لا والذي، يا أمير المؤمنينَ، حوى ... لكَ الخلافةَ، في أكنافها الرفعُ
ما زلتُ أكسبها مالًا فتأكلهُ ... دوني، ودونَ عيالي، ثمَّ تضطجعُ
ناشدتها بكتابِ الله حرمتنا ... فلم تكنْ بكتابِ الله ترتفعُ
فاخرنطمتْ، ثمَّ قالتْ، وهي معرضةٌ ... أأنتَ تتلو كتابَ الله يا لكعُ
إذهبْ تبغَّ لنا نخلًا ومزدرعًا ... كما لجيراننا نخلٌ ومزدرعُ
واخدعْ خليفتنا، إنْ كنتَ سائلهُ ... إنَّ الخليفةَ للسؤالِ ينخدعُ
فقال له الخليفة: قد انخدعنا لك، سل حاجتك. قال: جريب مساحه في بيت المال، قال: هو لك. فخرج إلى الخزان فخط ستين في ستين، فدخلت بيوت الأموال فيه، فقال الخزان: يا أمير المؤمنين ورد اليوم أمر من أمرك احتجنا فيه إلى مناظرتك، قال: وما هو؟ قالوا: إن أبا دلامة أتانا فخط ستين في ستين وقال: قد أمر أمير المؤمنين بهذا صلة تحوي بيوت الأموال. فقال: علي به، فقال: ويلك تسألني مسألة محال؟ فقال: والله، يا أمير المؤمنين، لقد علمت أن ذلك لا يسوغ لي، ولكن لك ضيعتين على شاطئ الفرات، إحداهما نورا، والأخرى برنورا، وهما مشتقان من اسم النار، وأبو دلامة عياله أحق بالنار منك. فقال: خذهما، لا بارك الله لك، فهما ومغلهما خمسون ألف دينار. فكانت في يدي أبي دلامة وورثته إلى أن بادوا. وفي رواية أخرى أنه قال له المنصور: قد أقطعتك أربعمائة جريب، نصفها عامر ونصفها غامر، قال: وما الغامر؟ قال: الذي لا شيء فيه، قال له: فقد أقطعتك من العذيب إلى الثعلبية. فضحك منه، وأقطعه ما أراد.
وروى ابن عائشة قال: خرج المهدي إلى الصيد، ومعه علي بن سليمان الهاشمي، فرمى المهدي ظبيًا فصاده، ورمى علي آخر فأخطأه وأصاب الكلب. فقال المهدي: من ها هنا من الشعراء؟ فقالوا: أبو دلامة، فقال له: قل في هذا شيئًا، فأنشأ يقول:
قد رمى المهديُّ ظبيًا ... شكَّ بالسهمِ فؤادهْ
وعليُّ بنُ سليما ... نَ رمى كلبًا فصادهْ
فهنيئًا لهما كلُّ ... امرئٍ يأكلُ زادهْ
فقال المهدي: صدق والله، لتأكلنه أو لتفدينه. ففداه علي بن سليمان ألف درهم دفعت إلى أبي دلامة.
وقيل: إن أبا دلامة كان ليلة عند المنصور، فقال له المنصور: أشتهي أن أقيم معك غدًا، وفلان وفلان، ولا يدخل إلينا أحد، فبكر إلي. فلما سمع ذلك علي بن سليمان قال له: يا أبا دلامة أنت تبكر إلى الدار وأنا أبكر، فبت عندي الليلة، فقال: أخاف أن تسقيني خمرًا، فأبطئ عن المصير إلى أمير المؤمنين. قال له: لا تشرب شيئًا أصلًا. فلما صار إلى منزل علي بن سليمان، دعا بالعشاء، ثم دعا بالستائر فضربت، وغناء المغاني، وأمر علي بن سليمان برطل فشربه، فقال أبو دلامة: لو شربت رطلًا واحدًا ما كان به بأس، فقال له ابن سليمان: لا تفعل. فما سمع منه، وأخذ وشرب، وأمر الجواري لا يقطعن الغناء. فشرب أبو دلامة حتى سقط سكرًا، وأمر الجواري لا يسكتن، والشموع لا تطفأ، والطعام لا يزال، وأبو دلامة في عيش طيب. فبقي كذلك ثلاثة أيام، وهو يظن أنه في ليلته، حتى تطلبه المنصور فلم يجده، فأمر بهدم داره. فقال له ابن سليمان: هو، والله يا أميرالمؤمنين، عندي. وقص عليه قصته، فأمر به، فأحضر وهو سكران لا يعي بنفسه. فأمر به فضرب ضربًا وجيعًا، وحبسه في المطبخ، في بيوت الدجاج. فبقي نائمًا والدجاج يسلح عليه وعلى وجهه، وينقر أنفه. فانتبه في الليل فصاح إلى جواريه: فلانة، فلانة، وإلى خدمه: فلان، وفلان، ما جاوبه أحد، وهو يظن أنه في منزله. فقال له الطباخ: أتدي أين أنت؟ قال: لا والله. فقص عليه القصة، وعرفه ما اعمد المنصور معه، فبقي حائرًا. فما كان إلا ساعة، وجاء رسول المنصور يطلبه. فلما مثل بين يديه أنشأ يقول:
أميرَ المؤمنينَ وقتكَ نفسي ... علامَ ضربتني، وخرقتَ ساجي
وفيم حبستني من غيرِ جرمٍ ... كأني بعضُ عمالِ الخراجِ
فلو فيهم حبستُ، لكانَ ذاكمْ ... ولكني حبستُ مع الدجاجِ
وقد كانتْ تحدثني ذنوبي ... بأني من عقابكَ غيرُ ناجِ
على أني، وإنْ لاقيتُ شرًا ... لخيركَ، بعدَ ذاكَ الشرِّ، راجِ
أفي صفراءَ صافيةِ المزاجِ ... كأنَّ شعاعها لهبُ السراجِ
وقد طبختْ بنارِ الله، حتى ... لقد صارتْ من النطفِ النضاجِ
1 / 58