غراءُ تسحبُ من قيامٍ شعرها ... وتغيبُ فيهِ، وهو جثلٌ أسحمُ
فكأنها فيهِ نهارٌ مشرقٌ ... وكأنهُ ليلٌ عليها مظلمُ
قال: وماني مشغول بأكل قطعة ناطف في يده، فقال: إسمعوا ما قلت، قلنا: هات، فقال:
نشرتْ عليَّ غدائرًا لتظلني ... خوفَ العداةِ، من العدوِّ الموبقِ
فكأنها، وكأنني، وكأنهُ ... صبحانِ باتا تحتَ ليلٍ مطبقِ
قال: فقلت: أنت أشعر وأحسن تشبيهًا، ذاك شبه شيئين بشيئين، وأنت شبهت ثلاثة أشياء بثلاثة.
ومن مليح غزله:
دعتني جهارًا إلى عشقها ... ولم تدرِ أني ما أعشقُ
فقمتُ، ومن مفرقي في الهوى ... إلى قدمي، ألسنٌ تنطقُ
وله:
ها أنذا تسقطني للبلى ... عن فرشي أنفاسُ عوادي
لو يحسدُ السلكُ على دقةٍ ... حقًا، لأضحى بعضَ حسادي
وله:
صعبتَ جدًا، فما تراضُ ... وفي جناحي لكَ انخفاضُ
مالي إذا ما ظننتُ ظنًا ... أخلفَ ظني بكَ انتقاضُ
ما يفعلُ السيفُ حين يمضي ... ما تفعلُ الأعينُ المراضُ
وله:
معذبُ القلبِ بالفراقِ ... قد بلغتْْْ نفسهُ التراقي
يحنُّ شوقًا إلى غزالٍ ... أزمعَ للبينِ بانطلاقِ
لم يبقِ منه السقامُ إلا ... جلدًا على أعظمٍ دقاقِ
لولا تسليهِ بالتمني ... آذنتِ النفسُ بالفراقِ
ومن غزله:
هيفُ الخصورِ، قواصدُ النبلِ ... قتلننا بعيونها النجلِ
كحلَ الجمالُ عيونَ أوجهها ... فغنينَ عن كحلٍ بلا كحلِ
وكأنهنَّ إذا أردنَ خطىً ... يقلعنَ أرجلهنَّ من وحلِ
أخذ معنى البيت الثاني نت قول الآخر:
فلشعرها من شعرها رجلٌ ... ولعينها من عينها كحلُ
وأما قوله: يقلعن أرجلهن من وحل مأخوذ أيضًا من:
وبيض تطلى بالعبيرِ، كأنما ... يطأنَ، وقد أعنقنَ في جددٍ، وحلا
ذكر أبي الفضل جعيفران المجنون
قيل: أتى رجل جعيفران فقال له: يا أبا الفضل شعرك رديء. فغضب وقال:
سوفَ أهجوكَ إنْ بقيت بشعرٍ ... ليسَ إن قوموهُ فلسينِ يسوى
ويقولونَ ذا رديٌ، وحسبي ... أنْ يقولوا له رديءٌ، ويروى
قال جامع الكتاب: لا يؤخذ على جعيفران إذ قال: يسوى والصواب: يساوي. وقد وقع في مثل هذا أبو عتاهية فقال:
ولربما سئلَ البخي ... لُ الشيءَ لا يسوى فتيلا
وقال في أبي العباس ابن الخصيب حين اتجه إلى البصرة:
ليتَ شعري أيُّ قومٍ أجدبوا ... فأغيثوا بكَ من طولِ العجفْ
نظرَ الرحمنُ بالرحمى لهم ... وجرمناكَ بذنبٍ قد سلفْ
يا أبا العباسِ، يا أحمدُ، عشْ ... وامضِ مصحوبًا، فما منكَ خلفْ
ومن هجائه في جعفر:
ما جعفرٌ لأبيهِ ... ولا لهُ بشبيهِ
أضحى لقومٍ كثيرٍ ... فكلهمْ يدعيهِ
وله:
قد جاءنا شاعرٌ ظريفٌ ... يعرفُ فينا بحسنِ صوتِ
قال: أنا الحضرميُّ، قلنا ... كمْ من كنيفٍ بحضرموتِ
وحدث الثقفي قال: قدم علي جعيفران، وأنا عند أبي سعد الوصيفي، فأخرته عنده، لعسى آخذ منه شيئًا. فغفل الوصيفي عنه في العطية، وهو يلزمه عنده، ويوكل من يحفظه. فوجد الفرصة في الهرب. ولما علم الوصيفي أحضر غلمانه، وضربهم وقال: لا بد منه هذه الساعة. فتفرقوا في طلبه، فوجدوه عند دكان رجل بقال، وقد كتب رقعة، وهو يتربها. فلزموه، وأخذوا الرقعة منه، وانهزم. فحملوا الرقعة إلى صاحبهم، وإذا فيها إلى الثقفي:
يا صاحبي من ثقيفِ ... يا مؤنسي وأليفي
يئستُ من كلِّ خيرٍ ... عندَ ابنِ سعدِ الوصيفي
فرحتُ لا بطفيفٍ ... ولا بغيرِ طفيفِ
سوى طعامٍ يسيرٍ ... خلفتهُ في الكنيفِ
كأنني في خروجي ... خرجتُ من بيتِ كوفي
ومما يتمثل به من شعره:
ما جئتُ في حاجةٍ أسرُّ بها ... إلا توانيتَ، ثمَّ قلتَ: غدا
لا جعلَ الله لي إليكَ، ولا ... عندكَ، ما عشتُ، حاجةً أبدا
وله:
بتُّ ضيفًا لهشامِ ... في شرابي وطعامي
وسراجي الكوكبُ الدر ... يُّ في كلِّ ظلامِ
لا حرامًا أجدُ الخب ... زَ، ولا غيرَ حرامِ
تستبينُ الجوعَ مني ... في حديثي وكلامي
ذكر عباس المشوق المجنون
1 / 65