ومضى عام قبل أن يحدد يوم يقوم فيه الخطباء والشعراء لتأبينه، وكان يوما مشهودا ...
كان المدرج الكبير غاصا بأهل الأدب وسروات المدينة وذوي الجاه والرياسة، وقد نصت في صدره منصة عالية عليها كراسي مذهبة، يشرف عليها صورة مكبرة للفقيد العزيز مجللة بالسواد، تطل منها عينان ساخرتان على تلك الجموع الحاشدة. وكان في ركن من القاعة فتاة ذات جمال قد انتقبت بنقاب أسود شفيف مبتل بالدمع، وإلى جانبها فتيات، تلك صديقته سعدية. وجلس في الصف الأخير بضعة فتيان شعث غبر قد تأبطوا كتبا وصحفا ومجلات قديمة، تدل ثيابهم وهيأتهم على الفقر والقناعة، و... والعبقرية! وتنطق سماتهم وشارات الحداد في وجوههم بأنهم أكثر أهل الحفل إخلاصا لذكرى صاحبهم الذي مات ...!
أولئك أسرة الفقيد من أهل الأدب.
وكان على الباب بوابون من ذوي اليسار والنعمة يستقبلون القادمين ويدعون كلا منهم إلى مجلسه الذي يوائمه. وتدلت الأنوار ثريات تكسف الشمس وتبهر النظر، وكانت حفلة، لو أحصي ما أنفق في إعدادها لكان حياة من موت وغنى من متربة! وغص البهو والشرفات بالوافدين على الحفل من أهل الوفاء والأدب، وحل الموعد، وصغت القلوب وأرهفت الآذان؛ ووقف الخطيب الأول يذكر تاريخ الفقيد، وكان يلبس حلة سوداء غالية، وقد أحكم المنظار على عينيه، وتدلت سلسلته الذهبية على كتفه، وبرق الماس في إصبعه، وبدأ يخطب: «أيها السادة.»
وكان السادة منصتين في لهفة وتأثر ...
وتتابع الخطباء والشعراء يذكرون ما يذكرون من فضل الفقيد وعبقريته وعلمه وخسارة الأمة بفقده!
وقال قائل لصاحبه: «يرحمه الله!»
فقال صاحبه: «أما إنها لخسارة!»
وكان ثمة فتى رث الثياب، مخرق النعل، مرسل اللحية، يقتحم الصفوف صفا صفا يقصد إلى المنصة التي يتبارى عليها الخطباء ...
وتأفف الناس وزموا شفاههم استكراها وغيظا، لكنهم صمتوا إجلالا للحفل. وبلغ الفتى حيث أراد، وهم أن يصعد فاعترضته الأكف، ولكنه صعد ... وأخذته العيون من كل جانب، وكان يبتسم وفي عينيه سخرية وشماتة!
Bilinmeyen sayfa