ينبهونني إلى أن الأشعة التي تومض في عقلي ليست لي، إنما هي لله، وإلى أنهم كانوا يملكون مثل هذه الأشعة، ولم يعصوا رؤى السماء، ولذا فإني أحبهم. عنهم يصدر الإيعاز النبيل، الذي يدعوني إلى مقاومة الشر، وإلى أن أخضع الدنيا، وإلى أن أكون. وعلى هذه الصورة وحدها يخدمنا المسيح بأفكاره المقدسة. أما أن يهدف إلى أن يهدي الإنسان بالمعجزة، فذلك تدنيس للروح. الهداية الصادقة، والمسيح الصادق، إنما يتم اليوم - كما كان يتم دائما - بتقبل العواطف الجميلة. وحقا إن روحا عظيما غنيا كروحه إذا هبط بين قوم سذج كان له الرجحان، فيشمل العالم، كما فعل روحه. هؤلاء السذج يبدو لهم أن الدنيا وجدت له، ولم يشربوا روحه فيروا أنهم لا يكبرون أبدا إلا إذا ثابوا إلى أنفسهم، أو إلى الله في أنفسهم. وإنها لمنفعة يسيرة أن تعطيني شيئا، ومنفعة كبرى أن تمكنني من أداء شيء بنفسي. ولسوف يأتي الوقت الذي يرى فيه الناس جميعا أن هبة الله للروح ليست في القداسة التي تزدهر وتتسلط وتستبعد كل شيء سواها، وإنما هي في الخير العذب الطبيعي، خير كالذي عندك والذي عندي. هي الهبة التي تدعو خيرك وخيري إلى أن يوجد وأن ينمو.
وإن العسف الذي تنطوي عليه نغمة الوعظ العامة لا يسيء إلى يسوع أقل مما يسيء إلى الأرواح التي يدنسها. إن الوعاظ لا يدركون أنهم لا يجعلون بشرى المسيح سارة، وإنهم ينزعون عنه شارات الجمال وصفات السماء. إنني عندما أشاهد رجلا جليلا مثل أبامينونداس أو واشنطن، وعندما أرى بين معاصري خطيبا صادقا أو قاضيا عادلا، أو صديقا حميما، وعندما أهتز لما في القصيدة الشعرية من موسيقى وخيال، حينئذ أرى جمالا يشتهى. وإن موسيقى المنشدين العنيفة التي تغنت بالإله الحق في كل العصور لترن في أذني فيطمئن لها كياني البشري اطمئنانا أشمل من ذلك. وإذن فلا تحطوا من شأن حياة المسيح ومحاوراته فتخرجوها من دائرة هذا السحر، وذلك بعزلها وتخصيصها. دعوا هذه الحياة وهذه المحاورات تقع في نفوسنا كما هبطت، حية دافئة، جزءا من الحياة البشرية ومن منظر الطبيعة ومن اليوم السعيد. (2)
والعيب الثاني في الطريقة التقليدية المحدودة لاستخدام فكرة المسيح نتيجة للعيب الأول، وذلك هو أن القانون الخلقي، قانون القوانين الذي يدخل وحيه العظمة - بل الله نفسه - في الروح المتفتحة، ذلك القانون لا يكشف عنه باعتباره منبع التعاليم السائدة في المجتمع. فصار الناس يتحدثون عن الوحي كأنه قد أوحي به وانتهى من عهد قديم، كأن الله قد مات. وإن هذا الضعف في الإيمان ليخنق الواعظ نفسه، كما يصبح خير النظم صوتا مترددا غير فصيح.
ولا مراء في أن الاتجاه إلى جمال الروح يؤدي إلى الرغبة بل والحاجة إلى تلقين الآخرين المعرفة نفسها والمحبة ذاتها؛ فإن الفكرة إذا حرمت التعبير عنها تبقى عبثا على عاتق صاحبها. من ير فلا بد له دائما من القول، لا بد له من التحدث عن حلمه بطريقة ما، فينشره على صورة ما في جد وسرور، فهو يمثل معبود روحه مرة بقلم الرصاص على لوحة التصوير، وأخرى بالإزميل في الحجر أو في البروج وممرات الكنائس المصنوعة من الجرانيت، ومرة في الأناشيد ذات الموسيقى الناعسة، ولكن أحلامه أوضح ما تكون وأثبت ما تكون في الألفاظ.
والرجل الذي تستهويه هذه البراعة يصبح لهذه الأحلام قسيسا أو شاعرا، وكلتا الوظيفتين قد وجدتا منذ خلقت الدنيا. ولكن انظر إلى شرط الوظيفة أو حدها الروحي. إن الروح وحدها تستطيع أن تعلم، فلا يقدر على التعليم أي رجل دنس، أو أي إنسان مادي، أو كاذب، أو رقيق. وإنما الذي يعطي هو وحده الذي يملك، والذي يخلق هو الكائن، والرجل الذي تهبط عليه الروح، والذي تتحدث الروح بوساطته، هو وحده الذي يقدر على التعليم؛ فالشجاعة، والورع، والمحبة والحكمة، يمكنها أن تعلم. ويستطيع كل إنسان أن يفتح بابه لهذه الملائكة، ولسوف تأتيه بهبة الألسنة. أما الرجل الذي يهدف إلى الكلام كما تمكنه الكتب، وكما تقول مجامع العلماء، وكما ترشد الآراء الشائعة، وتهدي المصالح، ذلك الرجل إنما يهذي، وخير له أن يسكت.
ولهذه الوظيفة المقدسة تعتزمون أن تكرسوا أنفسكم، ووددت لو أحسستم بواجبكم كأنه نبض الرغبة والأمل. فإن وظيفتكم في مقدمة الوظائف في هذه الدنيا، وقد بلغت من الحق حدا لا يجعلها تحتمل نقصا من الزيف. ومن واجبي أن أقول لكم إن الحاجة إلى إلهام جديد لم تكن في أي وقت من الأوقات أشد مما هي الآن. ومن الآراء التي عبرت لكم الآن عنها تستنبطون عقيدتي المؤلمة - التي يشاركني ويعتقد فيها معي عدد عديد - في التدهور الشامل للإيمان في المجتمع الذي يكاد أن يبلغ الموت في هذه الأيام؛ فالروح لم تتعظ، والكنيسة كأنها تترنح وتئول إلى السقوط، وتكاد حياتها كلها أن تبيد. وفي هذه المناسبة، من الجرم أن يتلطف معكم متلطف - أمله ورسالته أن يعلمكم العقيدة المسيحية - فيخبركم أن هذه العقيدة قد بلغت.
Bilinmeyen sayfa
لقد حان الوقت لكي ترتفع التمتمة المكبوتة التي يتمتم بها الرجال المفكرون ضد القحط الذي أصاب كنائسنا، وذلك الأنين الذي يصدر عن القلب؛ لأنه حرم العزاء والأمل والجلال الذي لا يأتي إلا من تثقيف الطبيعة الخلقية، يرتفع فيسمع خلال سنة التراخي، ويعلو على طنين العمل المألوف. هذا العمل العظيم الخالد يقوم به الواعظ لم يؤد بعد. الوعظ تعبير عن الإحساس الخلقي عند تطبيقه على واجبات الحياة. خبروني في كم كنيسة، وعن طريق كم من المبشرين، يدفع الإنسان إلى الإحساس بأنه روح لا يحد، وإلى أن الأرض والسموات تتخلل عقله، وأنه يتشرب دائما روح الله؟ وأين اليوم الذي يرن فيه ذلك الصوت الذي يدفع قلبي بموسيقاه إلى سكنى الفردوس، فيؤكد أن أصله في السماء؟ أين أسمع مثل تلك الكلمات التي كانت في العصور القديمة تجذب المرء فيترك كل شيء ليتبعه، يترك الأب والأم والبيت والأرض والزوج والولد؟ أين أسمع القوانين العظمى للوجود الخلقي التي ينطق بها الناطق فتملأ مسمعي، وأشعر بالتكريم عندما أهب أقصى جهدي وأحر عواطفي؟ إن اختبار الإيمان الصادق يجب - من غير شك - أن يكون في قدرته على سحر الروح والتسلط عليها، كما تتسلط قوانين الطبيعة على نشاط الأيدي، يتسلط علينا هذا الإيمان إلى حد أننا نجد المتعة والشرف في طاعته. يجب أن يختلط الإيمان بضوء الشمس المشرقة والشمس الغاربة، وبالسحاب الزائل، والطير المغني، وأنفاس الزهور، بيد أن يوم الدين (يوم السبت) قد فقد الآن عند القسيس سناء الطبيعة، إنه يوم بغيض يسرنا انقضاؤه. وإنا لنستطيع أن نجعل - بل إنا لجاعلون فعلا - حتى جلوسنا فوق مقاعد الكنيسة خيرا لنا من ذلك بكثير وأقدس وأحلى.
وكلما اغتصب منبر الخطابة رجل رسمي، خدع العابد وانتابته الكآبة. إننا ننكمش عندما تبدأ الصلاة التي لا تسمو بنا وإنما تقضي علينا وتسيء إلينا. وإنا حينئذ لنتوق أن نلتف في أرديتنا ونلتمس - ما استطعنا ذلك - مكانا معتزلا لا نستمع فيه إلى أحد. أصغيت مرة إلى واعظ فأغراني بشدة أن أقول إني لن أقصد الكنيسة مرة أخرى، فالناس كما ظننت يذهبون إلى ما ألفوا الذهاب إليه، وإلا لما قصد المعبد أحد في المساء. إن عاصفة ثلجية تهب حولنا، هذه العاصفة حقيقية، وليس الواعظ إلا خيالا، وإن العين لتحس التباين الأليم عندما تنظر إليه، ثم تنظر من النافذة خلفه إلى تلك الظاهرة الجوية الجميلة، ظاهرة التثليج. لقد قضى حياته عبثا. ليست لديه لفظة واحدة تدل على أنه ضحك أو بكى، تزوج أو أحب، أثني عليه أو خدع أو اغتم. وإذا كان قد عاش وعمل، فإنا لم نكتسب من ذلك حكمة. إنه لم يتعلم سر مهنته الرئيسي، وهو أن يحول الحياة إلى الحقيقة. ولم يبث في مبادئه واقعة واحدة من كل خبرته. هذا الرجل حرث وزرع وتكلم واشترى وباع، وقرأ الكتب، وأكل وشرب، وآلمه رأسه، ونبض قلبه، وابتسم وكابد، ومع ذلك ليس في كل حديثه تلميح أو إشارة إلى أنه عاش أبدا. ولم يرسم خطا واحدا من التاريخ الحقيقي. إنما يعرف الواعظ الحق بهذا: إنه يشرح للناس حياته، الحياة التي اكتوت بنيران الفكر. أما الواعظ السيئ فلا تستطيع أن تقول من موعظته في أي عصر من عصور الدنيا عاش، وهل كان له ابن وولد، وهل كان مالكا لعقار أو معدما، وهل كان يسكن المدينة أو الريف، أو أي واقعة أخرى في تاريخ حياته. وإنه ليبدو عجيبا أن يقصد الناس الكنائس، كأن بيوتهم لا تسلي البتة، فآثروا هذا الضجيج الذي لا ينم عن معنى. ويدل ذلك على أن في الإحساس الخلقي قوة جاذبة ترسل بصيصا ضئيلا من الضياء على الملل والجهل وقد اتخذا اسمه ومكانته. إن المستمع الكريم على ثقة من أن قلبه يمس أحيانا، وعلى ثقة من أن هناك ما يبتغى، وأن هناك الكلمة التي يمكنها أن تحقق الهدف. وعندما يستمع إلى هذه الكلمات الباطلة، يعزي نفسه؛ لأنها تمت بالصلة إلى ذكرياته عن ساعات أحسن منها، ولذا فهي تقعقع ويعلو صوتها دون أن يصدها شيء.
لست أجهل أننا حينما نقدم الموعظة التي ليست لها قيمة لا يكون ذلك دائما عبثا باطلا، فإن لبعض الناس آذانا طيبة تستمد من كل طعام تافه غذاء للفضيلة. وهناك حقيقة شعرية تختفي في الأدعية والمواعظ العادية. وهي وإن كانت تذكر في حماقة يمكن الإصغاء إليها في حكمة؛ لأن كل دعاء منها أو موعظة تعبير مختار انطلق في لحظة من لحظات الورع من روح مكتئبة أو مبتهجة، وقد جعلت براعة الصياغة العبارة شيئا مذكورا. إن الدعوات - بل والعقائد الثابتة - في كنائسنا أشبه شيء بالبرج الفلكي في دندره أو الآثار الفلكية عند الهندوس، تنعزل انعزالا تاما عن أي شيء مما يوجد في حياة الناس وأعمالهم. إنها تشير إلى أعلى نقطة بلغتها المياه في وقت من الأوقات. غير أن هذه الدماثة هي من الطيبين المتدينين حد للشر والأذى. إن الصلاة الدينية عند كثير من الناس تنبعث عنها آراء وعواطف أخرى مخالفة. وليست بنا حاجة إلى لوم المصلي المهمل، بل إنا لنشفق عليه من سرعة ما يلاقي من جزاء على استرخائه، ووا حسرتاه على الرجل التعس الذي يدعى إلى اعتلاء المنصة ولا يعطي خبز الحياة. إن كل ما يقع تهمة له. هل يطلب المعونة للإرساليات الأجنبية والداخلية؟ ما أسرع ما يعلو الخجل خديه عندما يقترح على أبناء دائرته الدينية أن يرسلوا مالا على بعد مائة أو ألف ميل لإمداد طعام يسير كالذي عندهم في بلدهم، وربما كان خيرا له أن يسير المائة أو الألف ميل هربا من هذا الموقف. أم هل يحث الناس على طريقة ربانية للعيش، وهل يستطيع أن يطلب إلى زميل له أن يأتي إلى الاجتماعات الدينية يوم السبت، في حين أنه وهم جميعا يعرفون أن أقصى ما يتوقعونه هناك ضئيل؟ وهل يدعوهم دعوة خاصة للعشاء الرباني؟ إنه لا يجرؤ على ذلك. وإذا كان القلب لا يدفئ هذه الشعائر، فإن صورتها الجوفاء الصارخة تصبح واضحة، فلا يستطيع أن يجابه رجلا ذا فطنة ونشاط ويدعوه بغير وجل. وماذا عساه قائل في الشارع للقروي الجريء الذي يكفر بالله؟ إن القروي الكافر يرى الخوف في وجه القسيس وهيئته ومشيته.
دعني لا أصم إخلاص هذه الدعوى بالتغاضي عن حقوق الرجال الأخيار. إنني أعرف وأقدر نقاء الضمير وصرامته عند عدد كبير من رجال الدين. إن ما تحتفظ به الصلاة العامة من حياة إنما مرده إلى فئة مبعثرة من الرجال الأتقياء، الذين يعظون الناس هنا وهناك في الكنائس، والذين يقبلون أحيانا في رقة بالغة مذاهب الأقدمين، بيد أنهم لم يقبلوا من غيرهم - ولكن من قلوبهم - الدوافع الحقيقية للفضيلة، ولذا فهم لا يزالون يرغموننا على حبهم ورهبتهم لقداسة أشخاصهم. ثم إن الاستثناء لا يلتمس في وعاظ قلائل بارزين بمقدار ما يلتمس في أحسن ساعاتنا جميعا، في آمالنا الصادقة. أجل، في لحظات الإخلاص عند كل إنسان، ولكن مهما يكن الاستثناء، فمن الحق مع ذلك أن التقاليد من مميزات الوعظ في هذا البلد، وهو يصدر عن الذاكرة، ولا يصدر عن الروح، وهو يرمي إلى المألوف، ولا يرمي إلى الضروري والأبدي، وإن المسيحية التاريخية بذلك تحطم قوة الوعظ، بصرفه عن كشف الطبيعة الخلقية عند الإنسان، حيث يكون السمو، وحيث مصادر الدهشة والقوة. وما أقسى ما في ذلك من ظلم لذلك القانون - وهو فرحة الأرض بأسرها - الذي يستطيع وحده أن يجعل الفكر عزيزا غنيا، ذلك القانون الذي تحذو حذو صحته الأكيدة المدارات الفلكية فلا تجيد الاحتذاء. لقد انقلب هذا القانون هزلا وانحطت قيمته، ولم يذكر بخير أو بحمد، بل ولم ينطق أحد بصفة من صفاته أو كلمة من كلماته. وإن منبر الخطابة بإغفاله هذا القانون إنما يغفل سبب وجوده، ويتحسس شيئا لا يدركه. ولنقص في هذه الثقافة اعتلت روح الجماعة وفقدت إيمانها، وهي ليست بحاجة إلى شيء حاجتها إلى تربية مسيحية صارمة عالية رواقية، كي تعرف نفسها وتعرف اللاهوت الذي يتكلم بوساطتها. إن الإنسان اليوم ليخجل من نفسه، وهو يتوارى ويتسلل في هذه الدنيا، يقصد التسامح معه ويقصد الإشفاق عليه. وقل أن تجد في كل ألف عام رجلا يجرؤ على الحكمة وعلى الخير، فيستقطر دموع النوع البشري ويستمطر بركته.
ولقد مرت عصور أمكن فيها بالتأكيد أن يظهر إيمان أكبر في الأسماء والأشخاص وسط ركود التفكير في بعض الحقائق؛ فقد وجد البيورتان في إنجلترا وأمريكا في مسيح الكنيسة الكاثوليكية وفي العقائد الموروثة من روما مجالا لورعهم الشديد وتشوقهم إلى الحرية المدنية. غير أن مذهبهم آخذ في التلاشي، ولم ينشأ مذهب آخر ليتخذ مكانته. ولا أحسب أن أحدا يستطيع أن يقصد إحدى كنائسنا، وأفكاره معه، دون أن يحس أن ما كان للكنيسة من سلطان على الناس قد ولى أو هو في سبيل الانتهاء. لقد فقدت الكنيسة سيطرتها على عواطف الأخيار ومخاوف الأشرار. وفي الريف، وفيما يجاورنا من بلاد، أصبحت نصف الدوائر الدينية «تنشد لمجرد النشيد» على حد التعبير المحلي. وبدأت البوادر تدل على أن الأخلاق والدين تختفي من الاجتماعات الدينية. سمعت رجلا متدينا يقيم لليوم الديني وزنه يقول في مرارة القلب: «يبدو أنه من الإثم أن يقصد المرء الكنيسة يوم الأحد.» وليس الباعث الذي يدفع الأخيار إلى هناك اليوم سوى الأمل والانتظار. وما كان فيما مضى أمرا عارضا، وهو أن يلتقي في يوم من الأيام الأخيار والأشرار في الدائرة الدينية، والفقراء والأغنياء، والعلماء، والجهلاء، والشباب والشيوخ، كما يلتقي الزملاء في بيت واحد، دليلا على المساواة في حق الروح؛ قد صار دافعا ذا أهمية قصوى إلى الذهاب إلى هناك.
أظن أنني في هذين الخطأين - أيها الأصدقاء - أجد أسباب انهيار الكنيسة والجحود القاتل بالله. وأية كارثة أكبر من فقدان العبادة يمكن أن تحل بأمة من الأمم؟ إن ذلك يؤدي إلى تدهور كل شيء، وذلك يدعو النابغين إلى هجر المعابد لارتياد الأسواق ومجالس الشيوخ. ويصير الأدب ماجنا، والعلم باردا. ولا تستضيء عيون الشباب بالأمل في عوالم أخرى، وتخلو الشيخوخة من الوقار. ويعيش المجتمع للتوافه، وبعدما يموت الناس لا نذكرهم.
وقد تسألونني الآن يا إخواني: ماذا نستطيع أن نصنع في هذه الأيام البائسة؟ إنني وصفت لكم العلاج في أساس شكواي من الكنيسة، إننا أوجدنا بين الكنيسة والروح تباينا. وفي الروح يجب أن نلتمس الخلاص. حيثما يحل الإنسان يحل التجديد، إنما القديم للأرقاء. إذا جاء الإنسان باتت جميع الكتب مقروءة، وصار كل شيء شفافا، وكل الديانات صورا. الإنسان هو المتدين، وهو محدث العجائب، وإنه ليرى وسط المعجزات، وكل الناس يباركون ويلعنون. والإنسان الصادق وحده هو الذي يقول لا ونعم فقط. إن جمود الدين، والزعم أن عصر الإلهام قد ولى، وأن الإنجيل قد استغلق، والخوف من الحط من شخصية المسيح بتمثيله في صورة رجل، كل ذلك يدل في وضوح كاف على خطأ علمنا بالدين. وواجب المعلم الصادق أن يرينا أن الله كائن اليوم، لا كان فيما مضى. وإنه يتكلم، لا تكلم وانتهى. إن المسيحية الصادقة - أقصد إيمانا كإيمان المسيح في قدرة الإنسان التي لا تحد - قد ضاعت. ولم يعد أحد يعتقد في روح الإنسان، وإنما يعتقد الناس في رجل أو شخص هرم وولى. ويلي! إنني لا أرى أحدا يسير وحيدا. إنما يسير الناس قطعانا إلى هذا القديس أو ذلك الشاعر، غافلين عن الله الذي يرى في الخفاء. إنهم لا يستطيعون الرؤية في الخفاء، ويؤثرون أن يكونوا عميانا وسط الجماهير. إنهم يحسبون أن الجماعة أحكم من روحهم، ولا يدركون أن روحا واحدة، وأن روحهم أحكم من العالم بأسره. انظروا كيف أن أمما وأقواما تسبح فوق بحر الزمن ولا تخلف وراءها موجا خفيفا يدل على المكان الذي طفت فوقه أو غاصت فيه، في حين أن روحا واحدا طيبا يجعل اسم موسى، أو زينون، أو زرادشت، مقدسا إلى الأبد. ليس هناك من يحاول ذلك الطموح الصارم كي يصبح «نفس» الأمة و«نفس» الطبيعة، وإنما كل فرد منكم يود أن يكون تابعا سهلا لفكرة من أفكار المسيحية ، أو رابطة من الروابط الطائفية، أو رجلا من الرجال البارزين. وإنك لو تركت علمك الخاص بالله، وتركت عاطفتك، واتخذت علما ثانويا، كعلم القديس بولس، أو جورج فوكس، أو سودنبرج، بعدت عن الله عاما بعد عام ما دامت هذه الصورة الثانوية، فإذا دامت الصورة - كما هي اليوم - قرونا، فإن الهوة تنفرج إلى حد لا يكاد أن يعتقد الناس معه أن فيهم شيئا إلهيا.
وإني أنصحكم قبل كل شيء أن تسيروا وحدكم، وأن ترفضوا النماذج الطيبة، حتى تلك التي يقدسها الناس في خيالهم، وتشجعوا على محبة الله بغير وسيط أو حجاب. وسوف تجدون من الأصدقاء من يكفي لأن يطلعكم على أمثال وزلي وأوبرلين، والقديسين والأنبياء لكي تقتدوا بهم. اشكروا الله على هؤلاء الرجال الأخيار، ولكن ليقل كل منكم «أنا كذلك إنسان.» إن التقليد لا يمكن أن يرتفع فوق النموذج، والمقلد يحكم على نفسه بضعف لا رجاء فيه، وإنما يخترع المخترع؛ لأن الاختراع لديه طبيعة، ولذا فإن لاختراعه سحرا. أما المقلد فالطبيعي عنده شيء آخر: إنه يحرم نفسه جماله كي يقرب من جمال إنسان آخر.
كل منكم منشد من منشدي الروح القدس ولد حديثا، فلينبذ وراءه كل تقليد، وليعرف الناس مباشرة بالله، وليراع كل منكم أولا ذلك فحسب: إن السائد والمألوف والسلطة والمتعة والمال، ليست له شيء يذكر - ليست ضمادات على أعينكم تمنعكم من النظر - وإنما أريدكم أن تعيشوا مع ميزة العقل الذي لا يحد. ولا يشغلنكم شاغل عن زيارة جميع الأسر، وكل أسرة، في حدود دائرتكم الدينية بين الحين والحين. وعندما يقابل أحدكم رجلا أو امرأة منهم، فليكن له إنسانا مقدسا، وليكن له فكرا وفضيلة. ولتجد الآمال المحدودة لهؤلاء الرجال والنساء لديكم أصدقاء، ولتجد غرائزهم الممتهنة متنفسا طيبا في جوكم. ولتعرف شكوكهم أنكم سبقتموها بالشك، وليشعر إحساسهم بالتعجب أنكم سبقتموه بالعجب. إنكم إن وثقتم في أنفسكم ظفرتم بثقة أكبر في نفوس الآخرين. وبرغم ما عندنا من حكمة في الأمور المادية، وبرغم ما في نفوسنا من استرقاق للعادات يحطم الروح، فإنا لا نشك في أن الناس جميعا لديهم أفكار سامية، وإن الناس جميعا يقدرون ساعات الحياة الحقيقية القليلة حق قدرها. إنهم يحبون أن يسمعوا وأن يشاهدوا وهم يحلمون بالمبادئ. إن المقابلات القليلة التي اجتمعنا فيها - في سنوات موحشة من عمل رتيب وخطيئة - بالأرواح التي جعلت أرواحنا أحكم، والتي عبرت عما كنا نفكر فيه، والتي أخبرتنا بما كنا نعلم، والتي سمحت لنا أن نكون ما كنا في دخيلة أنفسنا، هذه المقابلات نجدها مضيئة في الذاكرة. أدوا للناس واجب القسيس، يتبعوكم - في حضرتكم وغيبتكم - بمحبتهم كالملائكة.
ولتحقيق هذا الغرض ينبغي لنا ألا نهدف إلى مراتب عادية من الجدارة. ألا نستطيع أن نترك - لمن يحب ذلك - الفضيلة التي تلمع لكي تظفر بثناء الجماعة، ونقتحم نحن الأماكن النائية المنعزلة القمينة بالتقدير والجدارة المطلقة؟ ما أيسر أن نبلغ مستوى الخير في الجماعة! وما أرخص الحصول على ثناء الجماعة! ويكاد جميع الناس أن يقنعوا بهذا التقدير الميسور. غير أن أول أثر من آثار الاتصال بالله هو إهمال هذا التقدير. من الناس من لا يمثل ولا يخطب، ولكنه ذو أثر. هؤلاء أعظم من الشهرة ومن الظهور. إنهم يزدردون الفصاحة، وكل ما نسميه الفن والفنانين يبدو لهم شديد الصلة بالمظاهر والأغراض القريبة، وبالمبالغة في كل ما هو محدود وأناني، وبكل ما يفقد الصفة العالمية. إن الخطباء والشعراء والقواد إنما يعتدون علينا كما تعتدي علينا النساء الحسناوات، أي بمقدار ما نتسامح ونخضع. استصغر شأنهم بما لديك مما يشغل العقل. استهن بهم - وإنك لتستطيع ذلك جدا - بالأغراض العالمية العليا، استهن بهم يحسوا توا أنك صاحب حق، وأنه ينبغي لهم أن يضيئوا في الأماكن الدنيا. إنهم يشعرون كذلك بحقك؛ لأنهم وإياك معرضون لفيض الروح العليمة بكل شيء، التي تتبدد أمام ظهيرتها الوهاجة الظلال الضئيلة ودرجات الذكاء المختلفة في المؤلفات التي نحسبها أحكم من غيرها أو أحكم من كل شيء.
Bilinmeyen sayfa
دعنا في مثل هذا الاجتماع الرفيع ندرس السمات الكبرى للاستقامة: هي حب للخير شديد، واستقلال عن الأصدقاء، حتى لا تنقص الرغبات المتعسفة عند أولئك الذين يحبوننا من حريتنا، ولكي نقاوم من أجل الحق تلك الشفقة التي تتدفق بغير حساب، ونناشد عواطف أرقى من هذه العواطف، وكذلك نوع من الامتياز البارز، الامتياز الذي لا يأبه برأي الناس، ولكنه في صميمه وفي ظاهره فضيلة، من المسلم به أنها تخطو الخطوة الصحيحة الجريئة الكريمة دون أن يفكر أحد في الثناء عليها (وهو أسمى صفة نعرف بها هذا العنصر الجميل). إنك تمتدح المهرج إذا قام بعمل طيب، ولكنك لا تثني على الملاك. والصمت الذي نتقبل به جدارة الجدير كأنها أقرب شيء في الدنيا إلى الطبيعة، هو أعلى من كل تصفيق. أمثال هذه الأرواح - عندما تظهر - هي حرس الفضيلة الإمبراطوري، وهي المعين الدائم، هي التي تتحكم في الأقدار. وليس المرء بحاجة إلى الثناء على شجاعتها، فهي قلب الطبيعة وروحها. أيها الأصدقاء، إن لدينا لموارد لم نستغلها، ومن الناس من ينهض منتعشا حينما يستمع إلى تهديد، ومن الناس من تأتيهم الأزمات رشيقة مستحبة كالعروس، وهي الأزمات التي تفزع أكثر الناس وتصيبهم بالشلل؛ لأنها لا تتطلب منهم القدرة على التبصر والتدبر، وإنما تتطلب الإدراك والسكون والاستعداد للتضحية. يقول نابليون عن مسينا إنه لم يكن نفسه حتى بدأت رحى المعركة تدور ضده. وعندما بدأ الموتى يسقطون حوله صفوفا، تيقظت قدرته على الجمع بين الأشياء، فارتدى ثياب الفزع والنصر في آن واحد. وكذلك الحال في الأزمات الوعرة، وفي القدرة على الاحتمال التي لا تكل، وفي الأغراض التي لا تعبأ بالعواطف فتظهر الملاك الخفي. ولكن هذه أمجاد لا نكاد نذكرها أو نتطلع إليها دون ندم أو خجل. ولنحمد الله على وجود هذه الأشياء.
والآن دعنا نبذل ما استطعنا من جهد كي نعيد إشعال النار الخامدة التي أوشكت أن تنطفئ على المذبح. إن مساوئ الكنيسة القائمة الآن ظاهرة. وإنا لنتساءل مرة أخرى: ماذا نصنع؟ إني أعترف أن كل محاولة للتفكير في عبادة جديدة وإقامتها على شعائر وصور جديدة يبدو لي عبثا باطلا. إن الإيمان يصنعنا ولا نصنع الإيمان، والإيمان يصنع صوره الخاصة به. وكل محاولة لاستنباط نظام ما محاولة فاترة فتور العبادة الجديدة التي أوجدها الفرنسيون لإلهة «العقل». إنها اليوم لعب وزينة، ولكنها تنتهي غدا بالجنون والقتل. وخير لكم أن تتنفسوا أنفاس الحياة الجديدة عن طريق الصور القائمة فعلا؛ لأنكم إن دبت فيكم الحياة وجدتم هذه الصور مرنة وجديدة، وعلاج نقائصها هو الروح أولا، والروح ثانيا، والروح في كل حين. إن بابوية بأسرها من الصور تستطيع نبضة واحدة من نبضات الفضيلة أن ترفعها وتحييها. لقد أعطتنا المسيحية ميزتين لا تقدران؛ أولاهما: «اليوم الديني»، وهو بهجة الدنيا بأسرها، التي يشرق ضياؤها فيلقى ترحيبا في برج الفيلسوف كما يلقاه في المصنع أو غرفة السجن، ويوحي في كل مكان - حتى للأدنياء - بكرامة الكائن الروحاني، فليقم هذا اليوم دائما محرابا ترد المحبة الجديدة والإيمان الجديد والمشهد الجديد إليه سناء أبهى من سنائه الأول للبشر. وثانيتهما: فكرة الوعظ، أو حديث المرء للناس. وهو بطبيعته أكثر الأدوات وأكثر الصور مرونة. وماذا يمنعكم اليوم، في كل مكان، فوق المنابر، وفي قاعات المحاضرات، وفي البيوت والحقول، وحيثما ترشدكم دعوة الناس، أو ترشدكم ظروفكم، ماذا يمنعكم من التفوه بالحق الذي تعلمتموه من حياتكم ومن ضمائركم؟ ماذا يمنعكم من تشجيعكم لقلوب الناس المترقبة الواهنة بأمل جديد وكشف جديد؟
إني لأتطلع إلى الساعة التي يتكلم فيها في الغرب كذلك ذلك الجمال العلوي الذي افتتنت به أرواح أولئك الشرقيين، وبخاصة أولئك العبريون، الذين تحدث الأنبياء من خلال شفاههم لكل زمان. إن الكتب المقدسة العبرية والإغريقية تتضمن عبارات خالدة كانت للملايين خبز الحياة. ولكن هذه العبارات ليس لها تكامل الملاحم، متقطعة، لا تبدو للذهن منظمة مرتبة. وإني لأتطلع إلى المعلم الجديد الذي يتابع هذه القوانين المشرقة، حتى يراها كاملة الاستدارة، ويرى جمالها الكامل الشامل، ويرى العالم مرآة الروح، ويرى التطابق بين قانون الجاذبية وطهارة القلب، ويثبت أن ما ينبغي أن يكون، أو الواجب، هو والعلم والجمال والسرور شيء واحد.
المقالات: المجموعة الأولى
(نشر أمرسن كتابه الثاني في عام 1841م. ولقد صدر بعد ذلك مباشرة تقريبا في إنجلترا بمقدمة لكارليل. وأكثر المقالات يتألف من محاضرات ألقاها أمرسن في أماكن متنوعة خلال السنوات السابقة.)
التاريخ
ليس هناك كبير أو صغير،
عند الروح التي تصنع كل شيء،
والتي حيثما تحل، تكون جميع الأشياء،
وإنها لتحل في كل مكان. •••
Bilinmeyen sayfa
أنا مالك الكرة الأرضية،
ومالك النجوم السبعة والسنة الشمسية،
ومالك يد قيصر، وذهن أفلاطون،
ومالك قلب السيد المسيح، ولحن شكسبير.
للناس جميعا عقل واحد مشترك. وكل فرد منفذ لهذا العقل، وله كله. ومن يعط القدرة على التفكير يصبح مالكا حرا لضيعة العقل كلها. فما فكر فيه أفلاطون يستطيع أن يفكر فيه، وما أحس به أي قديس يستطيع أن يحس به. وما حدث لأي إنسان في أي وقت يستطيع أن يدركه. من يصل إلى هذا العقل العالمي يكن شريكا في كل ما يعمل أو يمكن أن يعمل؛ لأن ذلك هو العامل الوحيد الذي يسود.
والتاريخ سجل لأعمال هذا العقل. ولا تظهر قيمته إلا من سلسلة الأيام كلها. ولا يمكن تفسير الإنسان بأقل من التاريخ بأسره. إن الروح الإنسان تسير قدما في غير عجلة وغير ركود من البداية لكي تضم إليها كل موهبة وكل فكرة وعاطفة تخصها، في حوادث ملائمة. غير أن الفكرة تسبق الواقع دائما، وكل وقائع التاريخ سبق وجودها في العقل على صورة قوانين. وكل قانون بدوره تجعله الظروف سائدا، وحدود الطبيعة لا تعطي القوة إلا لقانون واحد في الوقت الواحد. والإنسان هو موسوعة المعارف كلها. وإنك لواجد خلق ألف غابة في ثمرة واحدة من ثمار البلوط. وقد كانت مصر واليونان وروما وبلاد الغال وبريطانيا وأمريكا مطوية في الإنسان الأول.
هذا العقل البشري دون التاريخ، وهو الذي لا بد أن يقرأه، وعلى أبي الهول أن يحل لغز نفسه. وإذا كان التاريخ كله في إنسان واحد فإن التجربة الفردية تفسره كله. وهناك علاقة بين ساعات حياتنا وقرون الزمان. وكما أن الهواء الذي أستنشقه ينسحب من مستودعات الطبيعة العظمى، وكما أن الضوء الذي يسطع فوق كتابي يصدر عن نجم يبعد ألف مليون من الأميال، وكما أن وضع جسمي يعتمد على اتزان القوى الطاردة والقوة الجاذبة، فكذلك الساعات ينبغي أن تتعلم من العصور، والعصور تفسرها الساعات. وكل فرد صورة مجسدة جديدة للعقل العالمي. تتركز فيه كل خواص هذا العقل. وكل حقيقة جديدة في خبرته الخاصة تلقي ضوءا على ما قامت به جماعات كبرى من الناس. وأزمات حياته تشير إلى الأزمات القومية. وقد كانت كل ثورة في مبدأ أمرها فكرة في عقل فرد واحد، فإذا ما طرأت الفكرة عينها لفرد آخر فهي مفتاح ذلك العصر. وكل إصلاح كان فيما سبق فكرة خاصة، فإذا ما أصبح فكرة خاصة مرة أخرى، فإنه يحل مشكلة العصر. والحقيقة التي تروى ينبغي أن تقابل في نفسي شيئا لكي يمكن تصديقها وفهمها. وينبغي لنا حين نقرأ أن نصبح من اليونان أو الرومان أو الأتراك، وأن نصبح من القسيسين والملوك، ومن الشهداء والقاتلين. ينبغي لنا أن نربط هذه الصور بحقيقة من الحقائق في خبرتنا الخفية، وإلا ما تعلمنا شيئا حق العلم. إن ما حل بأسدربال أو قيصر بورجيا، يفسر قوى العقل وفساده كما يفسرهما ما حل بنا. كل قانون جديد وكل حركة سياسية، لها لديك معنى. قف أمام كل لوحة من لوحاتها وقل: «تحت هذا القناع أخفت طبيعتي المتغيرة نفسها.» وفي ذلك علاج للنقص الذي نعانيه من اقترابنا الشديد من أنفسنا، وهو يلقي بأعمالنا في حدود المنظور. وكما أن السرطان والحمل والعقارب والميزان ووعاء الماء تفقد وضاعتها عندما تعلق بدائرة البروج، فإني كذلك أستطيع أن أرى آثامي بغير حرارة في أشخاص سليمان والسبيادس وكاتلاين الأقدمين.
هي الطبيعة المطلقة التي تكسب الأفراد والأشياء قيمتها. والحياة الإنسانية التي تحتوي على ذلك لغز ولا يمكن اقتحامها، ونحن نحيطها بالعقوبات والقوانين. ومن ذلك تستمد جميع القوانين السبب في وجودها، وكلها تعبر بدرجات مختلفة من الوضوح عن سلطانها على هذه الأرواح العليا التي لا تحد. والملكية كذلك تستولي على الروح، وتشمل حقائق روحية عظمى، ونحن بالغريزة في مبدأ الأمر نتمسك بها بحد السيف والقانون وباتحادات واسعة معقدة. والإحساس الغامض بهذه الحقيقة هو ضياء يومنا كله، وأقصى أمانينا. هو ذريعتنا للتربية والعدالة والإحسان، وأساس الصداقة والمحبة، والبطولة والعظمة التي تتعلق بالأعمال التي تتصل بالاعتماد على النفس. ومما يستلفت النظر أننا - رغم إرادتنا - نطالع دائما باعتبارنا كائنات عليا؛ فالتاريخ العالمي، والشعراء، وكتاب القصص الخيالية، في أفخم صورة لهم - في الكهنوت وفي قصور الملوك، وفي انتصار الإرادة أو العبقرية - لا تعدم منا آذانا مصغية في أي مكان، ولا تجعلنا في أي مكان نحس أننا دخلاء، وإن ذلك من شأن رجال أحسن منا، بل إنه لمن الحق أننا نحس بأقصى الطمأنينة إزاء أعظم ما أبدعت قرائحهم. كل ما يقوله شكسبير عن ملك من الملوك يحس مدى صدقه على نفسه ذلك الصبي المغمور الذي يقرأ في إحدى الزوايا. وإننا لنعطف على لحظات التاريخ الكبرى، والكشوف العظمى، وكل مقاومة عنيفة، والخصائص الكبرى للرجال؛ لأنه - في هذه الحالة أو تلك - قد نفذ قانون، أو جرى البحث في محيط، أو وجدت أرض، أو ضربت من أجلنا ضربة، كما لو كنا نحن أنفسنا - أو شجعنا على ذلك - في هذا الموقف.
وإنا لنهتم هذا الاهتمام عينه بالأحوال والأشخاص. نكرم الغني؛ لأنه يملك في ظاهره الحرية والنفوذ والجلال التي نشعر بملاءمتها للإنسان وملاءمتها لنا أيضا. ولذا فإن كل ما يضفيه رواقي أو كاتب مقال شرقي أو حديث على «الرجل الحكيم» إنما يصف لكل قارئ آراءه الخاصة، ويصف له نفسه التي يمكن تحقيقها ولكنه لم يحققها بعد. والأدب كله إنما يكتب شخصية الرجل الحكيم. وليست الكتب والآثار والصور والأحاديث سوى رسوم يجد فيها القارئ الملامح التي تكون نفسه. الصامت والمفصح يثني عليه ويناديه، وحيثما انتقل تنبهه الإشارات الشخصية. ولذا فإن الطموح الصادق ليس بحاجة إلى التماس الإشارات الشخصية التي تتضمن التمجيد في الحديث؛ فهو يستمع إلى الثناء المستطاب على تلك الشخصية التي يبحث عنها - لا على نفسه - في كل كلمة تقال بشأن الشخصية، بل أكثر من ذلك في كل حقيقة وكل ظرف، في النهر الجاري وفي حفيف نبات القمح. من الطبيعة الصامتة، ومن الجبال ومن أنوار السموات يشاهد الثناء، ويقدم الولاء، ويفيض الحب.
هذه الإشارات، التي كأنها تساقطت من النوم ومن الليل، دعنا نستخدمها في وضح النهار. ينبغي للطالب أن يقرأ التاريخ قراءة إيجابية لا سلبية، وينبغي له أن يقدر حياته متنا، والكتب شرحا. فتجد آلهة التاريخ نفسها مرغمة على النطق بالكلام المقدس، وهي لا تفعل ذلك البتة لأولئك الذين لا يقدرون أنفسهم. ولست آمل أن يقرأ التاريخ قراءة صحيحة رجل يحسب أن ما فعله في عصر بعيد رجال رن صيتهم في الآفاق له معنى أعمق مما يفعل هو اليوم.
Bilinmeyen sayfa
إنما الدنيا قائمة لتعليم كل إنسان، وليس هناك عصر أو حالة من حالات المجتمع أو أسلوب من أساليب العمل في التاريخ، لا يناظره شيء في حياته. كل شيء يميل بشكل عجيب أن يختصر نفسه ويقدم فضيلته إليه. وعليه أن يدرك أنه يستطيع أن يعيش التاريخ كله في شخصه. وينبغي له أن يبقى في وطنه صلبا، ولا يجشم نفسه مشقة التعرض لاستبداد الملوك والإمبراطوريات، وإنما يعرف أنه أعظم من بلدان الدنيا كلها وحكوماتها. يجب أن ينقل وجهة النظر التي منها يقرأ التاريخ عادة، من روما وأثينا ولندن إلى نفسه، ولا ينكر اعتقاده أنه الحكم، وإذا كانت إنجلترا أو مصر لتقول له شيئا، فليتدبره، وإذا لما تذكرا له شيئا، فليبقيا إلى الأبد صامتين. يجب أن يبلغ ذلك المشهد المرتفع حيث تقدم الحقائق مغزاها الخفي، وحيث يكون الشعر والتاريخ سواء، ثم يثبت هناك. هذه الغريزة من غرائز العقل، وهي الهدف الذي ترمي إليه الطبيعة، تكشف عن نفسها في انتفاعنا بروايات التاريخ الأساسية. إن الزمن يحول الحقائق ذات الاتجاه الواحد الثابت إلى أثير مشرق. ولا تجدي المراسي والحبال والأسوار في إبقاء الحقائق حقائق؛ فها هي ذي بابل وطروادة وصور وفلسطين بل وروما في عهدها الأول تتحول إلى خيال. وجنة عدن، والشمس الساكنة في جبيون، هي منذ اليوم شعر عند جميع الأمم. من ذا الذي يهمه ما كانت الحقيقة عليه، بعد أن جعلنا منها مجموعة نجمية معلقة في السماء شارة خالدة؟ ولا بد أن تسير لندن وباريس ونيويورك في نفس الطريق. قال نابليون: «ليس التاريخ سوى أسطورة اتفقنا عليها.» إن حياتنا الراهنة لتلتصق بمصر واليونان وبلاد الغال وإنجلترا، وبالحروب والاستعمار والكنيسة والبلاط والتجارة، كما تلتصق بكثير من الزهور وزخارف الطبيعة الرزينة والمرحة. ولن أبسطها أكثر من ذلك؛ فإني أعتقد في الخلود، وإني لأستطيع أن أجد في ذهني اليونان وآسيا وإيطاليا وإسبانيا والجزر، وأن أجد فيه عبقرية كل عصر (بل وجميع العصور)، وما يتميز به من أسس الخلق والإبداع.
إننا نلتقي دائما بحقائق التاريخ المؤكدة في تجاربنا الخاصة، ونتحقق من صدقها هنا. ويصبح التاريخ كله ذاتيا، أو بعبارة أخرى ليس هناك تاريخ ثابت، إنما هناك سير فحسب. وكل عقل ينبغي له أن يعرف الدرس كله لنفسه، وينبغي له أن يطوف الأرض كلها. ما لا يراه وما لا يحياه لا يعرفه. وما لخصه العصر السابق في صيغة أو قاعدة لسهولة التناول، يفقد العقل ميزة تحقيقه لنفسه بسبب الحائل الذي تقيمه هذه القاعدة. وفي مكان ما وفي وقت ما يتطلب العقل، ويجد عوضا عن هذه الخسارة بأدائه العمل بنفسه. لقد اكتشف فرجوسن في الفلك أشياء كثيرة كانت معروفة من زمان قديم، وأفاد من ذلك.
التاريخ إما أن يكون ذلك أو لا يكون شيئا. كل قانون تنفذه الدولة يشير إلى حقيقة في الطبيعة البشرية، وهذا هو كل شيء. يجب أن نرى في أنفسنا الباعث الحقيقي لكل واقعة، نرى كيف يمكن أن تكون وكيف ينبغي أن تكون. هكذا يجب أن نجابه كل عمل عام أو خاص، وأن نجابه خطابة بيرك، وانتصار نابليون، واستشهاد سير توماس مور، وسدني، ومار مديوك روبنسن، وأن نجابه حكم الإرهاب في فرنسا، وشنق الساحرات في سالم، وتعصب حركة الإحياء، والتنويم المغناطيسي في باريس، أو في أمريكا. إننا نفرض أننا تحت تأثير مشابه لهذا نتأثر تأثيرا مشابها، ونقوم بعمل مشابه، ونهدف إلى أن نسيطر على الخطوات التي خطاها زميل أو قريب لنا، ونبلغ ما بلغ من رفعة أو انحطاط.
كل بحث في القديم، كل تشوق إلى معرفة الأهرام، وحفريات المدن، وستونهنج، ودوائر أوهيو والمكسيك وممفيس، ينبغي أن ينتهي بالاستغناء عن المكان والزمان البعيدين بما يتصفان به من همجية وتوحش واستحالة، ليحل محلهما المكان والزمان القريبان. إن بلزوني يحفر ويقيس قبور المومياء والأهرام في طيبة حتى يرى غاية الفرق بين هذا العمل الهائل وبين نفسه، فإذا ما أقنع نفسه عموما وتفصيلا أن ذلك العمل العظيم قام به شخص مثله، بمثل سلاحه ودوافعه، ولأغراض كان ينبغي له هو نفسه كذلك أن يعمل لها، حلت المشكلة، فتعيش أفكاره بين صفوف المعابد وآباء الهول والسراديب جميعا، وتمر بهم كلهم راضية مرضية، وهذه الأشياء تحيا مرة أخرى في العقل، أو تصبح حاضرا بعد ماضيها.
إن الكاتدرائية الغوطية لتؤكد أننا نحن الذين شيدناها، ونحن الذين كذلك لم نشيدها، لا شك أنها من صنع الإنسان، ولكنا لا نجدها في إنساننا. ولكنا نطابق بين أنفسنا وبين تاريخ إنشائها، ونضع أنفسنا مكان منشئها وفي حالته. إننا نذكر ساكني الغابات، والمعابد الأولى، وكيف كان النموذج الأولي، وزخرفته، كلما زادت ثروة الأمة. إن القيمة التي يكتسبها الخشب بالنقش أدت إلى نحت كتدرائية في جبل بأسره من الحجر. وبعدما نمر بهذه العملية، ونضيف إليها الكنيسة الكاثوليكية، بصليبها، وموسيقاها، ومواكبها، وأعياد قديسيها وعبادتها الصور، نمسي كأننا الرجل الذي نصب القسيس، وندرك كيف يمكن أن تكون الأمور وكيف ينبغي أن تكون، ويصبح لدينا الإدراك الكافي.
وإنما يفترق إنسان عن إنسان في القاعدة التي يسير عليها في ربط الأشياء. بعض الناس يصنفون الأشياء بلونها وحجمها وغير ذلك من العرض الظاهر. وبعضهم الآخر يصنفها بما بينها من تشابه ذاتي، أو بالعلاقة بين الأسباب والنتائج. ويتقدم الذهن نحو زيادة الوضوح في رؤيا الأسباب، بحيث تهمل الفوارق السطحية؛ فالأشياء كلها ودية ومقدسة، والأحداث كلها نافعة، والأيام كلها مقدسة، والرجال كلهم قديسون، في نظر الشاعر والفيلسوف والقديس ؛ لأن العين تحدق في الحياة، وتهمل الأعراض. إن كل مادة كيمائية وكل نبات، وكل حيوان في نموه، يعلمنا وحدة الجوهر، وتنوع المظهر .
ولما كانت هذه الطبيعة التي تبتدع كل شيء تحملنا وتحيط بنا، فتسبغ علينا لينا وسيولة تجعلنا كالسحاب أو كالهواء، فلماذا نكون متحذلقين جامدين، فنكبر صورا محدودة؟ ولماذا نأبه للزمان، أو للعظمة أو لأي شكل من الأشكال؟! إن الروح لا تعرف هذه الأشياء، والعبقرية التي تخضع لقانونها الذاتي تعرف كيف تتلاعب بها كما يلعب الطفل بالأواني الخزفية وفي الكنائس. العبقرية تدرس الفكر المسبب، وترى - في أصول الأشياء السحيقة - الأشعة التي تصدر عن أحد الأجرام الشمسية، فتتفرق إلى خطوط لا حصر لها قبل سقوطها. العبقرية ترقب الجوهر الفردي الحي في كل صورة يتقنع فيها. العبقرية تكشف في الذبابة وفي الفراشة وفي الدودة وفي البيضة الفرد الثابت. وترى خلال الأفراد العديدين النوع الثابت، وخلال الأنواع الكثيرة الأجناس، وخلال جميع الأجناس الأصل الثابت، وخلال جميع ممالك الحياة المنظمة الوحدة الخالدة. الطبيعة سحابة متقلبة، هي دائما نفسها - وليست بعينها - إنها تصب الفكرة الواحدة في صور عديدة، كما يخلق الشاعر عشرين أسطورة لها مغزى واحد. إن الروح الرقيقة تخضع كل شيء لإرادتها خلال المادة الجامدة، والحجر الصلب يتشكل أمام الروح في صورة لينة ولكنها محددة، غير أن شكله وتكوينه يتغيران مرة أخرى أثناء نظري إليه. ليس هناك شيء سريع الزوال كالصورة، وهي مع ذلك لا تنكر نفسها أبدا كل الإنكار. وفي الإنسان ما زلنا نتلمس البقايا والإشارات لكل ما نحسبه من سمات العبودية في الأجناس الدنيا. ومع ذلك فهذه البقايا وتلك الإشارات تحفز ما لديه من نبل وجلال، كقصة أيو عند أيسكلس التي تحولت إلى بقرة فأساءت إلى الخيال، ولكن كيف تبدلت الحال عندما اتخذت شكل إيزيس في مصر والتقت بأوزيريس-جوف، على هيئة امرأة جميلة، ولم تبق لديها من دلائل التحول سوى القرون القمرية تزين جبينها زينة فاخرة!
إن تشابه حوادث التاريخ هو - كهذه القصة - من طبيعة التاريخ، وكذلك تنوعها واضح وضوحه فيها . هناك في الظاهر تنوع للأشياء لا حصر له، وفي الجوهر بساطة في الأسباب. كم من أعمال الرجل الواحد ما تتبين فيها نفس شخصيته! لاحظ مظاهر علمنا بالعبقرية اليونانية. لدينا التاريخ المدني لهذا الشعب، كما قدمه لنا هيرودوت، وثيوسيديد، وزنفون، وفلوطارخس. وهو دليل كاف على نوع أفراد هذا الشعب وعلى ما فعلوا. ولدينا كذلك عقلهم القومي عينه كما عبرت عنه آدابهم مرة أخرى، في شعر الملاحم والشعر الغنائي، والتمثيليات، والفلسفة، وإنها لصورة كاملة. وهو لدينا مرة أخرى كذلك في فن النحت، وهو «لسان يوشك أن ينطق». صور متعددة في أقصى حرية للحركة، ولا تجاوز البتة الهدوء المثالي، كأنها أصحاب نذور يؤدون رقصة دينية أمام الآلهة، وبرغم ما يكابدون من ألم ممض أو قتال مميت، لا يجرءون بتاتا أن يخرجوا على شكل الرقص وذوقه. وهكذا فإن لدينا أربعة أشكال تتمثل فيها عبقرية شعب واحد مجيد، وما أبعد التشابه لدى الحواس بين أنشودة لبندار، أو تمثال مرمري لقنطروس الحيوان الخرافي، ودهليز في البارثنون، وآخر عمل من أعمال فوسيون؟
كل منا شاهد وجوها وأشكالا تترك في الرائي أثرا متشابها دون أي تشابه في ملامحها. إن صورة من الصور، أو مقطوعة من الشعر المنظوم، قد لا يبعثان نفس السلسلة من الخيالات التي تبعثها مشية وحشية جبلية، ولكنهما تبعثان ما تبعثها المشية من عاطفة، بالرغم من أن التشابه لا يتجلى للحواس على أية صورة من الصور، ولكنه خفي لا تدركه الأفهام. الطبيعة مزيج وتكرار لا حصر له لبضعة قوانين. وهي تتغنى بالأنشودة القديمة المعروفة، في أنغام لا يحصرها العد.
الطبيعة ملأى بالتشابه العائلي السامي في كل عمل من أعمالها، ويسرها أن تفجأنا بالتشابه في نواح لا نتوقع فيها التشابه بتاتا. رأيت رأس شيخ كبير لإحدى القبائل الهندية الأمريكية في الغابات، فذكرني في الحال بقمة جبلية جرداء، وذكرتني أخاديد الجبهة بطبقات الصخر، وهناك أناس لآدابهم نفس الأبهة التي تظهر على التمثال البسيط الرائع القائم على أفريز البارثنون، وعلى آثار الفن الإغريقي القديم. وهناك من المؤلفات ما له نفس القوة التي كانت في كتب العصور السالفة جميعا. ليس رسبجليوزي أورورا لجيدو سوى فكرة صباحية، وليس الخيل فيها سوى سحابة من سحب الصباح. ولو أن أي إنسان جشم نفسه مشقة ملاحظة الأعمال المتنوعة التي يميل إليها في بعض حالات العقل، وتلك الأعمال التي ينفر منها بنفس الدرجة؛ لأدرك عمق صلة القرابة بينهما.
Bilinmeyen sayfa