وما يدور في فلكها من الكلام على الأطعمة والمشارب، تخلصا إلى الندماء ومجالس اللهو والغناء، انعطافا إلى مراتع الوجدان في دائرة الغزل والهوى والعشق، دون أن يسقط من ثنايا كتابه فضيلة الشجاعة وما كان يدور في فلكها من مواقف الحرب والصلح والثأر ودفع الديات عند العرب، معرّجا إلى موضوع الزواج وحيثيّاته وسياسة الرجل المرأة ومسائل الغيرة والطلاق.
ويستكمل الراغب فيما تبقى من هاتيك الحدود كلّ ما يمسّ واقع الإنسان في بيته وديانته فيتحدث عن الرياش والملابس والعبادات ويخوض في مسائل العقيدة فيشتمل عرضه على قضايا الإيمان والزهد والتصوف والنبوّة مرورا بالإسلام والقرآن وأسباب التنزيل.
ويتبع شؤون الحياة بالكلام على الموت، ويجول عبر الزمان والمكان فيلوّن كتابه بزخارف شيّقة تنساب عبر فصول الطبيعة ونباتها وأزاهرها وحيوانها من وحش وطير وهوام، ثم تراه يذهب بعيدا فيحدث عن الأفلاك والنجوم والسحب انتهاء إلى جملة من النوادر والحكم.
فكتاب «المحاضرات» وجه يكاد يكون فريدا في بابه بين كتب الطرائف والحكايات، لأنه يمتاز بالشمولية والعمق وتلفّه روح العلم وتهيمن عليه هواطل من معطيات الوجدان والعقل. إنّه بحقّ سفر جامع بين الجدّ واللهو والأخبار والملح الأدبية وكأن الراغب يحدّد به صفات النديم وثقافته إذ يقول:
«ومن لا يتحلّى في مجلس اللهو إلا بمعرفة اللغة والنحو كان من الحصر صورة ممثلة أو بهيمة مهملة. ومن لا يتتبع طرفا من الفضائل المخلدة على ألسنة الأوائل كان ناقص العقل. فالعقل نوعان: مطبوع ومسموع، ولا يصح أحدهما إلا بالآخر» .
وكأني بكتاب المحاضرات كما أراده الراغب، قمة أدب المؤانسة والمجالسة حتى عصره وفي ضوئه وضع شهاب الدين الأبشيهي كتابه «المستطرف في كل فن مستظرف» وفي بابه نجد «طرف الألباب وتحف الأحباب» لليافعي و«طرف المجالسة وملح المؤانسة» لابن المرابط وعشرات التصانيف المماثلة.
والكتاب فضلا عمّا تقدّم معرض فكري شيّق لم يدع مفردة من مفردات الواقع الإنساني، إلا تتبعه في دواوين الشعراء وكتب الأمثال وخواطر الحكماء والأدباء، وهو يتميّز بالطلاوة والإيجاز والبعد عن الهذر، مع أمانة في العرض، وروح واقعية، تجعله في منأى عن أي إسفاف أو تبذل، وبعيدا أيضا عن التلفيق أو التصنع فهو لا يتستر على عيب، ولا يتردد في سوق الشواهد على ما فيها أحيانا من الركة أو السخرية أو الابتذال والبذاءة، ما دامت ترمي إلى الإمتاع والمصارحة والمكاشفة.
1 / 11