والتقيا ثانية، وقالت له وعيناها في عينيه: «سيدي ...!»
وشد على يديها فلم يدعها تتم، وقال: «أمينة ...! ناديني باسمي يا حبيبتي؛ لست سيدك اليوم، وإنك ...»
ومال رأس على كتف، وامتزج الدمع بالدمع، وتروت الشفاه الظمأى، وتلاحقت الأنفاس المبهورة، وهمت أن تقول، وهم أن يجيب، وماتت الكلمات على شفاه ترتجف، وتساءل قلب وأجاب قلب، وتلاشى الوجود بينهما فلا شيء هناك إلا اثنين يتناجيان بلا كلام. وهبت نسمة ندية فالتقى غصنان ثم افترقا، وتهامست زهرتان ثم أمسكتا، وأطلت عينان من فرجة السحاب تختلسان النظر، ثم ازدحمت أعين النجوم على فتوق السحاب تنظر؛ ثم انقشع السحاب وبرز القمر، وانكشف السر المختبئ في ضمير الليل ثم عاد فاستتر؛ وكان على الغصن قمرية تغني، وكان غناؤها خفقات قلبين يتهامسان! ... وقام يودعها وقامت، وأتبعها عينيه حتى واراها الظلام، ثم قفل وفي قلبه نجوى وفي عينيه بريق وعلى شفتيه مذاق وفي أذنيه رنين!
وتتابعت لياليهما حافلة بأسباب الهناء والمسرة في غفلة العيون، لم يطلع على سرهما أحد إلا النجم والزهر وغريدة الشجر، وطابت له الحياة وطابت لها، لولا حديث بينه وبين نفسه يؤرقه كلما جن الليل، ولولا وساوسها!
وأجمع رأيه على أمر ... وكأنما كان المسكين يتعجل آخرة هنائه حين بدا له أن يكشف صدره لأمه ويستعينها ...
وقالت أمه وفي عينيها دهشة وفي وجهها غضب: «أمينة ...؟! أفأنت لمثلها يا عابد ...؟»
وهتف الفتى في يأس: «أمي ...!»
ولكن أمه لم تجبه وأجابه أبوه ... هل رأيت قط قائدا في هيئته العسكرية قافلا من معركة بنصف جنوده ...؟ كذلك كان موقف أبيه منه في ذلك اليوم!
وطأطأ الفتى رأسه يستمع إلى أبيه يحكم عليه باليأس والحرمان، ثم سقط على كرسيه باكيا ومضى أبوه إلى غرفته.
لم يلتق عابد وأمينة منذ اليوم، وافترقا بلا وداع وما افترقا قبلها إلا على ميعاد؛ ولزم الفتى غرفته مطويا على آلامه، لا يرى أحدا ولا يراه أحد، على حين كان ثلاثة نفر يعنيهم من أمره ما يشغلهم ليل نهار ... ... أما واحدة فكان لها كل يوم مغدى ومراح في مواعيد راتبة إلى شجرة الصفصاف القائمة على حافة الغدير، تتروح عندها روح الماضي في خفقة الغصن ورفة الزهر وأرج النسيم، ثم تروح وحيدة دامعة العين ...! ... وأما اثنان فرجل وامرأة في خريف الحياة يتشاوران في أمر وحيدهما الذي يوشك أن يضله الحب عن رشاده فيهوي إلى عار الأبد!
Bilinmeyen sayfa