هذه هي المسألة كما يقول «هملت»، وحياة الرجل مدارها غريزة المحافظة على الذات؛ لأن عمله في الحياة هو السعي والكفاح والنضال، وهو يستهدف للمصاعب والمهالك والتلف والبوار، ولا يسعه إلا أن يعمل جاهدا لاتقاء ما يعرض له من ذلك، كما يعمل جاهدا للكسب والفوز، ومن هنا قويت غريزة المحافظة على النفس؛ لأن عملها دائم ونشاطها غير منقطع. وللمرأة حياة أخرى ووظيفة غير هذه - إلى الآن على الأقل - وأكبر ما هو معهود فيه إليها هو حفظ النوع والحرص على أن تظل هذه الدنيا عامرة بنسل أبينا آدم. وقد تزاول مثل ما يزاول الرجل، فتسعى وتكافح وتنافس، وتكسب الرزق وتقوم بأود الأسرة، ولكن عملها الأكبر سيظل هذه المحافظة على النسل، ومن هنا قويت في المرأة غريزة المحافظة على النوع، وليس معنى هذا أن غريزة المحافظة على النوع شيء لا يعرفه الرجل، وإنما معناه أن الغريزة الفردية فيه أقوى من أختها، كما أن الغريزة النوعية في المرأة أقوى من الغريزة الفردية، وهذا هو سر الاختلاف بين الجنسين، وهو اختلاف له مظاهره الجسمية، فليس هو من الأوهام، وليس القول به من الآراء التي تحتمل النقض وتتسع للمكابرة.
وهذا الاختلاف في الطبيعة يفضي حتما إلى اختلاف مثله في نظر كل منهما إلى الآخر؛ وأضرب مثلا فأقول: إن حب الرجل للمرأة معناه أنه يريدها خالصة لنفسه لينعم بها وحده، ويستأثر بالمتعة المستفادة من جمالها. أما حب المرأة للرجل فمعناه أنها رأته - بغريزتها لا بعقلها، فلا دخل للعقل هنا - أحق رجل بأن يعينها على أداء وظيفتها، أي: الإتيان بنسل صالح في الدنيا وبقاؤها عامرة بهذا النسل، وهي لا تفكر في ذلك كما لا يفكر الرجل في الأمر؛ لأن العمل والوحي هنا للغريزة لا للفكر. فالرجل يحب نفسه حين يحب المرأة، أما المرأة تسعى للتضحية الكبرى حين تحب الرجل، فهو لهذا أناني في حبه، وهي لهذا مضحية في حبها، وهي تحتمل المكاره في سبيل الحب؛ لأن حبها تضحية كبرى ، فأولى بها أن تصبر على التضحيات الصغرى.
أما الرجل فهو كما قلت، أناني فلا صبر له على تضحية، ولا احتمال منه لعذاب إلا وهو كاره أو عاجز عن الفوز بالراحة؛ لأن طبيعة حبه لا تسمح له أن يفهم هذه التضحية، ولا تجعله مستعدا لها. وأنا أتكلم عن الأصل لا عما يعرض من الشذوذ. ومن هنا كانت المرأة أوفى، وكان الرجل أغدر، بالمعنى الشائع لا الحقيقي. فإن الوفاء من الرجل إفلاس نفسي، وخيانة لطبيعته التي فطر عليها، أو التي نمت فيه بفضل أسلوب حياته. وهذا هو الأصل، ولذلك رأينا الرجل في تاريخ الإنسانية يتخذ المرأة والمرأتين والثلاث والأربع، وتكون له الجواري فضلا عن الزوجات أو من هن في حكمهن، ولم نر المرأة تتخذ من الرجال - أعني الأزواج - اثنين أو ثلاثة أو أربعة، إلا أن يكون ذلك - أي أن تصاحب غيره - سرا وخفية ولعلة، ولكن الرجل لم يكن يصنع هذا سرا، بل جهرا، وكان يقيمهن في بيت واحد، وكانت المرأة ترضى وتذعن وتسعى سعيها لتكون هي الأثيرة المحبوبة لا الوحيدة، وكان الرجل لا يكف عن الاشتهاء والتطلع إلى غير الموجودات والتبرم بالموجودات، وهذا هو قضاء الطبيعة وحكم الفطرة - أو ما صار كالفطرة - في الرجل والمرأة.
فالوفاء فيما يتعلق بالرجل، أكذوبة ومنافاة للطبيعة كما قلت غير مرة، ولكنه فيما يتعلق بالمرأة، صدق وإخلاص للطبيعة، ومن هنا إن المرأة لا تزال تتهم الرجل بالغدر والتحول والتقلب وقلة الثبات، وهذا هو تفسير الغيرة الشديدة من جانب المرأة، وهي غيرة لا تقاس إليها غيرة الرجل مهما عظمت؛ لأن غيرة الرجل على المرأة هي كغيرته على كل ما يملك، فإذا أمن أن يضيع ملكه لم يبال ما دون ذلك مبالاة تذكر، فغيرته في الكليات لا في الجزئيات والتوافه، ولكن غيرة المرأة مرجعها إلى إدراكها - بغريزتها الذكية التي تهديها في حياتها - أن الرجل لا يستطيع الصبر على الوفاء، ولا يملك إلا أن يتحول ويتقلب في حبه، وإلا أن يصرف قلبه من هنا إلى هناك. فكل حركة منه أو لفتة نذير منه عندها بوشك هذا التحول وبفقدان ما كان لها عنده من مقام ومنزلة وإيثار، وبعودتها واحدة من مئات الآلاف اللواتي لا يباليهن أو يحفلهن ولا يحسهن أو يفطن إلى وجودهن. فهي غيرة على الوجود وكل ما ينطوي عليه من الحقوق والمزايا، ولذلك لا تنفك مشبوبة مضطرمة.
وقد يتغير كل هذا وتتقارب الطبيعتان تبعا لتغير الزمن الذي دفع بالمرأة إلى ميدان السعي والعمل، وحملها على مشاركة الرجل فيما كان يستأثر به. ولكن حدوث هذا التغيير يحتاج إلى أحقاب طويلة علمها عند الله؛ وإلى أن يحدث هذا التغيير تبقى مشكلة الوفاق قائمة بين الرجل والمرأة، ويبقى عسرها كما هو الآن، وما أظن الحب حينئذ يكون كما هو الآن، بل لا أدري كيف يكون هذا الحب. فإن الاختلاف لا التوافق والتطابق هو الذي يجذب الرجل إلى المرأة، ويجذب المرأة إلى الرجل، فإذا صارا شبيهين وأصبحا ندين وقريعين، فكيف ينشأ بينهما الحب الذي ينشأ الآن؟!
ومشكلة أخرى جاءنا بها العصر الحديث والتطور الجديد في حياة الجنسين وعلاقاتهما. فإن القناعة ترجى مع الحجاب، ولكنها مع السفور والاختلاط عسيرة. ذلك أن المرأة كانت لا ترى إلا رجلها، وكان الرجل لا يكاد يرى إلا امرأته، فإذا رأى غيرها لم يكد يرى إلا الثياب التي هي ملفوفة ومحجوبة تحتها؛ وفي وسعنا أن نقول: على كل حال - مع شيء من التجوز لا يؤثر في القضية - إن الرجل كان مقصورا على امرأته، والمرأة كانت مقصورة على رجلها من حيث الاختلاط والمعايشة وما ينطويان عليه، ولكن الحال اختلف الآن بعد أن برزت المرأة سافرة تغشى المجتمعات، وتختلط بالرجال، وتكون معهم ومثلهم، فالرجل يرى أمامه ما لم يكن يراه، والمرأة كذلك. وقد كان الرجل في نظر المرأة مثلها الكامل؛ لأنها لم تكن تعرف سواه ولم تبل غيره، ولكنه الآن لا يمكن أن يكون مثلها الكامل، لأنها تطلع على حياة غيره كما لم تكن تطلع، وتعرف كيف يكونون في كل حال، غير أن من العبث أن تطمع أمة في حياة كريمة أو عزيزة، أو ما شئت غير ذلك إذا كان نصفها معطلا محكوما عليه بالسجن والاستعباد والذل وعدم الكفاءة للحياة، مقضيا عليه بالحرمان من الحرية التي هي حق كل موجود، والاستقلال الذي هو ميراث طبيعي للإنسان. ثم إن الحجاب من ناحية أخرى يحرم المرأة الفرص اللازمة لفهم الرجل، وهي لا تستطيع أن تفهمه إلا إذا درسته، ولا سبيل إلى دراسته إلا بالمخالطة والمعاشرة. فإذا امتنع ذلك - وهو يمتنع مع الحجاب - كانت النتيجة أن المرأة تكون مكلفة أن تعاشر مخلوقا لا تفهمه ولا تعرف عنه إلا أنه يأكل مثلها ويشرب، ثم يلبس ويخرج إلى حيث لا تدري على التحقيق، ليعمل ما لا تعرف وما لا تستطيع أن تفهم على وجه جلي. وهي مع ذلك مطالبة بأن ترضيه وتسايره وتوافقه، وتكون معه كما ينبغي في رأيه هو لا رأيها هي. أما كيف تكون معه كما ينبغي فشيء يعلمه هو دونها، ولا أدري كيف يتيسر هذا فإني أراه محالا، ولكن الحجاب كان يقضي به مع ذلك.
وأعود إلى المقارنة التي استطردت عنها فأقول: إنها على خطرها المحقق لها فائدة ومزية محتملة، فإنها خليقة أن تدفع الرجل إلى استكمال النقص الذي فيه، كما أنها خليقة بأن تغري المرأة باكتساب المزايا التي تراها في غيرها من النساء، وهذا عامل رقي ولا شك. ولكن البلاء أن كل إنسان - رجلا كان أو امرأة - عنده من الغرور مقدار كاف جدا. وما من أحد إلا وهو يعتقد أنه خير من غيره وأكمل وأسمى وأرقى وأجمل وأظرف ... إلى آخر ذلك، وكل إنسان قادر على أن يوحي إلى نفسه هذا الاعتقاد ويلح عليها به، حتى تؤمن وينتفي عندها الشك فيه، فإذا أحس نقصا أو عيبا وآلمه الشعور بذلك لم يحاول أن يعالجه، بل راح يحاول أن يعوضه من ناحية أخرى، فإذا كان ضعيف الجسم، مسلوب القوة، التمس سعة الحيلة ... وهكذا. وما دام هذا الغرور في الإنسان - وكل إنسان مغرور - فإنه خليق أن يمنع - إلى حد كبير - ذلك النفع الذي أشرت إليه.
وليست هذه إلا بعض معضلات المجتمع الإنساني وما تنطوي عليه من الحقائق المحيرة. أما كيف تعالج فشيء لا أعرفه، وأكبر الظن - بل المحقق - أن الجماعة تنظم نفسها بنفسها وفق الأحوال وعلى الأيام، فلا داعي للقلق ولا موجب للخوف من عواقب هذه المشاكل. وقد يسأل سائل: إذن لماذا تصف أمورا لا داعي للقلق من ناحيتها، ولا خوف على المجتمع منها؟ وردي على هذا السؤال أن الأديب عمله الكلام ولو كان فارغا. ولو خلت الدنيا من الكلام الذي لا ضرورة له لكفت ألسنة الناس جميعا - لا الأدباء وحدهم - عن الدوران ثلاثا وعشرين ساعة وتسعا وخمسين دقيقة وسبعا وخمسين ثانية! ***
ألقيت الكتاب وذهبت أفكر. وخير ما أعرفه للكتب من المزية والنفع هو هذا: أنها تفتح لي أبوابا جديدة تفضي إلى رحاب واسعة في عالم الفكر والخيال. وكان الكتاب رواية عن عصر ريشليو، وكان مدارها الدسائس التي لم يكن يفرغ منها. وقلت لنفسي وأنا أضطجع: «هذا رجل عظيم يعد بحق خالق فرنسا الحديثة. وماذا كان ملكه الضعيف يستطيع أن يصنع بغير معونته؟ لا شيء! ومع ذلك كان ريشليو غرض الدسائس كلها. وكان الأشراف جميعا يمقتونه ويكيدون له، إلا من اصطفاهم وانتفعوا بالقرب منه. وكان هم هؤلاء الأشراف أن يحبطوا سعيه. ولو أنه كان أخفق لخسرت فرنسا. ومن يدري! إن الذي يرى النجار يقطع الأخشاب ويفصلها وينجرها قلما يستطيع أن يتخيل المائدة الجميلة التي تحف بها الأسرة وتجلس إليها مغتبطة مسرورة. ولو أن ألواح الخشب وسعها أن تعلم أن ستكون منها هذه المائدة الجميلة النافعة لما وسعها مع ذلك إلا أن تألم لفعل المنشار والفارة وما إلى ذلك من أدوات النجارة وآلاتها، ومن يدري أيضا! لعل هؤلاء الأشراف كانوا يتوهمون أن ريشليو يسيء إلى فرنسا ولا يحسن، أو أنهم هم أقدر منه على نفعها ورفع شأنها وإعلاء مقامها. ومن العسير على كل حال أن يدرك الناس الخير في أثناء العمل له وقبل أن يتم ويتخذ الصورة التي يسهل أن تراها العين ويدركها الفهم!»
وقلت لنفسي أيضا : «وفي سبيل هذه الغاية، ألم يرتكب ريشليو أخطاء ومظالم وجرائم؟ ولكنه استهان بذلك كله إذا سلمت له الغاية الكبرى واطمأن إلى تحقيقها. وفي سبيل الخير، ما أكثر ما يجني الناس الشر! بل ما أكثر ما يكون الشر هو سبيل الخير! ونحن الآن نقول: إن ريشليو إنما أراد مجد فرنسا، فمن أدرانا أنه لم يكن ينشد المجد الشخصي! أقليل هذا السلطان الذي جمع أعنته في يديه؟ من الذي يسعه أن يجزم بأن بواعثه كانت خالية من العوامل الشخصية، أو أنها كانت كلها شخصية؟ وما البأس على كل حال من اختلاط البواعث العامة بالشخصية؟ أو كيف يمكن أن لا تختلط؟ وكل زمن وكل بلد فيه مثل ما كان في زمن ريشليو ... مناورات ومساع، بعضها شريف والبعض وضيع. ومنافسات تحوج إلى الدس والوقيعة في جملة ما تحوج إليه.
Bilinmeyen sayfa