وما هذه الأحزاب السياسية التي نراها؟ أليست صورة أخرى للأشراف الذين عفى على عهدهم الزمن، والذين كانوا لا ينفكون يقتتلون على السلطان والمجد؟! والأحزاب تطلب الحكم وتزعم أنها إنما تبغيه لتخدم بلادها! وإنها لصادقة ولكنها كاذبة أيضا؛ هي صادقة لأن غرور الإنسان يجعله يتصور أنه أقدر ممن عداه، ولأنه لا داعي لأن يفرض المرء أن هذا الحزب أو ذاك إنما ينشد الحكم ويسعى لولاية الأمر ليسيء عمدا، فما يفعل ذلك إلا عدو أو خصم للجماعة كلها أو مضطغن على العالم يريد - كما يقول المتنبي - أن يروي رمحه غير راحم، ولكنها كاذبة حين تزعم أن غايتها الخير للجماعة وحدها، وأنها لا تبغي لنفسها جاها أو سلطانا ولا يعنيها أن تنعم بمزايا الحكم. على أن إرادة الحكم - لما يفيده من المزايا - لا تنفي الإخلاص في إرادة الخير للجماعة والصدق في دعوى التنزه عن المآرب الشخصية. ووجه الصدق والإخلاص هنا أن الإنسان يظل يلهج بخير الجماعة حتى يوحي ذلك إلى نفسه، فيصبح وهو يعتقد أنه لا يبغي إلا هذا الخير العام. وأنه لو جاءه هو خير عن طريق الحكم لزهد فيه وأعرض عنه. فالذي يحسه من نفسه ويعرفه من غاياته هو هذا الخير للجماعة، والمستور عن عينه بفعل الإيحاء الملح هو المجد الشخصي والمطامع الذاتية.
ومن الناس من لا يمنعه الإيحاء إلى نفسه أن يدرك أن له مآربه وأن يضعها قبالته، وأن يتحرى أن تكون وسائله معينة عليها ومؤدية إليها. ولا سبيل إلى الجزم بشيء، فإن النفوس ليست كتبا تقرأ، وأصحابها كثيرا ما يجهلونها، فكيف بغيرهم؟! وقد يعين على الحكم على الغير أن يتدبر المرء نفسه، ويقيس عليها. ولكن نفس الإنسان شيء معقد جدا ووجوهها مختلفة. ولا أدري كيف تبدو نفوس الناس لهم؟ ولكن الذي أدريه أن نفسي تبدو لي كل يوم بوجه، فأنا أراها تارة تنزع إلى الخير وتارة أخرى تجنح إلى الشر. وتصفو أحيانا حتى ليعجز كل ما في الدنيا والحياة من الأكدار والأحوال أن يعكرها. فكل ما تتلقاه يصفو مثلها من الأخلاط والأقذار. ثم أراها تربد حتى ليسود في عيني نور الضحى، فكل ما أراه من الناس أو أحسه من ناحيتهم لا تأويل له إلا على أسوأ الوجوه! وأحسب أن الناس مثلي؛ فما أنا ببدع في الخلق. أريد أن أقول: إن الحكم على الغير بالقياس إلى النفس لا يؤمن خطؤه ولا يضمن صوابه. وإن العمل الواحد الذي تجعل من نفسك محكا له يمكن أن يبدو لك اليوم سيئا، فإذا تغيرت حالتك النفسية رأيته حسنا لا سوء فيه. فلا سبيل إلى اتخاذ النفس معيارا؛ لأن حالاتها تتعدد وتختلف.
وكل حزب في الدنيا عبارة عن أحزاب شتى، وكل من فيه ينشد البروز والارتقاء إلى القمة، والحرب دائرة أبدا بلا فتور، والسلاح لا يلقى في ليل أو نهار. فهذا يؤخر نفسه ويقدم غيره، ويتخذ من مظهر إنكار الذات وسيلة للكيد لمنافس له. وما يقدم غيره على نفسه إلا ليكون آلة في يده، وتراه لا يكف عن الثناء عليه والشهادة له ليجعله ألين في يده لفرط ما يسره كل ساعة، ويلازمه ولا يفارقه ولا يدعه يغيب عن عينيه لحظة ليأسره بمظهر الإخلاص، وليصبح وجوده إلى جانبه عادة له، وليمنع أن يتمكن من أذنه غيره. ويرى غيره هذا فيسخطون ويتبرمون ويتجه سعيهم إلى التفرقة، وقد يتعمدون أن يكتموا النصيحة والرأي السديد ليبدو خطل الرجل وصاحبه. وتسأل عن الخير العام للجماعة في كل هذا فلا تراه، وإنما ترى منافسات وأحقادا ودسائس وسعايات لا آخر لها. وتسأل عن إرادة الخير ماذا صنع الله بها؟ فلا تكاد تتبينها. ولكنها هناك مع ذلك، وإن كانت تحجبها هذه المنافسات وقد تضيعها في كثير من الأحيان؛ فإن من سوء الحظ - أو من يدري! فقد تكون الخيرة في الواقع - أن الحياة تقوم على التعادي لا التعاون. وإنما يضطر الإنسان إلى التعاون ليكون أقدر على القتال وأقرب إلى الظفر؛ وليس في الدنيا خير محض ولا شر صرف، وكل منهما ينتج الآخر. على أن الخير والشر ما هما؟ إن الأمر فيهما أمر تقدير راجع إلى الأحوال العارضة. وما أكثر ما رأت الجماعة الخير في شيء ما ثم آمنت بعد قليل أو كثير أنه كان شرا. والعكس يحدث أيضا!»
ونهضت وأنا أقول لنفسي: إن هذه الرواية فارغة، وكل ما فيها أنها تدور على شخصية ريشليو ومنه تكتسب قيمتها. وكذلك الأمم تكتسب قيمتها من الفرد البارز، لا من الملايين الكثيرة الذين تؤلف منهم هذه الكتلة البشرية الخاصة. ولكنها - أعني الرواية - تمثل مع ذلك كل عصر. فما ظهر عظيم أو برز رجل إلا هاجت عليه الأحقاد، وراح يحترب حوله وبسببه الأنصار والأضداد. ومتى رأيت رجلا يحبه الناس أو يبغضونه فاعلم أنه كبير، وليس أتفه ممن لا يتناوله الناس إلا بالاستخفاف، ولا يحسون له لا حبا عظيما ولا مقتا شديدا. ***
أراني في هذه الأيام لا أكاد أعرف لي رأيا في شيء، لا لأني كففت عن التفكير، فلعل الأمر على خلاف ذلك، وعسى أن أكون مسرفا في النظر والتدبر وفي التماس الوجوه المختلفة للأمر الواحد الذي يعرض لي. وإنما ترجع حيرتي إلى أن إطالة النظر تكشف لي كل يوم عن جديد، وإلى أن تدبر النواحي المختلفة تجعل الجزم عسيرا وتغري بالتردد وتدفع إلى الشك . ومن طال وزنه للأمور وتقصيه لوجوهها وتأمله في البواعث والاحتمالات قل بته - وعمله أيضا - لأن العمل يراد منه الغاية، فلا بد من المجازفة والتعرض لعواقب الخطأ من بعض النواحي. وكل رجل عمل يضطر إلى الأخذ بالأرجح فيما يرى، وإلا تعذر عليه العمل، بل استحال. ورجال الحرب والسياسة والمال والتجارة ومن إليهم لا يسعهم إلا المخاطرة؛ لأن غايتهم ليست الاهتداء إلى الحقيقة، بل بلوغ الغرض. وكثيرا ما أراني أسأل نفسي - لفرط ما أرى من ترددي وحيرتي: «هل أصبحت غير صالح للعمل؟» ولا يسرني ذلك، فأروح أقول: إن قدرة النفس على التكيف لا حد لها فيما أعرف، وإن العمل الذي يحوج إلى سرعة البت والجزم بلا تردد يضطر المرء إلى النزول على مقتضياته. وما أكثر ما تكون مواهب الإنسان كامنة فلا يظهرها إلا انتقال الأحوال به. وأنا مع ترددي بين الآراء أراني مع ذلك أتصرف في مواقف العمل بسرعة وضبط وإحكام. وليس هذا من الثناء على النفس، ولكنه من الواقع الذي أعرفه بالتجربة.
ومن طول حيرتي بين الآراء أصبحت أثق بخطئي ولا أثق بصوابي. وأقدر الضلال في كل ما أنتهي إليه، ولا أطمئن إلى السداد فيه، ومن أجل ذلك لا أزال أراجع نفسي في كل قضية، وأنقض اليوم ما أبرمت بالأمس، ولولا أني معجل في حياتي لكان الأرجح أن أحجم عن المجاهرة برأي مخافة أن أكون قد أخطأت الصواب فيه. وأنا أعزي نفسي - لو أن في هذا عزاء - بقول ويندل هولمز - على ما أذكر: إن الحقيقة «كزهر» النرد، لها أكثر من وجه واحد. فإذا كنت قد رأيت وجها واحدا دون سائر الوجوه فإن لي العذر إذ كان هذا كل ما بدا لي ... وأين في الناس من يرى وجوه الحقيقة كلها من كل جانب؟
ولهذه الحيرة عللها المعقولة؛ فأنا قد ورثت آراء، وأفدت من مخالطة الناس آراء، واكتسبت من الاطلاع آراء، وكنت أسلم بما ورثت واكتسبت وأنا في سن التحصيل، وكنت ربما كابرت بالخلاف فيما أخذته من بيئتي. أما ما كنت أفيده من الكتب فكنت أتلقاه بالإكبار والإقرار؛ لأني لم أجد من يهديني أو يرشدني. فلا البيت كان لي فيه هذا المعين، ولا المدرسة كنت أجد فيها هذا المعلم الحاذق المرشد. وظل احترامي للكتب على حاله، حتى احتجت في سنة أن أبيعها، وشق علي ذلك في أول الأمر، وكنت لا أكاد أطيق أن أدخل الغرفة التي كانت مرصوصة فيها. وظللت أياما أحس كلما نظرت إلى الرفوف التي خلت مما كان عليها أني فقدت أقرب الناس إلي وأعزهم علي، وأشعر أني مشف على البكاء إذا لم أحول عيني عن هذه الرفوف الخالية.
ولم يكن ما أتحسر عليه زينتها وما أضعته فيها من مال خسرته بالبيع، وإنما كانت الحسرة على فقدان أساتذتي وإخواني. وبقيت بعد ذلك زمنا لا أمر بمكتبة عامة إلا أشحت بوجهي عنها من فرط الألم، وإلا أحسست أن يدا عنيفة تلوي أحشائي وتحاول أن تقتلعها. وكان من غرائب ما حدث أني لبثت أكثر من سنة لا أقتني شيئا من الكتب، كأنما زهدتني الحسرة على ما ضيعت في كل جديد غيره. ومن الغريب أن هذا هو نفس الإحساس الذي عانيته لما توفيت زوجتي، فقد ظللت سنوات لا أطيق أن أنظر إلى وجه امرأة. ثم فتر الألم وخفت وطأته كما هي العادة، وكنت في خلال ذلك قد احتجت أن أنظر بعيني وأفكر بعقلي، فألفيتني أشك في كثير مما كنت أسلم به ولا أكابر فيه، ولا يخطر لي أن أعترض عليه! وتغير الأمر فبعد أن كنت آخذ الآراء من الكتب أو الناس صرت آخذها من الحياة بلا واسطة، وأعرضها على عقلي بلا مؤثر، فاعتدت الاستقلال في النظر والحرية في التفكير، وخلا تفكيري وإحساسي شيئا فشيئا من تأثير الكتب وسواها، وبرزت نفسي بعد طول التضاؤل. ثم أخذت أروض نفسي على التماس الجوانب الأخرى التي تخفى في العادة، فصارت وجوه الحقيقة تتعدد فيما أرى، وألفت ذلك حتى صار هذا ديدني مع الناس، فإذا رأيت من صاحب لي ما يسوءني حاولت أن أضع نفسي في مكانه، وأن أنظر إلى الأمر بعينه هو، وأن أتمثل بواعثه وإحساساته إلى آخر ذلك، فينتهي الأمر في الأغلب بأن أعذر ولا ألوم. ويذهب الألم أو الغضب أو غير ذلك مما أثار صاحبي بما صنع.
بل ترقيت من هذا إلى ما هو أرفع، فصار نظري إلى الناس نظرا إلى مادة تدرس، لا إلى مخلوقات تعاشر ويصدر عنها ما يسوء أو يسر. ولا شك أن الفعل الحميد يحسن وقعه في النفس، وأن السوء يؤلم أو يغضب، وليس يسعني إلا أن أتلقى ما يكون من الناس بالحمد أو الذم، وبالرضا أو السخط، ولست بإنسان إذا لم يكن هذا شأني. ولكني أعني أني لا أعجل بالذم والسخط، ولا أندفع مع أول الخاطر؛ بل أراجع نفسي وأجيل عيني في الأمر لأراه من ناحية غير الناحية التي طالعتني في البداية، فيتحول الموضوع من عمل أو قول باعث على الرضا أو الامتعاض إلى مادة للتفكير، وتذهب عنه الصبغة الشخصية، فكأني أمتحن نظرية ولست أزن صنع إنسان أساء أو أحسن.
ويخيل إلي الآن أني أعيش في معمل، فكل ما ألقاه في الحياة من خير وشر، وما أجدني أو أجد سواي فيه من جد ولهو، أتناوله بالتحليل والبحث لأستخلص منه ما يتيسر لي استخلاصه من الحقائق. ثم أروح أقيسه إلى تجاربي الأخرى وأقارن وأقابل، ولا أزال أفعل ذلك حتى يهدني التعب. وقلما أهتدي، وكثيرا ما أضل، ولكني لا أسأم ولا أضجر؛ لأن هذا صار متعتي النفسية التي لا أعدل بها متع الدنيا بعد أن وجدت نفسي وعثرت عليها تحت طبقات الكتب التي بعتها، والحمد لله على ما كنت أتوجع وأذم الدنيا من أجله، فلولا أني بعت هذه الكتب لما وجدت نفسي، ولكان الأرجح أن أظل كالذي يعبد أصناما.
Bilinmeyen sayfa