88

ولم يكد الصبي يطمئن إلى جوار أمه بعد عودته من البادية حتى فقدها وهما في زيارة لقبر أبيه بالمدينة.

وما كان قد بقى في الدنيا للفتاة الأيم غير هذا الصبي وذكرى أبيه الراحل في غربتين: غربة الموت وغربة المكان.

فخرجت به ضيفا تزور الفقيد الراحل في مثواه وتحسبه مشوقا تحت طباق الأرض إلى رؤية الوليد الذي لم تبصره عيناه تحت شمس النهار.

وكذلك تزير الوليد اليتيم أباه.

فلما قضت حق الزيارة ولبثت في جيرة أخوال عبد الله شهرا أو بعض شهر، قفلت بوليدها راجعة إلى مكة، فماتت ودفنت في الطريق.

وكل ما وعته السيرة من مرضها أنها وعكت من لفحة السموم، فلم تطل بها الوعكة غير أيام. •••

ومن اليسير أن نعلم وقع هذه الفاجعة في نفس الصبي اليتيم يتجدد له مصابه في أبيه، فلا يكاد يبرح ضريحه حتى يقف على ضريح أمه مهجورا في عرض الطريق.

إلا أن هذه الفاجعة بما تدل عليه أهم في دراستنا هذه مما خلفته في نفس الصبي الصغير.

مصابه في أبيه ومصابه في أمه، ولم يزل صبيا صغيرا حين أطبق عليهما مصابه في جده الذي ضمه إليه بعد فقد أبويه.

لو نفس صغيرة تتابعت عليها هذه الضربات في صباها لسحقتها واستنزفت كل ما حوته من عطف وأمل، فلا تعيش - إن عاشت بضرباتها - إلا كما يعيش الأشباح في ظلمات الحياة.

Bilinmeyen sayfa