هنا دارت مناقشة خرجت بنا عن موضوعنا الأول أساسها ما لو كان الحق واحدا أو متعددا، وقد آثرت أن أنقل منها ما يأتي:
ع. ف :
لا شك في أن الحق واحد، ولا يعقل مطلقا أن يكون متعددا خصوصا متى تعلق هذا التعدد برأيين متضادين، بل هو دائما وفي كل مسألة الكلمة العليا الخالدة ابتدأت من الأزل وتنتهي في الأبد.
أ.ك :
هذا الكلام جميل وبقي مصدقا عصورا طويلة من الزمان، ولكن هذه العصور نفسها هي التي أظهرت لنا أن الحق يتغير من جيل لجيل ويظهر كل وقت في ثوب جديد، واختلاف الأمكنة أيضا يبرهن على ما أقول بمقدار ما يبرهن عليه تعاقب الأزمنة، أنتم مصريون مسلمون ونحن فرنساويون مسيحيون، هذا الاختلاف بيننا في المكان والجنس جعلنا نختلف في حقائق وقائع تاريخية محسوسة كمسألة صلب المسيح، كما أن بعض الأعمال الحسنة عندنا تستهجن عندكم لآخر درجة، فهل هي حقيقة تستحق الاستهجان أو الاستحسان، وفي بلدنا قوم أصحاب مذاهب متضادة وهم لا شك يقيمون مذاهبهم على أسس علمية معقولة، أفتقدر أن تحكم حتما بأن أحدهم مخطئ وأن الآخر مصيب. ... لكل منا نظر للحوادث مخصوص، فهو يتأثر بإحدى جهاتها أكثر مما يتأثر بجهة أخرى في حين يقوم دليل الثاني على إثر تأثر مختلف في جهاته، كما أن كثيرا من الحوادث غير المحددة تماما يدخل في تقدير ما نسميه نحن بالحقائق، ويجيء من ذلك من غير شك الاختلاف في النتيجة في حين أن الواحد من الشخصين نظر للوقائع بعينه كما نظر لها الثاني بعينه، وإذن فغاية ما يمكن أن نقوله أن الصواب المحض والخطأ المحض مستحيلان على الأراضي. ... ممكن أن تكون هناك حقيقة كبيرة أزلية خالدة، ولكن هذه هي ما لم يصل إليه بنو آدم وما لن يصلوا إليه فيما أعتقد؛ لأنها إن كانت فهي ناتجة عن ملاحظة كل ما في الكون من عوالم وحوادث وقوى ظاهرة وكامنة وعن كل ذرة من الذرات التي وجدت، والموجودة في العالم أيا كان شكلها وماهيتها، ولقد صرف الناس همهم من أول التاريخ إلى يومنا هذا يريدون الوصول إلى هذه الحقيقة العظيمة، وظنوا، ويظنون أنهم وصلوا إليها، ولكنهم لا يكادون يقيمون على ما حسبوه الحقيقة يوما حتى يأتيهم الغد بشكوك فيها تقيمهم من جديد على قدم، ومهما نكن قد اكتشفنا من الوقائع ومهما ظهر لنا من ملاحظة الحوادث فإنا لا نستطيع أن نجزم بأنا اقتربنا من هذه الحقيقة الكبرى؛ إذ كثيرا ما يضلك الطريق فيبعدك عن غايتك وأنت تحسب في كل لحظة أنك تقترب منها، وكهذه الحقيقة الكبرى كل حقيقة دونها؛ لأنها جميعا نتيجة لأسباب شتى، يكفي الاختلاف في التقدير لقيمة أقل واحد من مكوناتها للاختلاف في ماهيتها هي، ومن المستحيل الوصول إلى تقدير يكون هو التقدير الذي لا يشك في أنه المكون؛ لأن ذلك التقدير هو حقيقة بذاته ويحتمل أجزاء شتى وخطأ في كلها أو بعضها. ... هذا كله إذا كانت هناك حقيقة كبرى أو حقائق صغرى، وأنا شخصيا أميل للظن بأن هذه التي نسميها حقائق ليست إلا خيالات للواقع بالشكل الذي يعكسه به خيال كل جيل أو كل طائفة من الناس، فباختلاف تقدير هذا الجيل أو تلك الطائفة في النظر لوقائع معينة يكون اختلافهم في النتيجة التي تجيء عن مجموعها أي في الحقيقة التي تنتج عنها.
أمام هذه الأفكار الغريبة والواضحة معا والتي بقيت محدقا مبهوتا ساعة سماعها لم أستطع إلا أن أتلفت لأرى مبلغ أثرها على ع. ف. فإذا به هو الآخر مبهوت يكاد يذهل عن نفسه، لكنه استجمع قواه بعد لحظة وقال: - كل هذا ممكن أن يكون صحيحا، ولكني أرى حقيقة اخترقت العصور وتسللت مع الزمان إلى يومنا هذا، تلك هي اعتراف الناس بخالق لهذا الكون ... وحول هذه الحقيقة الكبرى دارت كل الأبحاث وكانت دائما لجميع الباحثين المرجع والمآب، ومهما يكن منهم من أراد أن يخرج عنها فإنه يرجع في معنى قوله إليها، فسواء سموه الخالق أو الإله أو الطبيعة أو ما شاءوا من الأسماء فهم دائما من بحثهم عن هاته النتيجة، والغريب أنهم لهذا الاختلاف في التسمية يقيمون بينهم خلافات بل وعدوات ويؤلفون مذاهب وأحزابا، والواقع أن الحقيقة قريبة منهم جميعا وهم جميعا يرونها ، ولكن كأنهم حسبوا أن حياتهم لا يمكن أن تقوم إلا على الخلاف والجدال فوجدوا من الاختلاف في التسمية وسيلة لإقامة خلافات اعتبروها عميقة مع أنها غير موجودة على الإطلاق وكهذه الحقيقة الكبيرة الحقائق الصغرى ...
هنا دخل المسيو ر.د. قاطعا حديث المتكلم قائلا: أستسمحك! إذا تجاوزنا عن هذه التي تسمونها الحقيقة الكبرى لأنها كانت وستبقى دائما موضع الشكوك والأوهام، فلا أقدر أن أستطرد معك لاعتبار الحقائق الصغرى على هذا المثال؛ لأننا أنت وأنا لا نستطيع أن نتفق على حقيقة تاريخية كصلب المسيح أو عدم صلبه، وإذا سلمنا هنا بان لهذه الواقعة حقيقة لأنها واقعة أي أن التاريخ يعرف إن كانت حصلت أو لم تحصل فإن الخلاف في المسائل النظرية كمسألة تقدير الجمال ومسألة مسؤولية الجاني ومسائل كثيرة جدا سوى هذه لا شك في وجودها، ولا شك في أن محالا أن نجد الحكم العدل الذي يستطيع أن يأخذ على ضميره مسؤولية الحكم على إحدى النظريتين بأنها حق وبأن الأخرى باطل.
ثم إن نظريات كثيرة كانت فوق الشك في بعض العصور وصارت موضع شك كبير، وأعطيك العائلة مثلا، فقد كانت فكرتها موضع القداسة مدة من الزمان ولم يكن يجرؤ أحد ولو أمام نفسه على القول بعدمها، ثم جاء عصرنا وجاء مع كثيرون يرون في معنى العائلة شرورا كثيرة، ويرون فيه أكبر منم للأنانية والطمع وحب الظلم. ... وكل هذه النظريات نتائج لازمة لملاحظة الوقائع ملاحظة مخصوصة، وإنا لنزداد كل يوم توسعا في معرفة الأشياء والحوادث والوقائع لذلك فإنا لا شك نزداد سعة نظر فيما يتعلق بالنتائج، وبهذا كان سير العالم وتقدمه من قبل التاريخ إلى اليوم. ... وإذا صح لى أن أرجع للحقيقة التي سميناها الحقيقة الكبرى، والتي أخذت تفكير العالم من أول وجوده، وهي باقية لا تبلى جدتها، فأحسبنا نتفق في أنه كلما تقدم العالم كلما زادت هذه النظرية تعقيدا في حلها؛ لأن العقل الساذج قريب التسليم قريب الإيمان قوي اليقين، فهو يذعن لأول ما نقول له أن الوجود يدل على الموجود وأن من صفات هذا الموجد كذا وكذا، ولكن الواحد كلما دق نظره وأحاط بمسائل شتى واتسعت دائرة ملاحظاته، خامره الشك فيما كان قد سلم به من قبل، ويصل أخيرا إلى القول مع فلاسفة العصر الحاضر بأن إله الزمن القديم إنما هو خيال خلقه رجل يومئذ على صورته وأعطاه صفاته. ... ولست أدري كيف يستطيع صديقنا المسيو ع. ف. أن يقول بأن اختلاف المذاهب فيما يتعلق بهذه الحقيقة الكبرى ليس إلا اختلافا في التسمية، وهل يقدر على التوفيق بين المعترف بوجود هذا الخالق وبين المنكر له، بين عيسى أو محمد وملحدي العصر الحاضر، وهل يصح أن نقول إن الذين يعزون الخلق إلى كلمة أمر من الخالق ليس بينهم وبين الذين يقولون بالتسلسل إلا خلاف لفظي ...
إني أظن هناك حقيقة واحدة لا يزال الناس إلى يومنا متفقين عليها، هي أن في العالم المحيط بهم كثير يغيب علمه عنهم، هناك الغيب العجيب الذي تقصر دون أفهامهم وخيالاتهم، هناك ما يستكن في جوف الأرض وتحت موج البحر وفي أعالي الجو، ولكني لست على يقين من أن هذه الحقيقة تبقى دائما، بل إنه لا يستحيل أن يأتي يوم يظن فيه ولو بعض الناس أنهم وصلوا إلى الغيب ولم يبق في العالم ذرة إلا ولهم بها علم.
هذا الغيب، غير المعروف هذا هو كل ما يمكن أن أؤمن أنا به.
Bilinmeyen sayfa