سيدنا ...
قلب أم ...
إبليس يتوب!
رجل ... وامرأة!
جناية رجل!
انتقام الآلة!
العروس!
أم بلا ولد!
ثمن المجد
عودة الماضي
Bilinmeyen sayfa
حلم شاعر!
ثمن الأمومة
الضيف الآخر
الدرس الأول
إنه أخي ...
آخر الطريق
من أدباء الجيل
حقيبة الذكريات
ورقة النصيب!
جندي مرابط
Bilinmeyen sayfa
الجائزة
بعد الأوان
زاهية
البعث
لقاء ...
النائب المحترم
عابر سبيل
في عيد الربيع
همام
عمامة الأفندي!
Bilinmeyen sayfa
أمنية تحققت!
عرس القرية
سيدنا ...
قلب أم ...
إبليس يتوب!
رجل ... وامرأة!
جناية رجل!
انتقام الآلة!
العروس!
أم بلا ولد!
Bilinmeyen sayfa
ثمن المجد
عودة الماضي
حلم شاعر!
ثمن الأمومة
الضيف الآخر
الدرس الأول
إنه أخي ...
آخر الطريق
من أدباء الجيل
حقيبة الذكريات
Bilinmeyen sayfa
ورقة النصيب!
جندي مرابط
الجائزة
بعد الأوان
زاهية
البعث
لقاء ...
النائب المحترم
عابر سبيل
في عيد الربيع
Bilinmeyen sayfa
همام
عمامة الأفندي!
أمنية تحققت!
عرس القرية
من حولنا
من حولنا
تأليف
محمد سعيد العريان
سيدنا ...
كنا في مجلسنا من شرفة النادي حين لمحنا صديقنا الأستاذ ع - مفتش التعليم الأولي - قادما من بعيد، يتوكأ على عصاه وهو يميل يمنة ويسرة، ويطول في مشيته ويتقاصر؛ إذ كان في رجله عرج قديم من التواء في إحدى قدميه، فلما بلغ حيث كنا جالسين ألقى إلينا التحية ثم اتخذ له مقعدا على مقربة.
Bilinmeyen sayfa
ومضينا فيما كنا من الحديث، نتسرح من فن إلى فن، وشئون الحديث تتداعى معنى إلى معنى، وحادثة إلى حادثة، وقال واحد من السامرين: «رحم الله سيدنا ...» فلم يكد يتم عبارته حتى اعتدل المفتش في مجلسه واختلجت شفتاه في تأثر وانفعال، ثم اهتبل الحديث يقول: «سيدنا! ... رحمه الله وغفر له!»
وتوجهنا بأبصارنا إلى الأستاذ ع، وقد أدركنا من حاله أن خاطرا من ذكرياته قد ألم به الساعة، وأن شيئا ذا بال في كلمة «سيدنا» قد أيقظ نفسه وهاج عاطفته، فرغبنا إليه في أن يقص قصته، فمضى يقول: كان سيدنا الشيخ عبد الجليل له في القرية مكان واحترام، لا يبلغ منزلته أحد من أهل القرية جميعا. ولا عجب، فهو شيخ القرية وعالمها ومعلم بنيها؛ يستفتونه في أمر دينهم، ويستشيرونه في شئون دنياهم، وما منهم أحد إلا له عليه يد، ولا ذو حاجة إلا كانت حاجته عنده، ولا ذات أمل إلا بلغت مأمولها برقية من رقى الشيخ أو تعويذة من تعاويذه.
وكان له «كتاب» يختلف إليه طائفة غير قليلة من صبيان القرية يحفظون القرآن ويتعلمون القراءة والكتابة، ويقصد إليه ذوو الحاجات يطلبون مشورته أو يلتمسون بركاته.
وكنت - ككل فتى في القرية - أسمع باسم الشيخ وأضمر له في نفسي من المحبة والاحترام مثل ما يضمر له الجميع، وإن لم يتهيأ لي مرة أن أراه رأي العين. وذات صباح صحبني والدي إلى كتاب الشيخ عبد الجليل ليكل إليه تعليمي. وكنت يومئذ في التاسعة من عمري وقد شدوت من العلم شيئا في مدرسة أولية بالمدينة، حيث كنت أقيم عند خالي، ومضيت خلف أبي على طول الطريق لا أفكر إلا في السعادة التي تنتظرني ساعة أجلس بين يدي الشيخ المبارك أنظر إليه وأسمع عنه وأحفظ من علمه.
ورأيت الشيخ يومئذ لأول مرة. لقد بدا لي أصغر سنا مما كنت أتصوره في خيالي، وأحسبه كان صغيرا حقا، فإنه على ذيوع صيته وامتداد شهرته في القرية لم يكن قد جاوز الأربعين بعد، عرفت ذلك من لحيته السوداء وشاربه المحفوف.
وكان في وجهه ذبول وعليه مسحة من صور الزهاد، أنبأتني بذلك عيناه الناظرتان أبدا إلى تحت، ولكنه على ما كان يبدو في وجهه وفي عينيه من التواضع والانكسار، لم يكد يرى أبي مقبلا عليه بالتحية حتى مد له يمناه، فطأطأ أبي رأسه ومال على يده فقبلها، حينئذ لم أملك إلا أن أفعل مثله، أنا الذي لم يقبل يدا قط حتى يدي أبيه وأمه.
ومنذ ذلك اليوم، صرت تلميذا من تلاميذ سيدنا الشيخ عبد الجليل، على أني لم أجد في نفسي لذلك من السعادة ما كنت أتوقع، فما هي إلا ساعة أو ساعات في كتاب سيدنا حتى ضاقت نفسي وأحسست مثل إحساس السجين يحاول أن يفر من حراسه.
كان الشيخ جالسا في صدر المكان على فروة قديمة ناحلة، وظهره مسند إلى وسادة حائلة اللون، وبين يديه قميص يرقعه، وعن يمينه دلو فيها جدائل من خوص أخضر، وتحت رجليه عصا غليظة يبدو طرفاها من تحت الفروة التي يفترشها، وأمامه صبي من صبيان الكتاب متربع في مثل جلسة المعبود «بوذا» وهو يهتز بين يديه في حركة راتبة، ويقرأ شيئا من غيب صدره في نغمة واحدة ليس لها لون ولا فيها معنى، وسيدنا مكب على عمله يرقع قميصه وهو يستمع إلى الصبي، لا يزيد على أن يرفع عينيه لحظة بعد لحظة.
وفي الكتاب عشرات من مثل هذا الصبي قد تربعوا أفرادا وأزواجا على حصير كبير يغطي أرض الغرفة جميعا، وبين أيديهم كتب وألواح يقرءون مما فيها حينا، ويتبادلون الحديث من ورائها في نظرات صامتة حينا آخر، والشيخ يخيط، أو يجدل ضفائر الخوص، والصبي بين يديه يقرأ ...
وكنت غارقا في تأملاتي، لا أكلم أحدا ولا يكلمني أحد، لا لحظة عين ولا بنت شفة، حين دوى صوت سيدنا غاضبا يتوعد، ومال على فخذ الصبي الجالس بين يديه يقرصه بغيظ، والصبي يتلوى من الألم لا يكاد يسمع صوته خوفا من سيدنا.
Bilinmeyen sayfa
وكان هذا أول الشر، ثم نهض الفتى الذي كان بين يدي سيدنا وحل محله صبي آخر. ومضت فترة قبل أن يدوي صوت الشيخ في أذني مرة ثانية وهو يميل على فخذ الغلام يقرصه، ولم يحتمل الفتى من الألم ما احتمل الصبي الذي سبقه؛ فندت من بين شفتيه صرخة ألم، حينئذ هاجت هائجة الشيخ، فوثب إليه «العريف» يعاونه على تأديب الصبي، وفي أسرع من خفقة الطرف كان الصبي مجدولا على الأرض، معلقا من رجليه في خشبة غليظة يشدهما إليها حبل مفتول، والشيخ يهوي على رجلي الغلام بالعصا في قسوة وعنف، وهو تحت رحمته يصرخ ويتلوى ويعض على شفتيه من ألم الضرب. وأحسست قلبي في تلك اللحظة يكاد يثب من موضعه فرقا وخشية، فوليت بصري إلى الناحية الأخرى، فإذا صبيان المكتب جميعا منكبون على ألواحهم ودفاترهم في خوف وفزع، وقد زادت هزاتهم وتتابعت في سرعة كأنما يحركهم محرك غير منظور، ولم ألبث أنا نفسي أن رأيتني أهتز مثل هزاتهم وأحرك شفتي وليس بين يدي لوح ولا كتاب، كأنما هي تميمة أقرؤها لترد عني الشر الذي أخافه.
كانت هذه هي عقوبة كل صبي من صبيان الكتاب لا يحفظ درسه، سواء في ذلك ابن العمدة وابن الأجير، ومع ذلك لم يحاول صبي واحد أن يتمرد على سيدنا أو يشق عصا الطاعة أو يجرب الإفلات من عقابه، وأنى لهم ذلك وإن آباءهم وأمهاتهم جميعا ليثقون بالشيخ ثقة عمياء، فلا يسمحون لواحد من بنيهم أن يشكو أو يتألم مما نزل به، مؤمنين بأن عصا سيدنا من الجنة!
منذ تلك اللحظة تبدلت صورة الشيخ في نفسي فعاد أبغض شيء إلي، حتى لو استطعت أن أنتقم منه لهؤلاء الصبيان وأفر بنفسي لفعلت. وما لي أخفي عنكم؟ لقد طالما حاولت من بعد أن أسيء إلى سيدنا كلما أمكنتني الفرصة، فتارة أخالفه إلى الأقلام التي تعب في بريها ساعة من نهاره فأقصفها جميعا، لا أدع لقلم منها سنا تصلح للكتابة، وتارة أعابثه بسرقة علبة السعوط فأستبدل بما فيها ترابا وحصى، وتارات أخرى ... وما كان سيدنا يعلم من يفعل به ذلك، وإن كان على يقين بأن صبيان الكتاب جميعا غرماؤه.
قضيت في كتاب الشيخ عبد الجليل شهرا وبعض شهر، لم ينلني فيها عقاب من عقابه، حتى جاء اليوم المشئوم.
كان علي في ذلك اليوم أن أحفظ جزءا من القرآن الكريم، فلم تتهيأ لي الفرصة أن أفعل، وحل ميعادي، فجلست بين يدي سيدنا وأنا أرتجف خوفا من عقابه، فسألته المعذرة في كلمات خافتة وصوت يرتعش، وبدا لي كأن الشيخ قد قبل عذري حين اكتفى بقرصة مؤلمة في فخذي، ونهضت من مجلسه وأنا لا أكاد أصدق بالنجاة، فقد كان أخوف ما أخافه أن يجدلني على الأرض معلقا في الخشبة ويهوي على رجلي بعصاه.
ومضت ساعة قبل أن يحل ميعاد صبي من رفقائي كان عليه وحده تبعة تقصيري في درس اليوم؛ إذ دعاني في عصر اليوم الماضي لصحبته إلى الحقل القريب لنصيد العصافير، فما عدنا إلا وقد أرخى الليل سدوله فلم نتهيأ لدرس الغد.
وجلس الفتى بين يدي الشيخ مضطربا منتقع الوجه لا يكاد يبين، ونظرت من خلف اللوح إلى سيدنا فإذا هو في هيئة الغضب، ثم لم يلبث أن سمعته يصيح بالصبي صيحة عرفت ما وراءها، فأخذت أعالج خوفي بهزات سريعة كأني أقرأ، وأذني إلى سيدنا. وطرق مسمعي قوله: «وأين كنتما أمس؟ تصيدان العصافير؟ ...»
ونادى عريفه، فأسرع بأداته إليه، وناداني ...
وقبل أن أرى صاحبي مجدولا على الأرض، معلقا من رجليه في الخشبة، كانت رجلاي تسرعان بي إلى الباب. ووقف العريف في وجهي، فلم أجد أمامي إلا النافذة، فاستجمعت قوتي ووثبت ...
لم أدر بعد ذلك شيئا مما كان، إلا حين رأيتني راقدا في فراشي ورجلي مشدودة إلى جبيرة بأربطة من نسيج أبيض، وأمي إلى جانب رأسي تبكي في صمت.
Bilinmeyen sayfa
لقد أفلت من عصا سيدنا، ولكني دفعت ثمن ذلك غاليا فانكسرت رجلي، ومن ذلك اليوم لا أمشي إلا مستندا على عكاز! •••
وتأوه المفتش وهو يعبث في الأرض بعصاه، وغرق السامرون في صمت، ثم عاد المفتش إلى حديثه: لم يكن لي - طبعا - أن أعود إلى كتاب سيدنا بعد الذي كان، فدخلت المدرسة الأولية بالمدينة، وانقطعت صلتي بالشيخ وكتابه وعريفه وصبيانه، ولكن ذكراه لم تفارقني قط، ذكرى مؤملة مرة، ومن أين لي أن أنسى وهذه رجلي وتلك عكازتي لا تفارقني!
وتأرث الحقد في قلبي من يومئذ لسيدنا، فما كان يخطر ببالي مرة إلا ثارت في نفسي شياطين الشر.
وأتممت التعليم الابتدائي والثانوي، وكنت أقضي الصيف من كل عام في القرية، فكان لا بد لي أن ألقى سيدنا أو تلميذا من تلاميذه عابرا في الطريق، فأطأطئ رأسي وأوفض في السير خشية أن تنزو بي نازية من الشر فأهوي بعصاي على رأسه فأحطمه.
ترى أكان ذلك شعوري وحدي، أم كان شعور الكافة من تلاميذه الذين ذاقوا من قساوته وعنفه ما لا طاقة لأحد باحتماله ...؟ ولكني أكاد أعرف تلاميذه جميعا. وهل في القرية كلها رجل واحد لم يكن من تلاميذ سيدنا في يوم ما؟ وإنهم مع ذلك ليوقرونه ويرفعون مكانه، وإن منهم لرجالا في مناصب رفيعة، وإن لي منهم لأصدقاء وزملاء.
وأتممت دراستي العالية، لأكون في أول عملي مدرسا في مدرسة من مدارس البنات الابتدائية، تتبعها روضة من رياض الأطفال، تضم شتيتا من الصبيان والبنات بين الخامسة والثامنة، تعلمهم وتهذبهم على نمط من التربية لم يكن معروفا لعهدنا في مثل هذه السن ...
وكنت أغدو وأروح كل يوم من عملي على هذه الروضة الضاحكة، فيسرني مرأى هؤلاء الأطفال الصغار في ثيابهم المتشابهة، بين بنين وبنات، يلعبون ويمرحون في بسيط من الأرض تحت رعاية معلمة عطوف، لها قلب الأم وحرص المربية، تأخذهم باللين والرفق في التعليم والمعاملة، وتشاركهم في اللهو، وتخاطرهم في اللعب، وتنفذ بكل أولئك إلى قلوبهم وعقولهم فتنشئهم نشأة رقيقة، وتصقل وجدانهم وعواطفهم، وتطبعهم من لدن نشأتهم على الخير والمحبة والسلام ...
وكان أدنى هؤلاء الأطفال العزاز منزلة إلى قلبي، هو الطفل «فؤاد» فإني لأعرفه ويعرفني، وبيني وبين أبيه صلة من الود؛ إذ كانت نشأتنا في بيتين متجاورين من القرية التي فارقناها معا منذ آثرنا أن نكون في خدمة الحكومة، وكان أبوه زميلي في كتاب سيدنا، ولكنه لم يفارقه حتى أتم القرآن.
وكان فؤاد يلقاني صباح كل يوم فيحييني تحية طفلية رقيقة ويودعني في العصر بمثلها، فلا أزال من تحيته بين الصباح والمساء في نشوة وطرب، وكثيرا ما كانت تحضرني إلى جانب صورته صورة أبيه في صباه جالسا على الحصير من كتاب سيدنا، وبين يديه لوحه وكتابه، وهو يهتز هزات متوالية ويدور بعينيه بين الصبيان يبادلهم الحديث غمزات ونظرات ...
واستمر المفتش في حديثه يقول: هل كان هذا الطفل ومثله معه من أطفال الروضة إلا لعنة حية تذكرني ما كان من جناية سيدنا علي في صباي وتؤرث البغضاء في قلبي ... وتنقلت في مدارس عدة، حتى بلغت أن أكون مفتشا ... وعلى أني كنت أعلم ما يلقاه المفتشون من المشقة والجهد، وما يتحملون من النصب حين تضطرهم تكاليف الوظيفة أن يبيتوا ليالي عدة بعيدين عن أسرهم وأولادهم متنقلين بين القرى والدساكر؛ فإني كنت جد مغتبط بما أسند إلي من عمل، لا زهوا بالمنصب، ولا رغبة في الجاه، ولكنها كانت أمنية قديمة ليكون لي منها فرصة لتطهير القرى من مثل كتاب سيدنا الشيخ عبد الجليل!
Bilinmeyen sayfa
أكان ذلك مني عن إخلاص في العمل وحرص على مصلحة التعليم، أم كان إيحاء من الواعية الباطنة التي تختزن الذكريات إلى إبانها، تحاول أن تخدعني به عن حقيقة الشعور الذي يضطرم في نفسي بالحقد والبغضاء لسيدنا، فتدفعني إلى محاولة الثأر والانتقام، وهي تسمي ذلك إخلاصا في العمل وحرصا على مصلحة التعليم ...؟
لست أدري، ولكن الذي كنت أوقنه يقينا لا شبهة فيه، هو أني كنت فرحا بذلك، طيب النفس به، فما كان لي من بعد إلا أمنية واحدة، هي أن يكون كتاب سيدنا الشيخ عبد الجليل في دائرة عملي.
ومضت سنوات قبل أن تتحقق لي هذه الأمنية ... ... ورسمت خطتي وحددت نهجي، ودنا اليوم الذي اخترته ميعادا لزيارة الكتاب الذي دخلته أول يوم ترف على شفتي بسمة الرضا والسعادة، وفارقته يوم فارقته محمولا على أكتاف الناس غائبا عن الوعي مما نالني من خوف سيدنا، ثم لم أمش بعدها إلا متوكئا على عكاز؛ وصحبتني أبالسة الشر يومين كاملين في يقظتي وفي منامي قبل أن يحين موعد هذه الزيارة، فما انتفعت فيهما بنفسي ولا انتفع أحد.
وأشرق صبح اليوم الموعود، فبكرت إلى ما عزمت عليه، يصحبني تابع يحمل حقيبتي، ويصحبني شيطاني.
وكان بيني وبين كتاب سيدنا خطوات معدودة حين صك مسمعي صراخ ... ودنا مني الصوت رويدا رويدا، وسمعت الناعي ينعى إلى أهل القرية سيدنا الشيخ عبد الجليل!
ما أعجب القدر!
وظللت في القرية طول اليوم حتى أمشي في جنازة سيدنا ... وما كان لي أن أفعل غير ذلك. وأعظم الناس هذا الوفاء - إذ حسبوني لم أقدم إلا لذاك - بقدر ما صغرت نفسي في عيني!
ومشت القرية كلها في جنازة الشيخ، لم يتخلف منهم أحد، وشيعوه محزونين وعادوا يعددون مآثره لا يذكره أحد منهم بشر.
وعدت إلى مكتبي في المدينة مبكرا، فلم ألق أحدا من الزملاء أحدثه بحديثي ويحدثني، وجلست وحدي أنشر الذكريات وأطويها، وفي نفسي ثورة تضطرم، وفي رأسي غليان. لم يكن بي في تلك اللحظة حقد على أحد، نعم، ولا كانت لي أمنية أحرص عليها، ولكني إلى ذلك كنت في حيرة من أمري، أسائل نفسي: أكنت على حق في حقدي على سيدنا وما أضمر له من البغضاء؟ وهل كان من السوء بحيث يحق لي أن أحمل له ما كنت أحمل من الكره والموجدة؟
لكم كان لسيدنا على هذه القرية من الأيادي ...! لقد كان قاسيا، جبارا، عنيفا، ولكنه مع ذلك كان رجلا للناس لا لنفسه، وما نالته في يوم ظنة ولا تعلقت به تهمة، فما يذكره أحد من القرية إلا بمعروف أداه، أو جميل أسداه، سواء في ذلك أهل العلم من تلاميذه وأهل التوكل والاعتماد. ... فإني لغارق في خواطري هذه وذكرياتي، إذ دخل إلي صديق من أصدقائي ينقل إلي النبأ الفاجع: فؤاد، ابن صديقنا فلان ... - ماذا به؟ - لقد تعجل آخرته فأزهق نفسه؛ لأن أباه أغلظ له في النصح يريده رجلا، ودعا حلاقا فقص له شعره ... وعز على الفتى ما فعل أبوه، فأغلق عليه غرفته فأحرق نفسه ... هذه هي التربية الناعمة التي نحاول بها تنشئة الجيل الجديد ليحمل تبعات الغد ... - فؤاد؟ وا حزناه!
Bilinmeyen sayfa
وحضرتني في تلك اللحظة صورة فؤاد الطفل الضاحك يلقاني كل يوم بالتحية في غدوي ورواحي على روضة الأطفال، ثم صورة فؤاد الصبي العابث يمزح مع أبيه في مجلس أصحابه، وينضح وجهه بالماء يوهمه أنه عطر، ثم صورة فؤاد الفتى الخليع يمشي في الشوارع يتثنى ويتخايل بزينته وعيناه إلى كل غادية ورائحة، لا يعنيه شيء من الأمر إلا ثيابه وزينته وشعره المرسل المصقول بالدهان والعطور كما تصقله الفتاة الناعمة، ثم صورة فؤاد الصريع مسجى في أكفانه يلعنه مشيع جنازته!
وسكت صديقي وسكت، ولكن روح سيدنا الشيخ عبد الجليل ظلت تتحدث حديثها في نفسي ...
ولأول مرة منذ بضع وثلاثين سنة، شعرت بأن سيدنا كان هبة الله لهذه القرية التي أخلص لها الحب ووقف عليها جهده حتى قبضه الله إليه، فهتفت في تأثر: سيدنا ... رحمه الله وغفر له!
قلب أم ...
صباح ومساء، ويقظة ونوم، وأمنية بالنهار تتراءى حلما بالليل، وعجلة الزمن تدور فتطوي العمر وتختزل الحياة ...
هذه هي الدنيا ...
يا ويلتا! ... وفي الناس من يعيش في دنياه كما يدور الثور في الطاحون: يدور ويدور ولا يزال يدور لا يدري أين ينتهي، ويمضي على وجهه في طريق طويل لا يقف عند حد ولا ينتهي إلى غاية، وحوله أربعة جدران!
وهل الحياة إلا يوم مكرر؟
ما أمس؟ وما اليوم؟ وما غد ...؟ إن هي إلا رسوم متشابهة تتعاقب على مرآة مثبتة في جدار قائم. الصورة واحدة ولكنها تلوح وتختفي، وتزعم المرآة أنها ثلاثة شخوص أطافت بذاك المكان!
ولولا خداع النفس وأباطيل المنى ما طابت الحياة! ••• ... واستيقظت «الأم» ذات صباح كما تستيقظ كل صباح، فأبدلت ثوبا بثوب، وجثت في محرابها تصلي لله وتدعو ...
Bilinmeyen sayfa
كانت تعيش وحدها في هذه الدار المتداعية منذ سنوات.
لقد فارقها «الرجل» فراق الأبد، وحمله الرجال على الأعناق إلى مثواه، ولكن ذكراه بقيت معها في ولديه ... ... وبكرت إليه في الغداة تنثر الزهر على قبره وفي نفسها لهفة وفي عينها دموع، ثم تحولت عنه إلى ولديه لتجفف في صدرهما دموعها.
وآلت منذ ذلك اليوم أن تكون لهذا الطفل وأخته أما وأبا ... وبرت بما وعدت. كان ذلك منذ أربع عشرة سنة. •••
أما الفتاة فقد شبت واكتملت ونضجت ثمرتها فانتقلت من دار إلى دار ... وباحت بمكنونها إلى زوجها الشاب واستمعت إلى نجواه ... وعرفت دنيا جديدة ... أتراها تذكر اليوم أمها ...؟ ألا إن أمها لقانعة راضية بما بلغت من أمانيها ... لقد تحققت لها أمنية من أمنيتين ...
وأما الفتى فقد قطع في سبيله مرحلتين وانتهى إلى الجامعة، فما أهون ما بقي! ... إنه بعيد عن أمه منذ سنوات ثلاث يجاهد جهاده ليبلغ مأمله، ولم يبق إلا خطوة واحدة ...
وأما الأم فإنها في وحدتها من تلك الدار ما تزال تصلي لله وتدعو ليحقق لها ما بقي.
يا لله! أهذه هي؟ لشد ما غيرتها الأيام! ... ••• ... كان لها جاه ومال، وكان لها شباب وفتنة، وكانت حياتها أغنية ضاحكة كلها مرح ونشوة ودلال ... يا للمسكينة! أين هي اليوم مما كانت منذ أربع عشرة سنة؟
أترى مرآتها تحدثها بما كان وبما صار كعهدها يوم كانت ... ولكن أين تلك المرآة ...؟ لقد علاها غبار السنين؛ فما لها عين تنظر ولا لسان يصف.
هاتان عينان قد انطفأ بريقهما؛ فما لهما همس ولا نجوى.
وهاتان وجنتان ذابلتان ليس لهما أرج ولا شذى.
Bilinmeyen sayfa
وهاتان شفتان قد أطبقتا على ابتسامة حزينة ليس لها صوت ولا صدى.
وهذا الشعر - ما كان أجمله يوم كان! - قد خطت عليه الليالي سطورا بيضاء في صحيفة مسودة. إن فيها تاريخ جهاد نبيل أربعة عشر عاما بلا ونى ولا كلال. ... لقد بذلت لولديها أغلى ما كانت تملك؛ بذلت المال والشباب، وبرئت من شهوات النفس وأوهام المنى، ونسيت كل شيء مما كانت تطمح إليه، إلا شيئا واحدا، عاشت ما عاشت له، وبذلت ما بذلت من أجله، وخاطرت بما خاطرت في سبيله ... ذانك ولداها العزيزان ... أما واحدة فقد بلغت، وأما الثاني ...
إنها لقريرة العين على ما جاهدت وما بذلت؛ لأنها من الغاية التي تهدف إليها على خطوات. ••• ... وفرغت الأم من صلاتها ودعائها فنهضت متثاقلة إلى صوانها ففتحته فأخرجت منه كسرة جافة فبلتها تحت الحنفية وأخذت تلوكها بين فكيها، ثم صعدت إلى سطح الدار تتشمس ...
وأمسكت عودا من الحطب تهش به على دجاجها وهي تنثر له الحب وفتات الخبز الناشف. إن لها في هذا المكان لسلوة وأنسا، وإنها لتجد من هذه الطيور أسرة تأنس إليها وتتسلى بمرآها، بضع دجاجات وديك، هذا كل ما بقي لها من أنس العشير!
وانحنت على خم الدجاج فأخذت ما فيه من بيض، ثم هبطت الدرج تستند إلى الحائط حتى بلغت غرفتها، فوضعت ما معها من البيض في كيس النخالة وجلست في النافذة ترقب ساعي البريد ...
لقد تعودت أن تتلقى في مثل هذا اليوم من كل أسبوع رسالة من ولدها ...
وجاء ساعي البريد فسلم إليها الرسالة، ففضتها معجلة وقرأت ...
إنه قادم بعد يومين ليراها ...
يا فرحتا! إن لها عيدا من دون الناس.
ووفرت الأم من غدائها لعشائها، وقامت إلى الصوان فأخرجت ثوبها الجديد الذي خاطته منذ عامين، فرتقت ما فيه من فتوق؛ استعدادا ليوم الاستقبال السعيد.
Bilinmeyen sayfa
وكنست، ونظفت، وهيأت فراش الضيف، وجلست تعد الساعات وتهيئ برنامج الاستقبال، ونامت ليلتها تحلم ...
ومضى اليومان وحل الميعاد، وجلست الأم وراء الباب ترقب مقدم فتاها وقد هيأت ما هيأت لاستقباله ...
كذلك تفعل كلما حان موعد زيارته، وإن له زيارة في كل شهر. •••
وتلقت الأم ولدها بالترحيب والعناق، وكأنما عاد إليها الشباب، فإن في عينيها بريقا، وفي خديها حمرة، وعلى شفتيها ابتسام، وفي جبينها ألق.
وجلس إليها ساعة يحدثها وتحدثه، ثم نهض يتهيأ للخروج ليجول في المدينة جولة، ومشى يختال في زيه وزينته، وأمه تشيعه بعينيها من النافذة فرحانة!
لا عليها مما تقاسي من الجوع والظمأ والحرمان وإنه لسعيد. حسبها من سعادة العيش أن يكون ولدها كما يتمنى لنفسه، إنها لتكتم عنه وعن الناس ما تجد من الضيق والحرج وقسوة الحياة. وماذا يجدي عليها أن يعرف إلا أن يحزن ويتألم! ... وتوارى الفتى عن عينيها في منعطفات الطريق، فابتعدت عن النافذة وعلى خديها دموع، وراحت إلى الصوان تفتحه لتخرج صندوقها الصغير؛ الصندوق العزيز الذي يضم ذكريات الماضي جميعا، ويضم أماني المستقبل ...
في هذا الصندوق أهدى إليها زوجها الذي فقدته منذ بضع عشرة سنة هدية العرس الغالية، وفي هذا الصندوق كانت تحفظ ما تحفظ من حلاها وجواهرها يوم كان لها حلى وجواهر، وفي هذا الصندوق كانت تدخر ما تدخر من مال لتنفق على ولديها حتى تبلغ بهما مبلغها ... فماذا يضم صندوقها العزيز اليوم؟
بضعة جنيهات، وقرط مكسور، وسوار من الذهب؛ هذا كل ما هناك ... وإن بين ولدها وبين الغاية التي يهدف إليها بضعة أشهر ... ماذا يجدي كل ذلك؟ ••• ... وتركته في فراشه نائما يحلم، وبكرت إلى السوق وفي يدها قرطها المكسور وسوارها ، تشد عليهما أناملها المرتجفة.
وعادت بعد ساعة ومعها مال!
واستيقظ الفتى ليقص على أمه رؤياه وهو يضحك في مرح ونشوة، ويمنيها بما ينتظر من السعادة يوم يكون ويكون. وابتسمت ...
Bilinmeyen sayfa
ورفعت عينيها إلى السماء وعلى شفتيها نجوى خافتة، وفي قلبها أمل.
وقامت تودعه إلى الباب، وأعطته ما طلب، لم تحرمه من شيء في نفسه، وانثنت إلى غرفتها لتضع الصندوق الفارغ في موضعه من الصوان.
ومضى الفتى على وجهه لا يبالي ما خلف وراء ظهره ... من ذا الذي يرى هذا الفتى المتأنق الجواد فيعرف من يكون؟
إنه هو نفسه لا يعرف ... وأمه حيث تركها، تعيش في دنياها بين صباح ومساء، ويقظة ونوم، وأمنية بالنهار تتراءى حلما بالليل، وعجلة الزمن تدور فتطوي الحياة وتختزل العمر، وهي لا تدري. هذه هي دنياها. ولكن لها يوما تترقب مطلعه على شوق ولهفة، ولكن متى ...؟ أترى هذا اليوم حين يجيء يرد عليها الشباب المدبر والعمر الذي ضاع؟! •••
وانقضت بضعة أشهر، وحان اليوم الذي كانت تنتظر، وكانت راقدة في فراشها تحلم، حين دخل إليها زوج ابنتها ليزف إليها البشرى ... بنجاح ولدها ...
وجلست في فراشها وأشرق وجهها بابتسامة راضية، وقبلت البشير قبلة، ثم مال رأسها على الوسادة ... وكانت تبتسم ...
وهتفت في صوت خافت: الآن أديت واجبي! وعادت الابتسامة إلى شفتيها أكثر إشراقا وفتنة.
ودارت بعينيها في أرجاء الغرفة حتى استقرت على صورة فتاها في إطارها، ثم أطبقت أجفانها.
وتراقصت أشعة المصباح الذابل في الغرفة الخالية من الأثاث إلا من سرير محطم عليه جسد محطم.
وهبت نسمة عابرة فأطفأت المصباح وعم الظلام. وخرج الرجل ناكس الرأس يتعثر في خطاه ليلقي إلى زوجته النبأ الفاجع ...
Bilinmeyen sayfa
وكانت زوجته جالسة إلى المرآة تتزين ... •••
وعلى حين كانت الدار تموج بالأهل، والجيران يتهيئون لتشييع الأم إلى مقرها، كان الفتى جالسا في ثلة من أصدقائه وصديقاته يحتفلون باليوم السعيد!
إبليس يتوب!
ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ... ***
أرخى الليل سدوله على الكائنات، وأوى الناس إلى مضاجعهم فارغين من هم الحياة، إلا محزونا قد حضره بثه، أو عابدا قائما في محرابه، أو حارس ليل قد سهر لعيشه، أو عاشقا يسترجع ذكرياته، أو صاحب لهو وغزل قد اسود نهاره وابيض ليله ...
وفرغ إبليس مما كان فيه من تدبير سلطانه وسياسة رعيته، وانفض «زبانيته» عن مجلسهم إليه كل مساء، فتفرقوا زبنيا وراء زبني، وانبثوا ينفثون الشر عن أمره في أوكار الظلام، ففي كل منعطف شيطان صغير يتربص، وبين كل اثنين من البشر ثالث من جند الشيطان لا يريانه ... وتسلل إلى مضاجع النوام من بني آدم نفر من الزبانية يصنعون لهم الأحلام، ويتمنون الأماني، ويوقظون الشهوات ...
وأشرف إبليس من طاقه على الدنيا يرقب ما يكون من أمره وأمر الناس، أيقاظا أو نائمين. وكأن قد سره ما رأى وما سمع، وما ألقي إليه من علم ما لم يسمع ولم ير، فاطمأن إلى غلبة سلطانه على الأرض، ونفاذ حكمه على البشر، واستعلاء كلمته في الناس ... فبردت ناره، وهدأت حميته، وسكنت فورة الكبرياء التي شبها الحسد في قلبه يوم اتخذ الله بشرا من طين ليجعله خليفة في الأرض ... ... وكأن قد رأى إبليس في تلك الليلة أن المباراة بينه وبين البشرية قد انتهت إلى غايتها، وثبتت حجته على الله ... فتمتم بكلمات مزهوا فخورا بالنصر والغلبة، فلم يكد يفعل حتى برق البرق، ورعد الرعد، وعصفت الرياح، وتهاوت الشهب، وزلزلت الأرض، وتحركت الرواسي، ولاح بين المشرق والمغرب شعاع من نور ...
وارتعد إبليس وأخذه الروع حين رأى ما رأى وسمع ما سمع، وناله من الفزع ما لم ينله مثله منذ كان؛ فهتف في ندم وذلة وضراعة: «يا رب! أئنها القيامة ...؟»
فلم يلبث أن خبا البرق، وسكت الرعد، وهدأت الريح، وسكنت الأرض، وأرسيت الجبال؛ فأفرخ روع إبليس، وثابت نفسه إلى الطمأنينة، وعاد يشرف من طاقه على الدنيا هادئا راضيا يرقب ما يكون من أمر زبانيته وأمر الناس!
وسمع في هدأة الليل شيخا قائما في محرابه يصلي لله ويدعو، فما يبدأ ولا ينتهي من سجدة إلا استعاذ بالله من الشيطان الرجيم. وأحس إبليس لعنات الشيخ تتساقط عليه وحواليه رجوما، فلو كان من طين لاحترق، ولو كان من ثلج لذاب ...
Bilinmeyen sayfa
وصرت أسنان الشيطان من الغيظ، وانقدح من حجاجيه شرار كاللهب؛ كيف عجز وعجزت زبانيته معه عن فتنة هذا الآدمي وإرادته على أن يتعلق بحظه من الدنيا وشهوات النفس، على حين لم يعجزه أن يطرد أباه من الجنة ...؟!
وكأن قد سمع إبليس وهو في موقفه ذاك ضحكة ساخرة ردته عما هو فيه من الغيظ والحنق إلى التفكير في شأنه وشأن بني آدم جميعا: هذا آدمي يلعنه في صلواته ويقذفه برجومه، أفكان يعتصم من لعناته لو أنه سلط عليه شهواته وأغرى به هواه؟! فكيف وإن من بني آدم ملايين من أهل الغواية والضلال لا يتورعون عن منكر ولا يتحرجون من معصية، وإن الآدمي منهم ليرتكب الخطيئة طاعة لأمر الشيطان ثم يلعنه، بل إن منهم من يقارف الذنب وهو يستعيذ من الشيطان الرجيم، فكأنما ييسر لهم إبليس شهواتهم ويضاعف لهم مسراتها ليجزوه على ما قدم إليهم رجوما ولعنات؛ فإنهم ليسرعون إلى لعنته إسراعهم إلى طاعته، وهو الشيطان الرجيم على لسان كل بشري من بني آدم، سواء منهم طائعه وعاصيه!
وظل إبليس في موقفه ذاك، مشرفا من طاقه على الدنيا، يتفكر في شأنه وشأن بني آدم، وزبانيته ماضون لما أمرهم: يخالطون أنفاس النائم، ويوسوسون في أذن اليقظان، ويؤنسون خلوة المستوحش، ويوحشون مجتمع الأحباب ...!
وهب نسيم السحر نديا رطبا يعطر الدنيا بأنفاس أهل الجنة، فاستروح منه إبليس روح الماضي يذكره أيامه كلها منذ بدء الخليقة ويلقي التاريخ بين يديه؛ وتغشته الذكرى، وعاد الزمان القهقرى أمام عينيه، فإذا هو ملك بين الملائك يسبحون بحمد ربهم حافين من حول العرش؛ ثم إذا هو يفسق عن أمر ربه آبيا مستكبرا أن يسجد لبشر من طين، وإذا هو من بعد مطرود من رحمة الله، مذموم مدحور يرجمه الفضاء ويلعنه الأبد؛ ثم ينفث نفثته في صدر حواء فيزلها وزوجها عن الجنة فيخرجهما مما كانا فيه، ويتعقب أبناءهما من بعدهما على الأرض يصنع منهم حطب جهنم، فما بشر من الناس إلا له شيطان يسعى بين يديه ... ... ثم ها هو في موقفه ذاك، تتناثر من حوله لعنات الأحياء من بني آدم جميعا، وتصك أذنيه من مكان سحيق زفرات عباده في نار جهنم تكوى جباههم وجنوبهم بما أغواهم وأضلهم سواء السبيل ...!
ولأول مرة في تاريخ البشرية استشعر إبليس لذع الندم فدمعت عيناه ...!
يا لها سخرية ...! إبليس يتوب ...!
كفاه ما اقترف منذ هبط من السماء انتقاما لكبريائه التي زعمها ديست يوم أمر أن يسجد لصلصال من حمأ مسنون!
أكانت توبة نصوحا، أم مبالغة في الانتقام، أم هو قد اشتهى أن يعيش بشرا بين البشر عمرا من عمره؛ ليذوق بعض لذات البشرية ويرى بعيني حسه كيف يفتتن بها الناس جميعا منذ كانوا، فتسرع بهم شهواتهم إلى طاعة الشيطان ...؟ •••
وطلع إبليس على الأرض فتى وسيما يمشي على قدمين مشي الناس، وشعر لأول ما لبسته البشرية أنه جائع، فعاج على ندي ساهر له به عهد؛ لأنه هو الذي أنشأه وأقامه حجرا على حجر، وطالما قضى فيه الليالي ذوات العدد من حيث لا يراه ذو عينين، ينفث الشر، ويبذر بذور الخطيئة، ويفتن في وسائل الإغواء ...
كانت مصابيح الندي ترمي أضواءها إلى بعيد، وتمد من أشعتها شركا يصيد الناس ويأخذ عليهم طريقهم؛ وكأن كل ما ينبعث منه يشعر أن هناك حركة وعملا يغريان من يلتمس إرضاء شهواته ...
Bilinmeyen sayfa
ولكن ... ها هو ذا إبليس يصعد الدرج في أناة ورفق، ويدفع الباب في هدوء وخفة، ويخطو إلى البهو في سكون وحذر؛ فيرى، ولكنه يرى أجسادا لا تكاد تتحرك؛ ويسمع، ولكنه لا يسمع إلا مثل أنفاس النائمين؛ ويشهد، ولكنه لا يشهد إلا عيونا محدقة في الفضاء تتأمل. لم يكونوا سكارى ولا مغيبين، ولكن فكرة طارئة قد ألقيت إلى قلوبهم فإنها لتسيطر عليهم جميعا فتجمعهم على حال واحدة بين السخط والرضا، وبين الندم والاستغفار؛ وكأنما كانت على أعينهم جميعا غشاوة فانقشعت، فعادوا يرون ويسمعون ما لم يروا من قبل أو يسمعوا ...!
وجلس الشيطان إلى مائدته وحيدا وطلب طعاما، وراح يدير عينيه فيما حوله ومن حوله، ويتسمع نجوى الضمائر الخفية في أعماق أصحابها.
ورأى مائدة خضراء مبسوطة، قد تناثر عليها ها هنا وهنالك نقد وورق، ورأى كئوسا فارغة وممتلئة، ورجالا ونساء قد تحلقوا حول المائدة كتفا لكتف، وامرأة بين كل رجلين ... ولكن يدا واحدة لا تمتد إلى شيء، وفما واحدا لا ينبس بكلمة ...
وأبصر رجلا يهتز في موضعه هزة خفيفة وهو يتحدث إلى نفسه حديثا وعاه إبليس كأن قد سمعه بأذنين: «ماذا يصنع وقد خسر على المائدة كل ما كان له من مال؟ إنه ليرى ماله أمامه على المائدة ولكنه ليس من حقه؛ لأن حظه في اللعب قضى به لغيره، هو قضاء غير مشروع، ولكنه حكم العرف فما عليه إلا الطاعة!» وقالت له نفسه: «ما أنت والقمار؟ كم نهيتك فلم تنته! الآن فذق ألم الحرمان مما تملك، فلعلك لا تستمع إلى إغواء الشيطان من بعد ...»
واختلج إبليس في مجلسه اختلاجة كادت تنم عليه حين ذكر اسمه، وهم أن ينهض لولا أن أقبل عليه النادل بالطعام.
وشغل إبليس لحظة بالأكل يزدرد اللقمة بعد اللقمة لا يكاد يحرك بها فكه، وعرف لأول ما ذاق الطعام لماذا كانت شهوة البطن أول هم الإنسان!
وعاد ينظر إلى وجوه الناس ويتسمع نجوى الضمائر، فما راعه إلا هذا المقامر الرابح محدقا في الفضاء يتفكر، وإن وجهه لتتعاقب عليه ألوان شتى من الندم والخزي والحياء ... ثم لم يلبث أن نهض يجمع المال المبعثر على المائدة فيفرقه في سماره وهو يقول: «معذرة يا صحابتي! فإنما هو مالكم ليس لي حق في شيء منه، وما لعبت لأسلبكم ما تملكون، إنما هي السلوة وإزجاء الفراغ ...» وعض على شفتيه واحمر وجهه خجلا؛ إذ كان يعلم ويعلم أصحابه أنه كاذب في اعتذاره، فما قامر إلا مؤملا أن يربح، وما ربح من قبل مرة إلا وهو يعلم أنه يأخذ ما لا يملك؛ وقد ربح الليلة، ولكنه حتى ضم يديه على المال أحس كأنه يقبض على جمر، ورفت به سانحة من الخير فتعفف أن يأكل مال الناس، فخرج عنه لأهله ...!
ونظر الرجل إلى يمينه فإذا جارته مطرقة قد تغرغرت عيناها، فمال عليها وهو يهمس: «أيكون قد أغضبك ما فعلت يا سيدتي؟»
قالت المرأة: «عفوا، ليس لي شأن بذاك، ولكن أمرا يقتضيني أن أعود مسرعة إلى الدار ...!»
وهبت واقفة، فقال الرجل متلطفا: «أتأذنين أن أصحبك؟»
Bilinmeyen sayfa
قالت: «شكرا ...!»
وسارت في طريقها فما ألح الرجل ولا تعوقت المرأة. ومالت إلى غرفة في الندي تأخذ زينتها في المرآة، فأدركتها صديقة، ونظرت كل منهما في وجه صاحبتها فأطالت النظر، ثم أطرقتا!
منذ بعيد تقارف هاتان المرأتان الإثم في غير حذر ولا تذمم؛ أما إحداهما فضحية شاب أغواها حتى نال منها ثم اختفى وخلف بين أحشائها بضعة منه، ففرت بعارها من قانون الجماعة إلى حيث تشفي داء قلبها بالانتقام من الرجال!
وأما الأخرى فزوج كالأيم، أو هي أيم وإن تك ذات بعل؛ فما شعرت يوما أن لها حقا على رجلها، وإنه لدائم التجوال بين البلاد، لا تستقر به الحياة في داره يوما حتى تعرض له الأماني تغريه أن يضرب في الأرض يطلب المال أو يطلب المجد، وليس لها من ماله أو مجده إلا الحرمان والظمأ ...
لم تحس المرأتان قبل الليلة معنى من معاني الندم على ما تأتيان من المعصية، فما بالهما الليلة مطرقتين قد جثم على صدريهما الهم ...؟!
أرأيت إلى المجرم إذ يفجأ وهو يقارف جريمة منكرة، فليس يملك أن ينكر ولا أن يعتذر ...؟
وعادت المرأتان تنظر إحداهما إلى الأخرى، فإذا هما تتعانقان وقد أجهشتا باكيتين؛ وأطفأت دموع الاستغفار وقد النار ولذع الندم، فكأنما حلت في جسد كل منهما روح جديدة قد خرجت من الجنة لساعتها لم تتعلق إثما ولم تجترح معصية ... ... وتلفت إبليس فإذا الندي مقفر خال ليس فيه إلا الندل يسعون بين الموائد الخالية، يرفعون الأوراق والأقداح ويصففون الكراسي والمناضد! •••
وتنفس الصبح فأبدل إبليس ثيابا بثياب وانطلق في تبانه وبرنسه إلى شاطئ البحر ليستمتع هنالك بما يستمتع به البشر، ويملأ عينيه من مفاتن دنيا الناس. لقد كان له في البحر معهد يرتاده زبانيته يعلمون الناس السحر وينصبون شرك الفتنة؛ وها هو ذا البحر، فأين فتنته وسحره؟ وأين مباهجه التي كانت؟ أين الأجسام البضة، والأذرع الغضة، والسيقان اللفاء؟ وأين العيون التي ترمي فتصمي؟ وأين لآلئ البحر تغوص وتطفو؟ وأين الزبد الأبيض يلاطم الزبد الأبيض؟
لقد خلا البحر من عرائسه، إلا عجوزا مقرورة مستلقية على الشاطئ لا يبدو منها إلا عينان تبصان كصدفتين في كومة رمل! وهذه فتاة تمشي على استحياء مستندة إلى ذراع أخيها فما تعرت من برنسها إلا ليسترها الماء، وهذا رأس رجل يبدو سابحا من بعيد، فما يكاد يرى الفتاة حتى يتنكب عن الطريق لئلا تتأذى منه الحسناء السبوح!
وأحس إبليس أول آلام البشرية في الوحدة والفراغ والضجر، فمضى على وجهه ممتلئ النفس فارغ الفؤاد؛ لقد ودع عالمه الموحش تحت الرغام ليظفر بالأنس في عالم البشرية، فما ظفر إلا بالوحشة وألم الشعور بالحرمان؛ وخلع شيطانيته تائبا ليهب للناس الاستقرار والسلام، فما لقي هو في بشريته إلا الاضطراب والألم! •••
Bilinmeyen sayfa