وإنه ليخيل إلي أحيانا أنني وأنك ...
إنك لست بعيدا مني، أفتراك تعرفني؟ ولكني أعرفك ... ومعذرة ...
وابتسم الفتى ثم عبس، وذكر سعدية ... ثم طوى الرسالة وأودعها غلافها، وقال وكأنما يتحدث إلى شخص يجالسه: ليتك تعرفين يا فتاة وليتني أعرف! بل إنني لا أريد أن تعرفي. إنك تنشدين الزهر ليكون لك زينة تباهين بها في المحافل، وإنني أنشد معناه لأتخذه وحيا أتصل بأسبابه إلى السماء ... وكذلك كانت أخت لك من قبل!
ولكنه كان راضيا ...
لم يبلغ المجد الأدبي الذي يناضل له منذ بضع عشرة سنة، ولم يبلغ الغنى الذي يكفيه حاجة الحي إلى وسائل الحياة، ولكنه كان راضيا؛ لأنه كان مؤمنا بنفسه، ومؤمنا بغده. ومضى على وجهه ... ... وراح إلى السينما ذات عشية يتزود لفنه وأدبه ويستجم، ثم عاد ...
ها هو ذا عائد لتوه من السينما حيث شاهد قصة «إميل زولا» فوجد مما شاهد بابا إلى الحديث بينه وبين نفسه ...
لقد رأى وسمع وعرف، ونظر إلى نفسه، وحضرته ذكرياته وأمانيه، وراح يحاسب نفسه على ما أدى من عمل وما نال من جزاء، واستغرق في تفكيره ...
وكان عليه أن يعد الليلة خطبة طلب إليه أن يذيعها في غد احتفالا بذكرى بعض الأدباء الراحلين. ذلك واجب لا يعفيه من إغفاله أن يعتذر، فقد كان أدنى أصدقاء ذلك الأديب الراحل إليه، وأعرفهم بحقه، وإن عليه دينا يقتضيه الوفاء أن يذكره به فيتحدث عنه حديثا في يوم ذكراه!
وشرع قلمه، وهم أن يعد الخطبة التي ينبغي أن يذيعها عن صديقه الأديب الراحل في يوم ذكراه ... واستجمع فكره، وتذكر شيئا ...
يا عجبا! ذلك الصديق الذي يهم أن يتحدث عنه: ماذا كان في حياته؟ وماذا هو اليوم عند الناس؟ لقد عاش حياته يجاهد لأمته ما يجاهد صابرا محتسبا قانعا بالكفاف، لا يذكره أحد بحق ولا يعرف له يدا ... فلما غاله الموت - لما غاله الموت فقيرا معدما بعيد الدار كثير الولد - تدانت الرءوس، واختلجت الشفاه، وسحت العبرات، وصاح الصائح في الأمة يدعوها لتخليد ذكراه؛ فإن حديثه اليوم على كل لسان، وإن ذكره في كل قلب ... كذلك كان حيا وميتا، فما متاعه بما صار؟ وما عزاؤه عما كان؟
Bilinmeyen sayfa