قالتها الفتاة وعلى شفتيها ابتسامة كاسفة وأرخت أهدابها في انكسار ومذلة!
وابتسمت الزوجة في كبرياء وسخرية وهي تستمع إلى ما يدور بين الرجل وفتاته من حديث.
قال عابد: «ولكنك لم تخبريني من قبل ...!» - «كذلك علمتني أمي؛ لقد كان حسبها أن تعيش ابنتها في دارك، لتراك صباح مساء وتسمع منك، فتحدث أمها عنك كلما لقيتها، فكأن قد رأت أمها وقد سمعت ...!»
وخنقتها دموعها فأمسكت، وعاد جسدها ينتفض، وغامت على عيني الرجل ضبابة، وخيل إليه أنه لم يسمع شيئا مما ألقي إليه ولم يفهم، ثم خيل إليه كأن قد سمع أكثر مما قيل، وفهم. وكأنما أخذته غفوة وهو يقظان، وتراءت له صور غير ما يرى، وتكاثفت على عينيه الضبابة فحالت بينه وبين ما يرى من الأشياء الماثلة، وأخذه دوار، وتخاذلت ركبتاه وهم أن يسقط، وأسرعت إليه زوجه في ذعر تحاول أن تسنده، وهتفت الفتاة مرتاعة: «أبي ...!»
وشهق الرجل شهقة ردته إلى الحياة لحظة، وبرق في وجه الفتاة، وتراخت ذراعا المرأة التي تسنده، فهوى ... ثم استفاق!
إذن فهي ابنته ...! وعرف كل من السيدة والفتاة أين هي من صاحبتها على التحديد وأين هي من سيد هذا القصر ...!
وفي كوخ منفرد على حدود العمران، والشمس تنفض آخر أشعتها على أوراق الشجر حمراء ملتهبة، كان اثنان جالسين يتحدثان في همس، وثمة فتاة على مقربة تصغي إليهما في شوق ولهفة، تحاول أن تعرف قصة بدأت قبل أن تولد ولم تنته إلى نهايتها بعد ... ... وقال عابد: «إذن فلم ترضعني أمك كما زعموا؟»
قالت أمينة: «ومن أين لها وقد ماتت أمي قبل أن يبنى القصر الأبيض؟ ومن أين لك؟ لقد خلفتني أمي قبل أن أتم الرضاع فلم ألقم بعدها ثديا قط؛ وجاءت بك سيدتي وأنت غلام تسابق الفراش بين نوار الحقل، وكنت أدعوك سيدي!»
فابتسم عابد وقال: «ولكنك لن تدعيني بهذا الاسم!»
ومال رأس على كتف، وامتزج دمع بدمع، وتروت شفاه ظمأى، وتلاحقت أنفاس مبهورة، وهمت أن تقول، وهم أن يجيب، وماتت الكلمات على شفاه ترتجف، وتساءل قلب وأجاب قلب، وتلاشى الوجود بينهما فلا شيء هناك إلا اثنين يتناجيان بلا كلام. وهبت نسمة ندية فالتقى غصنان، وتهامست زهرتان، وأطلت عينان من فرجة السحاب تختلسان النظر، ثم ازدحمت أعين النجوم على فتوق الخباء تنظر، ثم انقشع السحاب وبرز القمر، وانكشف السر المختبئ في ضمير الليل ...
Bilinmeyen sayfa