فقدتُ بني لبنى، فلما فقدتهمْ ... صبرتُ، فلم أقطعْ عليهم أباجلي
حسانُ الوجوهِ، طيبٌ حجزاتهم ... كريمٌ ثناهم، غيرُ لفِّ المغازلِ
رماحٌ من الخطي، زرقٌ نصالها ... حدادٌ نواحيها، شدادٌ الأسافلِ
فلهفي على عمرو بن مرةَ، لهفةً ... ولهفي على ميتٍ بقوسى المعاقلِ
فتلت فتيلًا لا يخالفُ عدوةً ... ولا سوأةً لا زلتَ أسفلَ سافلِ
أذلوه هذيلًا، يا ابن لبنى، وجدعوا ... أنوفهمُ باللوذعيّ الحلاحلِ
ومن شعره:
وغربتُ الدعاءَ، وليسَ مني ... أناسٌ بين مرِّ، وذي ردومِ
هنالكَ ناصري، وهمُ أرومي ... وبعضُ القومِ، ليس بذي أرومِ
هنالكَ لو دعوتَ أتاك منهمْ ... رجالٌ بين أرميةِ الحميمِ
أرمية الحميم: سحابات شديدات القطر. الواحدة: رمى. والحميم: حر الصيف، وذلك أن سحاب الصيف أشد بياضًا.
ومن شعر عروة:
سحٌّ من القومِ، عريانٌ أشاجعهُ ... خفَّ النواشزُ منه، والظنابيبُ
المعرقون من القواد
ومن الشعراء المعرقين من القواد والأمراء والوزراء
حمزة بن عبيد الله بن عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب بن رزيق، مولى خزاعة، لعبد الله أبي طلحة الطلحات الجواد. وكان عبد الله بن خلف كاتبًا لعمر بن الخطاب.
فالذين قالوا الشعر من الحسين بن مصعب أربعة على التوالي: طاهر بن الحسين، وعبد الله بن طاهر، وعبيد الله بن عبد الله، وحمزة بن عبيد الله. ومن ولد عبد الله بن طاهر: محمد بن عبد الله، وسليمان بن عبد لله. وطاهر بيت، وحمزة وأخوته معرقون.
ولم يدخل هؤلاء في نمط الشعراء المتكسبين، ولكنهم قوم حظوا بالرئاسة والسياسة، وأحبوا الشعر وعدوه أجمل فضائلهم. ولهؤلاء فضائل وتواريخ وسير وفتوح وعزائم وملك قد نطقت به التواريخ والسير. ومع ذلك افتخروا بما أبانوا به عن فصاحتهم وبلاغتهم في الشعر والرسائل، وعلموا أن الملك يفنى، والفضائل تبقى. وقد كان الشعر في ذلك الوقت شريفًا جليلًا. أما ترى الجوائز عليه من المائة ألف درهم إلى ما دون ذلك؟ لأن شعراء ذلك الوقت كانوا يعزونه، ويأتون به في وقته، وكانوا كما يقال على الحقيقة شعراء. وفي عصرنا كل من صح له الوزن والقافية ظن أنه شاعر، فمدح وتعاطى. فإذا وقفت على أشعارهم تجد ألفاظهامتداولة في الشعر، ومعانيها قد ملئت بها دواوين الشعراء. فلا تعثر منها على معنى بديع، ولا لفظ ظريف، ولا طرز مبتكر، ولا أسلوب مبتدع. ويتعاطى أحدهم أنه ينظم في يومه قصيدة، فرخص الشعر ودحض ورفض، وأصبح يتعاطاه من ليس من شكله، ويدخل فيه من يزري بالأدب وأهله، مع كثرة منتحليه وقلة طالبيه، وكما قيل:
ومع الكسادِ يخانُ فيهِ، ويسرقُ
ذكر ذي اليمينين طاهر بن الحسين
لما دخل بغداد، وقتل محمدًا الأمين، وجاء برأسه إلى المأمون، ونصب جثته، واستتر في مستتره، بلغه أن إبراهيم المهدي عازم على الخروج للطلب بدم الأمين، واتصل به أن أبراهيم قال:
ألا إنما حزني عليكَ سجيةٌ ... وما عذرُ مثلي أنْ يكونْ مقصرا
بكيتكَ إذ قلَّ النصيرُ، ولم أجدْ ... عميرةَ وهن في العدوِّ، فأثأرا
واتصل بالمأمون. فيروى أن المأمون كان إذا رآه بعد ذلك قال: وجدتها بعد يا بن شكلة. وكانت أم إبراهيم اسمها شكلة. فكتب إليه طاهر: عافانا الله وإياك من السوء، أما أنه قد كان يعز علي أن أكتب إلى رجل من أهل الخلافة بغير الإمرة، ولكني ظننت بك، وتوهمت عليك أنك مائل بالرأي، مضيع بالهوى إلى الناكث المخلوع. فإن يك ما ظننت بك كالذي ظننت بك، فكثير ما كتبت به إليك، وإن يكن غير ذلك فالسلام عليك، أيها الأمير، ورحمة الله وبركاته. وقد كتبت إليك بأبيات:
ركوبكَ الأمر ما لم تبلُ فرصتهُ ... جهلٌ، ورأيكُ بالأقحامِ تغريرُ
أقذرْ بدنيا ينالُ المخطئونَ بها ... حظَّ المصيبينَ، والمغرورُ مغرورُ
تالله ما زالتِ الدنيا، وصاحبها ... يضحي سليمًا، ويمسي وهو مقبورُ
فإنْ ظفرتَ مصيبًا، أو هلكتَ بهِ ... فأنتَ، عندَ ذوي الألبابِ، معذورُ
فاعملْ صوابًا، وخذْ بالحزمِ مأثرةً ... فلنْ يذمَّ لأهلِ الحزمِ تدبيرُ
فإنْ ظفرتَ، على جهلٍ، ففزتَ بهِ ... قالوا: جهولٌ أعانتهُ المقاديرُ
1 / 34