هناك رجل عبقري واحد أدى خدمة كبرى لفلسفة الحياة هذه، ولم تقدر بعد تقديرا صحيحا القيمة الأديبة لهذا الرجل، ذلك هو عمانويل سودنبرج.
1
كان أبعد الناس خيالا، ومع ذلك فقد كان يكتب بدقة العالم الرياضي، محاولا أن يطبع المسيحية الشائعة في عصره بطابع قواعد الأخلاق الفلسفية الخالصة. ومثل هذه المحاولة لا بد لها - بطبيعة الحال - من أن تلقى صعوبة لا يستطيع التغلب عليها أي عبقري. ولكنه رأى العلاقة بين الطبيعة وصلات النفس وأطلعنا عليها. لقد اخترق الصفة الرمزية أو الصفة الروحية للكلمة المرئية والمسموعة والمحسوسة. وكان شيطانه في الشعر الذي يحب الظلال، يحلق خاصة فوق أجزاء الطبيعة السفلى ويفسرها. وأظهر الرابطة العجيبة التي تصل ما بين الشر الخلقي والصور المادية الدنيئة. وقدم لنا في تشبيهات من شعره القصصي نظرية عن ضعف العقل، وعن الوحوش، وعن الأشياء الدنيئة المفزعة.
وعلامة أخرى من علامات العصر الذي نعيش فيه، تتميز كذلك بحركة سياسية مشابهة، هي الأهمية الجديدة التي أعطيت للفرد، وكل ما يرمي إلى عزلة الفرد، وإحاطته بحواجز الاحترام الطبيعي، حتى يحس كل فرد أن الدنيا له، ويعامل الإنسان أخاه الإنسان كما تعامل الدولة ذات السيادة دولة أخرى ذات سيادة، يرمي كذلك إلى الوحدة الحقيقية، وإلى العظمة. يقول بستالوزي ذلك الرجل المكتئب: «عرفت أن ليس هناك إنسان في دنيا الله الواسعة هذه يحب أو يستطيع أن يعين إنسانا آخر.» إن العون لا بد أن يأتي من صميم القلب وحده. والعالم هو ذلك الرجل الذي يجب عليه أن يتقمص في شخصه كل ما في عصره من قدرة، وكل ما وهبه لنا الماضي، وآمال المستقبل. يجب أن يكون جامعة من المعارف. وإن كان هناك درس يجب أن يطرق أذنه أكثر من غيره فذلك هو: «إن الدنيا لا شيء، والإنسان كل شيء.» ففي نفس الإنسان قانون الطبيعة كلها، وأنتم لا تدركون بعد كيف ترتفع فقاعة الماء، وفي نفس الإنسان يرقد العقل كله، فعليكم أن تعرفوا كل شيء، وعليكم أن تقتحموا كل شيء.
سيدي الرئيس، سادتي:
إن هذه الثقة في قوة الإنسان التي لم تبحث بعد تخص العالم الأمريكي، بكل دوافعها وكل ما تبشر به وكل استعداد لديها. لقد استمعنا طويلا إلى آلهة الشعر الأوروبية الظريفة، ووصمنا روح الرجل الحر الأمريكي بالجبن والتقليد والاستئناس. إن الشراهة العامة والخاصة لتجعل الهواء الذي نتنفسه كثيفا غليظا. والعالم رقيق متراخ لطيف. فانظر إلى العواقب الوخيمة. إن عقل هذا البلد - الذي تعلم أن يهدف إلى الوضيع من الأمور - ليأكل بعضه بعضا. ليس هناك عمل إلا للخانع القانع. أما الشبان الذين نتوقع منهم أحسن الرجال، والذين يبدءون الحياة على شواطئنا منتفخين برياح الجبال، تسطع عليهم كل نجوم الآلهة، فإنهم لا يجدون الأرض تحتهم متفقة مع هذه الأشياء، فيعوقهم عن العمل نفور من المبادئ التي تسير عليها الأعمال، فينقلبون عمالا كادحين، أو يموتون من النفور، وبعضهم يقضي نحبه انتحارا. وماذا عسى أن يكون العلاج؟ إنهم لم يروا بعد، ولا يرى كذلك ألوف الشباب المتفائلين مثلهم والمتزاحمين الآن حول الحواجز التي تقف في سبيل مستقبلهم، لم يروا أن الفرد إذا ركن إلى غرائزه ركونا راسخا، وتمسك بها، فإن الدنيا العريضة سوف تنقاد له. صبرا، صبرا، والتمسوا الصحبة في ظلال الخير والعظمة، والعزاء فيما يتراءى أمام حياتكم التي لا تنتهي، والعمل في دراسة المبادئ ونقلها إلى الناس، وفي سيادة هذه الغرائز، وفي هداية العالم. أليس أكبر عار في الدنيا ألا يكون الفرد وحدة، وألا يعد شخصا، وألا يثمر تلك الثمرة الخاصة التي خلق كل إنسان ليثمرها، إنما يحسب في المجموع، في المئات، أو الآلاف أو الحزب أو الفريق الذي ينتمي إليه، وإن يمكن التنبؤ برأي الفرد منا جغرافيا، فيقال إنه من الشمال أو من الجنوب؟ لا تكونوا كذلك، إخواني وأصدقائي، اللهم لا تجعلنا كذلك. إنما نريد أن نمشي على أقدامنا، وأن نعمل بأيدينا، وأن نعبر عما يجول في خواطرنا. ولن تكون دراسة الآداب بعد اليوم مدعاة للإشفاق، وللشك، ولمتعة الحواس. ولسوف تكون رهبة الإنسان ومحبته سورا للدفاع وإكليلا من البهجة يكلل هامات الجميع. ولسوف توجد لأول مرة أمة من الرجال؛ لأن كل فرد يعتقد أنه ملهم من الروح المقدس الذي يلهم كذلك الناس جميعا.
خطاب
(ألقي هذا الخطاب أمام الفرقة العليا في مدرسة هارفارد للاهوت في مساء يوم الأحد، 15 يوليو من عام 1838م. وكان أمرسن قد دعي لإلقائه لا من موظفي المدرسة، ولكن من طلبة الفرقة العليا. وقد اعترض كثير من رجال الدين على ما جاء بهذا الخطاب، حتى إن موظفي المدرسة قد تنصلوا علنا من تبعته. وانقضى زهاء الثلاثين عاما قبل أن يدعى أمرسن مرة أخرى للخطابة في هارفارد.)
إنها لنعمة في هذا الصيف المتلألئ أن يستنشق المرء أنفاس الحياة؛ فالعشب ينمو وبراعم الأزهار تتفتح، والمراعي مرقشة بألوان الزهور النارية والذهبية. والهواء يموج بالطير، ويحلو برائحة الصنوبر وريحان جيلعاد والبرسيم الجاف الجديد. والليل لا يبعث في القلب الكآبة بظلاله التي ترحب بها النفوس. وخلال الظلام الشفاف ترسل النجوم أشعتها التي تكاد أن تكون روحانية. وإن الإنسان ليبدو تحت هذه النجوم كأنه طفل صغير وكرته الأرضية ألعوبة، والليل البارد يرطب الدنيا كأنه نهر، ويعد العيون مرة أخرى للفجر القرمزي. إن لغز الطبيعة لم يبد قبل اليوم أكثر من ذلك سعادة؛ فلقد نالت المخلوقات جميعا ما شاءت من حنطة ونبيذ، والصمت الذي لا يشق والذي لازمته الوفرة من قديم لم يقدم حتى الآن كلمة من كلمات التفسير. وإن المرء ليكره على تبجيل كمال هذا العالم الذي تتناجى فيه حواسنا. ما أفسحه، وما أغناه، وأية دعوة من كل خاصة من خواصه يقدمها لكل موهبة من مواهب العقل الإنساني! إن العالم في تربته المثمرة، وفي بحره الصالح للملاحة، وفي جباله المعدنية والحجرية، وفي غاباته وأحراشه، وفي حيواناته، وفي أجزائه الكيميائية، وفي قوى الضوء ومسيره، والحرارة، والجاذبية والحياة، إن العالم في كل ذلك قمين بأفئدة عظماء الرجال وقلوبهم يخضعونه ويستمتعون به. وإن التاريخ ليسره أن يكرم المزارعين والميكانيكيين والمخترعين والفلكيين، ومشيدي المدن والقواد.
ولكن عندما يتفتح العقل ويكشف عن القوانين التي تسير في العالم وتجعل الأشياء كما هي، حينئذ تتضاءل الدنيا العظيمة فورا إلى رسم أو أسطورة من أساطير العقل. إن الروح الإنساني ليتساءل في لهفة إلى المعرفة لا ينطفئ أوارها: «ماذا عساي أن أكون؟ وما هو الكائن؟» انظر إلى هذه القوانين السباقة، التي يستطيع إدراكنا الناقص أن يراها تميل في هذا الاتجاه أو ذاك، ولكنه لا يراها كاملة الاستدارة، أنظرة إلى هذه العلاقات التي لا حصر لها، تتشابه مرة، وتختلف أخرى؟ ما أكثرها، ولكنها واحدة! وإني لأحب أن أدرس، وأحب أن أعرف، وأحب أن أعجب دائما. إن أعمال العقل هذه كانت في كل العصور تسلية الروح البشري.
Bilinmeyen sayfa