وقد كنتُ أغدو في رضاهم كأنني ... من الطير أقنى ينفضُ الطلَّ صائدُ
ولن تلبثَ الأيامُ شيئًا طلبتهُ ... وسودُ الليالي المخلداتُ الجدائدُ
ذهبنَ بإسحاقَ الجوادِ مع الذي ... ببغدادَ صادتهُ المنايا الصوائدُ
يعني إسحاق بن إبراهيم المصعبي، وكان امتدحه فوهب له خمسين ألف درهم.
وقيل لعمارة بعدما عمي: أيما أشعر أنت أبو أبو تمام؟ فقال: أبو تمام، فقيل له: إنك لأشعر منه، فقال: أنا لا أجيد إلا في وصف النؤي والأثافي والديار، وأبو تمام يقول:
لولا العيونُ، وتفاحُ الخدودِ، إذًا ... ما كان يحسدُ أعمى منْ له بصرُ
فما اشتهيت أن أكون بصيرًا إلا مذ سمعت هذا البيت.
ولعمارة لما دخل بغداد:
ترحلْ، فما بغدادُ دارَ إقامةٍ ... وما عندَ منْ أضحى ببغدادَ طائلُ
محلّ ملوكٍ سمنهمْ في أديمهم ... فكلهمُ من حلةِ المجدِ عاطلُ
إذا غطمطَ البحرُ الغطامطُ ماؤهُ ... فليسَ عظيمًا أن تفيضَ الجداولُ
قوله: سمنهم في أديمهم: كما يقال: سمنهم في عجينهم، أي ما يغذي فضلة.
وأنا أقول: قاتله الله، لو شاهد هذه الأيام المستنصرية، وهذه المواهب التي عمت البرية. ولقد أجاد من قال في هذا العصر المذهب والزمان الفسيح المذهب:
أقمْ في ذرى بغدادَ، تلقَ إمامها ... مليكًا عليه للنبيِّ دلائلُ
عجبتُ وقد أضحتْ أياديهِ أبحرًا ... وليس لها إلا النوال سواحلُ
وفي أهل بغدادَ الكرامِ ثلاثةٌ ... لهم محتدٌ في المكرماتِ، ونائلُ
وزيرٌ سما فضلًا، وأستاذُ دارها ... حليفُ الندى، وابنُ الدوامي عادلُ
ثلاثةٌ أجوادٍ، لو أفتخرتْ بهم ... تميمٌ وتيمٌ باهلوا وتطاولوا
ولعمارة أيضًا:
إذا ما سقى الله البلادَ فلا سقى ... بلادًا بها الميدانُ برقًا ولا رعدا
فيا ليتَ شعري هل أبيتنَّ ليلةً ... على صدرٍ منها، كما جئتها وردا
ومن الشعراء المعرقين
متوج بن محمود بن مروان بن أبي الجنوب بن موان بن يحيى بن ابي حفصة، واسمه يزيد. فكل هؤلاء شعراء. فمتوج معرق، وأبو حفصة بيت، ولهم من ولدهم شعراء لا يحصى لهم عدد، ونذكر العمود بن أبي حفصة إلى متوج.
ومن شعر يحيى بن ابي حفصة يرثي عبد الملك بن مروان:
إنَّ المنايا لا تغادرُ حاسرًا ... يشي بثوبيهِ، ولا ذا جنهْ
إنَّ المنايا لو تغادرُ واحدًا ... كان الخليفةُ ناجيًا منهنهْ
بكتِ المنابرُ يومَ ماتَ، وإنما ... تبكي المنابرُ فقدَ فارسهنهْ
قد كان حلمكَ كالجبالِ رزانةً ... بل لو يوازنهنَّ مالَ بهنهْ
وله حين خرج يزيد بن المهلب:
لا يصلح الناس إلا السيف إن فتنوا ... لهفي عليكَ ولا الحجاج للدينِ
لو كان حيًا لحي الأزد إذ فتنوا ... لم يحص قتلاهم حسب دارينِ
وأما أبو السمط مروان الكبير، كان أبو عمرو الشيباني يقول: ختم الشعر بمروان. ودون شعر القدماء، نفلما انتهى إلى شعر بشار لم يكتبه، واستخار عليه شعر مروان.
وكان مروان أبعد المحدثين من السخف، وأصلحهم مبالغة في المدح.
فمن أحلى قصائده التي اشتهر بها، وأعلى المهدي قدره وقرب مجلسه ووفر له العطاء، ولم يعط شاعر ما أعطي، فهي قوله:
طرقتكَ زائرةٌ فحيِّ خيالها ... بيضاءُ تخلطُ بالحياءِ دلالها
فلما أنشدها المهدي قال له: كم بيت؟ قل: مائة بيت، فأمر له بمائة ألف درهم، وقال له: لو زدتنا زدناك.
ومن القصيدة:
ما زالَ ينصبُ للهواجرِ وجههُ ... ويخوضُ في ظلم الدجى أهوالها
حتى إذا وردت أوائل ُخيلهِ ... جيحانَ، بثَّ على العدوِّ رعالها
وقال مروان لخلف الأحمر: إسمع شعري وأصدقني عنه، قال: هات، فأنشده طرقتك زائرةفحي خيالها، فلما بلغ إلى قوله: حتى إذا وردت أوائل خيله قال: لأنت أشعر من الأعشى في قوله:
رحلتْ أميمةُ غدوةً أجمالها
وفي هذه القصيدة يقول بالميراث للعباس:
حسدتكمُ ميراثَ أحمدَ عصبةٌ ... لم ينهَ أهلُ حلومها جهالا
أسفوا لأنْ نالَ الوراثةَ دونهم ... عمُّ النبيِّ، وبالفريضةِ نالها
قلْ للذين على الخلافةِ شايحوا ... ليفتحوا بمناهمُ أفقالها
1 / 14