قد قدمت أن المحاكاة تنقسم قسمين: محاكاة الشيء نفسه، ومحاكاة الشيء في غيره. وبقي أن نتبين أحكام هذه وأحكام تلك. فلنقدم أحكام محاكاة الشيء نفسه. فأقول: إن الأشياء منها ما يدرك بالحس، ومنها ما ليس إدراكه بالحس. والذي يدركه الإنسان بالحس فهو الذي تتخيله نفسه لأن التخييل تابع للحس، وكل ما أدركته بغير الحس فإنما يرام تخييله بما يكون دليلا على حاله من هيئات الأحوال المطيفة به واللازمة له، حيث تكون تلك الأحوال مما يحس ويشاهد. فيكون تخييل الشيء من جهة ما يستبينه الحس من آثاره والأحوال اللازمة له حال وجوده والهيئات المشاهدة لما التبس به ووجد عنده. وكل ما لم يحدد من الأمور غير المحسوسة بشيء من هذه الأشياء، ولا خصص بمحكاة حال من هذه الأحوال بل اقتصر على إفهامه بالاسم الدال عليه، فليس يجب أن يعتقد في ذلك الإفهام أنه تخييل شعري أصلا، لأن الكلام كله كان يكون تخييلا بهذا الاعتبار.
١- إضاءة: فأما الأشياء المدركة بالحس فإنها تخيل بخواصها وأعراضها. وكلما كانت الأعراض في ذلك قريبة شهيرة مناسبة لغرض القول كانت أحسن. ولا يخلو الشيء المخيل من أن يقصد تخييله على الكمال أو يقتصر فيه على أدنى ما يخيله. فإن قصد تخييله على الكمال وجب أن يقصد في محاكاته إلى ذكر خواصه وأعراضه القريبة اللازمة له في جميع أحواله أو اللاحقة له في حال ما من جهة هيئته ومقداره ولونه وملمسه. وربما أردف ذلك بمحاكاة هيئته وحركته أو صوته إن كان مما له ذلك. وإن قصد الاقتصار فيه على أدنى ما يخيله كان الوجه أن يقصد إلى بعض خواص الشيء وأعراضه القريبة الشهيرة فيه، كما يقال الضئيلة الرقشاء، فتتخيل منه الحية. ويستحسن في المحاكاة أن يبدأ بالأصل في الشيء والأشهر فيه.
٢- تنوير: وكل شيء حوكي بما تدركه الحواس فلا يخلو من أن يكون متساوي الأجزاء متماثلها، أو متخالفها متفاوتها. وكلاهما لا يخلو من أن يكون على صفة واحدة من جميع أقطاره، أو على صفات شيء في هيئته أو لونه أو ملمسه. وكل ذلك لا يخلو من أن يكون على شكل واحد في حالي حركته وسكونه أو يكون ما يختلف شكله في الحالين. وكل ذلك يجب أن يعتبر في المحاكاة إذا قصد تخييل الشيء على جميع هيآته وأوصافه وفي جميع أحواله. فلا يخلط ما تعلق بوصف حال من ذلك بما تعلق بحال مغايرة لها. وقد يخيل الشاعر الشيء ببعض أوصافه دون بعض، وعلى ما يكون عليه في بعض أحواله.
٣- إضاءة: وكل ما تختلف أجزاؤه وأقطاره وأشكاله وهيئاته في حال حال من شؤونه فإن المحاكاة فيه لا تخلو من أن تفصل بحسب الأجزاء والأقطار والأشكال والهيئات وتجعل هذه الأشياء أركانا للكلام تقسم التخاييل إليها، وتبنى المحاكاة عليها كقول امرئ القيس: (المتقارب -ق- المتدارك) إذا أقبلت قلت سر عوفة وقول الأسعر الجعفي: (الرجز -ق- المتدارك) أما إذا استقبلته فتقول هذا مثل سرحان الغضا أو تجعل الشيء المخيل بحسب تباين أجزائه وأقطاره وأشكاله قطبا لمدار الأوصاف المخيلة لهيئة جزء جزء وقطر قطر من أجزاء الشيء وأقطاره، ولكل ما تتنوع إليه أشكاله وهيئاته بحسب اختلاف أحوالها مقرونة بمخيلاتها وما هي محاكاة له في الحقيقة على سبيل التخصيص أو مستغنى عن ذلك. فيكون الكلام على هذا متناسقا متسلسلا، وعلى الوجه الآخر مفصلا مقسما. وكلما كثرت التخاييل زاد التفصيل حسنا.
1 / 31