وإني، على أني تعزيتُ بعدكم ... وأعرضتُ لما كان ذو الضعنِ يفطنُ
لكالمدنفِ المنبي العوائد أنهُ ... إلى صحةٍ مما بهِ، وهو مثخنُ
وأما عبد بني الحسحاس: فهو سحيم بن هبد بن سفيان بن عصاب بن كعب بن سعد بن ثعلبة بن دودان. وكان رقيق لحواشي، أسود، فعير بذلك فقال:
إن كنتُ عبدًا فنفسي حرةٌ كرمًا ... أو أسودَ الخلقِ إني أبيضُ الخلقِ
ويقال: إن أول شعر قال: أنهم أرسلوه رائدًا، فجاء وهو يقول:
أنعتُ غيثًا حسنًا نباتهُ ... كالحبشيِّ حولهُ بناتهُ
فقالوا: شاعر والله.
وأنشد:
عميرةَ ودعْ إنْ تجهزتَ غاديا ... كفى الشيبُ والإسلامُ للمرءِ ناهيا
فقال له عمر: أما أنك لو كنت قدمت الإسلام على الشيب لأجزتك. فلما أنشده فيها:
وبتنا وسادانا إلى علجانةٍ ... وحقفٍ تهاداهُ الرياحُ تهاديا
وهبتْ شمالٌ، آخرَ الليلِ، قرةً ... ولا ثوبَ إلا درعها وردائيا
فما زال بردي طيبًا من ثيابها ... إلى الحولِ، حتى أنهجَ البردُ باليا
توسدني كفًا، وترفعُ معصمًا ... عليَّ، وتحنو رجلها من ورائيا
أميلُ بها ميلَ النزيفِ، وأتقي ... بها الريحَ، والشفانَ من عن شماليا
فقال عمر: زنى العبد.
ومن قصيدته هذه:
فما بيضةٌ باتَ الظليم يحفها ... ويرفعُ عنها جؤجؤًا متجافيا
ويجعلها بين الجناحِ ورفهِ ... ويفرشها وحفًا من الريش عافيا
بأحسنَ منها يومَ قالتْ: أراحلٌ ... مع الركبِ، أمْ ثاوٍ لدينا لياليا
ألكني إليها، عمرك الله، يا فتى ... بآيةِ ما جاءتْ إلينا تهاديا
ألا نادِ في آثارهنَّ الغوانيا ... سقينَ سمامًا، ما لهنَّ وماليا
وراهنَّ ربي مثلَ ما قد ورينني ... وأحمى على أكبادهنَّ المكاويا
أشارتْ بمدراها، وقالتْ لتربها ... أعبدُ بني الحسحاسِ يزجي القوافيا
رأتْ رجلًا رثًا، وسحقَ عباءةٍ ... وأسودَ، مما يملكُ الناسُ عاريا
كأنَّ الثريا علقتْ فوقَ نحرها ... وجمرَ غضىً هبتْ بهِ الريحُ ذاكيا
فإنْ تقبلي بالودِّ أقبلْ بمثلهِ ... وإنْ تدبري أدبرْ على حالِ باليا
وكان نصيب وسحيم أشعر شعراء العبيد، ومن نذكر بعدهما لم يكن في طبقتهما، ولبعضهم الأبيات القليلة. ونحن نذكرهم: ذكر وزر: كان عبدًا لبني العنبر، من تميم. وهو القائل:
لعمرُ بني الملوكِ، ما عاشَ، انهُ ... وإنْ أعجبتهُ نفسهُ، لذليلُ
ترى الناسَ أنصارًا عليهِ، ومالهُ ... من الناسِ إلا ناصرونَ قليلُ
وأما ميسرة وميسرة: فهما عبدان لبني العنبر. أحدهما ميسرة أبي الدرداء، وهو الذي رثى معاوية فقال:
فهاتيكَ النجومُ، وهنَّ خرسُ ... ينحنَ على معاويةِ الشآمي
والآخر: ميسرة أبي نصر، وكان عبدًا لعمر بن شريك. ولطمه رجل من بني دارم، فافترى عليه ميسرة، فقدمه إلى صاحب اليمامة، فجلده أربعين سوطًا. قال: والله لئن لم تجلدني ثمانين، لأهجونك هجاء تتمنى أنك لم تكن سمعته. فوفاه ثمانين، فأنشده:
قذفتَ أخا زيدٍ فكملتَ قذفهُ ... فكملْ، هداكَ الله، جلدَ أبي نصرِ
ولا تتركني ناقصًا، فتعيبني ... تميمُ بنُ مرٍّ، والقبائلُ من قسرِ
فلستُ بعبدٍ يلطمُ الناسُ وجههُ ... ويلفى، غداةَ الروعِ، منتفخَ السحرِ
وإنما كان غرضه أن يحده تمام الحد، ليحقق أنه حر، لأن العبد يحد نصف الحد. وقد كان حد القذف عندهم الثمانين. وقد روي أنه أتى عمر بن الخطاب، ﵁، بسكران، فقال: ما سمعنا من النبي ﷺ حد الخمر. فاستدعى عليًا ﵇، فقال: ما عندك في حد الخمر؟ فقال: الشاؤب إذا شرب سكر، وإذا سكر افترى، فاجعل حد الخمر حد القذف، أربعين جلدة.
ولما قال الفرزدق:
وقدرٍ كحيزومُ النعامةِ أحمستْ ... بأجذالِ خشبٍ، زالَ عنها هشيمها
قال ميسرة: ما حيزوم النعامة؟ والله ما يشبع رجلين. ولكني أقول:
وقدرٍ كجوفِ الليلِ أحمشتُ غليها ... ترى الفيلَ فيها طافيًا لم يفصلِ
ولما قال الفرزدق أيضًا:
وقدرٍ كجوفِ العيرِ ملآنَ مترعٌ ... يطيفُ بهِ ولدانُ قيسٍ وخندفِ
1 / 54