ويروى عن زريق الشاعر قال: أتيتها يومًا، فلما رأتني قالت: مرحبًا يا عم، لقد جاء الله بك على حاجة إليك. قلت: وما ذاك؟ قالت: إن هذا الأعرابي الذي تراه سألني أن أقول بيتًا، وقد صعب علي الابتداء، فابتدئ علي بالقول.
فقلت:
لقد عزَّ العزاءُ، وغيلَ صبري ... غداةَ جمالهم للبينِ زفتْ
فقال الأعرابي:
نظرتُ إلى أواخرها ضحيًا ... وقد رفعوا لها عصيًا فرنتْ
فقالت عنان:
كتمتُ هواهمُ في الصدر مني ... على أنَّ الدموعَ عليَّ نمتْ
قال: ودخلت إلى بعض الأمراء فكتب إليها:
ماذا تقولينَ فيمن شفهُ سقمٌ ... من فرطِ حبكِ، حت ظلَّ حيرانا
فكتبت تحت هذا الشعر:
إذا رأينا محبًا قد أضرَّ بهِ ... جهدُ الصبابةِ، أوليناهُ إحسانا
وعرضت على عيسى بن جعفر، فأعجبته، فغمزها وقال:
جودي لصبٍّ حزينٍ ... يكفيهِ منكِ قطيرهْ
فقالت:
إيايَ تعني ... بهذا؟ عليكَ فاجلدْ عميرهْ
ودخل عليها أبو نواس، وقد ضربها مولاها، وهي تبكي، فقال:
بكتْ عنانً فجرى دمعها ... كالدرِّ قد توبعَ في خيطهِ
فقالت:
أجلْ، ومنْ يضربها ظالمٌ ... تيبسُ يمناهُ على سوطهِ
وقالت تهجو أبا نواس:
يا نواسيُّ، يا نفايةَ خلقِ الل ... هِ، قد نلتَ بي سناءً وفخرا
متْ متى شئتَ، قد ذكرتكَ في الشع ... رِ، وجررْ أطرافَ ثوبكَ كبرا
لا تسبحْ، فما عليكَ جناحٌ ... جعلَ الله بين لحييكَ دبرا
فإذا ما أردتَ أن تولي الل ... هـ على ما أبلى وأولاك، شكرا
فاذكر الله بالضمير وبالاي ... ما، ولا تذكرنَّ ربكَ جهرا
فأخذ هذا المعنى البلاذري فقال:
يسبحُ لا من تقىً أحمدٌ ... يحبُّ التظرفَ بالسبحةِ
ويخرجُ أنفاسهُ كالفسا ... يفتقهُ السرمُ عن سلحةِ
أبا جعفرٍ فتوقَّ الإله ... ولا تذكرِ الله من فقحةِ
وقالت تمدح جعفرا بن يحيى:
يا لائمي، جهلًا، ألا تقصرُ ... منْ ذا على حرِ الهوى يصبُر
لا تلحني أني شربتُ الهوى ... صرفًا، وممزوجُ الهوى يسكرُ
أحاطَ بي الحبُّ، فخلفي له ... بحرٌ، وقدامي له أبحرُ
تخفقُ راياتُ الهوى بالردى ... فوقي، وحولي للردى عسكرُ
سيانَ عندي، في الهوى، لائمٌ ... أقلِّ فيهِ، والذي يكثرُ
أنتَ المصفى من بني برمكٍ ... يا جعفرَ الخيراتِ، يا جعفرُ
لا يبلغُ الواصفُ في وصفهِ ... ما فيهِ من فضلٍ، ولا يحصرُ
ما عصرتْ عودًا يدٌ لامرئٍ ... أطيبَ من عودكَ إذ يعصرُ
منْ وفرَ العرضَ بأموالهِ ... فجعفرٌ أعراضهُ أوفرُ
ديباجةَ الملك على وجههِ ... وفي يديهِ العارضُ الأحمرُ
سحتْ علينا منهمُ ديمةٌ ... ينهلُّ منها الذهبُ الأحمرُ
لو مسحتْ كفاه جلمودةً ... نضرَ فيها الورقُ الأخضرُ
لا يستتمُّ الحمد إلا فتىً ... يصبرُ للبذلِ، كما يصبرُ
يهتزُّ تاجُ الملكِ من فوقهِ ... فخرًا، ويزهز تحتهُ المنبرُ
يشبههُ البدرُ إذا ما بدا ... أو غرة في وجههِ تزهرُ
والله ما ندري أبدرُ الدجى ... من وجههِ، أم وجههُ أنورُ
يستمطرُ الزوارُ منكَ الغنى ... وأنتَ بالزوارِ تستبشرُ
عودتَ طلابَ الندى عادةً ... إن قصروا عنكَ، فما تقصرُ
قال جامع الكتاب: لقد طربت لهذه الأبيات، حتى كررتها فحفظتها.
وأما الذلفاء: فكانت أمة لابن الطرخان، وكان الشعراء أيضًا يأتونها ويطارحونها، وكانت حسنة الجواب. ودخل عليها مروان بن أبي حفصة، وعندها أبو نواس وغيره من الشعراء، فقال مولاها لمروان: يا أبا يحي إختر لها بيتًا لتجيزه. فقل: قول جرير:
غيضنَ من عبراتهنَّ، وقلنَ لي ... ماذا لقيتَ من الهوى، ولفينا
فقالت، وكانت تشبب بالرشيد:
هيجتَ بالبيتِ الذي أنشدتني ... حبًا بقلبي، للإمامِ، دفينا
قال: فقام أبو نواس مغضبًا، وهو يقول:
عجبًا من حماقةِ الذلفاءِ ... تشتهى ... الخلفاءِ
فقالت:
إنَّ أحرى الأمورِ عندي منالًا ... شهواتُ الأكفاءِ للأكفاءِ
ويقال: إن العباس بن الأحنف دخل على الذلفاء يومًا، فقال: أجيزي:
1 / 60