هذا كله كان في تافرن البانتيون.
بعد أن تناولنا طعام العشاء ذهبنا إلى قهوة البانتيون لنأخذ قهوتنا، وجلسنا أربعا على مقاعد قريبة من محل الموسيقى، وقضينا في مكاننا نتحدث ونسمع وننظر لما حولنا حتى الساعة الحادية عشرة، ولقد كان بجوارنا رجل وامرأته تبين لنا من حديثهما أنهما أغراب من بولونيا، وأنهما قضيا في باريس أسبوعين سرا بهما كل السرور، وأمامنا صف من البنات وقد جلسن كأنهن التماثيل لا يتحركن إلا أن يمر بهن شاب ينظر نحوهن ويبسم إليهن فتطوق شافهن الحمراء بالرغم منها ابتسامة معناها «تفضل يا سيدي»، فإذا مالت به نفسه إلى ناحيتهن واختصته واحدة منهن رجع إلى الباقيات شكلهن القديم في حين تجاهد هذه لتحادث صاحبها، وفي الغالب يضحك هو منها ويضطرها سكوته لأن تسكت وتكاد تكون كصاحباتها، ووراء هذا الصف من البنات قامت أعمدة تقوست فوقها أقبية تحمل رسوما، ولون الكل يبين عليه القدم ويزيده انتشار الدخان قدما.
لما جاءت الساعة عشرة نزلنا إلى التافرن.
مكان ضيق ومزدحم، أول ما تدخل تقابلك صالة يشغل أكثر من ثلاثة أرباعها منضدة طويلة عليها رخامة وقد وقفت وراءها عمال المكان ووقف أمامها الشبان والبنات بأشكال مختلفة، فعاري الرأس وعابسة الجبين والضاحكة بأعلى صوتها والهامس في أذن صاحبته كأن يناجي ملاك الحب والمطوق خصر الثانية يجذبها إليه والضاحك في ذقن ثالثة، وأمام ذلك مناضد صغيرة يجلس عليها أحيانا أشخاص أكثر أمرهم أن يظهروا بشيء من الجد والسكينة، فإذا انعطفت عن يمينك وجدت ذراعا آخر من ذراعي المكان وقد قامت المناضد أمام جميع نواحي جدرانه، وهو ممتلئ شبانا أمامهم مشروبات مختلفة، ومع كثيرين منهم بنات يشربن هن الآخريات ولكنهن قليلات الكلام، وفي وسط هؤلاء جميعا يرقص بعض البنات على نغمات موسيقى يقوم باللعب عليها أشخاص في أردية حمراء وهم يلعبون أدوارا جهنمية مزعجة، أما الرقص فأكثرهم البنات منه استثاره الرغبة في نفوس الشبان، ولكن التعيسات الحظ قل أن يفلحن من رقصهن بشيء.
غير أن هذه الضجة العظيمة التي تثيرها في المكان الموسيقى والضحك والصريخ وجري واحد وراء الآخر، ومنظر هذه الكؤوس المختلفة الأحجام والمحتويات، كل ذلك يبعث للنفس سرورا غير مرتب ولا منتظم هو الآخر، فيحس الإنسان بهزة غريبة لا يقدر أن يحبس نفسه عن المشاركة ولو بقليل في الفرخ العام المحيط بها، ويروح مأخوذا بنشوة الطرب وبهذه المناظر المتعددة مما أمامه ويمر الوقت وهو غير محس به.
بقينا إلى الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وهنا خبت حركة المكان وغادره كثيرون ولم يبق معنا إلا ثلاثة شبان أخذوا منضدة وحدهم وبعض بنات بقين مشتتات في التافرن، وأخيرا «عزل» القوم ولم يبق لنا إلا أن نخرج بعد أن قضينا ليلة بين دخان السجاير وضجة الشباب فرحين بها أكبر الفرح.
5 أكتوبر
وصلتني أول الأمس دعوة من صديقي المسيو أ.ك. لأتناول الشاي معه اليوم، ولقد كانت جماعتنا مؤلفة من اثنين من الفرنساويين غير مسيوا أ.ك. ومصري أخر معي هو صديقي ع. ف. فلما تم جمعنا سألني مسيو ر.د. عما لو كنت اقتنعت في مسألته فأجبته أني لا أزال على رأيي الأول وأعتقده الحقيقة، فقال: هذا ممكن ولكني أظن أن ما أقول أنا أيضا هو الحقيقة. إما أن يكون الحق معك أو معي ...
هنا قطع الميسو أ.ك. كلامي قائلا: ممكن أن يكون الحق بيدكما معا.
فأجبته: كلا إذ ما دام الحق واحدا فهو إما معه أو معي.
Bilinmeyen sayfa