ووازنت بين رجل ورجل، فشالت موازين ورجحت موازين، وانجابت الغشاوة عن عينيها، فبعد لأي ما أبصرت، وعرفت ... ... وقفل إليها زوجها فتعلقت به عيناها كأنما تستقبل عائدا من سفر بعيد، ودفنت وجهها في صدره لتمسح آخر دمعة ذرفتها على الماضي الذي ذهب ولن يعود، ثم رفعت إليه عينين عائذتين وعلى شفتيها كلمة حب لم يسمعها قط ولم تقلها منذ أظلهما سقف.
وكأنما كان قلبها في سجن فحطم أقفاله ثم انطلق، وبدأ الحب يكتب تاريخا جديدا في صفحة بيضاء!
حلم شاعر!
الليلة عيد مولده.
أولئك أصحابه وصواحبه قد أحاطوا به فرحين مهللين، يضيء البشر في قسماتهم، وترف على شفاههم بسمات الفرح والمسرة، قد تنادوا إلى موعدهم ودعوه معهم إلى ناديهم؛ ليحتفلوا بعيد مولده.
وإنه لجالس بينهم ولكنه ليس منهم، إنهم هنا ولكنه هناك ...! ... وفي يده زهرة يعبث بها ... وضمها بين راحتيه ومال عليها برأسه. ما به أن يشمها، فإن عطرها ليأرج من حوله وينتشر، ولكنه ينظر ويفكر ... ... وراحت أصابعه تنثرها ورقة ورقة تساقط عند قدميه وهو يعد، وعد ثلاثين ورقة، ثم تعرت الزهرة من أوراقها إلا عودا أخضر ليس له عطر ولا رواء، وهمس الشاعر: «هذه هي دنيانا ...!» واختلجت شفتاه وأطرق، وعاد يعد الأوراق المنثورة تحت قدميه ... ... ثلاثون ورقة ... ذلك كل تاريخ الوردة، فما هي بعد الثلاثين إلا عود ذابل متفتر وورقات منثورة على التراب، وكانت وردة عطرة يعبق بأريجها الجو وتهفو إليها الزهرات الطيارة من فراش البستان ... فماذا يكون هو بعد الثلاثين وقد غربت شمسها منذ ساعات ...؟
وعاد ينظر إلى أصحابه وصواحبه، يبادلهم تحية بتحية وكلمات بكلمات، لا يكاد يشعر أن هؤلاء جميعا قد التقوا على ميعاد ليحتفلوا به في عيد مولده، فإن سيلا من الخواطر والذكريات يتدافع في رأسه الساعة، فما يكاد يرى أو يسمع إلا نجوى نفسه وهمس أمانيه، وغامت على عينيه غائمة فشطح إلى واد بعيد، وأصحابه وصواحبه من المرح والبهجة لا يكادون يشعرون أنهم منه على بعد بعيد وهو معهم؛ ومن أين لهم أن يحسوا ذلك وما اجتمعوا الليلة إلا حفاوة بعيد مولده ...؟
وأحس الشاعر إحساس الوحدة، وإنه بين أصحابه وأصفى الناس له، فتركهم لما هم فيه وتركوه، وإن وجها في وجه، وإن ابتسامة تجاوب ابتسامة، وإن كلمة تحيي وكلمة ترد ...
وانفض السامر ومضى كل لوجهه، ومد الشاعر يده يصافحهم ويشكر لهم، ثم تفرقت بهم السبل ... ... ووجد الشاعر نفسه وهو يمشي وحده في جنح الظلام، وأحس الوحدة الرهيبة التي يعيش فيها منذ كان، فمضى يتحدث إلى نفسه وتحدثه، وخنقته العبرة فأرسلها، ثم تتابعت عيناه. وعاد الزمان القهقرى ينشر على عينيه ماضيه ويذكره أمانيه ...
وقالت له نفسه: «هذا سبيلك فامض فيه على هدى وبصيرة، وانظر ماذا أعددت لغد!»
Bilinmeyen sayfa