وابيضاضُ المشيبِ من نذر المو ... تِ، وهل بعدهُ لحيٍّ نذيرُ
وقال مزرد:
فلا مرحبًا بالشيبِ من وفدِ زائرٍ ... متى زارَ لا تحجب عليهِ لمداخلُ
وقال بعض أهل العصر:
إن الشبابَ نذيرُ الموتِ، ثمَّ إذا ... جاءَ المشيبُ، فذاكَ القبرُ والكفنُ
وقال المتنبي:
وإذا الشيخُ قالَ: أفٍ، فما ملَّ ... حياةً، وإنما الضعف ملا
وقال أيضًا:
وقد أراني الشبابُ الروحَ في بدني ... وقد أراني المشيبُ النقصَ في بدني
وقال آخر:
والشيبُ ضيفٌ إذا ما حلَّ ربعَ فتىً ... أعيى ترحلهُ، أوْ يرحلانِ معا
وعن أبي شقيقة الوراق قال: أتاني أبو عتاهية يومًا فجلس في دكاني، وجلس الناس حوله وكتبه عنه، ثم تناول دفترًا من كتبي فكتب عليه:
أيا عجبًا كيفَ يعصى الإلهُ ... أم كيفَ يجحدهُ الجاحدُ
وللهِ في كلِّ تحريكةٍ ... وتسكينةٍ، أبدًا، شاهدُ
وفي كلّ ما أبصرتهُ العيونُ ... دليلٌ على أنهُ الواحدُ
ثم قام، وجاء أبو نواس فنظر إلى الكتاب، وقرأ ما تب أبو عتاهية، فسألني عن قائل الأبيات، فأخبرته، فقال: أحسن والله لوددت أنها ي بجميع شعري. ثم تناول القلم وكتب:
سبحانَ منْ خلقَ الخل ... قَ من ضعيفٍ مهينِ
يسوقهُ من قرارٍ ... إلى قرار مكينِ
يجوزُ شيئًا فشيئًا ... في الحجبِ دون العيونِ
حتى بدتْ حركاتٌ ... مخلوقةٌ من سكونِ
فجاء أبو عتاهية فنظر إليها: فقال: لمن هذه؟ لوددت أنها لي بجميع شعري فانظر إلى اتفاق قوليهما.
ومن معنيه:
نراعُ إذا الجنائزُ قابلتنا ... ونلهو إنْ تولتْ مدبراتِ
كروعةِ ثلةٍ لمغارِ سبعٍ ... فلما غابَ عادتْ راتعاتِ
وقول الآخر:
نزاعُ لذكرِ الموتِ ساعةَ ذكرهِ ... ونعترضُ الدنيا فنلهو ونلعبُ
ومثله لابن دريد:
نهالُ للشيءِ الذي يروعنا ... ونرتعي في غفلةٍ إذا انقضى
ومثل ذلك:
إذا مرضنا نوينا كلَّ صالحةٍ
ومن معانيه المسترقة:
ألا يا موتُ لم أرَ منكَ بدًا ... أبيتَ فما تحيفُ، ولا تحابي
كأنكَ قد هجمتَ على مشيبي ... كما هجمَ المشيبُ على شبابي
وله أيضًا:
نحمدُ الله كلنا سنموت ... لخرابِ البيوتِ تبنى البيوتُ
وهذا معنى أخذه من قول أبي ذر ﵀، فإنه قال: تلدون للموت، وتعمرون للخراب، وتذرون ما يبقى، وتحرصون على ما يفنى.
وقال الآخر:
وللموتِ تغذو الوالداتُ سخالها ... كما لخرابِ الدورِ تبنى المنازلُ
وله أيضًا:
منْ أحبَّ الدنيا تحيرَ فيها ... واكتسى عقلهُ التباسًا وتيها
قنعِ النفسَ بالكفافِ، وإلاّ ... طلبتْ منكَ فوقَ ما يكفيها
ليسَ فيما مضى، ولا في الذي لم ... يأتِ من لذةٍ لمستحليها
إنما أنتَ طول عمركَ ما عمر ... تَ في الساعةِ التي أنتَ فيها
أخذه غيره:
ما مضى فاتَ، والمؤملُ غيبٌ ... ولكَ الساعةُ التي أنتَ فيها
وهذا المعنى يروى عن محمد بن الحسن بن عبيد اله الكوفي، قال: كتب إلي داود الفارسي: يا ابن أخي الدنيا دار زلل وزوال، وتغير حال عن حال. ثم كتب في آخر كتابه:
أفرطتَ في العيشِ وتأميلهِ ... وللمنايا شيمٌ نكدُ
وإنما عيشُ الفتى ساعةٌ ... لا قبلها منهُ، ولا بعدُ
ما أوسعَ الدنيا على أهلها ... لو لم يكنْ آخرها لحدُ
وأتى بهذا المعنى ذو اليمينين طاهر بن الحسين فقال:
دنياكَ دنيا هوىً ومتعبةٍ ... يشقى بها مستهامها الأشرُ
تبدي لأبنائها مساوئها ... عودًا وبدءًا، وليس معتبرُ
ما فاتَ منها كأنهُ حلمٌ ... ليسَ له لذةٌ، ولا خطرُ
وليسَ للمرءِ غيرُ ساعتهِ ... إن طالَ، أو لم يطلْ به العمرُ
وقال محمود في معنى بديع:
مازالَ يظلمني وأرحمهُ ... حتى بكيتُ له من الظلمِ
أخذ هذا المعنى من أبي ذر، إذ أتاه رجل فقال: رأيت فلانًا شتمك حتى رحمتك، فقال: هل سمعتني شتمته؟ فقال: لآ، قال: فياه فارحم. وقال محمد ابن الحجاج: حضرت مجلسًا فيه بشار وأبو عتاهية، فقال بشار لأبي عتاهية: أنشدني، فأنشده:
1 / 25