مقدمة المقدمات
1 - الطوالع والنبوءات
2 - الأحوال العالمية قبل الدعوة المحمدية
3 - الجزيرة العربية قبل البعثة المحمدية
4 - النبوة المحمدية
5 - سيد الأنبياء
6 - دين الإنسانية
7 - الكعبة
8 - أسرة النبي
9 - والدا النبي
10 - نتيجة النتائج
مقدمة المقدمات
1 - الطوالع والنبوءات
2 - الأحوال العالمية قبل الدعوة المحمدية
3 - الجزيرة العربية قبل البعثة المحمدية
4 - النبوة المحمدية
5 - سيد الأنبياء
6 - دين الإنسانية
7 - الكعبة
8 - أسرة النبي
9 - والدا النبي
10 - نتيجة النتائج
مطلع النور
مطلع النور
تأليف
عباس محمود العقاد
مقدمة المقدمات
«مطلع النور» عنوان هذه الصفحات، ومدار البحث فيها على البعثة النبوية - بعثة محمد عليه السلام - وما تقدمها من أحوال العالم، وأحوال جزيرة العرب، وأحوال الأسرة الهاشمية، وأحوال أبويه الشريفين.
ويدور البحث فيها على نوعين من المقدمات: مقدمات تمهد لنتائجها وتفضي إليها.
ومقدمات تأتي النتائج بعدها كأنها رد فعل لها، وعلاج لأسبابها وعواقبها.
مقدمات من قبيل الداء يأتي بعده الموت، فهو نتيجته وعقباه على الشرعة المعهودة في طبائع الأشياء.
ومقدمات من قبيل الداء يأتي بعده الدواء، فليس هو بنتيجة له إلا على معنى واحد، وهو لحاق الدواء بالداء، وظهور الشفاء بعد الحاجة إليه.
مقدمات تتحقق بها قوانين الطبيعة، ومقدمات تتحقق بها عناية الله.
ولا سيما حين تأتي الحاجة إلى الشفاء من غير المريض، بل تأتي على الرغم منه، وعلى خلاف ما يرجوه ويبتغيه.
كيف نشأ التوحيد بعد التباس الوحدانية بالشرك، واختلاط الأديان بين الآلهة والأوثان؟
كيف نشأت ديانة الإنسانية بعد ديانات العصبية والأثرة القومية؟
كيف نشأت نبوة الهداية بعد نبوة الوقاية والقيادة؟
كيف أصبحت المعجزة تابعة للإيمان بعد أن كان الإيمان تابعا للمعجزة؟
كيف ظهر الإسلام بعد عبادات لا تمهد له ولا يبقي عليها؟ مقدمات لم تكن واحدة منها ممهدة لنتائجها، وإن مهدت لها خطوة في الطريق، فقد تنكص بها بعد ذلك خطوات وخطوات.
وهذه هي المقدمات التي لا تأتي بعدها النتائج الصالحة إلا بعناية من الله، واتجاه بقوانين الكون وعوامله إلى حيث يشاء.
فليست الجاهلية مقدمة للإسلام.
وليس الفساد في العالم سببا للصلاح.
وليست قريش ولا جزيرة العرب، ولا دولة القياصرة، ولا أبهة الأكاسرة هي التي بعثت محمدا لينكر العصبية على قريش، ويعلم العرب تسفيه التراث الموروث من الآباء والأجداد، ويثل العروش التي قام عليها الطغاة، وتأله عليها الجبابرة من دون الله.
هؤلاء جميعا كانوا ضحية البعثة المحمدية.
وهؤلاء جميعا كانوا مريضها الذي شفي على يديها بغير شعور منه بالمرض، وبغير سعي منه إلى الشفاء.
وتلك هي المقدمات ونتائجها كما تتجه بها عناية الله.
رسول يوحى إليه فيصنع الأعاجيب.
ذلك ما يقوله المؤمنون بعناية الله.
فإذا استطاع المنكرون أن يقولوا غير ذلك فليقولوا وليفسروه. فلا تفسير له عندهم إلا أن الفساد يصلح الفساد، وأن الداء يشفي الداء، وأن الأسباب تمضي في طريقها فتختلف بها الطريق، وتذهب إلى حيث لا يفضي الذهاب.
جاء محمد بدين الإنسانية في أمة العصبية.
جاء ينكر كل إله غير الواحد الأحد في عالم يؤمن بكل إله غير الواحد الأحد، أو يؤمن به كأنه صنم من الأصنام يتعبد في كل بيعة وكل مقام.
أمحمد وحده يقدر على ذلك؟!
أمحمد يقدر عليه بعناية من الله؟!
أدنى القولين إلى عقل العاقل أدناهما إلى الإيمان، وأنآهما عن الصواب أنآهما عن الله.
ولولا تدبير من الله لما ادخرت جزيرة العرب لهذه الرسالة لتخرج بالتاريخ الإنساني كله إلى عالم جديد. •••
وسنرى فيما يلي من هذه الصفحات كيف تتناقض النتائج والمقدمات فلا تستقيم إلا بمقدمة واحدة، وهي رسالة النبوة وعناية الله.
وسنبدأ بالمقدمات من طوالع الغيب في تأويل المتأولين إلى وقائع الحس والعيان في أحوال العالم، وأحوال الجزيرة، وأحوال الأسرة، وأحوال البيت الذي طلع منه نور النبوة، وبزغ منه فجر التاريخ الجديد في كل ما حوله، وتحققت به عناية الله.
ونرجو في نهاية المطاف أن نبلغ بها نتيجة النتائج كما تتفق عليها نظرة الفكر وبديهة الإيمان.
وعلى بركة الله.
الفصل الأول
الطوالع والنبوءات
على بركة الله نمضي في سرد المقدمات التي سبقت البعثة المحمدية بنوعيها: مقدمات ترتبط بما تلاها من الحوادث ارتباط الأسباب بالمسببات.
ومقدمات لا ترتبط بما تلاها هذا الارتباط، بل لعلها تناقضها، وتؤدي إلى خلافها، وإنما ترتبط بها ارتباط الداء بدوائه، والعلة بما يزيلها، فليست النتائج هنا وليدة المقدمات، بل هي العلاج الذي يزيلها، والآية الإلهية التي تحول الأسباب الطبيعية إلى طريق الحكمة الأبدية التي تنكشف أوائلها من خواتيمها، خلافا للعرف الشائع من دلالة الأوائل على الخواتيم.
ورائدنا في متابعة هذه المقدمات بنوعيها أن ننظر في الآيات الكونية والمعاني التاريخية؛ لأنها - ولا شك - عنوان إرادة الله المتصرف في الكون كله، ولأنها - على هذا - مفتوحة الصفحات لكل ناظر ومتأمل يعمل بفريضة الإسلام الكبرى، وهي التفكير في ملك الله، والنظر بالعقل في حقائق السماوات والأرضين.
رائدنا في البحث عن مقدمات الدعوة النبوية أن إرادة الله ظاهرة في ملكه وآيات خلقه، وأن الناس مطالبون بالنظر في هذه الإرادة قبل النظر في المعجزات والخوارق التي لا تأتي في كل حين، ولا تخص المؤمنين دون سائر المصدقين بالحس والعيان، وسؤالنا عن كل معجزة لا يدور على إمكانها أو استحالتها، فليست المعجزات بالقياس إلى قدرة الله خالق الكون إلا كالمألوفات التي تجري بها العادات في كل يوم، فإذا كانت الموجودات مخلوقة بخصائصها، فالذي خلقها وخلق خصائصها يملك تغييرها وتبديلها، ويأتي بالمعجزات كما يأتي بالمنظور والمطرد من النواميس والعادات، وعقيدتنا في ذلك عقيدة الإمام الغزالي رضي الله عنه؛ حيث قال غير مرة: إن الحوادث تجري عند حصول الأسباب، ولا تجري بحصول تلك الأسباب، فليست خصائص المادة من فعلها ولا إراداتها، ولكن المادة وخصائصها جميعا من فعل الحكمة الإلهية التي تسخر كل شيء بمقدار.
فنحن لا نسأل: هل المعجزة ممكنة أو غير ممكنة؟ فإن العقل الذي يقول: إن المادة لا توجد إلا هكذا، أضيق من العقول التي تصدق كل شيء بغير بحث ولا برهان.
ولكننا نسأل: هل المعجزة لازمة أو غير لازمة؟ وهل كان لها أثر مشهود في الإقناع بالدعوة، كما ينبغي لكل معجزة، أو كانت في تاريخ الدعوة عملا بغير أثر ولغير ضرورة؟
ذلك أن الله - جل وعلا - يضع قوانين الطبيعة لحكمة، ويخرقها لحكمة، وتعالى الله عن العبث في غير معنى، فلا يكون خرق القوانين وخلق المعجزات لغير قصد يعلمه شهود المعجزة التي تخالف مألوفهم ومجرى العادات أمامهم كل يوم.
وقد أشرنا إلى ذلك في كتابنا عن «عبقرية محمد» حين قلنا: «إن علامات الرسالة الصادقة هي عقيدة تحتاج إليها الأمة، وهي أسباب تتمهد لظهورها، وهي رجل يضطلع بأمانتها في أوانها، فإذا تجمعت هذه العلامات فماذا يلجئنا إلى علامة غيرها؟ وإذا تعذر عليها أن تتجمع، فأي علامة غيرها تنوب عنها، أو تعوض ما نقص منها؟! وقد خلق محمد بن عبد الله ليكون رسولا مبشرا بدين، وإلا فلأي شيء خلق؟! ولأي عمل من أعمال الحياة ترشحه كل هاتيك المقدمات والتوفيقات، وكل هاتيك المناقب والصفات؟!
لو اشتغل بالتجارة طول حياته، كما اشتغل بها فترة من الزمن؛ لكان تاجرا أمينا ناجحا موثوقا به في سوق التجار والشراة، ولكن التجارة كانت تشغل بعض صفاته، ثم تظل صفاته العليا معطلة لا حاجة إليها في هذا العمل مهما يتسع له المجال، ولو اشتغل زعيما بين قومه لصلح للزعامة، ولكن الزعامة لا تستوفي كل ما فيه من قدرة واستعداد، فالذي أعده له زمانه وأعدته له فطرته هو الرسالة العالمية دون سواها، وما من أحد قد أعد في هذه الدنيا لرسالة دينية إن لم يكن محمد قد أعد لها أكمل إعداد.»
وقلنا عن بشائر الرسالة المحمدية: إن المؤرخين «يجهدون أقلامهم غاية الجهد في استقصاء بشائر الرسالة المحمدية؛ يسردون ما أكده الرواة منها وما لم يؤكدوه، وما قبله الثقات وما لم يقبلوه، وما أيدته الحوادث أو ناقضته، وما وافقته العلوم الحديثة أو عارضته، ويتفرقون في الرأي والهوى بين تفسير الإيمان وتفسير العيان، وتفسير المعرفة وتفسير الجهالة، فهل يستطيعون أن يختلفوا لحظة واحدة في آثار تلك البشائر التي سبقت الميلاد، أو صاحبت الميلاد حين ظهرت الدعوة واستفاض أمر الإسلام؟»
لا موضع هنا لاختلاف. «فما من بشارة قط من تلك البشائر كان لها أثر في إقناع أحد بالرسالة يوم صدع النبي بالرسالة، أو كان ثبوت الإسلام متوقفا عليها؛ لأن الذين شهدوا العلامة المزعومة يوم الميلاد لم يعرفوا يومئذ مغزاها ومؤداها، ولا عرفوا أنها علامة على شيء أو على رسالة ستأتي بعد أربعين سنة؛ ولأن الذين سمعوا بالدعوة وأصاخوا إلى الرسالة بعد البشائر بأربعين سنة، لم يشهدوا بشارة واحدة منها، ولم يحتاجوا إلى شهودها ليؤمنوا بصدق ما سمعوه واحتاجوا إليه.
وقد ولد مع النبي - عليه السلام - أطفال كثيرون في مشارق الأرض ومغاربها، فإذا جاز للمصدق أن ينسبها إلى مولده جاز للمكابر أن ينسبها إلى مولد غيره، ولم تفصل الحوادث بالحق بين المصدقين والمكابرين إلا بعد عشرات السنين؛ يوم تأتي الدعوة بالآيات والبراهين غنية عن شهادة الشاهدين وإنكار المنكرين. أما العلامة التي لا التباس فيها ولا سبيل إلى إنكارها، فهي علامة الكون أو علامة التاريخ، قالت حوادث الكون: لقد كانت الدنيا في حاجة إلى رسالة، وقالت حقائق التاريخ: لقد كان محمد هو صاحب تلك الرسالة. ولا كلمة لقائل بعد علامة الكون وعلامة التاريخ ...» •••
على هذا المحك البسيط نعرض أخبار الخوارق والمألوفات في تاريخ الدعوات النبوية، وينبغي أن نقرر في هذا المقام - لأنه مقامه الذي يذكر فيه - أن المؤرخ المسلم الذي يكتفي بالآيات الكونية إنما يختار هذا الطريق لأنه طريق واضح المعالم أمامه وأمام الناظرين، الذين يعملون بهداية الإسلام في تدبر الآيات، والبحث عن حقائق الموجودات، ولكنه لو شاء لوجد لديه ذخيرة من الطوالع والنبوءات التي يعتمد أتباع الأديان المختلفة على أمثالها، وقد يعز عليهم أن يجدوا أمثالها في المصادر التي يؤمنون بها ولا يشكون. فلا يعتمد المؤرخ المسلم على الآيات الكونية لقلة الطوالع والنبوءات التي يثوب إليها - لو شاء - كما يثوب غيره، وإنما يعتمدها توثيقا للبينة، وإيثارا لأفضل الحسنيين في مقام المقابلة بين المتشابهات.
ومن الحسن أن نأتي على أمثلة من الطوالع والنبوءات التي وجد فيها بعض المؤرخين المسلمين شواهد على ظهور النبي - عليه السلام - مكتوبة قبل أوان ظهوره بعشرات القرون، ونلاحظ أن هؤلاء المؤرخين أو أكثرهم من فضلاء الهند وفارس والأمم الشرقية التي تتكلم غير العربية، وسر ذلك أنهم ورثوا في بلادهم طوالع الديانات السابقة، ولم يشاءوا أن تكون هذه الطوالع مزايا خاصة تنفرد بها تلك الديانات، ويعجزون هم عن الإتيان بنظائرها التي تقابلها في كفة الديانة الإسلامية، فهم يتوخون إلزام الحجة بالدليل المماثل، ولا يعييهم فعلا أن يجدوا ذلك الدليل مساويا أو راجحا في الدلالة على أدلة المتقدمين من أبناء الملل الغابرين. ونحن نورد هنا بعض الأمثلة التي يستدعيها المقام، ولا يجوز إهمالها، في تمهيد يحيط بجميع الشواهد والمقدمات ولو على سبيل الإجمال.
من هذه الكتب كتاب باللغة الإنجليزية ألفه «مولانا عبد الحق فديارتي» وسماه «محمد في الأسفار الدينية العالمية»، واستفاد في مقارناته ومناقضاته بمعرفته للفارسية والهندية والعبرية والعربية وبعض اللغات الأوروبية، ولم يقنع فيه بكتب التوراة والإنجيل، بل عمم البحث في كتب فارس والهند وبابل القديمة، وكانت له في بعض أقواله توفيقات تضارع أقوى ما ورد من نظائرها في شواهد المتدينين كافة، ولا نذكر أننا اطلعنا على شاهد أقوى منها في روايات الأقدمين أو المحدثين من أتباع الديانات الأولى أو الديانات الكتابية.
يقول الأستاذ عبد الحق: إن اسم الرسول العربي «أحمد» مكتوب بلفظه العربي في السامافيدا “Sama Vida”
من كتب البراهمة، وقد ورد في الفقرة السادسة والفقرة الثامنة من الجزء الثاني، ونصها أن «أحمد تلقى الشريعة من ربه، وهي مملوءة بالحكمة، وقد قبست منه النور كما يقبس من الشمس».
ولا يخفي المؤرخ وجوه الاعتراض التي قد تأتي من جانب المفسرين البرهميين، بل ينقل عن أحدهم «سينا أشاريا»
Syna Acharya
أنه وقف عند كلمة «أحمد»، فالتمس لها معنى هنديا، وركب منها ثلاثة مقاطع؛ وهي: «أهم» و«آت» و«هي» ... وحاول أن يجعلها تفيد «أنني وحدي تلقيت الحكمة من أبي»، قال الأستاذ عبد الحق ما فحواه: أن العبارة منسوبة إلى البرهمي «فاتزا كانفا»
Kanva ، من أسرة كانفا، ولا يصدق عليه القول بأنه هو وحده تلقى الحكمة من أبيه.
ويزيد الأستاذ عبد الحق على ذلك أن وصف الكعبة المعظمة ثابت في كتاب الأثارفا فيدا
Atharva Vida ، حيث يسميها الكتاب بيت الملائكة ويذكر من أوصافه أنه ذو جوانب ثمانية، وذو أبواب تسعة.
والمؤلف يفسر الأبواب التسعة بالأبواب المؤدية إلى الكعبة؛ وهي: باب إبراهيم، وباب الوداع، وباب الصفا، وباب علي، وباب عباس، وباب النبي، وباب السلام، وباب الزيارة، وباب حرم، ويسرد أسماء الجوانب الثمانية حيث ملتقى الجبال؛ وهي في قوله: جبل خليج، وجبل قعيقعان، وجبل هندي، وجبل لعلع، وجبل كدا، وجبل أبي حديد، وجبل أبي قبيس، وجبل عمر.
ويضرب المؤلف صفحا عن تفسير البرهميين لمعنى البيت هنا بأنه جسم الإنسان ومنافذه ولا يذكره؛ لأنه - على ما يظهر - يخالف وصف القداسة الروحية في البرهمية، ولا يأتي بتفسير للجوانب الثمانية عند تفسيره للأبواب بذلك المعنى.
وفي مواضع كثيرة من الكتب البرهمية يرى المؤلف أن النبي محمدا مذكور بوصفه الذي يعني الحمد الكثير والسمعة البعيدة، ومن أسمائه الوصفية اسم سشرافا
Sushrava
الذي ورد في كتاب الأثارفا فيدا
Atharva Vida ، حيث يشار إلى حرب أهل مكة وهزيمة «العشرين والستين ألفا مع تسعة وتسعين». وهم على تقدير المؤلف عدة أهل مكة وزعماء القبائل الكبار ووكلائهم الصغار كما كانوا يوم قاتلوا النبي صلوات الله عليه.
وللمؤلف صبر طويل على توفيق هذه العلامات وأشباهها يستخرج منها الطالع بعد الطالع، والنبوءة إلى جانب النبوءة، مما يغني المثل عليه عن استقصاء جميع موافقاته وعلاماته.
وكذلك صنع بكتب زرادشت التي اشتهرت باسم الكتب المجوسية، فاستخرج من كتاب زند أفستا
Zend Avesta
نبوءة عن رسول يوصف بأنه رحمة للعالمين «سوشيانت»
Soeshyant ، ويتصدى له عدو يسمى بالفارسية القديمة أبا لهب
Angra Mainyu ، ويدعو إلى إله واحد لم يكن له كفئا أحد (هيج جيز باونمار)، وليس له أول ولا آخر، ولا ضريع ولا قريع، ولا صاحب، ولا أب، ولا أم، ولا صاحبة ولا ولد، ولا ابن، ولا مسكن ولا جسد، ولا شكل ولا لون ولا رائحة:
جز آخاز وانجام وانباز ودشمن ومانند ويار وبدر ومادر وزن وفرزند وحاى سوى وتن آسا وتنانى ورنك وبوى است.
وهذه هي جملة الصفات التي يوصف بها الله سبحانه في الإسلام: أحد، صمد، ليس كمثله شيء، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا.
ويشفع ذلك بمقتبسات كثيرة من كتب الزرادشتية تنبئ عن دعوة الحق التي يجيء بها النبي الموعود، وفيها إشارة إلى البادية العربية، ويترجم نبذة منها إلى اللغة الإنجليزية معناها بغير تصرف: «أن أمة زرادشت حين ينبذون دينهم يتضعضعون، وينهض رجل في بلاد العرب يهزم أتباعه فارس، ويخضع الفرس المتكبرين، وبعد عبادة النار في هياكلهم يولون وجوههم نحو كعبة إبراهيم التي تطهرت من الأصنام، ويومئذ يصبحون وهم أتباع للنبي رحمة للعالمين، وسادة لفارس ومديان وطوس وبلخ، وهي الأماكن المقدسة للزرادشتيين ومن جاورهم، وأن نبيهم ليكونن فصيحا يتحدث بالمعجزات.»
1
وقد أشار المؤلف بعد الديانات الآسيوية الكبرى إلى فقرات من كتب العهد القديم والعهد الجديد، فقال: إن النبي - عليه السلام - هو المقصود بما جاء في الإصحاح الثالث والثلاثين من سفر التثنية: «جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران، وأتى من ربوات القدس، ومن يمينه نار شريعة لهم.»
وجاء بالنص العبري كما يلي:
ويومر يهووه مسينائي به وزارح مسعير لامو هو فيع مهر باران واتا مر ببوث قودش ميميفو ايش داث لامو.
فترجمه هكذا: «وقال: إن الرب جاء من سيناء، ونهض من سعير لهم، وسطع من جبل فاران، وجاء مع عشرة آلاف قديس، وخرج من يمينه نار شريعة لهم.»
وقال: إن الشواهد القديمة جميعا تنبئ عن وجود فاران في مكة، وقد قال المؤرخ جيروم واللاهوتي يوسبيوس
Eusebius : «إن فاران بلد عند بلاد العرب على مسيرة ثلاثة أيام إلى الشرق من أيلة.»
ونقل عن ترجمة التوراة السامرية، التي صدرت في سنة 1851، أن إسماعيل «سكن برية فاران بالحجاز، وأخذت له أمه امرأة من أرض مصر»، ثم قال: إن سفر العدد من العهد القديم يفرق بين سيناء وفاران؛ إذ جاء فيه أن بني إسرائيل ارتحلوا «من برية سيناء، فحلت السحابة في برية فاران» ... ولم يسكن أبناء إسماعيل قط في غرب سيناء فيقال: إن جبل فاران واقع إلى غربها. وفي الإصحاح الثالث من كتاب حبقوق أن «الله جاء من تيمان والقدوس من جبل فاران». فهو إذن إلى الجنوب حيث تقع تيمان بموضعها الذي تقع فيه اليمن مرادفتها بالعربية.
ولم يحدث قط أن نبيا سار بقيادته عشرة آلاف قديس غير النبي محمد - عليه السلام - وقوديش تترجم بقديس في رأي المؤلف، الذي يناقش ترجمتها بالملائكة في الترجمات الأخيرة، كذلك لم يحدث قط أن نبيا غيره جاء بشريعة بعد موسى الكليم، فقول موسى الكليم: «إن نبيا مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم أبناء إبراهيم.» يصدق على النبي العربي صاحب الشريعة، ولا يصدق على نبي من أبناء إبراهيم تقدمه في الزمن. ويرجح المؤلف أن المدينة التي تعلم فيها موسى - عليه السلام - في صحبة يثرون، أي شعيب، لم تكن هي مديان الأولى التي تخربت بالزلزال كما جاء في القرآن الكريم، ولكنها كانت «مدينة» الحجاز التي سميت يثرب على اسم يثرون.
ومما يعزز ذلك أن بطليموس الجغرافي يقول بوجود موضعين باسم مديان، وإن كان قد أخطأ - على رأي المؤلف - في تعيين الموضعين، وقد جاء في سفر التكوين أن مديان بن إبراهيم الذي سميت مديان الأولى باسمه كان له أخ اسمه عفار، وهو الذي يقول نوبل
Knoble
شارح التوراة: إن ذريته كانت تنزل في عهد البعثة الإسلامية إلى جوار يثرب، ولعل موسى تلقى اسمه في ذلك الجوار؛ إذ كانت تسميته العربية أرجح من تسميته المصرية أو العبرية، فإن ابنة فرعون لا تسميه بالعبرية، ولا يسميه بها من يريد خلاصه من مصير المولودين العبريين، وصحيح أن كلمة ميسو
Mesu
بالمصرية معناها الطفل، كما يقول بعض الشراح المحدثين، ولكن اليهود لا يرتضون لنبيهم ومخرجهم من أرض مصر اسما مستعارا من المصريين. •••
ومن الجماعات التي عنيت عناية خاصة بهذه النبوءات جماعة الأحمدية الهندية، التي ترجمت القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية، فإنها أفردت للنبوءات والطوالع عن ظهور محمد - عليه السلام - بحثا مسهبا في مقدمة الترجمة، شرحت فيه بعض ما تقدم شرحا مستفيضا، وزادت عليه أن نبوءة موسى الكليم تشتمل على ثلاثة أجزاء؛ وهي: التجلي من سيناء، وقد حصل في زمانه، والتجلي من سعير أو جبل أشعر، وقد تجلى في زمن السيد المسيح؛ لأن هذا الجبل - على قول الجماعة الأحمدية - واقع حيث يقيم أبناء يعقوب الذين اشتهروا بعد ذلك بأبناء أشعر. وأما التجلي الثالث فمن أرض فاران، وهي أرض التلال التي بين المدينة ومكة.
وقد جاء في كتاب فصل الخطاب أن الأطفال يحيون الحجاج في تلك الأرض بالرياحين من «برية فاران»، وقد أصبح أبناء إسماعيل أمة كبيرة كما جاء في وعد إبراهيم؛ فلا يسعهم شريط من الأرض على تخوم كنعان، ولا وجه لإنكار مقامهم حيث أقام العرب المنتسبون إلى إسماعيل، ولا باعث لهم على انتحال هذا النسب والرجوع به إلى جارية مطرودة من بيت سيدها.
وقد جاء في التوراة أسماء ذرية إسماعيل الذين عاشوا في بلاد العرب، وأولهم نبايوت أو نبات أبو قبائل قريش، الذي يقرر الشارح كاتربكاري
Katripikari
أنه أقام بذريته بين فلسطين وينبع (ميناء يثرب)، ويقرر بطليموس وبليني أن أبناء قدور - وهو قيدار الابن الثاني لإسماعيل - قد سكنوا الحجاز، ويضيف المؤرخ اليهودي يوسفيوس إليهم أبناء أدبيل، الابن الثالث في ترتيب العهد القديم.
ولا حاجة إلى البحث الطويل عن مقام أبناء دومة وتيماء وقدامة وأكثر إخواتهم الباقين؛ فإن الأماكن التي تنسب إليهم لا تزال معروفة بأسمائها إلى الآن، ومن نبوءة أشعيا التي سبقت مولد السيد المسيح بسبعمائة سنة يظهر جليا أن أبناء إسماعيل كانوا يقيمون بالحجاز؛ ففي هذه النبوءة يقول النبي أشعيا من الإصحاح الحادي والعشرين: «وحي من جهة بلاد العرب تبيتين يا قوافل الددانيين، هاتوا ماء لملاقاة العطشان يا سكان أرض تيماء، وافوا الهارب بخبزه، فإنهم من أمام السيوف قد هربوا؛ من أمام السيف المسلول، ومن أمام القوس المشدودة، ومن أمام شدة الحرب؛ فإنه هكذا قال لي السيد في مدة سنة كسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار.»
ويعود المفسرون من الجماعة الأحمدية فيفسرون هزيمة قيدار بهزيمة المكيين في وقعة بدر، وهي الهزيمة التي حلت بهم بعد هجرة النبي إلى المدينة بنحو سنة كسنة الأجير.
ويقرنون هذه النبوءة بنبوءة أخرى من الإصحاح الخامس في سفر أشعيا يقول فيها: «ويرفع راية للأمم من بعيد، ويصفر لهم من أقصى الأرض فإذا هم بالعجلة يأتون ... ليس فيهم رازح ولا عاثر، ولا ينعسون ولا ينامون، ولا تنحل حزم أحقائهم، ولا تنقطع سيور أحذيتهم، سهامهم مسنونة، وجميع قسيهم ممدودة، حوافر خيلهم كأنها الصوان، وبكراتهم كالزوبعة ...»
وهذه النبوءة عن رسول يأتي من غير أرض فلسطين لم تصدق على أحد غير رسول الإسلام.
وتلحق بهذه النبوءة نبوءة أخرى من الإصحاح الثامن في سفر أشعيا، جاء فيها أن الرب أنذره ألا يسلك في طريق هذا الشعب قائلا: «لا تقولوا فتنة لكل ما يقول له هذا الشعب فتنة، ولا تخافوا خوفه ولا ترهبوا. قدسوا رب الجنود فهو خوفكم وهو رهبتكم، ويكون مقدسا، وحجر صدمة وصخرة عثرة لبيتي إسرائيل، وفخا وشركا لسكان أورشليم، فيعثر بها كثيرون، ويسقطون فينكسرون، ويعلقون فيلقطون ... صر الشهادة. أختم الشريعة بتلاميذي؛ فاصطبر للرب الساتر وجهه عن بيت يعقوب وانتظره.»
فهذه النبوءة عن الرسول الذي يختم الشريعة تصدق على نبي الإسلام ولا تصدق على رسول جاء قبله ولا بعده.
وتلحق بهذه النبوءة أيضا نبوءة من الإصحاح التاسع عشر في سفر أشعيا، يذكر فيها إيمان مصر بالرسول المنتظر «وفي ذلك اليوم يكون مذبح للرب في وسط أرض مصر، وعمود الرب عند تخمها، فيكون علامة وشهادة لرب الجنود في أرض مصر؛ لأنهم يصرخون إلى الرب بسبب المضايقين، فيرسل لهم مخلصا ومحاميا وينقذهم، فيعرف الرب في مصر، ويعرف المصريون الرب في ذلك اليوم، فيقدمون ذبيحة وتقدمة، وينذرون للرب نذرا ويوفون به، ويضرب الرب مصر ضاربا فشافيا، فيرجعون إلى الرب، فيستجيب لهم ويشفيهم.
في ذلك اليوم تكون سكة مصر إلى آشور، فيجيء الآشوريون إلى مصر والمصريون إلى آشور، ويعبد المصريون مع الآشوريين، في ذلك اليوم يكون إسرائيل ثلثا لمصر ولآشور بركة في الأرض، بها يبارك رب الجنود قائلا: مبارك شعبي مصر، وعمل يدي آشور، وميراثي إسرائيل.»
فالذي حدث من قدوم أهل العراق إلى مصر وذهاب أهل مصر إلى العراق إنما حدث في ظل الدعوة الإسلامية، ولم تتوحد العبادة بينهم قبل تلك الدعوة ، وأن النبوءة ستتم غدا على غير ما يهواه بنو إسرائيل؛ إذ تكون البركة لمصر وأشور، ولا تكون إسرائيل إلا لاحقة بكلتا الأمتين. •••
ثم ينتقلون بالنبوءات إلى سفر دانيال حيث جاء في الإصحاح الثاني: «أنت أيها الملك، كنت تنظر وإذا بتمثال عظيم، هذا التمثال العظيم البهي جدا وقف قبالتك ومنظره هائل. رأس هذا التمثال من ذهب جيد، وصدره وذراعاه من فضة، وبطنه وفخذه من نحاس، وساقاه من حديد، وقدماه بعضها من حديد والبعض من خزف، كنت تنتظر إلى أن قطع حجر بغير يدين، فضرب التمثال على قدميه اللتين من حديد وخزف فسحقهما، فانسحق حينئذ الحديد والخزف والنحاس والفضة والذهب معا، وصارت كعصافة البيدر في الصيف فحملتها الريح، فلم يوجد لها مكان. أما الحجر الذي ضرب التمثال فصار جبلا كبيرا، وملأ الأرض كلها.»
ويلي ذلك تفسير النبي دانيال لهذا الحلم إذ يقول: «أنت أيها الملك ملك ملوك؛ لأن إله السماوات أعطاك مملكة واقتدارا، وسلطانا وفخرا، وحيثما يسكن بنو البشر ووحوش البر وطيور السماء دفعها ليدك، وسلطك عليها جميعها، فأنت هذا الرأس من ذهب، وبعدك تقوم مملكة أخرى أصغر منك، ومملكة ثالثة أخرى من نحاس، فتتسلط على كل الأرض، وتكون مملكة رابعة صلبة كالحديد يدق ويسحق كل شيء، وكالحديد الذي يكسر تسحق وتكسر كل هؤلاء.
وبما رأيت القدمين والأصابع بعضها من خزف والبعض من حديد، فالمملكة تكون منقسمة، وتكون فيها قوة كالحديد من حيث إنك رأيت الحديد مختلطا بخزف الطين، وأصابع القدمين بعضها من حديد وبعضها من خزف، فبعض المملكة يكون قويا، والبعض قصما، وبما رأيت الحديد مختلطا بخزف الطين، فإنهم يختلطون بنسل الناس، ولكن لا يتلاصق هذا بذاك، كما أن الحديد لا يختلط بالخرف. وفي أيام هؤلاء الملوك يقيم إله السماوات مملكة لن تنقرض أبدا، وملكها لا يترك لشعب آخر، وتسحق وتفنى كل هذه الممالك، وهي تثبت إلى الأبد؛ لأنك رأيت أنه قد قطع حجر من جبل لا بيدين، فسحق الحديد والنحاس والخزف والفضة والذهب ... الله العظيم قد عرف الملك ما سيأتي بعد هذا. الحلم حق، وتعبيره يقين ...»
وتعود الجماعة الأحمدية إلى التاريخ لتستمد منه التعليق على تعبير النبي دانيال لتلك الرؤيا، فمن كلام النبي دانيال يفهم أن الرأس الذهبي هو ملك بابل، وأن الصدر والذراعين من الفضة تعبر عن مملكة فارس وميدية التي ارتفعت بعد دولة بابل، وأن الرجلين من النحاس تعبران عن الدولة الإغريقية في ظل الإسكندر؛ لقيامها بعد زوال حكم الفارسيين والميديين، وأن القدمين من الحديد تعبران عن الدولة الرومانية التي ارتفعت بعد ذهاب ملك الإسكندر.
وتقول الرؤيا عن هذه الدولة الأخيرة: إن قدما من قدميها خزف والأخرى حديد. وهو وصف يشير إلى جزء من الدولة في القارة الأوروبية، وجزء منها في القارة الآسيوية، فالقدم الحديد هي سيطرة الأمة الواحدة، والعقيدة الواحدة. وهذه السيطرة تستولي على أقطار شاسعة وموارد غزيرة، ولكنها تنطوي على الضعف الكامن من جراء التفكك بين أوصال الشعوب، والرؤيا صريحة في وشك انحلال الدولة الرومانية في السنوات الأخيرة لهذا السبب.
وتستطرد من ثم إلى أمور أهم وأخطر إذ تقول: «إنك كنت تنظر إلى أن قطع حجر بغير يدين، فضرب التمثال على قدميه اللتين من حديد وخزف فسحقهما، فانسحق حينئذ الحديد والخزف والنحاس والفضة والذهب معا، وصارت كعصافة البيدر في الصيف، فحملتها الريح، فلم يوجد لها مكان. أما الحجر الذي ضرب التمثال فصار جبلا كبيرا وملأ الأرض كلها ...»
تقول الجماعة: «فهذه نبوءة بظهور الإسلام؛ فقد اصطدم الإسلام في صدر الدعوة بدولة الرومان ثم بدولة فارس، وكانت دولة الرومان يومئذ قد بسطت سلطانها على ملك الإغريق الإسكندري، فبلغت من المنعة غايتها، وكانت دولة فارس قد بسطت سلطانها على بابل، ثم ضربتهما قوة الإسلام، فانسحق حينئذ الحديد والخزف والنحاس والفضة معا، وصارت كعصافة البيدر في الصيف، وهكذا ينبئ ترتيب الحوادث وتعبيرها في رؤيا دانيال إنباء لا ريب في معناه. إذ كنا نعلم أن بابل خلفتها فارس وميدية، وأن سطوة فارس وميدية كسرتها سطوة الإسكندر، وأن ملك الإسكندر خلفته الدولة الرومانية التي أقامت من عاصمتها القسطنطينية أركان مملكة أوروبية آسيوية ، ثم انهزمت هذه المملكة وأدال منها الفتح الإسلامي وغزوات النبي والصحابة.»
وهذا الحجر الذي جاء في رؤيا دانيال يذكره أشعيا والحواري متى؛ ففي الإصحاح الثامن من سفر أشعيا أنه «يكون مقدسا وحجر صدمة وصخرة عثرة لكل من بيتي إسرائيل، وفخا وشركا لسكان أورشليم، ويعثر بهما كثيرون ويسقطون ويعلقون فيلقطون».
وفي الإصحاح الحادي والعشرين من إنجيل متى يقول: «لذلك أقول لك: إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره، ومن سقط على هذا الحجر يترضض، ومن سقط هو عليه يسحقه.»
كذلك يذكره المزمور الثامن عشر بعد المائة إذ يقول: «إن الحجر الذي رفضه البناءون قد أصبح عقد البناء وركن الزاوية.»
ويتبين من كلام السيد المسيح في الإصحاح الحادي والعشرين من إنجيل متى المتقدم ذكره، أن هذه النبوءة تنبئ عن زمن غير زمن السيد المسيح؛ إذ يقول عليه السلام: «أما قرأتم قط في الكتب أن الحجر الذي يرفضه البناءون قد صار رأس الزاوية؟ فمن قبل الرب كان هذا، وهو عجيب في أعيننا.»
ثم تفضي النبوءة - نبوءة النبي دانيال - إلى عقباها، فيصبح الحجر جبلا عظيما، ويملأ الأرض كلها، فإن هذا هو الذي حدث بعد انتشار الدعوة المحمدية، فإن الرسول الكريم وصحابته هزموا قيصر وكسرى، وأصبح المسلمون سادة للعالم المعمور كله في ذلك العصر، وصار الحجر جبلا عظيما، فظل زمام العالم في أيدي أتباع محمد ألف سنة.
ثم تتم نبوءات العهد القديم بنبوءات العهد الجديد، ويستشهد جماعة الأحمدية بالإصحاح الحادي والعشرين من إنجيل متى، حيث يقول السيد المسيح: «اسمعوا مثلا آخر: كان إنسان رب بيت غرس كرما، وأحاطه بسياج، وحفر فيها معصرة، وبنى برجا، وسلمه إلى كرامين وسافر، ولما قرب وقت الإثمار أرسل عبيده إلى الكرامين ليأخذ أثماره، فأخذ الكرامون عبيده، وجلدوا بعضا وقتلوا بعضا ورجموا بعضا، ثم أرسل إليهم ابنه أخيرا قائلا: إنهم يهابون ابني. فأما الكرامون فلما رأوا الابن قالوا فيما بينهم: هذا هو الوارث، هلموا نقتله ونأخذ ميراثه.
فأخذوه وأخرجوه خارج الكرم وقتلوه. فمتى جاء صاحب الكرم، فماذا يفعل بأولئك الكرامين؟ قالوا له: إنه يهلك أولئك الأردياء هلاكا رديئا، ويسلم الكرم إلى كرامين آخرين يعطونه الأثمار في أوقاتها، قال لهم يسوع: أما قرأتم قط في الكتب أن الحجر الذي رفضه البناءون قد صار رأس الزاوية؟ من قبل الرب كان هذا، وهو عجيب في أعيننا؛ لذلك أقول لكم: إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره، ومن سقط على هذا الحجر يترضض، ومن سقط هو عليه يسحقه. ولما سمع الكهنة والفريسيون أمثاله عرفوا أنه تكلم عليهم، وإذ كانوا يريدون أن يمسكوه خافوا من الجموع؛ لأنه كان عندهم مثل نبي.»
هذا المثل يبحثه كتاب المقدمة لترجمة القرآن فيقولون: إن السيد قد لخص به تاريخ الأنبياء والرسل أجمعين؛ فالكرم هو الدنيا، والكرامون العاملون فيه هم الجنس البشري الكادح في دنياه، والثمرات التي يريد صاحب الكرم أن يحصلها هي ثمرات الفضيلة والخير والتقوى، والخدم الموفدون من صاحب الكرم إلى الكرامين هم الرسل والأنبياء، ولما جاءهم السيد المسيح بعد إعراضهم عن الرسل والأنبياء، فغدروا به وأنكروه، عوقبوا بتسليم الكرم إلى كرامين آخرين، ونزع ملكوت الله منهم لتعطاه الأمة الأخرى الموعودة بالبركة مع أمة إسحاق، وهي أمة إسماعيل ونبيها العظيم محمد - عليه السلام - وهو الذي يصدق عليه وعلى قومه أنهم كانوا الحجر المرفوض، فأصبح هذا الحجر زاوية البناء من سقط عليه رضه، ومن أصيب به فهو كذلك مرضوض.
وتتلو هذه النبوءة في إنجيل متى نبوءة متممة من الإنجيل نفسه، حيث جاء في الإصحاح الثالث والعشرين منه خطابا لبني إسرائيل: «هو ذا بيتكم يترك لكم خرابا؛ لأني أقول لكم: إنكم لا ترونني من الآن حتى تقولوا مبارك الآتي باسم الرب.»
وفي الإصحاح الأول من إنجيل يوحنا نبأ يحيى المغتسل، أو يوحنا المعمدان، مع الكهنة واللاويين «إذ سألوه: من أنت؟ فاعترف ولم ينكر وقال: إني لست أنا المسيح، فسألوه: إذن ماذا؟ أأنت إيليا؟ فقال: لا، قالوا: أأنت النبي؟ فأجاب: لا، فقالوا له: من أنت لنعطي جوابا للذين أرسلونا؟ ماذا تقول عن نفسك؟ قال: أنا صوت صارخ في البرية: قوموا طريق الرب كما قال أشعيا النبي.»
ويعقب أصحاب المقدمة للترجمة القرآنية على هذه النبوءات؛ فيقولون: إنها كانت ثلاثا في عصر الميلاد المسيحي، كما هو واضح من الأسئلة والأجوبة: نبوءة عن عودة إيليا، ونبوءة عن مولد السيد المسيح، ونبوءة عن نبي موعود غير إيليا والسيد المسيح.
ولقد أعلن السيد المسيح، كما جاء في الإصحاح الحادي عشر من إنجيل متى، «أن جميع الأنبياء والناموس إلى يوحنا تنبئوا، وإن أردتم أن تقبلوا، فهذا - أي يحيى المغتسل - هو إيليا المزمع أن يأتي.»
وواضح من الإصحاح الأول من إنجيل لوقا أن الملك بشر زكريا بأن امرأته ستلد له ولدا وتسميه يوحنا، «وأنه يكون عظيما أمام الرب لا يشرب خمرا ولا مسكرا، ويمتلئ من بطن أمه بالروح القدس، ويرد كثيرين من بني إسرائيل إلى الرب إلههم، ويتقدم أمامه بروح إيليا وقوته؛ ليرد قلوب الآباء إلى الأبناء».
وفي الإصحاح التاسع من إنجيل مرقس يقول السيد المسيح: «إن إيليا أيضا قد أتى، وعملوا به كل ما أرادوا كما هو مكتوب عنه.»
ويتكرر ذلك في إنجيل متى إذ يقول: «إن إيليا قد جاء ولم يعرفوه، بل عملوا به كل ما أرادوا.»
فالنبي إيليا قد تقدم إذن في عصر الميلاد، وقد جاء فيه المسيح أيضا، ثم بقى ذلك النبي الموعود، ولم يظهر بعد السيد المسيح نبي صدقت عليه الصفات الموعودة غير محمد - عليه السلام - وكلام السيد المسيح في الإصحاح السادس عشر من إنجيل يوحنا يبين للتلاميذ «أنه خير لكم أن أنطلق؛ لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم، ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطيئة، وعلى بر، وعلى دينونة. فأما على خطيئة فلأنهم لا يؤمنون بي، وأما على بر فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضا، وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دين، وإن لدي أمورا كثيرة أقولها لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوها الآن، وأما متى جاء ذاك روح الحق، فهو يرشدكم إلى الحق جميعه؛ لأنه لا يتكلم من نفسه ، بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية. وذاك يمجدني؛ لأنه يأخذ مما لي ويخبركم، وكل ما للأب فهو لي؛ لهذا قلت: إنه يأخذ مما لي ويخبركم، وبعد قليل لا تبصرونني ...»
وقد جاء نبي الإسلام ممجدا للسيد المسيح، يسميه روح الله، ويجدد رسالته؛ لأنها رسالة الله.
وبعد تأويلات شتى من قبيل ما تقدم، تختتم الجماعة الأحمدية بحثها بالإشارة إلى ما جاء في الإصحاح الثالث من أعمال الرسل، الذي ينبئ عن تتابع النبوءات من صمويل إلى السيد المسيح بظهور نبي - كموسى الكليم - صاحب شريعة يحقق الوعد لأبناء إبراهيم، ويبارك جميع قبائل الأرض، ويكون هذا النبي من إخوة بني إسرائيل لا منهم، فهو من ذرية إسماعيل لا من ذرية إسحاق. •••
إن أبناء الهند وأبناء فارس - كما قدمنا - قد توفروا على هذا الدأب في استخراج خفايا الكلمات والحروف، والمقابلة بين المضامين والتأويلات، وإتمام أجزاء منها بأجزاء متفرقة في شتى المصادر والروايات، ولكنهم لم ينفردوا بالبحث في هذه النبوءات وهذه الطوالع خاصة، وجاراهم فيها الباحثون من سائر الأمم، واجتمعت في كتاب «فتح الملك العلام في بشائر دين الإسلام»
2
متفرقات لم ترد فيما أسلفناه من البحوث الهندية، أو وردت عن منهج غير منهجها، نلخص بعضه فيما يلي ولا نستقصيه؛ لأنه يقع في أكثر من مائتين وستين صفحة.
يعتمد المؤلفان على الإصحاح الخامس والعشرين من سفر التكوين؛ إذ جاء فيه أن أبناء إسماعيل سكنوا «من حويلة إلى شور التي أمام مصر حينما تجيء نحو آشور»، فهم إذن سكان الحجاز؛ لأن الحجاز هو الأرض التي بين شور وحويلة؛ إذ كانت حويلة في اليمن، كما جاء في الإصحاح العاشر: «إن يقطان ولد الموداد، وشالف، وحضرموت، ويارح، وهدورام، وأوزال، ودقلة، وعوبال، وأبيمايل، وشبا، وأوفير، وحويلة، ويوباب، جميع هؤلاء بنو يقطان» سكان الأرض اليمانية.
ويعتمدان كذلك على وعد إبراهيم الخليل في سفر التكوين؛ «لأنه بإسحاق يدعى لك نسل، وابن الجارية أيضا سأجعله أمة لأنه نسلك» ... وإنما شرط الوعد لأبناء إسحاق باتباع وصايا الرب، وألا يعبدوا إلها غيره، وإلا فهم يبيدون سريعا عن الأرض الجيدة، كما جاء في الإصحاح الحادي عشر من سفر التثنية. وقد عبد القوم أربابا غير الله، واتخذوا الأصنام والأوثان، كما جاء في مواضع كثيرة من كتب العهد القديم.
ومما اعتمد عليه المؤلفان رؤيا النبي دانيال.
وفي الإصحاح التاسع منها يقول: «سبعون أسبوعا مقضية على شعبك وعلى مدينتك المقدسة؛ لتكميل المعصية، وتتميم الخطايا، ولكفارة الإثم، وليؤتى بالبر الأبدي، ولختم الرؤيا والنبوة، ولمسح قدوس القديسين؛ فاعلم وافهم أنه من خروج الأمر لتجديد أورشليم وبنائها إلى المسيح الرئيس سبعة أسابيع واثنان وستون أسبوعا يعود ويبنى سوق وخليج في ضيق الأزمنة، وبعد اثنين وستين أسبوعا يقطع المسيح. وشعب رئيس آت يخرب المدينة والقدس، وانتهاؤه بغمارة، وإلى النهاية حرب وخراب ... وعلى جناح الأرجاس.»
وهذه الخاتمة هي التي تتم، كما جاء في سفر أشعيا، «على يد شعب بعيد من أقصى الأرض»، أو كما جاء في سفر التثنية: «إن الرب يجلب أمة من بعيد من أقصى الأرض ... ثم يردهم إلى مصر في سفن.»
وقد تم ذلك حين استدعى الرومان حاكم بريطانيا الكبرى، ومعه جيش نكل باليهود، وحمل طائفة منهم أسرى إلى مصر، وطائفة إلى رومة من طريق البحر سنة 132، فلم تنته حرب الرومان سنة 70 ميلادية، بل جاءت بعدها تلك الحرب التالية مصدقة لنبوءة الدمار على يد القادم من بعيد، ونبوءة النقل على السفن إلى الديار المصرية وما وراءها.
يقول المؤلفان، ويعتمدان في ذلك على إجماع الشراح: إن اليوم من أسابيع دانيال سنة، وإننا إذا أضفنا أربعمائة وتسعين سنة إلى 132، فتلك سنة 622 التي هاجر فيها النبي - عليه السلام - إلى مدينة يثرب، وبعد أربع عشرة سنة دخل جيش الإسلام القدس الشريف، وبنى المسجد الأقصى في مكان الهيكل. وكان الفرس قد ملكوا فلسطين أربع عشرة سنة، أباحوا فيها لليهود إقامة شعائرهم، ثم عاد الرومان وتلاهم المسلمون. فكانت السنون التي مضت بعد الهجرة النبوية مقابلة لتلك السنين التي ارتفع فيها الحجر عن اليهود على عهد الدولة الفارسية. •••
هذه العلامات إنما هي نماذج لأضعاف أضعافها لم نحصرها؛ لأنها تستغرق مئات الصفحات، ولا يلزمنا حصرها جميعا؛ لأن الأمثلة المتقدمة تكفي للتعريف بها، وإن لم تجمعها بحذافيرها. ونحن أمام هذه البحوث المستفيضة نتوخى فيها الحد الوسط بين الفضول، وهو جمع هذه البحوث كلها في هذه الرسالة، التي لا تتوقف على العلم ببحوث - العلامات والطوالع جميعا - وبين النقص، وهو إهمال هذه البحوث كل الإهمال في رسالة تدور على بيان مقدمات النبوة الإسلامية، وعلى الآراء المختلفة في شرح ما سبقها من هذه المقدمات. ومهما يكن من رأي القارئ في هذا العصر، فالرأي الذي رآه الناس منذ ألوف السنين - ولا يزالون يرونه - لا بد أن يكون له مكانه التاريخي ودلالته النفسية في هذا السياق.
ولسنا هنا بصدد الإسهاب والتفصيل في نقد الأساليب التي يعتمدها الباحثون في حل الرموز، أو خلق هذه الرموز على الأصح في بعض الأحيان، ولكننا نوجز فنقصر التعقيب على مقطع الآراء الذي لا يطول عليه خلاف بين المنصفين، فكل من راجع العلامات النبوية في كتب الديانات من أقدمها قبل موسى وعيسى ومحمد - عليه السلام - إلى يومنا هذا، يرى ولا شك أن العلامات التي لخصناها هنا من أقواها وأوضحها، وأقلها اعتسافا واستكراها للألفاظ والتراكيب على غير معانيها، وإنما ننظر إليها على كل احتمال مفروض فلا نرى أنها تغني عن الدلائل الكونية، ولا نعلم أن قيام الدعوة المحمدية قد اعتمد عليها عند أحد من المسلمين الأولين، أو عند أحد من الذين دانوا بالإسلام في الزمن الحديث.
فإذا فرضنا أن التخريج صحيح في كل ما أورده الباحثون المتقدمون وغيرهم؛ فإن هذه العلامات لم تنفع أحدا من الذين كانوا يقرءون التوراة في عهد الدعوة المحمدية، ولم نعلم لهم موقفا من الدعوة غير اللجاجة والمكابرة، والاشتداد في الإنكار على نحو لم نعلمه من الجاهليين والذين لم يطلعوا على حرف من كتب العهد القديم. وإذا قدرنا أن هذه العلامات لم ترد قط في كتاب سابق للدعوة المحمدية لم يكن ذلك مما يضير هذه الدعوة، أو يصدها عن طريقها، أو يسلبها وسيلة من وسائل الإقناع والذيوع التي اعتمدت عليها.
هذا على تقدير الصحة والصواب في كل تخريج، وفي كل علامة مذكورة مشروحة، فأما على غير هذا التقدير فلا حاجة بنا إذن إلى تعقيب طويل أو قصير.
ولا ندع الكلام على النبوءات الغيبية حتى نقرر فيها الرأي الذي يسلمه المنصفون، ولا يجرؤ أحد على إنكاره باسم العلم، أو باسم المنطق، أو باسم القياس الصحيح.
فما من أحد يجرؤ على أن يقول - باسم العلم - إن الإلهام بالغيب مستحيل؛ لأنه إذا جزم باستحالته وجب عليه قبل ذلك أن يجزم بأمور كثيرة لا يستطيع عالم أمين أن يقررها معتمدا على حجة أو سند قويم.
يجب على العالم الذي يجزم باستحالة الإلهام بالغيب أن يقرر لنا أنه عرف حقيقة الزمن، وعرف - من ثم - حقيقة المستقبل، ويجب عليه مع ذلك أن يقرر تجريد الكون من عنصر العقل غير عقل الإنسان والحيوان.
فما هي حقيقة الزمن؟ هل هو موجود في الماضي والحاضر والمستقبل، أو هو يوجد لحظة واحدة ثم يزول؟ وما هي هذه اللحظة الواحدة؟ وما مدى إحاطتها بالبعيد والقريب من الأمكنة الشاسعة في هذه الأكوان؟ وهل المستقبل موجود الآن؟ أو هو عدم يوجد لحظة بعد لحظة؟ وكيف يوجد العدم بعد أن لم يكن له وجود؟
إن العالم الذي يجزم في قول من هذه الأقوال باسم العلم، يدعى على العلم كذبا، وينم على عقل ضيق لا يصلح للنظر في هذه الآفاق.
فإذا كنا لا ننفي وجود المستقبل نفيا مقطوعا به مستندا إلى حجة أو بينة، فالغيب غير مستحيل، والعلم به لا يدخل في باب الممنوعات أو غير المعقولات.
وإذا كان عنصر العقل في هذه الأكوان أكبر من أن يحصره رأس الإنسان وحده، فانتقال المعرفة منه إلى عقل الإنسان جائز جدا، أو جائز على الأقل كجواز الانتقال بين الأفكار على تباعد الأمكنة والعقول. ولا ندعي أن هذا الانتقال الفكري بين عقول الناس قد ثبت في هذا الزمن ثبوتا قاطعا في جميع التجارب والمحاولات؛ فإن هذا الانتقال - المسمى بالتلباثية - يصيب ويخطئ، ويكفي أنه لم يبطل كل البطلان باعتراف الملحدين والماديين إلى جانب المتدينين والمؤمنين.
فإذا كان وجود المستقبل لم يبطل، فكيف يبطل العلم بما جرى فيه؟ إنه قد يبطل إذا تحقق بالبينة أن عنصر العقل وراء عقل الإنسان مستحيل، فإذا كان وجود هذا العقل الأكبر لم يمتنع، ولم يدخل في باب المستحيلات، فكل دعوى هنا للجزم بإنكار الغيب وإنكار العلم به، أو الإيحاء به إلى إنسان من الناس، فإنما هي دعوى تهجم على الواقع، ولا يكفي أن يقال فيها: إنها تهجم على الغيوب والمجهولات.
فليكن رأينا إذن في تخريجات الباحثين عن الطوالع والعلامات ما يكون، فإن هذا الرأي لا يبطل الإيمان بالغيب إلا على لسان مجازف يخبط بالقول حيث يجهل المدى الذي يخوض فيه. وإنما نقبل تلك التخريجات أو لا نقبلها لأن الباحثين فيها أصابوا أو أخطئوا في التخريج والتأويل، وإنما نقبلها أو لا نقبلها كرة أخرى لأن قيام الدعوات النبوية متوقف عليها أو غير متوقف عليها، بل ماض في سبيله على اختلاف هذه العلامات.
أما الإنباء بما في الغيب بمشيئة العالم به، والقادر عليه، فلا يمنعه علم ولا منطق ولا تجربة قاطعة من تجارب العيان.
الفصل الثاني
الأحوال العالمية قبل الدعوة المحمدية
مقدمات النبوة
والآن، وقد أقررنا الطوالع والعلامات في قرارها الذي يسهل الاتفاق عليه، نطرق الأبواب الواسعة التي تتفتح أمامنا للبحث في مقدمات النبوة الإسلامية، وهي أبواب البحث في الحوادث التاريخية والآيات الكونية، وليس أثبت منها في مقام الكلام على النبوة الإسلامية بصفة خاصة بين سائر النبوءات.
تاريخ العالم كله - قبيل عصر الدعوة الإسلامية - هو تاريخ هذه المقدمات حول بلاد العرب، وفي صميم الجزيرة العربية من أجوافها إلى أطرافها.
فلم يكن للعالم كله في تلك الفترة حالة لا توصف بالسوء، ولا يقال فيها بالإجمال: إنها حالة فساد وانحلال.
فلا حالة للعلم ولا للسياسة ولا للأخلاق ولا للمرافق العامة لا توصف بتلك الصفة، ولا تغلب فيها السيئات كل الغلب على الحسنات.
وإذا نظرنا إلى الأحوال في جملتها وجدنا أنها هي الأحوال التي تنادي في كل مكان بالحاجة إلى الدعوة الدينية.
إن ظاهرة واحدة كانت تلف تلك الظواهر جميعا في طياتها، وهي فقدان الثقة بكل شيء، ولا معنى لذلك في كلمة موجزة، إلا أن الثقة هي المطلوبة، وأن الإيمان هو دواء هذا الداء الذي استشرى في كل مكان.
ونبدأ بالأديان الكبرى التي شاعت في العالم المعمور قبيل الدعوة المحمدية، وهي على حسب قدمها: المجوسية واليهودية والمسيحية.
المجوسية
فلم يكن أتباع دين من هذه الأديان على استقرار في عقيدتهم، أو على ثقة بأحبارهم وأئمتهم، وأولها وأشدها اضطرابا ديانة الدولة الفارسية أو دياناتها المتعددة التي تشملها الثنوية؛ أي الإيمان برب للنور ورب للظلام، وعالم للخير وعالم للشر في كون واحد.
فقد كانت هذه المجوسية تستعصي على الدعاة المصلحين من أيام الوثنية الآرية الأولى التي اشترك فيها الهنود والفارسيون، وقد عمل «زرادشت» جهده لتطهيرها من الوثنية، وإخلائها من شعائر الهياكل والمحاريب الخفية، فلم يتيسر له من ذلك غير القليل، وجاء بعده مصلحون من أتباعه مزجوا الفلك بالتنجيم بالخرافة بالعبادة في نحلة واحدة، ولم يعرف الناس عنهم على البعد إلى عصر الميلاد المسيحي إلا أنهم رصدة للكواكب، طلعة للخفايا والغيوب من وراء حجاب الظلام.
وقام «ماني» الذي تنسب إليه المانوية في القرن الثالث للميلاد، فأراد أن يغلق باب الوثنية في الشرق، ويرجع إلى ثنوية قريبة من ثنوية «زرادشت» وتوحيد الفلسفة العقلية، فحول قومه من الكتابة البهلوية إلى الكتابة الآرامية أو السامية، وكاد أن يفلح في إقناع ولاة الأمر بآرائه في الإصلاح والتنزيه لو لم تفسدهم عليه دسائس الكهان والوزراء، فقضى في السجن، وقيل: إنهم سلخوا جلده وعلقوه مصلوبا لسباع الطير.
ثم كانت الطامة الكبرى في عهد قباذ أبي كسرى أنوشروان، الذي حضر بعثة النبي، وتلقى رسالته بالسخط والوعيد ...
ففي عهد قباذ هذا ظهر «مزدك» داعية الإباحة والفوضى في الأموال والأعراض، ولم يتزحزح هذا الداعية خطوة واحدة من الثنوية إلى التوحيد أو ما يشبه التوحيد، وقال كما قال «ماني» من قبله: إن العالم كله في قبضة إله النور وإله الظلام. غير أنه زاد عليه: «إن النور يفعل بالقصد والاختيار، وإن الظلمة تفعل على الخبط والاتفاق، وإن النور عالم حساس، والظلمة جاهلة عمياء، وإن المزاج كان على الاتفاق والخبط لا بالقصد والاختيار، وكذلك الخلاص إنما يقع بالاتفاق دون الاختيار.»
وزعم مزدك هذا أنه جاء ليبطل الخلاف بين العقائد والأمم، وينهاهم عن المباغضة والقتال، وأنه لما كان أكثر ذلك إنما يقع بسبب النساء والأموال، فقد أحل النساء، وأباح الأموال، وجعل الناس شركة فيها كاشتراكهم في الماء والنار والكلأ، ورد القوى الكونية إلى أربع؛ هي: التميز، والفهم، والحفظ، والسرور، وكل منها يعمل بسبعة من الوزراء، يتبع الوزير منهم اثنا عشر روحانيا، وكل إنسان اجتمعت له أسرار الأربعة والسبعة والاثني عشر صار ربانيا في العالم السفلي، وارتفع عنه التكليف، وأن ملك الملوك في العالم العلوي إنما يدبر بالحروف التي مجموعها الاسم الأعظم، ومن تصور من تلك الحروف شيئا انفتح له السر الأكبر، ومن حرم ذلك بقي في عمى الجهل والنسيان والبلادة والغم في مقابلة القوى الأربع الروحانية.
1
ويقال عن مزدك هذا إنه كان عظيم الدهاء، خبيرا بفنون الإقناع والإغراء، وإنه بلغ من سلطانه على قباذ أنه أقنعه ببذل زوجته لمن يشتهيها؛ ليعلم الناس الصدق في إيمانه، ويقتدوا به في ترك التباغض والملاحاة على الأعراض والعروض، فأوشك قباذ أن يفعل ما أوحاه إليه، لولا أن علم ولي عهده كسرى فدخل عليه باكيا متضرعا يتوسل إليه ألا يذله هذا الإذلال، ويبتذل أمه أمام الناس هذا الابتذال، ثم تمالأت عصبة ولي العهد فقتلوه، وتعقبوا شيعته بالقمع والتشريد.
وعلى الرغم من تتابع المصلحين الذين اجتهدوا غاية اجتهادهم في تطهير الديانة المجوسية من الوثنية والمراسم الهيكلية، لم تزل عقيدتهم جميعا في الأرواح والشياطين حائلا بينهم وبين التوحيد، بل حائلا بينهم وبين الثنوية على بساطتها الأولى؛ فإن موالاة الأرواح ومحاذرة الشياطين تسوقانهم إلى ضروب من العبادة والزلفى لطوائف شتى من الأرباب الصغار عدا الإلهين الأقدمين: إله النور وإله الظلام، ولا يزال المجوس إلى اليوم يبدءون صلاتهم بعد منتصف الليل، ويقضون ساعات الصلاة الأولى في تلاوة الأناشيد التي يسترضون بها شياطين الظلام، قبل انبثاق النور الأعظم عند الصباح.
اليهودية والمسيحية
أما اليهودية فقد كان قيام المسيحية في معقلها الأكبر إيذانا حيا بنفادها وانتهائها إلى الغاية من الجمود والضيق؛ إذ كانت المسيحية في الواقع حركة إصلاح واسع في جميع العقائد اليهودية التي جمدت على النصوص والمراسم، وتحولت من الدين إلى نقيض الدين، ولا شيء يناقض الدين كما ناقضته تلك الأنانية القومية التي حسبت الإله المعبود ملكا لها دون سائر عباده، يبيح لها في سائر الأقوام ما لا يباح في شريعة ولا قسطاس مستقيم.
وفي عصر الميلاد نفسه ظهر من حكماء اليهود من أحس الحاجة إلى إصلاح عقائد قومه وشعائرهم، فاختار فيلون الحكيم أسلوب التعبير الرمزي لتفسير مسائل الكتاب التي لا تقبلها الحكمة، وكان مما يلفت النظر في هذا الصدد أنه رجع إلى قصة إبراهيم وسارة وهاجر، فعبرها على أسلوبه تعبير الرموز؛ لأن المسلك الذي نسب فيها إلى إبراهيم لا يعقل من خليل الرحمن؛ فعنده أن سارة هي الحكمة الإلهية، وأن هاجر هي الذربة الدنيوية، وأن زواج الخليل من سارة لم يثمر في أول الأمر لأنه لم ينضج له قبل التمرس بحقائق الحياة.
وقد كان هذا أسلوب الفلسفة الذي أدخله بولس الرسول في أسلوبه الديني، فقال في رسالة غلاطية: «إنه مكتوب أنه كان لإبراهيم ابنان: واحد من الجارية والآخر من الحرة، لكن الذي من الجارية ولد حسب الجسد، وأما الذي من الحرة فبالموعد، وكل ذلك رمز؛ لأن هاتين هما العهدان؛ أحدهما من جبل سيناء الوالد للعبودية، الذي هو هاجر؛ لأن هاجر جبل سيناء في العربية، ولكنه يقابل أورشليم الحاضرة؛ فإنها مستعبدة مع بنيها، وأما أورشليم العليا التي هي أمنا جميعا فهي حرة ...»
وهذه ثورة على تفسير موعد إبراهيم بأسلوب العصبية والأنانية، تلفت النظر فيما نحن بصدده، وتومئ إلى ما يأتي بعدها في الزمن المتطاول. ثم سرى الإصلاح المسيحي مسراه، فمضى معه من اليهود من صلح له، وبقى الجامدون على شر مما كانوا عليه قبل الدعوة المسيحية، وجنى العناد والإصرار على الباطل جنايته المعهودة، فذهبت ريح الكهانة والمراسم الهيكلية، وتفرقت مراجع الديانة مع كل مجمع، وكل معبد، وكل طائفة ذات مذهب في التوراة أو التلمود، أو تقاليد الأحبار والربانيين.
وكان من آثار هدم الهيكل سنة سبعين للميلاد أن أشياعه فقدوا وحدة المراسم بعد أن فقدوا وحدة العقيدة والروح، فلم يأت عصر البعثة المحمدية حتى استفحل الخطب بينهم من جراء تفسيراتهم الكثيرة، فنهضت بينهم طلائع الطائفة التي عرفت بعد ذلك بطائفة القرائين، وأنكرت كل رأي غير النصوص والحروف في الكتب المنسوبة إلى موسى الكليم، فكان خوف التفرق سبيل النكسة إلى أيام العصبية والأنانية القومية، ولم يكن سبيلا إلى الحرية والتجديد.
ومما يلفت النظر مرة أخرى أن إصلاح هذا الجمود الجديد إنما أتى من قبل البلاد الإسلامية على يد سعديا المصري وابن ميمون الأندلسي، وأن حكماء اليهود في القرن الثالث للهجرة لم يكن لهم مذهب في تنزيه الإله غير مذهب علماء الكلام من المسلمين.
وكذلك كان يهود العالم في عصر البعثة المحمدية بين أشتات يذهب كل منها مذهبه على حسب المجمع أو المعبد الذي ينتمي إليه، وبين شراذم متعنتين في الجمود على الحروف والنصوص، يرجعون بهذه النكسة إلى الداء الذي قامت المسيحية لإصلاحه قبل بضعة قرون.
فتلك حاجة جديدة إلى إصلاح جديد.
محنة المسيحية
وقد جاء الإسلام والمسيحية منتشرة في بلاد الدولة الرومانية شرقا وغربا، يدين بها ملوكها ورؤساؤها ومعظم رعاياها، وكان هؤلاء الملوك والرؤساء - قبل تنصرهم - يضطهدون المسيحيين ويعذبونهم، ولا يتورعون عن لون من ألوان العذاب يصبونه عليهم، فكانت محنة عظيمة صبر لها المسيحيون الأولون صبر المؤمنين الصادقين، ولكن هؤلاء الملوك والرؤساء كانت محنتهم للمسيحية - بعد تنصرهم - أشد عليهم من محنة الاضطهاد والتعذيب؛ لأنهم لم يكفوا عن الظلم، وزادوا عليه عبث السياسة بالعقائد والآراء، فدسوا مطامعهم بين المختلفين على تفسير المسيحية الأولى، وفرقوهم شيعا متباغضة متنافرة، يرمي بعضها بعضا بالكفر والضلالة، وينشب بينها الجدل فلا تتفق على قول حتى تتفتح أمامها مذاهب الخلاف على أقوال.
ولم يكن خلاف المذاهب يومئذ كخلاف المذاهب في العصر الحاضر يسمح بوجهات النظر، ولا يستلزم طرد المخالفين جميعا من حظيرة الدين، بل كان بحث الآباء الأولين في سبيل الوصول إلى أركان العقيدة، وتقرير ما يسمى بالمسيحية وما لا يحسب منها، وإنما يحسب من الكفر والضلالة؛ فلم تبق نحلة من النحل الكثيرة إلا حكمت على مناقضيها بالمروق والهرطقة.
وتعددت هذه النحل بين الأريوسية والنسطورية واليعقوبية والملكية على تباعد الأقوال في الطبيعة الإلهية ومنزلة الأقانيم الثلاثة منها، ويأتي النزاع بين الكنيستين الشرقية والغربية فيقضي على البقية الباقية من الثقة والطمأنينة، ولا يدع ركنا من أركان العقيدة بمبعدة من الجدل والاتهام، فلا جرم يتردد على الألسنة ويدون في كتب التاريخ يومئذ أن القوم جميعا قد استحقوا العقاب الإلهي، وأن أبناء إسماعيل قد جاءوا من الصحراء بأمر الله عقابا للظالمين والمارقين.
ويستطيع القارئ أن يترجم هذه البلبلة بحوادث السياسة ومنازعات العروش، فلا يرى من حوادثها يومئذ إلا زعازع من هذا القبيل على عروش الدول والإمارات، وأولها عرش الأكاسرة وعرش القياصرة رؤساء أكبر الدول في ذلك الحين، فلم يكن بين الملوك الخمسة أو الستة الذين تعاقبوا على عرش فارس أو عرش بيزنطية من مات حتف أنفه، أو مات مستقرا على عرشه، ولم يكن منهم أحد كان له حق واضح في السلطان حين وثب عليه، ويتقلب العرش بين الغاصبين، فيفزع من كان آمنا، ويأمن من كان مهددا أو مشردا في البلاد مع اختلاف الحظوة والنقمة بين الأنصار والخصوم، فلما تمادى الأمر على ذلك عاما بعد عام، لم يبق من يأمن على نفسه وماله في زمن أنصار ولا زمن خصوم، وعم الخوف أقرب الناس إلى السلطان وأبعدهم منه على حد سواء.
وتمت المحنة الكبرى بالقتال الدائم بين الدولتين، فإذا بالبلد الواحد يتقلب في الحكم بين سيادة الفرس وسيادة الروم، فلا تهدأ له حال في نظام، ولا في سلام، ولا في معاش يأمن الناس على مرافقه ومسالكه بين ميادين القتال، وبطل الأمان كما بطل الإيمان، فلا خلاصة لهذه الأحوال جميعا غير خلاصة واحدة هي ضياع الثقة بكل منظور ومستور، فلا أمان من السياسة، ولا من الدين، ولا من الأخلاق، ولا من الواقع، ولا من الغيب.
هذه أحوال العالم، وهذه هي مقدمات الدعوة الإسلامية، من تلك الأحوال: مقدمات لا تأتي بنتائجها على وتيرة الداء الذي يتبعه الفناء، ولكنها مقدمات العناية الإلهية التي تدبر الدواء المستحكم على غير انتظار وبغير حسبان، عالم إذا صح أن يقال عنه: إنه كان ينتظر شيئا من وراء الغيب، فإنما كان ينتظر عناية من الله.
الفصل الثالث
الجزيرة العربية قبل البعثة المحمدية
كان في الجزيرة العربية مجوس ويهود ونصارى، وعرف أبناء الجزيرة هذه الأديان من طريق القدوة الفردية في رحلاتهم ومبادلاتهم مع الأمم التي تحيط ببلادهم، كما عرفوها من طريق الدعوة العامة التي يعززها سلطان الرؤساء على نحو ما حدث في أرض غسان والحيرة ونجران.
ويقول ابن قتيبة: إن المجوسية كانت معروفة في قبائل تميم، ومنهم زرارة بن عدس وابنه حاجب، وقد تزوج ابنته ثم ندم ... ويروى أنها كانت شائعة بين قبائل البحرين عامة على مقربة من فارس، وأن لقيط بن زرارة - كما جاء في ابن الأثير - تزوج بنته دختنوس، وسماها بهذا الاسم الفارسي ومات عنها، فقال وهو يجود بنفسه:
يا ليت شعري عنك دختنوس
إذا أتاها الخبر المرموس
أتحلق القرون أو تميس
لا، بل تميس إنها عروس
والأغلب على الظن أن المجوسية شاعت في هذه القبائل لأنها كانت سهلة هينة عليهم، لا تكلفهم بناء الهياكل ولا نحت الأصنام، ولا ينكرون في عبادتهم للنار شيئا؛ لأن إشعال النيران للقرى والاستسقاء وإشهار الحلف لم تكن مجهولة في البادية العربية، ولعلهم سبقوها إلى عبادة بعض الكواكب؛ لأنهم كانوا أحوج إلى رصد الأنواء والاهتداء بالنجم في سفر الليل، حتى جعلوا له اسما خاصا من السرى والإدلاج وغيرهما من الرحلة في سائر أوقات الظلام.
ولعل أحدا منهم لم يكن يلتفت إلى مجوسية المجوس؛ إلا حين يحدث الزواج بالمحارم التي لا يحلها عامة العرب، فأما فيما عدا ذلك فقد كانت مراسم الدين عادات كغيرها من عادات البداوة في الأعراس والمآتم، وتعظيم الأسلاف والأرواح، لا ينكرها المجوسي ولا اليهودي ولا النصراني من عرب الجاهلية.
وإذا كان عرب البحرين قد عرفوا المجوسية، فقد عرفوا الصابئين الذين كانوا يقيمون على مقربة من بلادهم، ولكنهم لم يقتدوا بهم في عقيدتهم لكثرة قيودها وأشراطها، وكتمان الصابئين ما كانوا يؤمنون به مخالفا لمن حولهم، وقد كانوا يخالفون كل دين في أشياء ويحالفونه في أشياء، ويجنحون إلى العزلة والاعتكاف، فلا يصل إلى أسرارهم إلا من تعمد البحث عنها والنفاذ إليها من طلاب المعرفة والمتنسكين والمتحنفين، والظاهر من أصول كتابتهم النبطية أن الصلة بينهم وبين نبط الحجاز الشمالي عن طريق العراق والعقبة، كانت أوثق وأقرب من صلاتهم بسكان البحرين والشواطئ اليمانية، ولهذا وجد فيهم من ينتمي إلى جد يسمونه كاظم بن تارح، يزعمون أنه أخو إبراهيم الخليل.
وكيفما كانت علاقة العرب بموطن الصابئة، فلم توجد بين العرب قبيلة كبيرة تدين بملة الصابئة كما دانت تميم بالمجوسية؛ لأنه هذه الملة الصابئية بطبيعتها لا تنتقل إلى طائفة كبيرة بعيدة من موطنها على موارد الماء، وإنما ينتقل إليها فرد أو أفراد يفضلون عقيدتها على العقائد الوثنية من حولها. ولا يخفى شأن الارتباط بالمكان في العقيدة الصابئية؛ فإن اشتراط القرب من الماء فريضة من فرائضهم العامة، واسمهم الأول في أصله مأخوذ من سبح لا من سبأ التي ينتمي إليها بعض قبائل اليمن، ولا من صبأ بمعنى ارتد عن الدين، وذلك أرجح الآراء فيما قيل عن أصول هذه الأسماء.
وكانت اليهودية أعم انتشارا في الجزيرة العربية من المجوسية؛ لأن المجوسية بقيت محصورة في عشائر من العرب من سكان بين البحرين، ولكن اليهود كانوا يهاجرون بجملة قبائلهم من أرض كنعان كلما أصابهم القمع والتشريد من فاتح جديد، وقد هاجر بنو النضير وبنو قريظة وبنو بهدل جملة واحدة إلى يثرب على رواية الأغاني «بعد أن ظهرت الروم على بني إسرائيل جميعا بالشام».
قال صاحب الأغاني: «لما قدم بنو النضير وقريظة وبهدل المدينة نزلوا الغابة، فوجدوها وبيئة فكرهوها، وبعثوا رائدا أمروه أن يلتمس لهم منزلا سواها، فخرج حتى أتى العالية - وهي بطحان ومهزور - واديان من حرة على تلاع أرض عذية بها مياه عذبة تنبت حر الشجر، فرجع إليهم فقال: قد وجدت لكم بلدا طيبا نزها إلى حرة، يصب فيها واديان على تلاع عذية ومدرة طيبة في متأخر الحرة، فتحول القوم إليها من منزلهم ذلك.
فنزل بنو النضير ومن معهم على بطحان، وكانت لهم إبل نواعم فاتخذوها أموالا، ونزلت قريظة وبهدل ومن معهم على مهزور، فكانت لهم تلاعة وما سقى من بعاث وسموات، فكان ممن يسكن المدينة، حتى نزلها الأوس والخزرج، من قبائل بني إسرائيل بنو عكرمة وبنو ثعلبة وبنو محمر وبنو زعورا وبنو قينقاع وبنو زيد وبنو النضير وبنو قريظة وبنو بهدل وبنو عوف وبنو الفصيص، فكان يسكن يثرب جماعة من أبناء اليهود فيهم الشرف والثروة والعز على سائر اليهود ... وكان هناك معهم من غير بني إسرائيل بطون من العرب، منهم بنو الحرمان حي من اليمن، وبنو مرتد حي من بلى، وبنو نيف حي من بلى أيضا، وبنو معاوية حي من بني سليم ثم من بني الحارث بن بهثة، وبنو الشطبة حي من غسان.»
ولم ينزل اليهود بغير المدن والقرى التي تحميهم فيها الآطام والأبنية.
فنزلوا تيماء وفدك وخيبر، واشتغلوا بالتجارة والصناعة في المدن، وزرعوا الأرض حولها للمرعى والاتجار بمحاصيلها، واختاروا من التجارة أيسرها على غير المحاربين؛ لأنهم لم يقدروا على حراسة القوافل الكبيرة التي كانت تحمل أحيانا - كما جاء في الطبري - على أكثر من ألفي جمل، فاستغلوا المال، وشاركوا في قروض الربا والوساطات، ولم ينسوا قط أنهم غرباء في بلد غريب، واجتنبوا المزاحمة في التجارة، فلم يكن لهم شأن بمكة دون سائر المدن؛ لأنها كانت مستقلة بالتجارة على طريقها في أيدي قريش، ولكن يقال في روايات غير حاسمة: إن بطونا من نمير وكنانة وكندة وبني الحارث عرفت اليهودية من جوارها لطريق المدن التي سكنها اليهود.
وموضع النظر الكثير ما يقال عن دخول اليهودية إلى اليمن، وقيام دولة يهودية فيها بإمرة زرعة المكني بذي نواس؛ فلا خلاف في وجود اليهود بين عرب الجنوب من أهل اليمن، ولكن الخلاف في تاريخ دخول اليهودية تلك البلاد ووسيلة دخولها؛ لأن المعهود في بني إسرائيل المتأخرين أنهم كانوا لا يدعون أحدا إلى دخول دينهم؛ لإيثارهم أنفسهم بوعد إبراهيم الخليل، وحصر هذا الوعد في ذرية إسحاق بن يعقوب.
وقد حدث في عهد هركانوس الأول المكابي أنه أغار على الأدوميين وأكرههم على التهود فتهودوا، وقامت منهم دولة هيرود حليفة الرومان. وكان ذلك في أواخر القرن الثاني قبل الميلاد حين ضعف إيمان اليهود برجعة الدولة الدنيوية إلى أرض الموعد، وكان تدبيرا حربيا سياسيا دعت إليه الرغبة في تأمين الطريق ومخالفة الرومان؛ لدرء الخطر من ناحية فارس وحلفائها من جانب الصحراء.
فإذا كان اليهود قد أكرهوا قبائل اليمن على التهود، فمن أين لهم القوة التي تضارع قوة المكابيين في الشام وفلسطين؟ وإذا كانوا قد هودوا تلك القبائل بالتبشير والإقناع، فكيف قبلوا أن يشركوا معهم أناسا من المطرودين المحرومين في وعد إبراهيم الخليل؟
إن الاحتمال الراجح بين هذه النقائض أن اليهود وصلوا إلى اليمن مهاجرين متفرقين، وربما بدأت هذه الهجرة من أيام السبي البابلي لقرب بابل من طريق البحرين إلى اليمن، فإن لم تكن موغلة هذا الإيغال في القدم، فقد يكون مبدؤها عند تشتيت اليهود في أوائل القرن الثاني للميلاد، ثم استمرت نحو ثلاثمائة سنة إلى أواخر الدولة الحميرية، ثم وجد اليهود الحميريون أنفسهم معرضين لخطر واحد أمام تحالف الحبشة والروم ونصارى اليمن بنجران وغير نجران، فعقدوا الحلف المقابل لهذا الحلف بينهم وبين فارس وأعوانها من عرب الشواطئ الشرقية.
ومن المعلوم أن الدولة الفارسية كانت تنازع الحبشة والروم في أرض اليمن، وكانت ترحب في بلادها باليهود بعد انقلابهم على الدولة الرومانية، واشتهارهم بمعاداتها وموالاة أعدائها، وكانت ترحب بالنصارى الذين اضطهدهم الرومان الوثنيون، ولم تزل ترحب بعد ذلك بالنصارى من أتباع المذاهب التي وقع عليها التحريم والتشريد بعد تنصر العواهل الشرقيين في القسطنطينية، ولم تقبل نصارى الحيرة إلا لعلمها بمنافستهم لنصارى غسان من أتباع الرومان، وانتمائهم إلى مذهب النسطوريين.
فالدولة الحميرية على عهد ذي نواس لم تكن دولة يهودية يقبلها اليهود، ويدخلونها معهم في عداد شعب الله المختار، ولكنها كانت تحالف اليهود وتعمل على الاشتهار بمحالفتهم؛ لإقناع فارس بولائها في النزاع بينها وبين الحبشة والروم، واشتهرت من ثمة بالتهود لأنها أيدت اليهود وتنكرت للنصارى؛ حذرا من معاونتهم - خفية أو جهرة - لشركائهم في العقيدة أبناء الحبشة. ولو كان اليهود هم القوة التي قامت عليها دولة حمير لما صاروا إلى القلة التي غمرتها الكثرة العربية في القرن الخامس للميلاد.
وأيا كان تاريخ اليهودية في اليمن وفي بلاد العرب عامة، فإنها لم تكن ذات رسالة دينية أو روحية للصلاح والإصلاح، ولم تكن يهودية معترفا بها بين بني إسرائيل في غير الجزيرة العربية، وقد نقل الدكتور إسرائيل ولفنسون، صاحب كتاب «تاريخ اليهود في بلاد العرب»، رأيا فيهم ليهود دمشق وحلب رواه جريتز
Graetz
فقال: «إنهم كانوا ينكرون وجود يهود في الجزيرة العربية ويقولون: إن الذين يعتبرون أنفسهم من اليهود في جهات خيبر ليسوا يهودا حقا؛ إذ لم يحافظوا على الديانة الإلهية التوحيدية، ولم يخضعوا لقوانين التلمود خضوعا تاما، وأن العالم «شير» كان يعتقد أن اليهودية في بلاد العرب كانت لها صبغة خاصة؛ فقد كانت يهودية في أساسها، ولكنها غير خاضعة لكل ما يعرف بالقانون التلمودي.»
ولا يمنع هذا أن يكون ليهود يثرب رأي في أنفسهم غير رأي إخوانهم الدمشقيين والحلبيين، فقد روي أوليري
O’leary
في كتابه عن بلاد العرب قبل محمد: «أن بني النضير وبني قريظة كانوا يسمون أنفسهم بالكاهنيين، ويزعمون من ثم أنهم من نسل هارون، وأما ياقوت فإنه يقول: إن يهود يثرب عرب تهودوا. وقد يخطر لنا أن بني قينقاع كانوا من عرب الشمال الأدوميين، أو أشباههم الذين هاجروا إلى بلاد العرب بعد هدم الهيكل سنة سبعين، أو بعد تشريد اليهود على عهد هادريان سنة مائة واثنتين وثلاثين.»
على أن الصبغة اليهودية التي بقيت مع يهود يثرب في معيشتهم وصناعاتهم ومعاملاتهم ، ومعرفة بعضهم بالكتب العبرية القديمة، ولياذهم بالآطام أدل عليهم من تقديرات المؤرخين على الفرض والتخمين، وما أشبه قينقاع أن ترجع في أصلها إلى كوهنكا! وما أبعد اسم النضير من أسماء العرب الأقدمين! لقد قيل: إنهم بطن من بطون جذام من أبناء عم اللخميين، فهل كان في جذام من يعرف العبرية كما عرفها يهود يثرب؟ وهل كان في وسعهم أن ينشئوا المدرسة العبرية التي ظلت إلى عصر الدعوة المحمدية، يسميها العرب بيت المدارس، ويسميها اليهود (بيت هام مدراس)؟
وقد كان يحسب لهؤلاء اليهود أثر في مقدمات الدعوة الدينية، أو مقدمات النهضة القومية الإنسانية، بعبارة أخرى لو أنهم أفادوا العرب من حولهم دروسا في التفكير والأخلاق تكشف لهم عن سخف الجاهلية، وتهيئ ضمائرهم لما هو أصح منها، وأقرب إلى التقدم والهداية. هذا، أو تكون حياتهم بين العرب قدوة صالحة يقتدون بها في معاملاتهم، وعلاقة بعضهم ببعض في السلم والحرب والمحالفة والمخالفة.
ولكنهم لم يصنعوا هذا ولا ذاك، وصنعوا في أكثر الأحيان نقيض هذا وذاك؛ لأنهم لم يكترثوا لأمر المتهودين من قبائل العرب إلا لينتفعوا بولائهم وحراستهم لتجارتهم في الطريق، فلم يكن بين الجاهليين المتهودين والجاهليين الوثنيين فرق في العادات والأخلاق، إلا أن يكون فرق الشجاعة والرجولة في جانب الوثنيين يمتازون به على الذين تعودوا اللياذ بالآطام، والتعلق في حربهم وسلمهم بذرائع المساومة والنفاق.
وقد كان يهود يثرب قدوة سيئة في كل علاقة بينهم وبين العرب، أو بينهم وبين أنفسهم في جوار المدينة؛ فقد كانت سياستهم مع قبائل العرب قائمة على الإيقاع بينها، وإثارة الأحقاد في المتخاصمين منهم كلما جنحوا إلى النسيان، وتعاهدوا على الصلح والأمان. ولزم اليهود أنفسهم داؤهم القديم من الشقاق والمشاكسة حيثما اجتمعوا في مكان واحد؛ فدبت الخصومة بين بني قينقاع من جانب، وبين بني النضير وبني قريظة من الجانب الآخر.
ولم يتفق بنو النضير وبنو قريظة على شيء غير حسدهم لبني قينقاع، وعملهم على الوقيعة بين قبائل الأوس والخزرج، وهي كثيرة في جوار المدينة، وقد كانوا ينفسون على بني قينقاع أنهم كانوا يقيمون في قصورهم داخل المدينة، ولا مأوى لبني قريظة غير ضاحية المشرق، ولا لبني النضير غير ضاحية المغرب. فلما نشبت الحرب بين الأوس والخزرج تفرق اليهود بين الحزبين، فكان بنو قينقاع مع الخزرج، وكان بنو النضير وبنو قريظة مع الأوس.
ولم يتحرك أحد من النضيريين والقرظيين لنصرة بني قينقاع حين أجلاهم المسلمون عن المدينة، ولا تحرك أحد من القرظيين لنصرة النضيريين حين قضي عليهم بالجلاء؛ لغدرهم بالنبي - عليه السلام - وصعود أحدهم؛ عمر بن جحاش، على جدار يجلس النبي تحته؛ ليلقى عليه بصخرة من أعلاه ... وإنما وصفتهم الآية بوصفهم هذا، حيث جاء في القرآن الكريم من سورة «الحشر» أنهم
لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون [سورة الحشر: 14].
وليس في خليقة من هذه الخلائق قدوة صالحة تعلم الجاهليين ما يحسن بهم أن يتعلموه، ويهتدوا به إلى طريق مستقيم.
ولقد عاش يهود يثرب ما عاشوا في جزيرة العرب ولم يؤثر عنهم قط سعي في سبيل مطلب من المطالب العامة والخاصة، غير الاستكثار من الربح المشروع وغير المشروع بكل ما استطاعوا من حول وحيلة، فلما جهر النبي بدعوته خذلوه من مبدأ الأمر، وأوفدوا وفودهم إلى كفار قريش يعرضون عليهم المؤازرة والمحالفة، واتخذوا خطتهم التي ثابروا عليها بعد ذلك، ولم يعدلوا عنها إلى حين إجلائهم عن حدود الجزيرة، وخلاصة هذه الخطة تثبيت الوثنية الجاهلية، وإيثارها على دعوة التوحيد والتنزيه، التي جاءت بها رسالة الإسلام، وشملت بها تعظيم العقائد الكتابية وعقائد التوحيد جملة منذ عهد إبراهيم الخليل.
وكان في سعيهم للتأليب على هذه الدعوة بعض الأناة والحيطة قبل الهجرة النبوية إلى المدينة؛ لأنهم كانوا يتراوحون في مساعيهم بين الحذر من عاقبة الدعوة، وبين الأمل في القضاء على تجارة قريش وانفرادهم بعد قريش بتجارة الحجاز كله؛ من اليمن إلى مكة إلى المدينة إلى الشام. فلما هاجر المسلمون القرشيون إلى المدينة، وأقاموا لهم سوقا بجوار سوق اليهود، أرادوا أن يفسدوا كل ما صنعه الإسلام حتى الصلح بين الأوس والخزرج، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، واستيئسوا في الكيد والدس، ولم يحرصوا على شيء غير استبقاء الربح، والتأليب على كل إصلاح وكل مصالحة في غير هذا السبيل.
فإذا كان ليهود يثرب أثر في مقدمات الدعوة المحمدية، فهو أثر أسوأ من أثر الجاهليين في المقاومة والعناد، وإذا استفاد الباحث من تاريخ هؤلاء القوم توضيحا لتلك المقدمات، فإنما تأتي هذه الفائدة من جانب آخر لا فضل لهم فيه؛ فإنهم كانوا تصحيحا عمليا لأخطاء المستشرقين الذين أنكروا وحدة اللغة العربية قبل الإسلام في عصر المعلقات والقصائد الجاهلية.
ولقد كانت وحدة اللغة من مقدمات الدعوة الإسلامية التي خاطبت العرب جميعا بلسان يعرفونه من قبل عصر الإسلام، فجاء بعض المستشرقين بوهم من أوهامهم يشككون في وحدة هذه اللغة، وينكرون اتفاق الجزيرة على التخاطب بلسان القرشيين والمكيين، وزعموا أن وحدة هذه اللغة ممتنع لاختلاف لسان العدنانيين والقحطانيين.
فاليهود في يثرب أصدق جواب على هذه الأوهام؛ لأنهم غرباء عن الجزيرة العربية، دخلوها في القرن الأول أو الثاني للميلاد، ولا يجوز الشك في ذلك، ولا القول بأنهم عرب تهودوا، كما قال بعض المؤرخين على غير علم ولا روية فيما يصح أن يقال؛ فإن القول بذلك يستلزم منا أن نفرض أن العرب الأميين تطوعوا للتحول إلى اليهودية، ثم تعلموا العبرية وتفقهوا في كتب التوراة لينقطعوا عن أسلافهم، وينضووا إلى قوم مخذولين في بلادهم لا يسلمون لأحد من الأمم بأنه أهل للدخول معهم في عداد شعب الله المختار؛ فهذا من أغرب الفروض التي لا تثبت بغير دليل قاطع، فضلا عن الثبوت بغير دليل.
وليس في هجرة اليهود من فلسطين إلى بلاد العرب غرابة أو مناقضة لوقائع التاريخ بعد تشتيتهم في القرن الأول أو الثاني للميلاد، وقد كان مقامهم على الطريق بين تيماء والمدينة للتجارة والزراعة، والاشتغال بغير صناعات القبائل العربية أشبه شيء أن يكون على تلك الطريق خاصة دون الطريق الأخرى، التي يحميها النبط وقريش، ولا يستطيع اليهود المهاجرون أن يقتحموها على أصحابها وهم مشردون مستضعفون، مع العداء بينهم وبين النبطيين، وتعصب النبطيين على إسرائيل دينا ولغة وميلا في السياسة والولاء. وعلى جميع هذه الفروض التي لا تقبل الشك، تبقى هناك الحقيقة التي لا تختلف مع اختلاف القول في أصول يثرب وخيبر وفدك وتيماء ووادي القرى على الإجمال.
فهل هؤلاء عرب يكتبون؟
لو كانوا كذلك لقد كانوا خلقاء أن يحفظوا في صحفهم كلاما عربيا مما قبل الإسلام بثلاثة قرون يخالف العربية الموحدة في عصر الإسلام، إن صح أن العربية لم تكن موحدة في أيام شعراء المعلقات، وبعض هؤلاء الشعراء لم يسبقوا عصر الإسلام بأكثر من مائة عام.
وكانوا خلقاء أن يحفظوا بالكتابة العبرية لهجة غير اللهجة الموحدة، التي يشك المستشرقون في سبقها للإسلام إلى عصر أولئك الشعراء، أو كانوا خلقاء أن نعلم من كتابتهم شيئا يؤيد ذلك الشك نوعا من التأييد.
أما إذا كانوا على القول الراجح - بل القاطع - يهودا دخلوا الجزيرة بلسان غير لسانها، وتكلموا الآرامية أو الأدومية أو العبرية، ثم تعلموا اللغة العربية الحجازية، فهذا التوحيد الذي تم بين اللغة الحجازية وبين الآرامية أو الأدومية أو العبرية ليس بالمستغرب أن يتم بين لهجة العرب في الجنوب، ولهجة العرب في الحجاز وسائر أطراف الجزيرة، فقد أقام عرب اليمن في الجزيرة واتصلوا بالحجاز زمنا أطول جدا من مقام اليهود المهاجرين منذ القرن الأول أو الثاني للميلاد.
ولم يصل إلينا شيء من لغة اليهود الذين أقاموا بجنوب الجزيرة، أو اليهود الذين تحالف معهم ذو نواس في نجران، ولكن اليهود الذين وفدوا إلى الحجاز بعد البعثة النبوية كان منهم كتاب ومؤرخون مطلعون على تواريخ حمير وتواريخ أسلافهم العبرانيين، وكان منهم كعب بن ماتع الحميري الملقب بكعب الأحبار، وكان منهم وهب بن منبه الصنعاني، الذي قال ابن خلكان: إنه رأى كتابا له عن ملوك حمير وأخبارهم وأشعارهم في مجلد واحد. ووصف هذا الكتاب بأنه مفيد.
وقد كان كعب ووهب من المغربين في طلب النوادر، فلم يذكرا لنا زمنا شهداه، أو شهده آباؤهم وأجداهم كانت فيه لغة قريش مجهولة في اليمن ومن جاورها. وأدنى من ذلك إلى عصر البعثة قدوم الوفود من اليمن إلى الحجاز، وذهاب الولاة من الحجاز إلى اليمن بإذن النبي - عليه السلام - ومنهم معاذ بن جبل وعلي بن أبي طالب ومن كان يصحبهما في عمل الولاية والتعليم، فلم نسمع أن وفود اليمن على النبي جهلوا ما سمعوه، أو نطقوا بكلام لا يفهمه أهل الحجاز، وهؤلاء قد لقنوا لغاتهم من آبائهم، فلا يفوتهم ما اختلف من كلامهم إذا كان ثمة اختلاف.
وأقدم من البعثة المحمدية رحلة الصيف ورحلة الشتاء، وليس في أخبار هذه الرحلات إلماع إلى تفاهم قريش مع أهل اليمن بلغة غير اللغة القرشية في الجيل السابق للبعثة والجيل الذي تقدمه، ومن البعيد جدا أن يغيب عن ذاكرة العربي حديث جيلين قبل جيله وقد كانت أخبارهم ورواياتهم وأنسابهم وأمثالهم كلها قائمة على الحفظ، وتسلسل الرواية، والإسناد من جيل إلى جيل. فإذا كانت لغة الحجاز شائعة عامة على مدى الذاكرة في عصر البعثة المحمدية، فلا أقل من ثلاثة أجيال تقدر لهذا الشيوع وهذا التعميم، وترجع بنا هذه الأجيال إلى أقدم الأوقات التي أسند إليها نظم المعلقات، فلا نستغرب نظمها باللغة التي يفهمها العرب من الجنوب إلى الشمال.
ولقد سمع النبي - عليه السلام - قصيدة كعب بن زهير، وقد نظمها - ولا شك - بلغة أبيه زهير بن أبي سلمى، وكان زهير من أسرة شاعرة مسبوقا إلى النظم بتلك اللغة، ولا يعقل أن يكون التغير في لغة النظم قد طرأ عليهم فجأة في مدى سنوات معدودات، فإذا بلغنا بالمعلقات عصر هرم بن سنان - ممدوح زهير - وما تقدمه بقليل، فليس من شعراء المعلقات من هو أقدم من ذلك بزمن طويل يمتنع فيه التوافق على النظم الواحد واللغة الواحدة.
ولا بد أن نذكر هنا أن أوزان العروض لا تخلق بين يوم وليلة، وأن وزن قصيدة كعب ووزن قصيدة أبيه قد وجدا قبل عصر الشاعرين، ونظمت فيهما قصائد جيل أو جيلين على الأقل قبل ذلك التاريخ، ولو أن هذه الأوزان وسعت شعرا غير شعر اللغة الحجازية لما غاب خبره ولو غاب لفظه ومعناه.
ومن عسف القول - ولا ريب - أن نجزم بامتناع هجرة اليمانية إلى ما وراء حدود اليمن في الجزيرة العربية، فإذا جاز أن تهاجر منهم قبيلة واحدة، فحكم القبيلة في مسألة اللغة كحكم القبائل العشر أو العشرين. ولمن شاء أن ينكر نسبة البكريين أو التغلبيين أو الغساسنة إلى اليمن مستندا إلى الدليل، أو غير مستند إلى دليل على الإطلاق، ولكنه لا يستطيع أن ينكر نسبتهم إلى اليمن، وينكر نسبة اللغة العدنانية إليهم في وقت واحد؛ فإنه بذلك ينكر نسبتهم إلى كل أصل معروف في الجزيرة العربية، ولا يأتي لهم بأصل غير تلك الأصول.
وإن من ينكر انتقال قوم من اليمن إلى ما وراءها لينكر أمرا غير قابل للإنكار في الجزيرة العربية، التي لم يثبت فيها تاريخ أثبت من تواريخ الرحلات على تباعد الأزمنة، وتبدل العوارض الجوية وطوارئ الخصب والجدب، والغلبة والهزيمة. وما من باحث ذي روية يعتسف البت بذلك الإنكار، ثم يجزم بحصر اليمانية في حدودهم منذ أحاطت بهم تلك الحدود؛ فمن العسف أن يقال: إن اليمانية لم تبرح اليمن قط في العصور التي سبقت البعثة المحمدية.
وليس من العسف في شيء أن يقال: إنها برحتها على حسب الطوارئ وعوامل الجو والتاريخ، ولا داعية بعد ذلك لاستغراب التوافق بين اليمانية وأبناء الحجاز وتهامة وسائر الجزيرة في لهجة من اللهجات. فما دمنا نقدر بحكم البداهة أن اليمانية وجدوا في الجزيرة العربية وراء حدودهم، وتكلموا كما يتكلم المقيمون في جوارهم، فقد زالت المشكلة، ولم تكن هنالك في الحقيقة مشكلة تزال.
وليس أكثر من العسف الذي يلجأ إليه منكرو الوحدة في لغة الجزيرة قبل البعثة المحمدية بجيلين أو ثلاثة أجيال، وإن اعتساف التاريخ هنا لأهون في رأينا من اعتساف الفروض الأدبية التي لا تقبل التصديق، فما من قارئ للأدب يسيغ القول بوجود طائفة من الرواة يلفقون أشعار الجاهلية كما وصلت إلينا، ويفلحون في ذلك التلفيق؛ إذ معنى ذلك «أولا»: أن هؤلاء الرواة قد بلغوا من الشاعرية ذروتها، التي بلغها امرؤ القيس والنابغة وطرفة وعنترة وزهير وغيرهم من فحول الشعر في الجاهلية.
ومعنى ذلك «ثانيا»: أنهم مقتدرون على توزيع الأساليب على حسب الأمزجة والأعمار والملكات الأدبية، فينظمون بمزاج الشاب طرفة، ومزاج الشيخ زهير، ومزاج العربيد الغزل امرئ القيس، ومزاج الفارس المقدام عنترة بن شداد، ويتحرون لكل واحد «مناسباته» النفسية والتاريخية، ويجمعون له القصائد على نمط واحد في الديوان الذي ينسب إليه.
ومعنى ذلك «ثالثا»: أن هذه القدرة توجد عند الرواة ولا توجد عند أحد من الشعراء، ثم يفرط الرواة في سمعتها وهم على هذا العلم بقيمة الشعر الأصيل. وما من ناقد يسيغ هذا الفرض ببرهان، فضلا عن إساغته بغير برهان ولغير سبب، إلا أن يتوهم ويعزز التوهم بالتخمين. وإن تصديق النقائض الجاهلية جميعا لأهون من تصديق هذه النقيضة التي يضيق بها الحس، ويضيق بها الخيال.
وشتان - مع هذا - النقائض التي يستدعيها العقل، ويبحث عنها إذا تفقدها فلم يجدها، والنقائض التي يرفضها العقل ولا موجب لها من الواقع ولا من الفكر السليم.
فهذه النقائض التي تحاول أن تشككنا في وحدة اللغة العربية قبل الإسلام يرفضها العقل؛ لأن قبولها يكلفه شططا، ولا يوجبه بحث جدير بالإقناع.
فمما يتكلفه العقل إذا تقبلها أن يجزم - كما تقدم - بانقطاع عرب اليمن عن داخل الجزيرة كل الانقطاع، وأن يجزم ببقاء لغة قحطانية تناظر اللغة القرشية في الجيلين السابقين للبعثة المحمدية غير معتمد على أثر في ذاكرة الأحياء، ولا في ورق محفوظ، وأن يلغي كل ما توارثه العرب عن أنسابهم وأسلافهم، وهم أمة تقوم مفاخرها وعلاقاتها على الأنساب وبقايا الأسلاف، وأن يفترض وجود الرواة المتآمرين على الانتحال بتلك الملكة التي تنظم أبلغ الشعر، وتنوعه على حسب الأمزجة والدواعي النفسية والأعمار، وأن يفهم أن القول المنتحل مقصور على الأسانيد العربية، مبطل لمرجعها دون غيرها من مراجع الأمم التي صح عندها الكثير مما يخالطه الانتحال والكذب الصريح.
ومن النقائض التي يستدعيها العقل ويستلزمها، ويتخذ منها حجة الثبوت الواقع في جملته أن يحدث الاختلاف في الرواية، وأن يتعذر فيها الإجماع بين الرواة؛ فإن العقل لا يصدق الأقاويل التي يتفرق رواتها، ويطول العهد عليها، ويعول أصحابها على الذاكرة والإسناد، ثم تأتي متفقة في الجملة والتفصيل، ولا تتعرض مع الزمن وعوامل الأهواء للاضطراب والحذف والإضافة عن قصد، أو بفعل النسيان والإهمال.
فاختلاف الرواة إذن سبب من أسباب التصديق، واتفاقهم يدعو إلى الشك أو التكذيب.
وقد نسمع النقيضين في هذه الحالة فنرفضهما، ولا نرفض لباب الخبر ومغزاه؛ فقد سمعنا أن عمرو بن كلثوم أو الحارث بن حلزة ألقى قصيدته في وقفة واحدة، وسمعنا أن زهير بن أبي سلمى كان ينظم قصيدته في الحول، وتسمى قصائده من أجل ذلك بالحوليات، وقد نسقط هذه المبالغة كما نسقط تلك، ولا يلزم من ذلك أن نسقط الشعر الذي بولغ في وقت نظمه بين أقصى الطرفين.
وربما وقفنا على روايتين نصدقهما الآن عند النظر إلى الحقائق العصرية، ونعلم أن تلفيقهما في الزمن الماضي جد عسير ولو أراده الملفقون، فمما يروى عن امرئ القيس أنه تعجب من إعراض النساء عنه مع وسامته ومكانته، وسأل إحدى النساء في ذلك فقالت له: نعم، ولكن لك عرقا كأنه عرق كلب. ثم نقرأ أخبار وفاته فنعلم منها أنه أصيب قبل موته بقروح تساقط منها جلده، وسمى الحلة التي كان يلبسها من أجل ذلك بذات القروح.
ومؤدي الروايتين معا أن الشاعر كان على استعداد للمرض الجلدي لفساد رائحة العرق الذي يفرزه، وأنه لم يزل حتى استشرى به الفساد في رحلته القصية، فظهر في تلك القروح، ويقترن ذلك بنوادره مع النساء المعرضات عنه، وغلبة الشاعر علقمة عليه في عيني امرأته، فلا يسهل على الناظر في جميع هذه الأخبار أن ينسب تلفيقها عمدا إلى راوية واحد، ولا يسهل عليه أن يتلقاها متفرقة ثم يجردها من الدلالة التي تربط بينها على غير علم من الرواة المتفرقين.
وربما كذب الكثير من أخبار طرفة، ولم تكذب قصيدته التي تنم في جملتها على خلائقه التي تنوب عن تلك الأخبار، وتغنينا عن محاسبة الرواة على التصديق أو على التكذيب.
وهذه القرائن الأدبية هي التي يغفل عنها المستشرقون ولا يفطنون لها؛ لأنهم ينظرون في النصوص والإسناد، ولا ينظرون في الأدب، ولا في روح الكلام ومضامين التعبير، ومنهم من لا يعرف أدب بلاده، ولا يحسن الحكم عليه، وهو أدب اللغة التي تلقنها في حجر أمه، فليست معرفته باللغة العربية كافلة له أن يحكم على آدابها وأساليبها ومضامين الكلام على تعدد الأمزجة والأذواق، ومنهم علامة تصدى لوضع المعجمات الكبرى في اللغة العربية، فكتب في مادة «أخذ» أنها تأتي بمعنى نام؛ لقوله تعالى:
لا تأخذه سنة ولا نوم [البقرة: 255]، ومنهم من يترجم «أبا بكر» بأبي العذراء؛ لأنه كان والد الزوجة التي بنى بها النبي - عليه السلام - وهي عذراء، ومنهم من يترجم الصعيد بمصر الميمونة أو مصر السعيدة
Egypt Felix ؛ قياسا على اليمن التي تسمى العربية السعيدة
Arabia Felix .
ومنهم من يقول: إن التضحية تدل على عبادة الشمس؛ لأنها من الضحى ... وما هي في وضعها إلا كالتغذية من الغداة، والتعشية من العشاء، والسحور من السحر، إلى غير ذلك من توقيت الوجبات والذبائح بميقاتها من الليل والنهار ... ومنهم من يحسب أن القصيدة من القصد، فيترجمها بالكلام الذي يراد معناه!
وقد تصدت منهم لهذا البحث الذي نحن فيه عن اللغة قبل نزول القرآن طائفة تقتحم هذه المباحث وهي أجهل بآلاتها من عامة الأميين.
فالدكتور سنكلر ثسديل
Thusdale ، صاحب كتاب مصادر الإسلام، يروي شبهات الناقدين للقرآن الكريم، ومنها هذه الأبيات:
دنت الساعة وانشق القمر
عن غزال صاد قلبي ونفر
أحور قد حرت في أوصافه
ناعس الطرف بعينيه حور
مر يوم العيد في زينته
فرماني فتعاطى فعقر
بسهام من لحاظ فاتك
فتركني كهشيم المحتظر
ويتخذ منها قرينة على اقتباس القرآن بعض الآيات من أشعار الجاهليين.
ويضيف الدكتور العلامة إلى هذه الأبيات أبياتا أخرى كقول القائل:
أقبل والعشاق من خلفه
كأنهم من حدب ينسلون
وجاء يوم العيد في زينة
لمثل ذا فليعمل العاملون
قال الدكتور: «ومن الحكايات المتداولة في عصرنا الحاضر أنه لما كانت فاطمة بنت محمد تتلو هذه الآية، وهي
اقتربت الساعة وانشق القمر [القمر: 1]، سمعتها بنت امرئ القيس، وقالت لها: إن هذه القطعة من قصائد أبي، أخذها والدك وادعى أن الله أنزلها عليه، ومع أنه يمكن أن تكون هذه الرواية كاذبة؛ لأن امرأ القيس توفى سنة 540م، ولم يولد محمد إلا في سنة الفيل؛ أي سنة 570م، فلا ينكر أن هذه الأبيات المذكورة واردة في سورة القمر، وفي سورة الضحى، وفي سورة الأنبياء، وفي سورة الصافات، وغاية الأمر أنه يوجد اختلاف طفيف في اللفظ وليس في المعنى؛ فورد في القرآن: اقتربت، وفي القصيدة: دنت ...
ومن البين الواضح أنه يوجد مناسبة ومشابهة بين هذه الأبيات وبين تلك الآيات الواردة في القرآن، فإذا ثبت أن هذه الأبيات هي لامرئ القيس حقيقة، فحينئذ يصعب على المسلم توضيح كيفية ورودها في القرآن؛ لأنه يتعذر على الإنسان أن أبيات شاعر وثني كانت مسطورة في اللوح المحفوظ قبل إنشاء العالم.»
ثم قال الدكتور يطالب العلماء المسلمين مع المعترضين والمشتبهين بأن يقيموا الدليل على أن هذه الآيات مأخوذة ومقتبسة من القرآن، وأنها ليست من نظم امرئ القيس الذي توفي قبل مولد محمد بثلاثين سنة، ولكن يصعب علينا أن نصدق بأن ناظم هذه القصائد بلغ إلى هذا الحد من التهتك والاستخفاف والجرأة في أي زمن من الأزمان بعد تأسيس مملكة الإسلام، التي كانت متسعة الأطراف والأكناف، حتى يقتبس آيات من القرآن ويستعملها في مثل هذا الموضوع.
ثم يختم الدكتور كلامه في هذه الشبهات مصطنعا الحذر والحيطة؛ لئلا يثبت نظم هذه الأبيات بعد الإسلام، فتسقط الشبهة كلها، فيقول: إن هذه الأبيات ليست كل ما يعترض به المعترضون؛ لأن ما تقدم من الأسانيد كاف عندهم لتأييد هذه القضية.
1
وأيسر ما يبدو من جهل هؤلاء الخابطين في أمر اللغة العربية قبل الإسلام وعلاقتها بلغة القرآن الكريم، أنهم يحسبون أن علماء المسلمين يلقون في بحث تلك الأبيات وصبا واصبا؛ لينكروا نسبتها إلى الجاهلية، ولا يلهمهم الذوق الأدبي أن نظرة واحدة كافية لليقين بإدحاض نسبتها إلى امرئ القيس أو غيره من شعراء الجاهلية.
وهذه النظرة الكافية هي التي تعيي الناقدين المستشرقين، وهي أصل وثيق من أصول النقد يعول عليه الناظر في الأدب كل التعويل، ولا يقدح فيه أن يتسع للجدل، وأن يجوز عليه الخطأ في القليل دون الكثير.
كذلك يتسع سبيل الجدل في إنكار خبرة الخبير بكتابة الخطوط، وكذلك يجوز الخطأ في محاكاة الكلمة، أو بضع كلمات، ولا يجوز في السطور والصفحات.
فإذا نظر خبير الخطوط في صفحة من الصفحات فقد تغنيه نظرة في الحكم عليها بالصحة أو التزييف، وربما جاز عليه أمر الكلمة والكلمات إذا لم يكن أمامه غير هذه الكلمة، أو هذه الكلمات للمقابلة والمضاهاة، ولكنه إذا حصل على تلك الكلمة المكتوبة عشر مرات أو عشرين مرة، لم يكن من اليسير أن ينخدع فيها كما ينخدع في الكلمة المفردة بغير تكرار، وعلى هذا المنوال يبدو الصحيح والزيف في الشعر الأصيل والشعر المدخول. وقد يجوز التزوير في الشطرة الواحدة أو البيت الواحد إذا امتنعت المقارنة بينه وبين أمثاله من تلفيق صاحب التزوير، ولكنه لا يجوز إذا كرر المزور الأبيات، ومثلت للناظر الناقد طريقته في تزوير هذه الأبيات المتفرقات.
تزوير الأدب الجاهلي مستحيل
أما المستحيل أو شبيه المستحيل، فهو تزوير أدب كامل ينسب إلى الجاهلية، ويصطبغ في جملته بالصبغة التي تشمله على تباين القائلين والشعراء، فإذا جمعنا الشعر المنسوب إلى الجاهلية كله في ديوان واحد، فمن المستحيل أو شبيه المستحيل أن نجمع ديوانا يماثله من كلام العباسيين، أو كلام الأمويين المتأخرين، وإذا قل الفارق بين الشعر المخضرم والشعر الأموي الأول والشعر الجاهلي؛ فتلك آية على صحة العلامات التي تميز الشعر الجاهلي، وعلى صحة القرابة بينه وبين الشعر الذي لم يفترق عنه افتراقا بعيدا بزمانه، وثقافة قائليه وبيئاتهم في المعيشة ومناسبات التعبير، فلا يتشابه الشعر الجاهلي والشعر المخضرم إن لم يكن بينهما ميزان مشترك، مع انتمائه إلى عشرات الشعراء الجاهليين والمخضرمين.
إن الملامح الشخصية التي تميز بين الفرزدق والأخطل وجرير لم يكن لها ثبوت أوضح وأقوى من ثبوت الفوارق التي تميز بين امرئ القيس وعمرو بن كلثوم وزهير. فمن يرى أن خلق دواوين الفرزدق والأخطل وجرير في وسع راوية واحد، فقد سهل عليه أن ينسب شعر الجاهليين جميعا إلى راوية أو رواة، ولكنه يذهب في الحالين مذهبا لا سند له ولا سابقة من مثله في آداب الأمم، ولا نصيب له من الذوق الأدبي غير النبو والاستغراب.
وربما كان «سنكلر ثسديل» الذي مثلنا به لجهل المستشرقين باللغة والذوق الأدبي مثلا صارخا، كما يقال في التعبير الحديث، ولكن المثل الصارخ هو الذي يبرز الحقيقة مستعصية على اللبس والمكابرة، ويحيط بما دونه من الأمثلة التي تتردد بين الشك واليقين، وقد أتينا على طائفة منها لا تتخلف عن المثل الصارخ بشوط بعيد.
سوء فهم وسوء نية
والمعهود في جماعة المستشرقين أن الكثيرين منهم يقرنون سوء الفهم بسوء النية؛ لأنهم يخدمون سياسة المستعمرين أو سياسة المبشرين المحترفين، أو ينظرون في بحوثهم نظرة الغربي الذي ينظر إلى الشرقي نظرة المتعالي عليه في حاضره وماضيه، غير أنهم - ما عدا القليل منهم - محدودون سطحيون يحومون حول المسائل الحسية، ولا يتوسعون في النظر أو يتعمقون وراء الظواهر التي يلمسها شاهد الحس لمسا، فلا تخرج عنده من حدود ما يثبته أو ينفيه من وقائع العيان والسماع.
فغاية ما يقصدون إليه من أمر اللغة أنهم يلتمسون الأسناد المعتمدة عند أهلها، فيأخذونها بالشك والتجريح، وأنهم يهدمون الدعائم القائمة ليستجيزوا بعد ذلك كل ادعاء يدعونه، وكل إنكار ينكرونه من أصول اليقين والاطمئنان، وتشكيكهم في أسانيد اللغة من هذا القبيل لا يعدوه إلى مطلب بعيد من مطالب الإحاطة والاستيعاب، فهو كالمنازع الذي ينكر على صاحب الدار وثيقته، ولا يعدوها إلى أركان الدار وما في الدار، وتقديرهم لمسألة الشك في وحدة اللغة أقل جدا من قدرها الصحيح في مقدمات الدعوة المحمدية؛ إذ هي أصلح هذه المقدمات للدلالة على ما بعدها، وأصدق في التمهيد لنتائجها من مقدمات السياسة والأحداث الاجتماعية؛ لأنها المقدمة الوحيدة التي تمشي في طريق الدعوة المحمدية مساوقة لها، مترقبة لأوانها، ولا تكون الدعوة المحمدية بالنسبة إليها كأنها رد الفعل الذي يقاوم ما قبله، ويجري معه مجرى النقيض من النقيض.
الفخر باللسان العربي
إن الشعور بالعربية والفخر باللسان العربي مقدمة لا بد منها للدعوة التي تواجه العرب بآية البلاغة في القرآن الكريم، وتروعهم بالمعجزة التي يحكونها إن استطاعوا، أو يحسبونها من قدرة الله.
مثل هذا التحدي بالبلاغة لا يحدث في أمة لم تتأصل فيها مفخرة اللسان العربي والوحدة العربية جيلين أو ثلاثة أجيال، ولا بد - مع ذلك - أن تكون فتحا قريبا أو شعورا فنيا لم يتطاول عليه العهد مئات السنين، ولم تذهب روعته بالألفة وفتور النسيان.
ووحدة اللغة القرشية أو الحجازية لا تصبح من مفاخر العرب جميعا كرامة لقريش أو لأرض الحجاز، ولكنها خليقة أن تسري إلى نفوس العرب من حيث يشعرون بالعروبة الموحدة عالية الرأس، غير مستكينة لسلطان من «العجم» على الخصوص.
والكعبة هي الجوار الوحيد الذي يشعر عنده العرب هذا الشعور.
فهم في الشام رعايا دولة الروم، وهم في الحيرة رعايا دولة الفرس، وهم في اليمن أتباع للحبشة أو لفارس، أو رعايا لسلطان يدينهم بالمذلة كما يدينهم الملوك الغرباء.
ولكنهم عند بيت الله في حرم الله يقدسونه جميعا؛ لأنه لهم جميعا يضمهم إليه كما يضم أوثانهم وأصنامهم وأربابهم، يلوذون به ويأوون إليه، فكلهم من معبود أو عابد في حمى من الكعبة؛ لأنهم في بيت الله.
وشعورهم هنا بأنهم «عرب» لم يماثله شعور قط في أنحاء الجزيرة العربية، وقد أوشك أن يشمل شعب اليمن وجمهرة أقوامه على الرغم من سادته وحكامه، فما كان هؤلاء الحكام لينفسوا على الكعبة مكانها، ويقيموا لها نظيرا في أرضهم لو كان شعب اليمن منصرفا عنها غير معتز بها كاعتزاز البادية والصحراء.
وحدة الكعبة
وقد وافق ذلك زوال عرش الحيرة، وزوال عرش حمير، واستكانة الغساسنة في الشام تارة للروم وتارة للفرس، بلا ولاء لهؤلاء ولا لهؤلاء، ولا بقية من الفخر لهم غير أنهم عرب، وليسوا من هؤلاء ولا هؤلاء.
وإن إبقاء الإسلام على مكانة الكعبة لدليل على هذه المكانة، ودليل على حكمة الإسلام في الاحتفاظ بها للعالم الإسلامي في متسعه العميم بعد عالمه الأول في الجزيرة العربية.
ونكاد نقول: إن العرب أقبلت على الإسلام أفواجا حين صارت الكعبة إلى يديه، وأصبحت عاصمة العروبة عاصمة للدين الجديد.
ولو لم تكن للعرب وحدة معروفة بينهم قبل البعثة الإسلامية، لما اعتزوا بالبيت الجامع لهم هذا الاعتزاز، وما وحدة أقوام متقاتلين متنازعين مأخوذين بعصبية الأجداد والعشائر إن لم تكن وحدة اللغة، ووحدة الفخر بلسان مبين يتيهون به على «العجم» أجمعين؟!
قال سترابون: إنه وجد الأقوام في بلاد العجم تتفاهم بلغة واحدة، وهي بلاد تعاقبت عليها سلالات الآريين والطورانيين والساميين، ويقال في روايات شتى: إن الحاميين وصلوا إليها في زمن قديم، كما كانوا يصلون إليها، ويتجمعون فيها بعد الإسلام بعدة قرون، ولم تكن عوامل الوحدة اللغوية بينهم أقوى من عواملها في جزيرة العرب، ولم يمض عليهم من الزمن ممتزجين متقاربين أكثر مما مضى على القبائل العربية التي من عادتها الترحل والانتقال من مرعى إلى مرعى، ومن جوار إلى جوار.
وفي زماننا هذا - من القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين - لا نرى أحدا يستغرب تخاطب القوم في جزائر البريطان بلغة واحدة، ومنهم الأيرلنديون والأيقوسيون والغاليون، وفي كل أمة من هذه الأمم خطباء مفوهون، وشعراء مشهورون يحسنون الإنجليزية منظومة ومنثورة، وفي مجامع الخطابة والبيان، ولا نرى أحدا يستغرب ذلك في بلاد الإسبان، ومنهم القشتاليون والباسكيون.
ولا نرى في مصر هنا من يستغرب البيان العربي الفصيح إذا نسب إلى فئة من أبناء النوبة، وهم يتفاهمون في الإقليم النوبي برطانة لا يفهمها سائر المصريين، فلا موجب لإنكار النظم والكلام بلغة واحدة في جزيرة العرب قبل البعثة المحمدية بمائتي سنة أو أكثر من ذلك، مع عجز المنكرين أن يأتوا بشاهد من اللغة الأخرى التي يفترضونها، وينكرون توحيد اللغة من أجلها، ومع توافر الأسباب الموحدة في جزيرة العرب على نحو لم يعهد في غيرها من بلاد الزمن القديم، ولا تكفي كلمة أو كلمات للحكم بانفصال اللغات؛ فإن الإقليمين في قطر واحد لا يتفقان في جميع الكلمات.
فمن التاريخ الثابت أن أبناء الجنوب لم ينقطعوا عن الشمال، ولم تزال لهم آثار مكتوبة فيها إلى الآن، وقد وجدت بعض هذه الآثار بالخط الجنوبي واللغة الشمالية؛ مما يدل على تشابه الكلام والنطق مع بقاء الكتابة بخط الجنوب.
وحدثت في تاريخ الجنوب حوادث متعاقبة نقلت زعامة الشمال إلى الشماليين، وجعلت أهل الجنوب تبعا لهم كلما وفدوا على الشمال، وذاك بعد قيام الدولة النبطية التي ازدهرت في القرن الرابع للميلاد، وتغلغل روادها وتجارها في الغرب، كما ظهر من بعض نقوشهم في بحر إيجة وفي إيطاليا الجنوبية.
وقد كان من أسباب ضعف الجنوب وقيام دولة النبط في الشمال اضطراب بلاد اليمن بعد حروب الإسكندر، واجتياجه لدولة فارس التي كان لها الإشراف على حكومة اليمن وتجارة الهند والشرق عامة في الأقطار العربية، وبعد انهيار سد مأرب وانتشار القراصنة في خليج العجم وبحر العرب والبحر الأحمر، فغلبت طريق القوافل التي تمر بالحجاز على جميع الطرق الأخرى، وتقاربت الصلة بين النبط والحجازيين، وأخذ الحجازيون بالخطة الوسطى التي تلتقي عندها سبل الجنوب والشمال والشرق والغرب في كل بقعة عربية لم تكن للفرس حماية عليها، واشتعلت الحروب بين اللخميين على خليج العجم، والغساسنة في بادية الشام، فانحصر الأمان أو كاد على طريق الحجاز.
واحتاج النعمان بن المنذر - صاحب الحيرة - إلى زعماء مضر لحماية تجارته داخل الجزيرة إلى مكة، فكان من أسباب يوم نخلة أنه أراد رجلا يجيز قوافله على أهل نجد، فتنازعها البراض وعروة الرحال سيد هوازن، وقال له هذا: إنه يجيزها على أهل الشيح والقيصوم في أهل نجد وتهامة، ثم نشبت الحرب، فاحتكم الجميع أخيرا إلى سيد من سادات مكة عبد الله بن جدعان.
وانقضت عدة قرون على اتصال النبط والحجاز، وعمل الحجازيون على تعظيم شأن الحجاز بين النبطيين، فوضعوا في الكعبة تماثيل أرباب يعبدها النبطيون، يعد منها الرواة: هبل واللات ومناة التي قيل: إنها من «المنية»، بمعنى «القدر المقدور» معبود النبطيين، وقولهم: حانت منيته وحان قدره معنى واحد عند عباد مناة.
ولا شك أن قصة «عمرو بن لحي» الذي اتفقت الأخبار على أنه نقل الأصنام من بلاد النبط إلى الكعبة، إنما هي وسيلة من وسائله لتعظيم شأن الكعبة عند أهل الشمال، وإيناسهم بها كلما رحلوا إلى الحجاز، وتقريب ما بينهم وبين شعائر البيت الحرام، وهم جميعا حريصون على تحريم هذه الشقة، وحماية روادها من كل قبيل.
وأخطر من ذلك كله أثرا في إعظام شأن الكعبة أنها المفخرة القومية، والحرم الإلهي الذي بقي للعرب بعد سيادة الروم على غسان، وتقلب الحبشة والفرس على اليمن، وشعور اللخميين - سادة الحيرة - أنفسهم بمناعة الكعبة، ومناعة الطريق في أيدي مضر ومن يواليها، وهوان سلطان هؤلاء اللخميين حتى آل بهم الأمر إلى الدثور، ثم جاءت وقعة ذي قار التي انتصر فيها العرب على الفرس بعد زوال دولة اللخميين وقضاء الفرس عليها، فهزت الجزيرة من أقصاها إلى أقصاها، ونمت على نخوة قومية عربية تمكنت من نفوس القبائل جميعا، فاشرأبت أعناقها زمنا إلى كل ملاذ تقصر عنه أيدي فارس والروم.
هؤلاء القوم الذين يفخرون بأنسابهم فيما بينهم، ويفخرون بجنسهم بين سائر الأجناس قد حلت اللغة عندهم محل العرش والدولة، ومحل البذخ والحضارة، ومحل العلم والصناعة، حتى أصبح الفخر بها علامة من العلامات التي يتميزون بها في عرف علماء الأجناس البشرية، فإذا وجد الفخر باللغة فتلك علامة العربي بين العناصر عامة من أقاربه الساميين إلى الغرباء عنه من الآريين والطورانيين والحاميين.
ثم تتجلى فيهم دون سائر الأمم تلك الظاهرة الفريدة في تواريخ الأديان والثقافات، وهي العلو بالبلاغة حتى تكون البلاغة في قسطاس كل مخاطب بالقرآن الكريم تحديا نبويا، وتحديا ربانيا، من معجزات الإله التي لا تتسامى إليها قدرة البلغاء في أمة اللسن والبيان.
وهذه ظاهرة متجلية للنظر القريب والبعيد لا تحتاج من المستشرقين إلى بحث عن مجهول أو معلوم، فما يجيء الكتاب بهذه المعجزة لأمة خلت من مأثورات البلاغة في شعرها وجوامع كلماتها، وما هو بجائز عقلا أن يتحداها القرآن وهي لا تعرف من كلامها شيئا يتجه إليه ذلك التحدي، وتدور عليه الموازنة في عرف الخبراء بالكلم البليغ، فالقياس المستقيم أن القرآن نزل في قوم لهم بلاغة موروثة يتناقلونها، ولا يجهلون أعلامها.
وأما القول بأن بلاغة الجاهلية لم تكن حقيقة واقعة، وإنما اصطنعها الرواة اصطناعا بعد الإسلام سندا للقرآن، ودفعا للشبهات عنه بين المؤمنين به؛ فليس من القياس المستقيم في مقياس غير مقياس أولئك المستشرقين، وما كان الجاهلي الكافر ليقبل آية القرآن، ولا يشك في فصاحة القرآن، ثم يأتي المسلم المؤمن، فلا تثبت له فصاحة القرآن إلا بكلام يخلقه خلقا لينسب إلى أولئك الجاهليين، ولقد حدث نقيض ذلك في كثير من الشواهد على صحة اللغة وسلامتها، فكان القرآن مرجع المصححين فيما يختلفون عليه، ويبتغون له سندا لا مراء فيه.
ومهما يبلغ من ضعف الذاكرة بالبادية - وليست هي بالضعيفة - فلن يبلغ من نسيانها أن ينقطع الجد عن أخبار أبيه وأخبار بنيه، وأن ينسى لغة سمعها في حياته، أو سمعها أبوه قبل مولده، فما كان جيلان أو ثلاثة أجيال بالامتحان العسير لذاكرة قوم لا معول لهم على غير الذاكرة ورواية الأخلاف عن الأسلاف، وإنه ليمتنع أو يستحيل أن ينشأ الإسلام في جيل يجهل اللغة التي تنسب إلى شعراء المعلقات، وأقدمهم لم يسبق جيل الإسلام بأكثر من مائة وخمسين سنة. وفي هذه السنين خاصة توحد حساب التاريخ، وتولاه قلامس العرب، وخالفوا فيه تقويم اليهود في حساب النسيء، فكان جنادة بن عوف ناسئا عند ظهور الإسلام، وسبقه أبوه عوف بن أمية، وسبقه أبوه أمية بن قلع، وسبقه أبوه قلع بن عباد، وسبقهم آخرون إلى عهد القلمس من بني كنانة، فهم في تاريخ معلوم متسلسل قبل الإسلام بأربعة أجيال.
ومن فهاهة المستشرقين هؤلاء أنهم لا يختارون من تاريخ العرب مطعنا يصيبونه غير اللغة والأنساب، وكلهم يتحذلقون على العلم في شكوكهم الموكلة بالتاريخ العربي أو الإسلامي من أقدم عهوده، ثم يأتي العلم فيثبت بالكشوف المحسوسة صدق الخرافة المزعومة، وكذب العلماء الزاعمين، حتى لقد أصبح التخريف حقا لهؤلاء المحققين، الذين لا يعرفون من التحقيق إلا اتهام كل رواية عربية أو إسلامية بالتخريف.
فمن أقطاب هؤلاء المخرفين من أنكر عادا وثمود، وأنكر الكوارث التي أصابتهم بغير حجة، إلا أنه يحسب أن المنكر لا يطالب بحجة، ولا يعاب على النفي الجزاف، فما لبثوا طويلا حين تبين لهم أن عادا “Qadita”
وثمود “Thamudida”
مذكورتان في تاريخ بطليموس، وأن اسم عاد مقرون باسم إرم في كتب اليونان، فهم يكتبونها «أدراميت»
Adramitae .
ويؤيدون تسمية القرآن لها بعاد إرم ذات العماد ... وعثر المنقب موزيل التشكي
Musil ،
2
صاحب كتاب الحجاز الشمالي، على آثار هيكل عند «مدين» منقوش عليه كلام بالنبطية واليونانية، وفيه إشارة إلى قبائل ثمود.
ومن أقطاب هؤلاء المخرفين من أنكر أبرهة ونكبة جيشه واهتمامه بتعطيل الكعبة، وبنائه القليس في صنعاء لصرف العرب عن الكعبة إليها، ثم تنكشف النقوش عن اسمه على خرائب سد مأرب، ملقبا بالأمير الحبشي من قبل «ملك الحبشة وسبأ وريدان وحضر موت واليمامة وعرب الوعر والسهل» ... ويتواتر الخبر عن الجدري الذي تفشى في منتصف القرن السادس للميلاد، فيذكره بروكوب “procobe”
من وزراء القسطنطينية.
ويروي الرحالة بروس “Bruce”
الذي زار بلاد الحبشة في القرن الثامن عشر، أن الأحباش يذكرون في تواريخهم أن أبرهة قصد إلى مكة، ثم ارتد عنها لما أصاب جيشه من المرض الذي يصفونه بصفة الجدري. ولا يقل عن هذه الأسانيد جميعا سند التأريخ بعام الفيل قبل البعثة المحمدية بجيل واحد، بل أقل من جيل.
وسد مأرب برمته لم يسلم من التكذيب، وبناء قريش للكعبة بعد مولد النبي هو أيضا تخريف في زعم هؤلاء المخرفين، ولكنه لقي من يدحضه من المؤرخين الأوربيين المعاصرين، فكتب كرزويل تحقيقه الذي يقول فيه: «إن العالم ليوني كايتاني يذهب إلى القول بأن قصة تعمير قريش للكعبة ليست إلا خرافة من نسج الخيال، فاليوم يثبت لنا جليا بعدما أوردناه من الحقائق من بناء الكعبة على الطراز الحبشي في سنة 608 ميلادية، ووجود الصور المسيحية التي كانت تحلي باطنها، وقيام معمار حبشي ببنائها - وهي جميعا حقائق متماسكة آخذ بعضها برقاب بعض - صدق رواية المؤرخين الذين قصوا أخبار هذه العمارة، وصحة ما ذهبنا إليه ، وبطلان ما يدعيه كايتاني من اختراع هذه القصة وتلفيقها.»
3
ونحن نقف بهذه التواريخ عند حدها، ولا نجاوز بها مداها، فحسب الناظر في التاريخ أن يفهم منا أن إخبار العرب عن لغتهم وعن أوائلهم لا تدحض جملة واحدة، وقد تخالطها المبالغة، وتتناقض حولها الغرائب؛ بل ربما كان من دواعي إدحاضها أن تبرأ من كل مبالغة وغرابة، فأما الكذب الذي يعاب على العلم ويلحقه بالخرافة فهو هذا التحقيق الذي هو أهون وأضر من التخريف. •••
إن الحوادث الكبرى تستدعي المقارنة بين فهمنا لها بمقاييس العلم، ومقاييس الفلسفة، ومقاييس العقيدة، وتوحي إلينا في جميع الأحوال أن مقاييس العقيدة أخلصها إلى أعماقها، وأقدرها على التفسير كلما استجاشت العقيدة في الأمم قوة الحياة وقوة الضمير.
والإسلام قد استصفى تاريخ العرب قبل دعوته، فجمعه كله في الوحدة القومية، وأقام هذه الوحدة على ركنيها اللذين لا قوام لها بغيرهما على تساند واتفاق؛ وهما: ركن اللغة، وركن الحرية الدينية، وكلاهما كان تمهيدا صالحا لظهور الدعوة الإسلامية.
إلا أن معجزة الإسلام في جميع مقدماته ونتائجه أن هذه النتائج لم تكن قط منقادة مسخرة لتلك المقدمات، فإن هذه العصبية اللغوية الدينية قد آلت في يد الإسلام إلى دعوة إنسانية عالمية، لا تنكر شيئا كما تنكر العصبية الجاهلية، ولا تعرف ربا غير رب العالمين، ولا قسطاسا غير قسطاس العمل الصالح، يتفاضل به القرشي والحبشي والعربي والأعجمي وعترة النبي، ومن ليست بينه وبين النبي لحمة غير لحمة الإيمان ...
ونعود فنقول: إن شأن اليهودية في توضيح هذه الحقائق أعظم من كل شأن لها في الجزيرة العربية، فمما لا نزاع فيه أن أناسا من اليهود قدموا إلى الجزيرة بلغة غير اللغة الحجازية، فاحتفظوا بلغة الدين للدين، ولم يمض عليهم زمن طويل حتى عم التفاهم بينهم وبين سائر العرب بلسان الحجاز وتهامة ونجد، ومن جاورهم من الأنباط وعرب الحيرة وبادية الشام. وهذه حقيقة تاريخية واقعية مسقطة لكل دعوى يتحذلق بها أدعياء العلم من محترفي التبشير والاستشراق.
المسيحية في الجزيرة
أما المسيحية فقد كان لها مدخل إلى الجزيرة العربية غير هذا المدخل، فلم تصل إلى داخل الجزيرة عشيرة كبيرة أو صغيرة من المهاجرين، ولم يأتها قوم بلسان غير اللسان العربي كما حدث في هجرة اليهود، ولكنها شاعت بين قبائل من العرب في جيرة الدول التي سيطرت على أطراف الجزيرة، وهي بيزنطية وفارس والحبشة، وكان لمذهب العاهل القائم بالأمر في دولة بيزنطية أثر كبير في توجيه النحل والمذاهب في بلاده وبلاد أعدائه.
وقد حدث في مدى قرن واحد أن العواهل كانوا يحرمون المسيحية على رعاياهم، ثم دانوا بها على مذهب، وجاء من بعدهم فدان بها على مذهب يعاديه ويرميه بالكفر والزندقة، فمن شاء أقام مع العاهل في بلاده طائعا له، أو مداريا لأمره، وإلا ففي بلاد أعدائه من الفرس متسع له يعلن فيه مذهبه، وينطلق في تسفيه العاهل وشيعته غير ملوم ولا ممنوع.
وأفلت إلى الجزيرة العربية آحاد من كل نحلة مسيحية غضب عليها عاهل القسطنطينية، فهاجرت إليها فئات متفرقة من أتباع آريوس وأوريجين ونسطور ولوسيان الأنطاكي، وجماعة المشبهين، وجماعة القائلين بالطبيعة الواحدة، والقائلين بالطبيعتين.
وكان نسطور بطرقا للقسطنطينية ينشر مذهبه ببأس الدولة، ثم عزل وتعقبه خصومه بالنفي إلى أرض النوبة، ومحور مذهبه أنه يفصل بين الناسوت واللاهوت في السيد المسيح، ويرفض القول بتأليه العذراء عليها صلوات الله. وكان الأنطاكي يناقض تفسير الكتب الدينية بأسلوب المجازات والرموز، ويلتزم اللفظ والنص في فهم معانيها ومسائلها الغيبية. وكان آريوس يقول: إن الكلمة هي واسطة الخلق، ويقول أوريجين: إنها مخلوق محدث له الشرف على سائر المخلوقات، وإن هذه الكلمة تجسمت في السيد المسيح، فظهرت على مثال الإنسان، وآخرون يقولون: إن جسد السيد المسيح تشبيه بالجسد، وليس بالجسد المادي الذي يحكي جسد الإنسان، وإنه في لاهوته أجل وأرفع من أن يتعذب أو يتضرع، وصيحته عند الصلب لم تكن «ربي! ربي!» بل كانت: قوتي! قوتي! كما ورد في بعض النصوص. •••
ويعترف جورج سيل، مترجم القرآن، بما كانت عليه حال المسيحيين في الحجاز من السوء والضلالة، فيقول في مقدمته للترجمة: «من المحقق أن ما ألم بالكنيسة الشرقية من الاضطهاد واختلال الأحوال في صدر المائة الثالثة للميلاد، قد اضطر كثيرين من نصاراها أن يلجئوا إلى بلاد العرب طلبا للحرية، وكان معظمهم يعاقبة؛ فلذا كان معظم نصارى العرب من هذه الفرقة. وأهم القبائل التي تنصرت حمير وغسان وربيعة وتغلب وبهراء وتنوخ وبعض طيئ وقضاعة وأهل نجران والحيرة ...
ولما كانت النصرانية بهذه المثابة من الامتداد في بلاد العرب، لزم عن ذلك ولا بد أنه كان للنصارى أساقفة في مواضع جمة منها لتنتظم بهم سياسة الكنائس، وقد تقدم ذكر أسقف ظفار، وقال بعضهم: كانت نجران مقام أسقف، وكان لليعاقبة أسقفان يدعى أحدهما أسقف العرب بإطلاق اللفظ، وكان مقامه باكولة، وهي الكوفة عند ابن العبري، أو بلدة أخرى بالقرب من بغداد عند أبي الفداء، وثانيهما يدعى أسقف العرب التغلبيين، ومقامه بالحيرة. أما النساطرة فلم يكن لهم على هذين الكرسيين سوى أسقف واحد تحت رئاسة بطريركهم.»
إلى أن يقول: «أما الكنيسة الشرقية فإنها أصبحت بعد انفضاض المجمع النيقاوي مرتبكة بمناقشات لا تكاد تنقضي، وانتقض حبلها بمماحكات الآريوسيين والنساطرة واليعقوبية وغيرهم من أهل البدع. على أن الذي ثبت بعد البحث أن كلا من بدعتي النساطرة واليعقوبية كانت بأن تدعى اختلافا في التعبير عن المعتقد أولى من أن تدعى اختلافا في المعتقد نفسه، وبأن تدعى حجة يتعنت بها كل من المتناظرين على الآخر أولى من أن تدعى سببا موجبا لالتئام مجامع عديدة يتردد إليها جماعة القسان والأساقفة، ويتماحكون ليعلي كل واحد منهم كلمته، ويحيل القضايا إلى هواه.
ثم إن نافذي الكلمة منهم وأصحاب المكانة في قصر الملك كان كل واحد منهم يختص نفرا من قواد الجيش، أو من أصحاب الخطط يكون له عليهم الولاء ويتقوى بهم، وبذلك صارت المناصب تنال بالرشى، والنصفة تباع وتشترى جهارا. أما الكنيسة الغربية فقد كان فيها من تهالك دماسوس وأرسكينوس في المشاحة على منصب الأسقفية - أي أسقفية روته - ما أفضى إلى احتدام نار الفتنة وسفك الدماء بين حزبيهما ...
وكان أكثر ما تنشأ هذه المناقشات عن القياصرة أنفسهم ، ولا سيما القيصر قسطنطينوس، فإنه إذ لم يقدر أن يميز بين صحيح الدين المسيحي وخرافات العجائز ربك الدين بكثير من المسائل الخلافية ... هذا ما كان عليه حال النصرانية في غير بلاد العرب. أما في بلاد هذه الأمة، التي هي موضوع بحثنا، فلم تكن خيرا من ذلك؛ فكان في نصارى العرب قوم يعتقدون أن النفس تموت مع الجسد وتنشر معه في اليوم الآخر، وقيل: إن أوريجانوس هو الذي دس فيهم هذا المذهب.
وكم وكم من بدعة انتشرت في جزيرة العرب حتى لا نقول نشأت فيها! فمن ذلك بدعة كان أصحابها يقولون بألوهية العذراء مريم، ويعبدونها كأنما هي الله، ويقربون لها أقراصا مضفورة من الرقاق يقال لها: كليرس، وبها سمي أصحاب هذه البدعة كليريين، وفضلا عن ذلك فقد اجتمع أيضا في جزيرة العرب عدد وافر من الفرق المختلفة الأسماء لجئوا إليها هربا من اضطهاد القياصرة ...» •••
فالحالة التي تمثلت بها النصرانية في جزيرة العرب لم تكن حالة هداية يحيط بها مذهب واحد صالح لتعليم من يتعلمه، بل كانت شيعا سياسية ومذاهب متنازعة، يتوقف العلم بالصالح منها على هدى الناظرين فيها، وعلى ما عندهم من البصر الثاقب والبداهة المنزهة، التي يعود إليها الفضل فيما تقبله وتأباه، ولا فضل عليها لمن يعلمها نحلة من تلك النحل تقدح في سائرها، وترمي الذين لا يتبعونها بالكفر والضلال.
والقرآن الكريم يصف هذه الحالة بين أهل الكتاب جميعا كما جاء في سورة المائدة عن طوائف اليهود والنصارى.
قال عز من قائل:
ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل * فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين * ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون [المائدة: 12-14]. •••
هذه حالة النصرانية في الحجاز كما عهدها النبي - عليه السلام - قبل مبعثه، وهي بهذه المثابة من مقدمات رد الفعل لا من مقدمات التمهيد والتحضير، سواء كل ذلك في أمر النبي، أو أمر الحكماء من طلاب الهداية الذين عرفوا باسم المتحنفين أو المتحنثين.
وينبغي الاحتراس من قول القائلين: إن أحدا من أولئك المتحنفين أو الحنفاء تنصر أو تهود على مذهب مفصل مستوعب لعقائد النصرانية أو اليهودية، فكل ما يصح من أخبار الحنفاء أنهم كانوا يعرفون أن الإيمان بالإله الواحد أهدى وأحكم من الإيمان بالنصب والأوثان، ونحسب ابن هشام قد صدق الرواية حقا، حين قال عن أشهر هؤلاء المتحنفين زيد بن عمرو بن نفيل أنه «وقف، ولم يدخل في يهودية ولا نصرانية، وفارق دين قومه، فاعتزل الأوثان والميتة والذبائح التي تذبح على الأوثان، ونهى عن قتل الموءودة، وقال أعبد رب إبراهيم ... وكان يسند ظهره إلى الكعبة ويقول: يا معشر قريش، والذي نفس زيد بن عمرو بيده، ما أصبح منكم على دين إبراهيم غيري، ثم يقول: اللهم لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك عبدتك، ولكني لا أعلم».
ومثل ابن نفيل ورقة بن نوفل الذي قصدت إليه السيدة خديجة لتسأله عن جبريل الذي نطق النبي - عليه السلام - باسمه أمامها، فإنه كان يطيل القراءة في كتب اليهود والنصارى، ويعلم أن عبادة الأصنام ضلالة، فيلتمس الهداية في غيرها، ولا يستوفى العلم ولا الإيمان بأي الديانتين، وغاية الأمر في نصرانيته كما قال ابن هشام أنه «كان نصرانيا تتبع الكتب، وعلم من علم الناس» ... وقد ذكر عنه مع ثلاثة من أصحابه، أحدهم ابن نفيل، أنهم كانوا قد انصرفوا من عند صنم يعظمونه في يوم عيد، فقال بعضهم لبعض: «تعلموا والله ما قومكم على شيء، لقد أخطئوا دين أبيهم إبراهيم. ما حجر نطيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع يا قوم؟! التمسوا لأنفسكم؛ فإنكم والله ما أنتم على شيء.»
قال ابن هشام: فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم.
ونحن نعلم من القرآن الكريم أن المشركين كانوا يقولون: إنهم لم يعبدوا الأرباب والأوثان إلا ليقربوهم إلى الله زلفى، وسنرى في الكلام على الكعبة أن الحقبة التي سبقت بعثة النبي شهدت طوائف من المجتهدين في العبادة، منهم طائفة الحمس التي اختصت الحرم وحده بالتقديس، وتنسكت بضروب من العبادة لم يتبعها أحد من قبلهم في الجاهلية.
فقد كانت الحقبة إذن حقبة حائرة بين العبادات، ولم تكن عبادة منها لتستأثر بضمير صاحبها أو تغنيه عن النظر في غيرها. وقد كانت هذه الحيرة في جانب من جوانبها على الأقل أثرا من أثار الجامعة القومية، أو أثرا من آثار الشوق إلى ديانة جامعة غير ديانة الأصنام المتفرقة، لكل قبيلة من القبائل صنم تنفرد به أو تميزه بين زمرة الأصنام المشتركة.
فقد كانت القبائل تعبد أصنامها، ولم تكن بها حاجة إلى الاشتراك في عبادة واحدة تشملها، فلما وجدت هذه الحاجة لمسوا النقص في كل عبادة من عباداتهم، وذهب أصحاب النظر منهم يبحثون عن الدين الصالح، ويستلهمون من كلمة «بيت الله» قبسا يقربهم من الله، ومن ديانة رب البيت وبانيه إبراهيم - عليه السلام - وقديما نسب الحجازيون أنفسهم إلى إسماعيل بن إبراهيم، ونسبهم إليه أصحاب التوراة وعلماء الأنساب.
وإن أصدق وصف للحالة الدينية في عصر البعثة الدينية أنها حالة نقص في كل نحلة وكل عقيدة؛ فلم نعلم من أخبار الوثنية قط أنها كانت تستوعب المؤمن بها، وتمنعه أن يأخذ ببعض الشعائر من هنا، وأن يتقبل بعض الآراء من هناك، ولم تكن الحدود بين النحل والعادات الدينية متحجرة مستقرة على قرار لا يأذن بالتبديل والزيادة والتحوير، ولم يكن المتدين منهم جميعا يتنبه إلا الابتداع في أمر الدين، إلا أن يسومه الخروج على قومه، والزراية بشرعة الآباء والأسلاف، فيومئذ تنقلب المسألة من تصرف في الشعائر والآراء إلى النخوة العصبية، والغيرة على الأحساب والأنساب، وتصطدم البدعة الجديدة إذن بالعصبية القومية كلها في إبان اليقظة والطموح. وهذه الصدمة لم تفاجئ أبناء الجاهلية قط من نحلة يحكونها، أو يستجيبون لها بحكم المسايرة والمجاراة، وإنما فاجأتهم من دعوة الإسلام وحده، فتمردوا عليه ذهابا مع العصبية وتراث الحسب والنسب، ولم يتمردوا عليه ذيادا عن ملة شاملة تستأثر منهم بالضمائر والأفكار.
فالوحدة القومية مهدت للإسلام إلى حد محدود، ويسرت له الأمر بالتوقع والانتظار، ثم وقفت دون الغاية حين اصطدمت القومية بالدعوة الجديدة، ووجب أن تثوب الدعوة الجديدة إلى قوة أكبر من قوة القومية التي اعتز بها المشركون وخلطوها بما ألفوه من السيادة والمصلحة في التراث القديم.
فبالوحدة القومية تمهدت طريق الإسلام، وبقوة الإسلام برزت من الوحدة القومية شريعة الإنسان وعبادة رب العالمين.
ولم نذكر - فيما تقدم - عاملا من أشهر عوامل هذه الوحدة القومية، وهو يوم ذي قار الذي انتصر فيه العرب على الفرس، وارتجت له الجزيرة العربية بالفخر والأمل في مطلع العصر الإسلامي، وعند ولادة النبي - عليه السلام.
لم نذكره لنضعه كما وضعه أناس في مقدمة العوامل الكبرى، ولا ننساه هنا لنحسبه منها ولا نقدمه عليها، فلو لم يكن يوم ذي قار لكانت الوحدة العربية، وكانت توابعها التي لحقت بها في أوانها. ولعل وثبة ذي قار جاءت بعد الوحدة القومية ولم تسبقها، ولعلها كانت الجولة الثانية بعد الجولة الأولى على تخوم الدولة الفارسية، فلما تنازع أمراء الحيرة وشواهين الدولة غلبت الدولة على الإمارة، وقضى الأكاسرة والشواهين على المناذرة والنعامين، ولما التقت سطوة فارسية ونخوة عربية في الجولة التالية ظفرت القبائل حيث أخفق الأمراء.
كانت ذو قار وليدة النخوة العربية، ولم تكن أمها التي ولدتها، وإنما كانت أم الأمهات في هذه النهضة وحدة اللسان ووحدة الجنان.
الفصل الرابع
النبوة المحمدية
أوائل النبوات
ندع الآن هذه الوحدة ريثما نعود إليها في الكلام على الكعبة المكية، ونرجع بتاريخنا إلى أوائل النبوات لنمضي بها إلى ختامها بالرسالة المحمدية، فإن تاريخ النبوة من أوائلها أصلح المقدمات لبيان فضل النبوة كما بعث بها خاتم الأنبياء.
من قديم الزمن وجدت الرغبة في العلم بالغيب واستطلاع المجهول، ووجدت لذلك علامات كثيرة يتفق عليها الناس عامة من قبيل زجر الطير، والتفاؤل بالكلام المسموع، والمناظر التي تبشر بالخير والنجاح، أو تنذر بالشر والخيبة.
هذه العلامات العامة كانت معروفة شائعة بين الناس لا يختص بها أحدهم دون غيره، فكل ما عرفه الناس قديما من علامات التفاؤل أو علامات التشاؤم، فهو ميراث الجماعة يتناقلونه على وتيرة واحدة من الآباء إلى الأبناء.
لكن الرغبة في استطلاع الغيب ومواجهة المجهول لم تكن كلها من هذا القبيل، ولا سيما المجهول الذي يعرفه الآلهة وحدهم، ولا يكشفونه لغير المقربين من عبادهم، وهم خدام معابدهم والأمناء على مشيئتهم، والمترقبون لوحيهم في ليلهم ونهارهم، فربما عرض للقبيلة عارض جسيم لا تعرف وجهتها فيه، ولا يدلها على هذه الوجهة طير يراه فرد من أفرادها على صورة من الصور، أو كلمة يسمعها من عابر طريق يستوحي منها البشارة أو الإنذار، فإن شئون الفرد غير شئون القبيلة، وليس لفرد من عامة أفرادها أن يدعي لنفسه القدرة على سؤال أربابها، والفهم عنهم في معابدهم ومحاريبهم، مع وجود الكاهن الذي انقطع لخدمة الأرباب، وورث هذه الخدمة من آبائه وأجداده في أكثر الأحوال، ولا مع وجود الكاهن الذي تربى من صباه في مهد العبادة ليقترب من الأرباب المعبودين، ويفقه عنهم من إشاراتهم ومضامين وحيهم ما يخفى على سواه.
ومن قديم الزمن أيضا وجد الكاهن «المختص»، ووجد «الرائي» الملهم الذي يختاره الإله للنطق بلسانه، والجهر بوعده ووعيده، ولم يكن بين عمل الكاهن وعمل الرائي تناقض في مبدأ الأمر؛ لأن كلام الرائي كان يحتاج إلى تفسير الكاهن، وحل رموزه، ونفي «النفاية» من خلطه واضطرابه؛ إذ كان الغالب على الرائين أنهم قوم تملكهم حالة «الوجد» أو «الجذبة» أو «الصرع»، فيتدفقون بالوعد والوعيد، وينذرون الناس بالويل والثبور، ويقولون كلاما لا يذكرونه وهم مفيقون، فيحسب السامعون أن الوثن المعبود يجري هذا الكلام على ألسنتهم للموعظة والتبصرة، وسمي الصرع من أجل هذا بالمرض الإلهي في الطب القديم.
وكان اليونان يسمون الرائي مانتي
Mantis ، ويسمون المعبر عنه أو المفسر لكلامه بروفيت
، أي المتكلم بالنيابة عن غيره، قبل أن تطلق هذه الكلمة على النبي بمعناها المأثور في الأديان الكتابية، ولكن الفرق بين الرائي والكاهن لم يزل ملحوظا في الأزمنة المتأخرة، كما كان ملحوظا في الأزمنة الغابرة؛ فالكهانة وظيفة، والرؤية طبيعة، والكاهن يقصد ما يقوله والرائي يساق إليه. وقد تشترك الكهانة والرؤية في شخص واحد، ويظل العملان مختلفين، فما يقوله الكاهن قصدا غير ما يقوله وهو «راء» ينطق لسانه بما يعيه وما لا يعيه.
ويصطدم العملان كثيرا بعد ارتقاء الديانة وامتزاجها بالفضائل الأخلاقية والفرائض الأدبية، فإن الكهان في هذه الحالة يجمدون أحيانا على المراسم والشعائر، ويحافظون على مناصبهم بالتماس الحظوة عند ذوي السلطان في بلادهم، ويومئذ يختلف عمل الكاهن المرسوم وعمل الرائي المتطوع، فيثور الرائي على الكاهن، ويتهمه في أمانته وإيمانه، ويحدث بينهما ما حدث بين «أمصيا»، كاهن بيت إيل، وعاموس الرائي؛ إذ يحذره الكاهن على رزقه وحياته فيقول له: «أيها الرائي، اذهب ... اهرب إلى أرض يهودا، وكل هناك خبزا، وكن هناك نبيا. وأما بيت إيل فلا تعد تتنبأ فيها بعد؛ لأنها مقدس الملك وبيت الملك.» •••
وقد وجدت الكهانة والرؤية بين العبرانيين من أقدم عصورهم، كما وجدت في سائر الأمم، ولم يسموا الرائي عندهم باسم النبي إلا بعد اتصالهم بالعرب في شمال الجزيرة؛ إذ وجدت كلمة النبوة في اللغة العربية كما قلنا في كتاب أبي الأنبياء: «غير مستعارة من معنى آخر؛ لأن اللغة العربية غنية جدا بكلمات العرافة والعيافة والكهانة، وما إليها من الكلمات التي لا تلتبس في اللسان العربي بمعنى النبوة كما تلتبس في الألسنة الأخرى.
والعبريون قد استعاروها من العرب في شمال الجزيرة بعد اتصالهم بها؛ لأنهم كانوا يسمون الأنبياء الأقدمين بالآباء، وكانوا يسمون المطلع على الغيب بعد ذلك باسم الرائي والناظر، ولم يفهموا من كلمة النبوة في مبدأ الأمر إلا معنى الإنذار ... وقد أشارت التوراة إلى ثلاثة أنبياء من العرب غير (ملكي صادق)، الذي لقيه الخليل عند بيت المقدس؛ وهم: يثرون وبلعام وأيوب، ومنهم من يقال: إنه ظهر قبل اثنين وأربعين قرنا، وهو أيوب.»
ويعزز هذا الرأي ما جاء في موسوعة الكلمات اللاهوتية
1
في التوراة عن عالمين من أكبر علماء التاريخ العبري؛ وهما: هولشر
Holscher
وشميدت
Schmidt ، فإنهما يرجحان أن كلمة النبوة مما استفاده العبريون من أهل كنعان بعد وفودهم على فلسطين.
النبوة والجنون
عرف الأقدمون من العرب والعبريين كلمة النبوة قبل بعثة موسى - عليه السلام - ولكنها لم ترتفع بينهم إلى مكانتها الجليلة التي نعهدها اليوم دفعة واحدة، وغبر عليهم دهر طويل وهم يخلطون بينها وبين كل علاقة بالغيب، وينتظرون منها الكذب كما ينتظرون منها الصدق، شأنها في ذلك كشأن غيرها من الدلالات على المجهول.
فخلطوا بينها وبين الجنون، كما خلطوا بينها وبين السحر والكهانة والتنجيم والشعر، وأضعف من شأن النبوة عند بني إسرائيل خاصة أن الأنبياء بينهم كثروا، وتعددت نبوءاتهم في وقت واحد فتناقضوا، وأشار بعضهم بما ينهي عنه الآخرون، فأصبح الأنبياء عندهم فريقين يتشابهون في المسلك والمظهر، ويختلفون بالصدق والكذب، ولا سبيل إلى معرفة الصادق والكاذب بغير امتحان الحوادث التي تأتي أحيانا بعد نسيان ما تقدم من النبوءات.
وغلبت عليهم في مبدأ الأمر عقيدة شائعة بذهول النبي وغيابه عن الوعي في جميع أيامه، وفي الأيام التي يملكه فيها الوجد الإلهي على الخصوص، كأنهم يرون أن الغيبوبة والاتصال بالغيب شيء واحد، وكأنهم يحسبون أن الانقطاع عن شواغل الدنيا آية على صدق النبي، وإقباله بجملته على الله.
ويؤخذ من سفر صمويل الأول أن المتنبئين كانوا يظهرون جماعات جماعات؛ «إذ أرسل شاول رسلا لأخذ داود، فرأوا جماعة الأنبياء يتنبئون وشاول واقف بينهم رئيسا عليهم، فهبط روح الله على رسل شاول، فتنبئوا هم أيضا، وأرسل غيرهم فتنبأ هؤلاء، فخلع هو أيضا ثيابه، وتنبأ هو أيضا أمام صمويل، وانطرح عاريا ذلك النهار كله وكل الليل».
ومن لم تملكه حالة الوجد برياضة النفس على الخشونة والشظف وتعريض جسده لحرارة الشمس وبرد الليل، فقد يستعين على اكتسابها بالسماع والجولان، وينتقل بهذه الوسيلة إلى النشوة أو الغيبوبة، فينطلق لسانه بالنبوءات والرموز، ويستخلص منها السامعون تفسيرها بما جرت عليه عادتهم من التأويل والتخريج.
وفي سفر صمويل قبل ذلك «أنه يكون عند مجيئك إلى المدينة أنك تصادف زمرة من الأنبياء نازلين من الأكمة، وأمامهم رباب ودف وناي وعود وهم يتنبئون، فيحل عليك روح الرب فتتنبأ معهم وتتحول إلى رجل آخر».
وفي سفر الأيام الأول أن داود ورؤساء الجيش «أفرزوا للخدمة بني للخدمة بني آساف وهيمان، ويدوثون المتنبئين بالعيدان والرباب والصنوج».
وقد ينعزل بنو الأنبياء كأنهم يرشحون أنفسهم للنبوة بعد آبائهم، حتى يضيق بهم مكانهم كما جاء في سفر الملوك الثاني: «وقال بنو الأنبياء لأليشع: هو ذا الموضع الذي نحن مقيمون فيه أمامك قد ضاق علينا؛ فلنذهب إلى الأردن.»
وعلى هذه الحيرة التي كانت تنتاب القوم بين النبوءات الكثيرة، لم يكن بهم غنى عن النبي الصادق الذي يحذرهم غضب الله، ويبلغهم مشيئته، ويملي عليهم فرائضه وأحكامه، فلم يعرضوا عن الأنبياء كل الإعراض، ولم يقبلوا عليهم كل الإقبال، ورجعوا إلى التجربة في التفرقة بين النبوءات، وعقيدتهم في ذلك ما جاء في سفر التثنية خطابا لموسى - عليه السلام:
وأقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه. وأما النبي الذي يفرض عليكم باسمي كلاما لم أوصه أن يتكلم به، أو الذي يتكلم باسم آلهة أخرى، فيموت ذلك النبي، وإن قلت في قلبك كيف تعرف الكلام الذي لم يتكلم به الرب، فما تكلم به النبي باسم الرب ولم يحدث ولم يصر؛ فهو الكلام الذي لم يتكلم به الرب، بل بطغيان تكلم به النبي؛ فلا تخف منه.
وعلى هذا انقسم المتنبئون أقساما ثلاثة: نبي يتكلم باسم الرب، ونبي يتكلم باسم آلهة أخرى، ونبي يتكلم باسم رب إسرائيل، ولكنه يطغى بما في قلبه على وحي ربه، فيخلط بين ما يقوله هو بلسانه، وبين ما يجريه الله على لسانه ليبلغه إلى قومه.
والمرجع في التفرقة بين الأنبياء إلى صدق النبوءة، فإذا امتد الأجل بالنبي حتى يشهد القوم صدقه في نبوءة بعد أخرى، فذاك هو النبي المختار الذي يطاع، وتكتب عنه النبوءات، وربما قضى صدر حياته مهانا منبوذا بين قومه كما حدث للنبي أرميا، الذي أصبح عند كتابة العهد القديم في زمرة كبار الأنبياء، وقد حكى ذلك فقال في الإصحاح العشرين: «قد أقنعتني يا رب فاقتنعت، وألححت علي فقبلت ... صرت للضحك كل النهار ... وكلهم قد استهزأ بي؛ لأني كلما تكلمت صرخت ... ناديت: ظلم واغتصاب ... فقلت: لا أذكره ولا أنطق بعد باسمه، فكان في قلبي كنار محرقة محصورة في عظامي ...»
نبوءة الأحلام والرؤى
ومن الحق أن نذكر أن المتنبئين لم يتطلعوا جميعا إلى مكان النبوة العليا - نبوة القيادة والتعليم والتشريع - ولم تكن نبوة الكثيرين منهم مستمدة من شيء غير الأحلام والرؤى، وجيشان الشعور وإلحاحه على صورة واحدة يعجز المتنبئ عن صرفها، فيجهر بها صارخا كما فعل أرميا، كأنه يستغيث من لاعج في نفسه لا يقوى على كتمانه. ومنهم من كان يرى الرؤى ثم تتكرر في منامه، فيفضى بها إلى قومه مخافة الكتمان، وحذرا من أن يكون هذا الكتمان نكوصا عن الدعوة، وممالأة على العصيان والفساد.
وقل منهم من أبلغ قومه أنه تلقى الوحي من هاتف مسموع، أو شخص منظور في حالة اليقظة، ومن هؤلاء القليلين صمويل الذي «سمع قبل أن ينطفئ سراج الله وهو مضطجع في تابوت الرب صوتا يدعوه»، ويعود إلى دعوته لتوكيدها، ومنهم دانيال الذي قال: إن «الرجل جبريل الذي رآه في الرؤيا ابتدأ يلمسه عند تقدمة الماء، ويتكلم معه ويقول له: إنه خرج ليعلمه الفهم ويرشده»، ومنهم من كان يستعظم الدعوة حين يحسها في صدره، فيقول كما قال أشعيا: «إني هلكت؛ لأني إنسان نجس الشفتين أسكن بين شعب نجس الشفتين»، إلى أن قال: «إن عيني قد رأتا الملك رب الجنود، فطار إلى واحد من السرافيم وبيده جمرة قد أخذها بملقط من على المذبح، ومس بها فمي، وقال: إن هذه قدست شفتيك، فانتزعت إثمك، وكفرت عن خطيئتك.»
وجاشت نفس أرميا وهو صبي بخواطر النبوة ، ثم ألقي إليه أن الرب يقول له: «قبلما صورتك في البطن عرفتك، وقبلما خرجت من الرحم قدستك، جعلتك نبيا للشعوب.» فاستكثر النبوة على سنه وقال في صلاته: «آه يا سيد الرب! من أين لي أن أعرف الكلام وأنا ولد. فمد الرب يده ولمس فمه وقال: ها قد جعلت كلامي في فمك؛ فانظر، لقد وكلتك هذا اليوم على الشعوب وعلى الممالك؛ لتقلع وتهدم، وتهلك وتنقض، وتبني وتغرس.»
ولقد خشي الأنبياء الكبار على الشعب خطر المعجزات والآيات التي يدعيها المتنبئون؛ لأنهم عرفوا عجائب السحر في مصر وبابل، وأشفقوا من فتنتها على عقول السواد، فلم ينكروا المعجزة الصادقة، ولكنهم حسبوا حساب المعجزة الكاذبة التي يقتدر عليها السحرة وأتباع الأرباب المحرمين، فكان من وصايا سفر التثنية التي تنسب إلى موسى - عليه السلام - «أنه إذا قام في وسطك نبي أو حالم حلما وأعطاك آية أو أعجوبة، ولو حدثت الآية أو الأعجوبة التي كلمك عنها قائلا: لتذهب وراء آلهة أخرى لم تعرفها وتعبدها؛ فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم؛ لأن الرب إلهكم يمتحنكم لكي يعلم هل تحبون الرب إلهكم من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم، وذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم يقتل؛ لأنه تكلم بالزيغ من وراء الرب ...»
إلا أن الحيرة بين أصحاب الآيات والمعجزات لم تبطل في عهد أنبياء بني إسرائيل، ولا بعد ظهور السيد المسيح، فكان الرسل يستدلون بالعجائب والآيات العظيمة على صدقهم، وكانت العجائب الكثيرة تجري على أيدي الرسل كما جاء في سفر الأعمال، وكان بولس الرسول يبكت أهل كورنثوس وينعى عليهم سوء معتقدهم بعد العلامات التي صنعها بينهم، وصبر عليها بآيات وعجائب وقوات ... وكان إلى جانب هذا يحذر الشعب ممن يقتدرون بقوة الشيطان على الآيات والعجائب الكاذبة «بكل خديعة الإثم في الهالكين».
وجاء في الرؤيا أن الأنبياء الكذبة يقتدرون على ذلك إلى آخر الزمان: «ومن فم النبي الكذاب ثلاثة أرواح نجسة تشبه الضفادع، فإنهم أرواح شياطين صانعة للآيات، تخرج على ملوك العالم وعلى كل المسكونة لتجمعهم لقتال ذلك اليوم العظيم.»
ومنذ عرف اسم النبوة بين قبائل إسرائيل ظهر فيهم مئات وألوف من هؤلاء المتنبئين، لم يكن شأن الأكثرين منهم ليزيد على شان الدراويش الذين يلوذون بأماكن العبادة، أو أماكن الزيارة في جميع الأديان، ولم تكن قبائل البادية ولا أهل القرى ليضيقوا بتكاليف معاشهم؛ لأنهم كانوا يقنعون بالقليل من الخبز والأدم، وبالخشن الرخيص من ملابس الشعر والصوف، وربما استراح إليهم الدهماء؛ لأنهم يفرجون عن صدورهم بالاجتراء على كبرائهم وسرواتهم الذين يستسلمون للطمع والكبرياء.
أو ربما حمد لهم الأمهات والآباء أنهم يباركون أطفالهم، ويشفون مرضاهم، ويفوهون أمامهم بأطراف من الأقاويل يفسرون رموزها بما يطيب لهم، ولا يشعرون منها برهق شديد؛ لأنهم لا يحملون مؤنتها إذا أخذت مأخذ الجد والجسامة، بل ترتفع إلى أيدي ولاة الأمر ورؤساء الدين والكهان والحكماء، فيوفقون بين نقائضها، أو يستخدمونها في تلقين الشعب ما يحبون أن يقولوه بلسان المتنبئين ولا يقولونه بألسنتهم؛ خوفا من تبعاته، أو من قبيل الحيطة للتراجع إذا حسن لديهم أن يرجعوا عما فرضوه وأثبتوه.
كان خطب المتنبئين من هذا القبيل ميسورا للقبائل ورؤسائها، حتى إذا ظهر الأنبياء الكبار ظهرت معهم حالة كبرى لا تعرض للقبائل كل يوم؛ لأنهم لا يظهرون إلا إذا احتاجت القبائل إلى تغيير شامل في معيشتها وأخلاقها ومعاملاتها، وقد يتقاضاهم الأمر هجرة إلى بلد ناء أو قتالا مع أهل البلد الذي هم فيه، أو مع أهل جواره، وليست خطتهم مع المتنبئين الصغار بمجدية مع هؤلاء الأنبياء الكبار دعاة التغيير الشامل، وأصحاب الحق في القيادة المطاعة، وإنما الخطة المجدية هنا هي الانقياد للدعوة التي يخشى على من يعصيها أن يهلك بغضب من الله، ولو عم الهلاك قومه أجمعين، فلا يلبث النبي الكبير أن ينزل في منزلته بين القوم، وأن يتولى بينهم مكان القيادة والتشريع والتعليم، وهو أرفع مكان يسمو إليه عندهم صاحب حق أو صاحب سلطان.
دليل الأمان
إن مهمة النبوة كما قام بها هؤلاء الأنبياء الكبار هي أعلى ما ارتفع إليه نظر الأقدمين من بني إسرائيل وغيرهم إلى مقام النبوة ، فقد كانوا يلقون عليهم كل معولهم، ويطلبون منهم ما لم يطلبوه قط من ذي ثقة أو مقدرة بينهم، فانتهت هذه المطالب كافة إلى غاية واحدة، وهي أن النبي «دليل أمان».
يقبلون منه التعليم والهداية، ولكنهم يقبلون تعليمه وهدايته لأنه دليلهم إلى الطريق الأمين.
ويستمعون له فيما يبلغهم من أوامر الله ونواهيه، ولكنهم يستمعون له لأنه يزحزحهم عن طريق الغضب والنكال.
ويجب عليه قبل كل شيء أن يعرف الغيب؛ ليعرف الخطر المتوقع عليهم وعلى أعدائهم الذين يبغضونهم، ولا يقدرون على قتالهم، وربما طلبوا منه أن يكشف لهم الغيب لما هو أهون من ذلك بكثير، وهو تعريفهم بمكان المال الضائع، والحيوان الضال.
ولبثت مهمة النبي عندهم معلقة على دلالة الأمانة في المكان المجهول والزمان المجهول، ولكنها دلالة الأمان من أخطار محسوسة تشبه تلك الأخطار التي تحذرنا منها المراصد ومكاتب التأمين، فمنها أخطار الخراب، وأخطار الوباء، وأخطار المصائب في الأقارب والأعزاء.
ولم يبلغ أحد من أنبياء بني إسرائيل مكانة أعلى من مكانة يعقوب، الذي ينسب إليه بنو إسرائيل، أو موسى الذي يدينون له بالشريعة، ثم صمويل وحزقيال وأرميا من أصحاب النبوءات غير المشترعين.
وكل هؤلاء كانت مهمة النبوة فيهم مقترنة بالمهمة الأخرى التي لا فكاك منها، وهي دلالة الأمان بالمعنى المتقدم، أو دلالة الأمان كما يترقبها المرء من المراصد ومكاتب التأمين، وإن تكن قائمة على الهداية والتعليم.
فمن نبوءات يعقوب يفهم أنهم كانوا يعولون عليه في رصد النجوم، وأن كل اسم من أسماء الأبناء يشير إلى برج من بروج السماء، ولا نستقصي الأسماء هنا، بل نشير منها إلى مثلين يغنيان عن غيرهما، وهما مثل يهودا وشمعون ولاوي: «فيهودا جرو أسد جثا وربض كأسد ولبؤة ... لا يزول قضيب من يهودا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون، وله يكون خضوع شعوب.»
وهذه إشارة إلى برج الأسد، وكان عند البابليين برجان، أحدهما برج الأسد أرجولا، والآخر أرماح، أحد نجوم الدب الأكبر، وأمام الأسد في البروج برج يشير إلى علامة الملك
Seonis Rogulus
الذي تخضع له الملوك.
أما مثل شمعون ولاوى «فأخوان» سيوفهما آلات ظلم في مجلسهما لا تدخل نفسي؛ لأنهما في غضبهما قتلا إنسانا، وفي رضاهما عرقبا ثورا ...
وهذه إشارة إلى برج التوءمين، وهو برج إله الحرب «زجال» عند البابليين، ويصورون أحدهما وفي يديه خنجر، والآخر في يديه سلاح شبيه بالمنجل. وتشير عرقبة الثور إلى برج الثور الذي يتعقبه التوءمان.
2
وسواء صحت هذه الإشارات إلى الأبراج والنجوم، أو كان فيها مظنة للخطأ والتجوز من المفسرين، فالنبوءات عن مصائر الأبناء بأسمائهم واضحة لا تحتمل التكذيب.
وموسى الكليم طالبه القوم من إسرائيل وغير إسرائيل في مصر بقدرة على السحر أعظم من قدرة السحرة وأصحاب الكهانة والتنجيم، ثم جاوزوا تكليف الدلالة معه إلى تكليفه أن يهيئ لهم الطعام الذي يشتهونه صنوفا بعد صنوف وهم في وادي التيه، بمأمن من جند فرعون.
واحتاج القوم إلى علم الغيب في عهد صمويل ليسألوه عن الماشية الضالة، ويأجروه على ردها: «خذ معك واحدا من الغلمان، وقم اذهب فتش عن الأتن، فقال شاول للغلام: فماذا نقدم للرجل؟ لأن الخبز قد نفد من أوعيتنا، وليس من هدية نقدمها لرجل الله. ماذا معنا؟ فعاد الغلام يقول: هو ذا يوجد بيدي ربع شاقل فضة.»
ولم يحفل بنو إسرائيل بالنبوءات بعد صمويل، كما حفلوا بنبوءات أرميا وحزقيل، وكلها نبوءات عن أخطار الحوادث التي تصيب قومهم، وتصيب غيرهم من الأقوام أصحاب الدول في وادي النيل وبين النهرين، وكان الإنباء بالغيب على هذا المثال هو المهمة الأولى من مهام كبار الأنبياء، وربما تحدث عن الغيب أنبياء من غير هذه الطبقة ليذكروا مصائر أفراد معلومين إلى جانب مصير الأمة، كما قال النبي عاموس في بيت إيل: «أنت تقول: لا تتنبأ على إسرائيل، ولا تتكلم على بيت إسحاق؛ ولذلك قال الرب: إن امرأتك تزني في المدينة، وبنيك وبناتك يسقطون بالسيف، وأرضك تقسم بالحبل، وأنت تموت في أرض نجسة، وإسرائيل يسبى سبيا عن أرضه ...»
نبوة الهداية
ختمت أيام هذه النبوءات جميعا في بني إسرائيل قبل البعثة الإسلامية بنحو تسعة قرون، لم تتغير خلالها نظرة الناس عامة وبني إسرائيل خاصة إلى النبوة الدينية، ولم يفهموا النبوءات الأولى وما لحق بها غير الفهم الذي عهدوه، فلما ظهرت النبوة الإسلامية لم تكن تكرارا لتلك النبوءات ولا تطورا فيها، بل كانت «تنقية» لها من كل ما لصق بها من بقايا الكهانات والدعوات، وجاءت بمعنى النبوة كما ينبغي أن تكون، ونفت عنها ما ليس ينبغي لها من شوائب الأوهام، وأولها أنها مرصد للحوادث يحمي الطريق، أو مكتب للتأمين يقارض القوم على الأمان من الأخطار.
ليست مهمة النبي أن يعلم الغيب «إنما الغيب لله».
وليس أصدق من نبي يعلم الناس الصدق، فيعلمهم مرة بعد مرة أن الغيب من علم الله، يكشف عنه ما يشاء لمن يشاء:
يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو [الأعراف: 187].
قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون [الأعراف: 188].
قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون [الأنعام: 50].
وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو [الأنعام: 59].
وآية الآيات مسألة «المعجزات» في الدعوة المحمدية، فليست المعجزة ممتنعة إذا أرادها خالق الكون كله وخالق السنن التي يجريه عليها، ولكن المعجزة لا تنفع من لا ينفعه عقله، ولا تقنع المكابر المبطل إذا أصر على اللجاجة في باطله:
ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون * لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون [الحجر: 14، 15].
ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين [يونس: 20].
وقد كان الناس ينظرون على حوادث الفلك فيحسبونها من الآيات، فينهاهم أن يخلطوا بين حوادث الفلك وحوادث الحياة والموت، وكذلك كسفت الشمس عند موت إبراهيم ابنه - عليه السلام - فقال الناس: إنها كسفت لموته. فلم يمهلهم أن يسترسلوا في ظنهم وهو محزون الفؤاد على أحب أبنائه إليه، بل أنكر عليهم ذلك الظن، ورآها فرصة للتعليم، ولم يرها فرصة للدعوة، فقال: «إنما الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تكسفان لموت أحد ...»
وخلصت النبوة كلها لمهمتها الكبرى، وهي هداية الضمير الإنساني في تمام وعيه وإدراكه، فانقطع ما بينها وبين كل صناعة أو حيلة، كان يستعان بها قديما على التأثير في العقول من طريق الحس المخدوع.
فليس في النبوة سحر ولا كهانة، ولا هي شعر يزخرفه قائله:
إنه لقول رسول كريم * وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون [الحاقة: 40-42].
ولا بد للمؤرخ أن يتريث عند كل وصف من أوصاف الأنبياء الذين كذب بهم أقوامهم؛ لأنها جمعت كل ما قيل عن الأنبياء بين أولئك الأقوام في العصور المتطاولة، فإذا صح أن جزيرة العرب لم تعرف الأنبياء كما عرفهم بنو إسرائيل، وأن النبوءات كانت وقفا على بني إسرائيل والمتنبئين غيرهم من الأمم، فمن أين عرفت أحوال الأنبياء والمتنبئين التي وصفهم بها المكذبون وقد وردت جميعا في القرآن الكريم؟
فمنهم من كان من المعلمين ويرميه مكذبوه بالجنون!
أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين * ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون [الدخان: 13، 14].
ومنهم من كان يرمي بالسحر أو الجنون:
كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون [الذاريات: 52].
ومنهم من كانوا يلحقونه بزمرة الشعراء ويرمونه بالجنون:
إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون * ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون [الصافات: 35، 36].
وإذا رموه بالسحر وحده قالوا: إنه السحر الكاذب. تمييزا له عن السحر الذي كانوا يعترفون به لكهان معابدهم:
وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب [ص: 4].
فالتعليم والشعر والسحر والكهانة والغيبوبة كانت كلها سوابق واقعة موصوفة على ألسنة المكذبين من أقوام الرسل الأقدمين، ومن وصفها مخترعا فهذا هو العجب العجاب، ومن وصفها مطلعا فقد استقصاها وزاد عليها ما لم يكن منها، وهو النبوءة الخالصة لهداية الضمير. •••
إن المتنبئين من الأقدمين لم يفصلوا النبوة بفاصل حاسم، وإن من المتنبئين في بني إسرائيل لمن جمع بين الكهانة واستطلاع الغيب بالاقتراع في المحراب، وعاش القوم بعد أنبيائهم بأزمنة طوال، وهم لا يذكرون لهم رسالة أكبر من رسالة الإنذار بالحوادث والأخطار، فإذا كانت النبوة لم تخلص لمهمتها الكبرى قبل محمد - عليه السلام - فأين هي الكرامة التي تعلو على هذه الكرامة بين مراتب الأنبياء؟
إن الرسالة المحمدية قد علمت الناس أن يعجبوا للنبوءات إذا لم تكن نبوءة للهداية وللإنذار والبشارة:
أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم [يونس: 2].
وهذه هي النبوة المحمدية.
وهذه هي النتيجة التي لم تأت من مقدمتها، أو هذه هي النتيجة التي لم تأت من جميع مقدماتها.
وهذه هي آية العمل الإلهي بين أعمال الناس.
الفصل الخامس
سيد الأنبياء
(1) نشأة الأنبياء
إن وجهة الدعوة النبوية تتبين من نشأة النبي التى أعده الله بها للقيام بتلك الدعوة، فإذا عرفنا نشأة النبي بين قومه عرفنا رسالته فيهم وعمله في هدايتهم، وعرفنا وجهة النبوة من وجهة النبي منذ هيأة الله حيث جعله أهلا لرسالته.
ولكن غرائب التاريخ في أمر الأنبياء كثيرة، ومنها هذه الغريبة التي تكاد أن تشمل الأنبياء أجمعين، وهي الجهل التام بتفاصيل نشأتهم بين ذويهم وأقوامهم، فلا يحصي التاريخ شيئا من هذه التفاصيل عن نشأة نبي من كبار الأنبياء غير محمد - عليه السلام - وكل من عداه من جلة الأنبياء فالعلم بأنباء طفولتهم مستفاد من سيرته بعد النبوة، أو مأخوذ مأخذ الاستقراء والاستنباط.
وعلى هذا يقل عدد الأنبياء الذين نحاول اختيارهم للمقابلة بين نشأتهم ومقاصد دعوتهم، ولا نستطيع أن نزيد على ثلاثة من كبارهم؛ وهم: إبراهيم وموسى وعيسى - عليهم السلام - وعلى بعض الأنبياء المذكورين في العهد القديم في مناسبات ظهورهم، وبعض هذه المناسبات يدل على النشأة التي نشئوها، والوجهة التي اتجهوا إليها.
خليل الرحمن
مهما يكن من بداءة «الخليل» إبراهيم فالأقوال متواترة على زعامته لقومه حين هاجر بهم من جنوب العراق إلى شماله، ومن شماله إلى أرض كنعان.
كانت مهمته إذن مهمة الزعامة المفروضة على الزعيم، وكان عليه أن يتولى هدايتهم في شئون دنياهم وشئون دينهم، وبخاصة حين يخشى الخطر عليهم من غضب الله ونقمته العاجلة من جراء المخالفة والعصيان.
وينبغي أن نذكر هنا أن الوعيد بالغضب الإلهي كان خطرا محذورا قريبا ممن تعبدوا لجميع الأرباب في الديانات الأولى، وأن إيمان الناس بالإله في العهود الأولى إنما كان أقواه إيمانا بحماية الرب الذي يعبدونه دون سائر الأرباب، فلم يكن لزعيم مؤمن أن يغرر بقومه وهو يعلم سبيل نجاتهم، وقد كان إبراهيم الخليل زعيم أسرته الذين هاجروا معه، فكان عليه أن يهديهم الطريق، وأن يهديهم كل طريق في هجرة الجسد والروح.
وتتفق الأقوال على أن إبراهيم خالف أباه حين أنكر أرباب القوم، ودعا قومه إلى الكفران بالأصنام، وليس في هذا ما ينفي زعامته على الذين هاجروا معه من أسرته وذوي قرباه وتابعيه، فربما كان الخلاف على الإقامة والمصانعة وإرضاء ذوي السلطان بشيء من المداراة، فاستكان الشيخ للواقع، ونفر الكهل القوي من هذه الاستكانة. وقد رأينا أن ثورة النفوس كانت تبلغ غاية مداها في سلالة إبراهيم حين يؤمرون بعبادة إنسان، أو إقامة الصنم مقام الإله الذي في السماء، فلعل المفترق بين إبراهيم وأبيه إنما كان على عبادة جديدة أقحمت على القوم من هذا القبيل، فنجا المؤمنون بأنفسهم وتبعوا الخليل في طريقه، وأدى لهم أمانة الزعامة بهذه النبوة وبهذه الرسالة.
فهذه النبوة مهمة زعيم أمين.
نبوة موسى
ويريد فرويد أن يجعل قيادة موسى - عليه السلام - من قبيل هذه القيادة، ولكنه يذهب بعيدا حين يزعم أن موسى كان من المصريين الذين دانوا بعقيدة «أتون»، وكفروا بعقيدة آمون، فلما انقلب الكهنة على الوحدانية التي جاءت بها عقيدة أتون، تحول موسى إلى المستضعفين من اليهود في أرض مصر لينشر بينهم هذه العقيدة في الإله الواحد، وأضاف إليها ما تلقاه من العلم بدين «يهوا» حين نجا بنفسه إلى صحراء سيناء، والتقى في أرض مدين بنبي الصحراء.
ألف فرويد المشهور - وهو إسرائيلي - كتابا خاصا عن موسى والوحدانية
Moses and Monotheism ، حاول فيه جهده أن يرجع بأصل موسى - عليه السلام - إلى الأسرة المصرية المالكة، وقال: إن اسمه نفسه يدل على أصله المصري؛ لأنه مؤلف من كلمة ابن، ومن اللاحقة التي تشبه اللواحق في أسماء رعموسيس وتحتموسيس وأموسيس، وقصته في الماء - على رأي فرويد - تقابلها في البابلية قصة سراجون الملك، الذي وضعته أمه على حافة النهر وجعلت له مهدا عائما من السلال.
وقد توسع فرويد في تخمينه فقال إن أدوناي التي أطلقها العبريون على الإله إنما هي أتون أو أتوم المصرية، وأن موسى - عليه السلام - وفق بين عبادتين ليقنع بني إسرائيل بدعوة أخناتون، وإلى هذا يرجع الاضطراب في النصوص العبرية القديمة.
وليست طريقة فرويد في تخمين التاريخ إلا أسلوبا آخر من طريقته في كشف العقد النفسية بالتخمين والتأويل تفسيرا لبواطن المريض، وقد يكون تفسير هذه البواطن قرينة على صحة الرجم بالغيب في استكشاف الأمراض الباطنية، ولكن تخميناته في سيرة موسى - عليه السلام - لا تعتمد على قرينة ولا على ظن مقبول، وليس لها سند من الآثار المصرية أو من الآثار العبرية، وفي وسع من يشاء أن يخمن مثلها على هذا المنوال، ويأتي بعشرين فرضا متضاربا من فروض الخيال.
أما سيرة موسى - عليه السلام - من المراجع الدينية، فليس فيها ما يدل على زعامة معترف بها بين بني إسرائيل، بل فيها إنكار هذه الزعامة بالقول الصريح؛ لأنه أراد أن يحكم بين خصمين من العبرانيين فقال له أحدهما: «من جعلك رئيسا وقاضيا علينا؟ ألعلك تريد قتلي كما قتلت المصري بالأمس؟»
ويرجح برستيد - أحد الثقات في التاريخ المصري القديم - أن موسى قد تخرج من المدارس المصرية الكبرى، واطلع على مكنونات علم الكهنة والحكماء، وكانت له منزلة فاضلة عند ولاة الأمر لعله كان يستخدمها في الشفاعة لقومه، والعلم بنيات الولاة وأوامرهم فيما يمس شئونهم، فتعود عقلاؤهم أن يلجئوا إليه ويوسطوه ليستشفعوا به فيما ينوبهم من الظلم وسوء الحال، وأصبح له حق الشورى عليهم كلما ارتبط الأمر بمشيئة الدولة ومطالب بني إسرائيل.
وعلى خلاف الصورة التي تخيلها «ميكال أنجو» للرسول العظيم، يؤخذ من أوصافه أنه كان وديعا «حليما جدا أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض»، كما جاء في كتاب العدد من العهد القديم، وأنه كان يشكو حبسة في لسانه؛ فهو يقول عن نفسه كما جاء في سفر الخروج: «لست أنا صاحب كلام منذ أمس، ولا أول من أمس، ولا من حين كلمت عبدك، بل أنا ثقيل الفم واللسان، قال له الرب: من صنع للإنسان فما؟ أما أنا هو الرب؛ فالآن فاذهب وأنا أكون مع فمك، وأعلمك ما تتكلم به ...»
ولم يخطر له بادئ الرأي أن يقود قومه في خروجهم من مصر، ولم يكن على أهبة للرسالة الدينية قبل هجرته إلى صحراء سيناء، ولقائه في أرض مدين للنبي العربي الذي يرجح الأكثرون أنه هو نبي الله شعيب، ولكنه على مختلف الروايات قد تعلم من ذلك النبي علوما شتى في شئون التبليغ والقيادة، ولم يزل يتعلم منه، كما جاء في كتب العهد القديم بعد عودته إلى مصر، وخروجه منها مع قومه، وكان يثوب إليه كلما ساورته المخاوف، وأوشك أن ييأس من هداية القوم، أو يضيق ذرعا بما يسومونه من شهوات الطعام ولدد الخصومة والمنافسة بين العشائر على صغائر الأمور.
فالسنوات التي قضاها إلى جوار نبي مدين كانت هي فترة الاستعداد، والرياضة الروحية، والتدبر الطويل فيما يمكن عمله لإخراج بني إسرائيل من مصر، وإحلالهم حيث حل على مقربة من سيناء وكنعان، ولا بد أنه قد جاس خلال تلك الصحراء، ووطئ بقدميه أماكن الرحلة التي لا بد منها قبل الإقدام على استقرار في ذلك الجوار.
ولا شك أنه كان يصغي إلى نبي مدين فيما يبسطه له من أمر عقيدته وعبادته، وأنه حكى له ما عرفه من العقائد المصرية وعبادات الهياكل والكهان، ووازن طويلا بين هذه العبادات وعبادة البادية كما تلقاها من أستاذه المديني، ومن هداية الوحي والإلهام.
فلما عاد إلى مصر ليخرج بقومه منها، كان هذا الخروج حيلة من لا حيلة له في البقاء، ودعاهم إليه باسم الله، فأطاعوه بعد لأي ومجاهدة، ولم يظهر من سلوكهم معه أنهم خفوا إلى الخروج من مصر طواعية بغير دعوة ملحة وإقناع عسير.
ولا يفهم من حادث واحد من حوادث الرحلة أن القوم كانوا يؤثرون الفرار حرصا على عقيدة دينية، فإنهم أسفوا على ما تعودوه من المراسم الدينية في مصر، وودوا لو أنهم يعودون إليها، أو يعيدونها منسوخة ممسوخة في الصحراء، وخطر لهم أن الإله الذي دعاهم موسى إليه إنما غرر بهم ليهلكهم ويعفي على آثارهم، واحتاجوا في كل خطوة إلى توكيد الوعد بالأمان ورغد العيش بعد أعوام التيه والانتظار.
فمهمة الرسالة الموسوية بين هذه العوارض الطبيعية لا تفهم إلا على خطة واحدة ترتسم أمامنا كما كانت؛ لأنها هكذا ينبغي أن تكون.
هجر موسى مصر بعد مقتل المصري وتهديد بني إسرائيل قبل غيرهم بالإبلاغ عنه، فضلا عما يخشاه من ملاحقة ولاة الأمور.
ولم يخطر له قبل تلك الهجرة أن يقنع قومه بالرحيل من الديار المصرية، فلما اختبر الصحراء وسمع ما سمع من هداية نبي مدين، ولمح بعينيه مطارح الرحلة والقرار بين مدين وسهوب سيناء وكنعان، وطاب له مقام البادية، فلم يستعظم المشقة في دعوة قومه إلى مثل هذا المقام، تدبر الأمر وصحح العزم على التحول بالقوم من مصر إلى أرض كنعان، وصرف الجهد الذي لا جهد بعده في إقناعهم باسم الإله الذي اختارهم للنجاة، ولم يزل يحذر عليهم ترك هذه الإله عند أيسر دعوة، وبغير إغراء على الترك في أكثر الأحيان.
وهذه أمثلة من تحذيراته تدل على الجهد الجهيد في تحويل قومه من العبادة التي كانوا عليها إلى العبادة التي دعاهم إليها.
فمن هذه التحذيرات في سفر التثنية يقول لهم: «لا تسأل عن آلهتهم قائلا: كيف عبد هؤلاء الأمم آلهتهم؟ فأنا أيضا أفعل هكذا. لا تعمل هكذا للرب إلهك؛ لأنهم قد عملوا لآلهتهم كل رجس مما يكرهه الرب.»
وحذرهم من الأنبياء: فإذا قام في وسطك نبي أو حالم حلما وأعطاك آية أو أعجوبة، ولو حدثت الآية أو الأعجوبة التي كلمك عنها قائلا: «لتذهب وراء آلهة أخرى لم تعرفها وتعبدها؛ فلا تسمع لكلام ذلك النبي.»
وحذرهم من الأخ والابن والزوج والصاحب أن يغويهم قائلا: «نذهب ونعبد آلهة أخرى ... فلا ترض منه ولا تسمع له، ولا تشفق عينك عليه، بل قتلا تقتله.»
وحذرهم من المدن التي يدخلونها أن يدعوهم اللئام إلى عبادة أربابها: «فضربا تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف، وتحرسها بكل ما فيها مع بهائمها بحد السيف.»
وإذا سمع عن أحد من إسرائيل «أنه يذهب ويعبد آلهة أخرى، ويسجد لها أو للشمس والقمر، أو لكل من جند السماء ... فأخرج ذلك الرجل أو تلك المرأة وارجمه بالحجارة حتى يموت». •••
ولا تتغير هذه الحقيقة بما يقال - تأييدا أو تفنيدا - لنسبة الكتب الخمسة الأولى من العهد القديم إلى موسى - عليه السلام - أو نسبة بعضها إليه، وبعضها إلى الأنبياء من تلاميذه وتابعيه، فإن أنبياء بني إسرائيل جميعا من عهد موسى إلى مبعث عيسى - عليه السلام - لم تكن لهم من مهمة غير هذه المهمة، وهي تحذير بني إسرائيل من عبادة إله غير الإله الذي دعاهم إليه صاحب الشعيرة، وتبكيتهم كلما انحرفوا عن طريقه، واستبدلوا بملته ملة أرباب آخرين.
وهؤلاء إلياس وأرميا وحزقيل من أشد النعاة على بني إسرائيل في هذا الأمر، لم يتجرد أحدهم لرسالة غير هذه الرسالة، ولم يكن هم إلياس إلا أن يحذرهم عاقبة «إغاظة الرب»؛ إذ كان عمري قد ملك على إسرائيل، «وعمل الشر في عيني الرب، وبلغت سيئاته أضعاف سيئات من قبله، وسار في جميع طريق يربعام بن نباط، وفي خطيئته التي جعل بها إسرائيل تخطئ لإغاظة الرب بأباطيلهم، وملك آخاب بن عمري فاتخذ ابنة ملك الصيدونيين زوجة، وسار وعبد البعل وسجد له، وأقام مذبحا له في بيت البعل الذي بناه في السامرة».
ولم تكن رسالة أرميا إلا كهذه الرسالة؛ حيث أنذرهم في بعض مراثيه قائلا: ... إنكم تبخرون للبعل وتسيرون وراء آلهة أخرى لم تعرفوها ... الأبناء يلتقطون حطبا، والآباء يوقدون النار، والنساء يعجن العجين ليصنعن كعكا لملكة السماوات ؛ ولسكب السكائب لآلهة أخرى كي يغيظوني ...
ويمضي النبي منذرا متوعدا ناعيا على عشائرهم جميعا:
إنهم أبوا أن يسمعوا كلامي، وذهبوا وراء آلهة أخرى ليعبدوها، ونقض بيت يهودا وبيت إسرائيل عهدي الذي قطعته مع آبائهم.
ومثل هذا الوعيد يسمع من كتاب حزقيل؛ حيث يقول لشيوخ إسرائيل: «إنني آخذ بيت إسرائيل بقلوبهم؛ لأنهم كلهم قد ارتدوا عني بأصنامهم، وإن كل إنسان من بيت إسرائيل، أو من الغرباء المغتربين في إسرائيل يرتد عني، ويصعد أصنامه إلى قلبه، ويجيء إلى النبي ليسأله عني؛ فإني أنا الرب أجيبه بنفسي، وأجعل وحيي ضد ذلك الإنسان، وأجعله آية ومثلا، وأستأصله من وسط شعبي، فإذا ضل النبي وتكلم كلاما، فأنا الرب قد أضللت ذلك النبي، وسأمد يدي عليه وأبيده من وسط شعبي إسرائيل ...»
فشعب بني إسرائيل لم يستغن قط عن الإقناع المتتابع للإيمان بالإله الواحد، الذي دعاهم إليه موسى - عليه السلام - ولم يتحرك من مصر فرارا بعقيدته، بل كانت هذه العقيدة هي وسيلة الإقناع لحمله على النجاة بنفسه من عواقب البقاء حيث طاب له البقاء، ولم يزل في الطريق يحتاج إلى تجديد هذا الإقناع في كل مرحلة، ويحن إلى العودة بعد كل نقلة، وظل كذلك بعد انتهاء أيام التيه وإيوائه إلى القرار عند أرض كنعان. •••
ونشأة موسى التي عرفناها من مصدرها، الذي لا مصدر لنا غيره، هي التي تطابق بين هذه النشأة وبين الرسالة الموسوية، كما وضحت من الكتب المنسوبة إلى موسى، والكتب التي نسبت إلى الأنبياء من بعده. فخلاصة هذه النشأة أن كليم الله تربى في مصر، وخرج منها خفية بعد مقتل المصري الذي صرعه موسى انتصارا لرجل من بني إسرائيل، ولم يكن خاطر الخروج ببني إسرائيل قد خطر له أو لأحد من ذوي الزعامة بين عشائر قومه، ولكنه عاش في البرية إلى جوار الهداية النبوية في أرض مدين، وراض نفسه على حياة النسك والاستلهام وهو يفكر في أسرته وقومه، ويزور الأرض من حوله.
وتلقى الدعوة الإلهية بعد طول التدبر والرياضة، فعاد إلى مصر لإقناع قومه بدعوته ، وإقناع السادة الحاكمين بها إن تيسر له ذلك دفعا للخطر عن ملته وعقيدته، ولم يكن يرضيه فيما بدا من طوالع السيرة وخواتيمها أن يبقى شعب بني إسرائيل حيث استطاب البقاء؛ لأنه رأى لهم مصيرا في البادية أكرم من هذا المصير، ورأى أن العقيدة التي دعاهم إليها كفيلة بحمايتهم من الضياع بين العشائر والملل في أرض البادية أو أرض الحضارة.
وهذا هو حكم التوفيق بين النشأة والرسالة في حياة الكليم عليه السلام.
وقد عرضت لنا في خلال هذه السيرة قصة مدين ودعوتها النبوية التي أشارت إليها كتب إسرائيل من بعيد، ولم تذكر بشيء من التفصيل في غير القرآن الكريم، ولكنها جاءت بالنشأة والرسالة متوافقتين ذلك التوافق الذي يغني عن كل دليل على صحة الأصل الأصيل.
قلنا عن مدن القوافل في كتابنا عن أبي الأنبياء إبراهيم الخليل: «أما الأسباب السيئة التي أوجبت قيام الدعوات النبوية في تلك المدن، فهي أسباب كثيرة، لم تكن توجد يومئذ في غيرها بهذه القوة وبهذه الكثرة، وأقوى تلك الأسباب مساوئ الاحتكار والاستغلال؛ فإن تجارة العالم إذا توقفت على مدينة هنا ومدينة هناك صارت في كل مدينة إلى فئة قليلة من السادة وأصحاب اليسار، يحتكرون المقايضة والنقل، ويبرعون في أساليب المماكسة ورفع الأسعار، وزيادة الضرائب والأجور على الرحال والمطايا وجند الحراسة.
ويغتنم هؤلاء المحتكرون فرصتهم فيخدعون البسطاء، ويحتالون على الأصول والشرائع، ويأخذون باليمين والشمال من الوارد والصادر، والغادي والرائح، ولا حيلة للتجار فيهم ولا لناقلي التجارة؛ لأنهم قابضون على الزمام، وليس في قدرة دولة أن تحاربهم إلا بالاشتباك في حرب مع دولة أخرى، أو بإنفاق أموال في الغزو والحصار تزيد على الأموال التي يغتصبها المحتكرون أو يختلسونها. وقد يغلو هؤلاء المحتكرون في الجشع والتحكم حتى يدفعوا الدول إلى المجازفة بالغارة مرة تريحها من مرات.» «كذلك صنع أنتيجون خليفة الإسكندر مع أهم هذه المدن في زمانه، وهي سلع - أي البتراء - فجرد عليها حملتين، ولم يفلح في غزوها، وهاجمها تراجان بقوة كبيرة فدمرها وحول الطريق منها إلى بصرى ، ولم يبق من حولها غير مدن صغار.»
إن آفة مدين هي آفة هذه المدن على مدرجة الطرق، وإن قصتها في القرآن الكريم هي قصة التجارة المحتكرة، والعبث بالكيل والميزان، وبخس الأسعار، والتربص بكل منهج من مناهج الطريق، وليس أدل على حدوثها من التوافق بين النشأة والرسالة كما جاءت في مواضع مختلفة من السور، وإحداها سورة الأعراف.
وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين * ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين * وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين * قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين * قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين * وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون * فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين * الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين * فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين [الأعراف: 85-93]. •••
فرسالة شعيب - عليه السلام - إنما كانت رسالة خلاص من شرور الاحتكار والخداع في البيئة، التي تعرضت له بحكم موقعها من طريق التجارة والمرافق المتبادلة بين الأمم. والأغلب على التقدير أن جزيرة العرب تعرضت لضروب من هذه الآفات، وجاءتها الرسالات التي تصلحها في إبان الحاجة إليها، ومنها رسالات هود وصالح وذي الكفل وإخوانهم من الرسل الصالحين الذين لم تقصص علينا أخبارهم في كتاب.
عيسى عليه السلام
وقد اختتم عهد النبوة والرسالة في بني إسرائيل بظهور عيسى - عليه السلام - ولا نعرف عن نشأته في طفولته غير القليل، ولا نعرف شيئا عن أيامه من الثانية عشرة إلى الثلاثين مبعثه إلى قومه من بني إسرائيل، ولكن نشأة العصر كله من وجهة الاستعداد للنبوة معروفة ببعض التفصيل، كما أشرنا إلى ذلك في كتاب حياة المسيح.
ففي عصر الميلاد «ترقبت النفوس بشائر الدعوة الإلهية من كل جانب كما يترقب الراصدون كوكبا حان موعد طلوعه»، وكان موعد الألف الرابعة من تاريخ الخليقة موعدا مقدورا في عرف الأكثرين لظهور المخلص الموعود.
وكان اليهود في عصر الميلاد فريقين: فريق يترقب الخلاص على يد رسول من ذرية داود - عليه السلام - وفريق آخر، وهم السامريون، بنوا لهم هيكلا خاصا في جرزيم «ومن المحقق أن هؤلاء السامريين كان لهم شأن في تطور الفكرة المسيحية، أو فكرة الخلاص المنتظر على يد الرسول الموعود ... وهم ينتسبون إلى يعقوب، ويدعون أنهم دون غيرهم الجديرون باسم الإسرائيليين ...»
وقد تكاثر النذيرون قبيل مولد المسيح، وهم المنذورون لصحبة المخلص المنتظر؛ لأن مولده عليه السلام «وافق نهاية الألف الرابعة من بدء الخليقة على حساب التقويم العبري»، وهو الموعد الذي كان منتظرا لبعثة المسيح الموعود؛ لأنهم كانوا ينتظرونه على رأس كل ألف سنة، ومنهم من كان يقول: إن اليوم الإلهي كان ألف سنة كما جاء في المزامير.
وإن عمر الدنيا أسبوع إلهي تنقضي ستة أيام منه في العناء والشقاء، ويأتي اليوم السابع بعد ذلك كما يأتي يوم السبت للراحة والسكينة، فيدوم ألف سنة كاملة هي فترة الخير والسلام قبل فناء العالم، ولا يزال الغربيون يعرفونها باسم الألفية
Millennium ، ويطلقونها على كل عصر موعود بالسعادة والسلام. والذين قدروا أن القيامة تقوم بعد سبعة آلاف سنة من بدء الخليقة كانوا يؤجلون قيام ملكوت السماء على الأرض إلى نهاية الألف السادسة، ويومئذ تسود دولة المسيح الموعود، لكنهم كانوا كغيرهم في انتظار رسول من عند الله كلما انتهت ألف سنة من بدء الخليقة.
وكانت بداءة الألف الخامسة موعدا منظورا أو منذورا يكثر فيه النذيرون، لعلهم يحسبون من جند الخلاص، أو لعل واحدا منهم يسعده القدر فيكتب الخلاص على يديه. والمهم في أمر النذيرين بالنسبة إلى السيد المسيح أن النبي يحيى المغتسل - يوحنا المعمدان - كان علما من أعلامهم المعدودين، وكان السيد المسيح يتعمد على يديه، أو يأخذ العهد عليه، وأن بعض المؤرخين يحسب السيد المسيح من النذيرين، ويلتبس عليه الأمر بين النذيري والناصري، وهما في اللفظ العبري متقاربان.
ومن هؤلاء المؤرخين من يزعم أنه لم يكن من الناصرة؛ بل يزعم أن الناصرة لم يكن لها وجود؛ لأنها لم تذكر قط في كتب العهد القديم، ولكن الأرجح في اعتقادنا أن الناصرة نفسها كانت تسمى نذيرة بمعنى الطليعة، عندما كانت على تخوم الأرض التي فتحها العبريون قديما، وأنها كانت مرقبا صالحا للاستطلاع؛ لأن التلول التي تحيط بها تكشف جبل الشيخ والكرمل والمرج المعروف باسم مرج ابن عمير ...
ولا شك أن السيد المسيح قد اتجه بدعوته إلى إسرائيل، وابتغى منها الهداية «لخراف بيت إسرائيل الضالة»، ولكنه عمم الدعوة بعد تكرارها على القوم ولجاجتهم في الإعراض عنها، فوجهها إلى كل مستمع لها مقبل عليها، وقال لهم: إن العاملين بالخير ذرية لإبراهيم الخليل أقرب وأوفى ممن يدعون النسبة إليه بالسلالة؛ لأنهم هم أبناؤه بالروح، وضرب لهم المثل بوليمة العرس التي لم يحضرها المدعوون إليها، «فغضب السيد وقال لعبده: اذهب عجلا إلى طرقات المدينة وأزقتها وهات إلي بمن تراه من المساكين، فعاد العبد وقال لسيده: قد فعلت كما أمرت ولا يزال في الرحبة مكان، قال السيد: فادع غيرهم من أعطاف الطريق وزواياه حتى يمتلئ بيتي، فلن يذوق عشائي أحد من أولئك الذين دعوت فلم يستجيبوا الدعاء.»
ولم تكن رسالة السيد المسيح رسالة تشريع؛ لأن الشريعة الدينية كانت في أيدي أحبار الهيكل، والشريعة الدنيوية كانت في أيدي أتباع قيصر، ولكنه عليه السلام قد جاء بالفتح المبين الذي لم يسبقه إليه سابق من المرسلين في تصحيح الشرائع بجملتها، فقد حطم عنها قيود النصوص، ونقلها إلى مقياسها الصحيح وهو مقياس الضمير، ومن تحطيم النصوص أن يكون أبناء النبي هم أتباعه بالروح، وإن لم يكونوا من ذريته بالجسد، ومن تحطيم النصوص كذلك أن يكون الخير في ضمير الإنسان لا في مظهر من مظاهر العالم؛ فإن ملك ضميره فقد ملك كل شيء، وإن ضيع ضميره لم يغن عنه العالم بما وسع من أناس وحطام. (2) رسالة النور الجديد
ومما تقدم تنجلي المطابقة بين النشأة والرسالة النبوية عن مقاصد ثلاثة تنطوي في هذه الرسالات: فمنها الرسالة التي تنطوي في تكاليف الزعامة، فتأتي الدعوة الإلهية لتمكين زعيم القوم من هدايتهم الروحية؛ لأنه مطالب بقيادتهم في جميع الشئون.
ومنها الرسالة التي تقوم على منفعة أمة من الأمم لحراستها في وجه الأمم الأخرى، والمثابرة على تذكيرها بحاجتها إلى تلك الحراسة.
ومنها الرسالة التي ينتظرها القوم تحقيقا لوعود متعاقبة يفسرها كل منهم بما يبتغيه.
ثم قامت بعد هذه الرسالات جميعا رسالة محمد - عليه السلام - فلم يستغرقها مقصد من هذه المقاصد؛ إذ لم تكن تكاليف زعامة ولا رسالة مقصورة على منفعة أمة، ولا تحقيقا لوعود منتظرة يفسرها كل واحد بما يبتغيه.
رسالة محمد - عليه السلام - رسالة إلهية قوامها أن الله حق وهدى، وأن الإيمان به جل وعلا مطلوب؛ لأنه حق وهدى، هذا الإيمان أعلى وأقدس من كل إيمان؛ لأنه إيمان بالحق والهدى.
لم تكن زعامة محمد على قومه مناط تلك الرسالة؛ لأنه جاء بها بشرا كسائر البشر، عليه من أمانة الهداية ما على الإنسان للإنسان زعيما كان أو غير زعيم.
ولم تكن منفعة الأمة العربية مناط تلك الرسالة؛ لأنها إيمان برب العالمين، ولا فضل فيها لعربي على أعجمي ولا لقرشي على حبشي إلا بالتقوى.
ولم تكن مقاضاة لوعود؛ لأن الإسلام لم يعد أحدا من العالمين بغير ما وعد به الناس كافة في جميع البقاع والأرضين.
نزاهة العبادة
تعود بعض المصابين بداء الهذر من المؤرخين الغربيين أن يتكلموا عن نزاهة العبادة، ويذكروا النعيم السماوي كما وصفه الإسلام بين النقائض التي تقدح في العبادة النزيهة.
وما من دين من الأديان خلا من مبدأ الثواب والعقاب، وما من أمة من الأمم في عصر الدعوة الإسلامية كانت صور النعيم السماوي عندها مقصورة على صورة واحدة تؤمن بها ولا تؤمن بغيرها.
فليس الإيمان بالثواب والعقاب مخلا بنزاهة الدين، وما من دين يستحق أن يسمى دينا يسوي بين الصالحين والمفسدين، أو يحجر على النفوس أن تطمح إلى النعيم الذي ترتضيه.
إنما الميزان الحق للعبادة النزيهة هو الصفة التي يتصف بها الإله المعبود، ومن أجلها يتعبد له المؤمنون.
وأنزه العبادات - ولا ريب - هي العبادة التي يدين بها المؤمن لله - جل وعلا - لأنه حق وهدى؛ ولأن الإيمان به هو الصدق والصواب.
هذه العبادة أنزه من العبادة التي تتجه بها الأمة إلى الله لأنه يقوم لها مقام الحارس في وجه الأمم التي تخشاها، وهي أنزه من العبادة التي تقوم على تقاضي الوعود، أو العبادة التي تقوم على تعلق المرءوس بتكاليف الرئاسة والزعامة.
أمانة إنسان يدعو بها إخوانه في الإنسانية، ويرفعها مكانا فوق مكانها، إنها نشأت في جزيرة العرب حيث لا غرابة أن تكون الرسالة أمانة زعامة، أو تكون حراسة أمة ذات عصبية، أو تكون على الإجمال منفعة محدودة في وجه العالم، كما تحد الصحراء ما حولها من البقاع والأرضين.
سيد المرسلين بحق من جاء بالرسالة المنزهة المثلى. وهذه هي رسالة محمد بشهادة العقل حين يقابل بين القرائن والأمثال، قبل شهادة المتدين لدينه، أو المتعصب لعصبته، والمقلد لما يمليه التقليد عليه.
الوساطة
يقوم الإسلام على خمس فرائض؛ هي: الشهادتان، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج إلى بيت الله.
ولا تتوقف فريضة من هذه الفرائض الخمس على وساطة بين الخالق والمخلوق، فحيثما وجد المسلم ففي وسعه أن يؤدي صلاته
فأينما تولوا فثم وجه الله [البقرة: 115].
وإذا وجبت صلاة الجماعة، فكل مسلم يحسن الصلاة يجوز له أن يؤم المصلين حيث اجتمعوا، ولا يشترط اجتماعهم في مسجد معلوم.
ويحتاج المسلمون إلى الحاكم لتوقيت شهر الصيام، ولكنهم يحتاجون إليه لأن وسائل الرصد والتعميم تتيسر له حيث لا تتيسر لكل فرد من أفرادهم، شأنه - فيما عدا ذلك - كشأن جميع المسلمين. •••
وإذا حج المسلم إلى بيت الله فليس في بيت الله كاهن يقدم له قربانه، أو يملي عليه شعائره، وإنما يقرب لنفسه ويقوم بشعائره لنفسه، فإن جهل حكما من أحكام الحج فإنما يسأل عنه سؤال المتعلم للمعلم، ولا يحتاج في قبوله إلى وساطة من وسيط.
ويصح للمسلم أن يؤدي زكاته، كما يصح له أن يسلمها لولي الأمر ليجمعها ويفرقها على مستحقيها، ولا عمل له فيها يتمم به الفريضة بعد أدائها.
هذه الفرائض التي تنزهت عن الوساطة بين الإنسان وربه قد تفهم على أنها مصادفات متكررة على صعوبة التكرار والتوافق بين هذه المصادفات، لولا أنها متممة مستوفاة بعقيدة التنزيه التي ارتفعت إلى غايتها في الإسلام، فالإله في العقيدة الإسلامية منزه عن المشابهة والمقارنة والرمز والمحاكاة، وليس كمثله شيء، ولا وسيلة لإنسان إلى رؤيته من حيث لا يراه الآخرون. •••
ومن العسير على بعض المشتغلين بالمقارنة بين الأديان من الغربيين أن يدينوا للإسلام بهذا التقدم الكبير في تنزيه العقيدة، وتنزيه الفكرة الإلهية، وأيسر من ذلك عليهم أن يحسبوه ضرورة من ضرورات النشأة في الصحراء، حيث يتعود الحس التجريد، ولا يرمز إلى الفخامة بروعة البناء.
ولكن العقائد الدينية نشأت في صحراء العرب وفي غيرها من الصحاري قبل الإسلام، ولم تنشأ في إحدى هذه الصحاري مجردة من شوائب الوثنية والطوطمية، وضروب الكهانات والوساطات بين الإنسان وطبقات من الأرباب دون مقام الإله الواحد المنزه عن الأشباه والنظراء، وكانت الكعبة في مكة ملأى بالأصنام والأوثان يتخذونها - كما يقولون - لتقربهم إلى الله زلفى، ولا يحسون أنها تناقض طبيعتهم الصحراوية في التدين والعبادة.
ومما فات أصحاب المقارنات أن يذكروه في هذا الصدد: أن الأمم التي تدين لسلطان الهياكل، وتقدر على تفخيم البناء، إنما كانت تثوب إلى هيكل واحد تتبعه سائر الهياكل، ويستأثر كاهنه الأعلى بالوساطة بين أتباعه وبين الله، ويضفي من قداسته ما يشاء على ما يشاء، فإذا وجد في الصحراء هيكلا متفقا عليه بين القبائل؛ فهو أحرى أن يمتاز بالتعظيم والتقديس، وأن تحيطه الندرة برعاية خاصة لا تظفر بها المعابد حيث يكثر البناء.
وأولى من ذلك بالتنبيه أن الإسلام يحارب كل سيطرة توجد في الهياكل، أو توجد في صوامع الصحراء وخيامها، وفي التوابيت التي تحمل من مكان إلى مكان كتابوت بني إسرائيل؛ لأنها سيطرة الكهان والرهبان التي تسلط الناس على رقاب الناس باسم الدين
يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله [التوبة: 34].
وكل مسلم منهي بحكم دينه أن يقتفي آثار الأمم الذين حكموا فيهم رؤساء دينهم و
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله [التوبة: 31]. •••
فليس لرئيس الدين في الإسلام من فضيلة غير فضيلة العلم والموعظة الحسنة، وتنبيه الغافلين من ذوي السلطان:
وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون [التوبة: 122]، وتلك هي الفريضة العامة التي يندب لها من يقدر عليها من ورثة الأنبياء وهم
أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون [آل عمران: 104]. •••
هذا موقف للإنسان في الكون كله بين يدي الله بغير وساطة، ولا فاصل، ولا حجاب، تقدم به الإسلام ولم تمهده له البادية ولا المدينة، ولكنه نتيجة من تلك النتائج الإلهية الكثيرة التي تقصر عنها السوابق والمقدمات.
الفصل السادس
دين الإنسانية
قلنا في صدر هذه الرسالة إننا نتتبع فيها المقدمات ونقسمها إلى قسمين: مقدمات كافية لتفسير النتائج التي تأتي بعدها، ومقدمات غير كافية لا تفسر جميع النتائج التي تلحق بها، وقد تبدو هذه النتائج كأنها منقطعة عن تلك المقدمات، أو مستغنية عن تفسيرها.
ونحن نرى في فصول هذه الرسالة تفاوتا بين المقدمات في كفايتها، ولكنه لم يبلغ قط مبلغ التفاوت في مقدمات دين الإنسانية، ولا في مقدمات النبوة كما بسطناها في موضعها، فلو أن جميع الأديان التي عرفها الناس قبل الدعوة المحمدية وضعت أمام الباحثين يومئذ، لما استطاعوا أن يستخلصوا منها ظهور دعوة دينية تخاطب أمم الإنسانية جميعها من جزيرة العرب على الخصوص.
ومن الواجب أن نفرق بين دين التوحيد ودين الإنسانية في هذه الخصلة، فقد وجدت أديان تدعو الأمم إلى التوحيد قبل دعوة الإسلام، ولكنها لم تكن تدعوهم لأنها تسوي بينهم، وترى لهم حقا واحدا في عبادتهم؛ بل كانت تدعوهم إلى عبادة ملك واحد في السماء، وملك واحد في الأرض، كأنها مسألة سيادة لا مسألة مساواة.
وقد جاءت الدعوة إلى التوحيد قبل الإسلام عن طريق توحيد الدولة، وفرض السلطان الواحد والعبادة الواحدة حيث تبسط سلطانها؛ إذ كانت القبيلة القوية تتغلب على القبائل الصغار فتفرض عليها عبادة ربها، وطاعة رئيسها، ثم يتغلب الشعب القوي على الشعوب الصغيرة، فيفرض عليها عبادة ربه، وطاعة أميره، ثم تمتد حدود الدولة وراء بلادها فتصبح لها الصفة «العالمية»، وتحسب الأرض كلها عالما واحدا خاضعا لشريعتها وشرائعها، فلا يطاع فيه ملك غير ملكها، ولا يعبد فيه رب غير ربها. ولا يأتي هذا التوحيد على سبيل التسوية بين الغالب والمغلوب، أو على سبيل الهداية والإرشاد؛ بل يأتي على سبيل القهر والإخضاع، وتجريد المغلوب من سادته في الأرض وسادته في السماء على السواء.
وعلى هذه السنة جرى الرومان على إخضاع اليهود حين فرضوا عليهم عبادة «الإمبراطور» في هيكلهم، ووضع الشارة الرومانية على محاريبهم، فلم يفرضوا عليهم ذلك هداية لهم أو اعترافا بمساواتهم؛ بل فرضوه لإخضاعهم وتحريم كل معبود في الدولة غير معبودهم، وهكذا صنع غير الرومان في مصر وبابل والبلاد الفارسية.
إن هذا «التوحيد» وجد قبل الإسلام.
ولكنه أبعد شيء عن دين الإنسانية الذي نعنيه، وهو الدين الذي يتجه إلى جميع الأمم بدعوة واحدة على سنة المساواة بين الشعوب والأجناس، والتماس الهداية للغالب والمغلوب، فشتان دعوة إلى توحيد العبادة تقوم على السيادة والاستعباد، ودعوة إلى توحيد الإنسانية في حقوق واحدة، وهداية واحدة، وإيمان واحد بإله لا إله غيره يتساوى الناس بين يديه، ولا يتفاوتون بغير الفضل والصلاح.
لقد كان الإله عند العبريين يسمى إله إسرائيل، ويخص من أبناء إبراهيم ذرية يعقوب بن إسحاق دون سائر العبريين.
قال يوشع: «هكذا قال الرب إله إسرائيل.»
ويقول الشعب في كتاب الأيام: «ألست أنت إلهنا الذي طردت سكان هذه الأرض أمام شعبك إسرائيل وأعطيتها لنسل إبراهيم خليلك إلى الأبد؟»
وقال داود في سفر صمويل الأول: «مبارك الرب إله إسرائيل الذي أرسلك هذا اليوم.»
وفي سفر الأيام: «خلصنا يا إله خلاصنا، واجمعنا وأنقذنا من الأمم لنحمد اسم قدسك، ونتفاخر بتسبيحتك. مبارك الرب إله إسرائيل من الأزل إلى الأبد ...»
ويطمئن بنو إسرائيل إلى هذه الحظوة وإن لم يستحقوها بولاء أو إيمان، ويتنبأ المتنبئون والأنبياء فينعون عليهم خيانة الإله كما جاء في سفر أرميا: «إن آباءكم قد تركوني وذهبوا وراء آلهة أخرى وعبدوها، وسجدوا لها، وإياي تركوا، وشريعتي لم يحفظوها، وأنتم أسأتم في عملكم أكثر من آبائكم، وها أنتم ذاهبون كل واحد وراء عناد قلبه الشرير حتى تسمعوا لي ...»
ولكنهم يعودون فيسمعون من صاحب النذير أن الله يريدهم شعبا له: «وأجعل عيني عليهم للخير، وأرجعهم إلى هذه الأرض، وأبنيهم ولا أهدمهم، وأغرسهم ولا أقلعهم، وأعطيهم قلبا ليعرفوني أني أنا الرب؛ فيكونوا لي شعبا، وأنا أكون لهم إلها؛ لأنهم يرجعون إلي بكل قلوبهم ...»
ودامت هذه العقيدة إلى عصر الميلاد؛ فتهيأت العقول لعقيدة أرفع منها وأعدل وأقرب إلى المساواة بين الناس، فكان يحيى المغتسل - يوحنا المعمدان - يزعزع هذه الثقة بالخلاص لغير سبب من عمل أو إيمان، ويخاطب القوم كلما تمادوا في اغترارهم بالنسبة إلى إبراهيم الخليل قائلا: «إن الله قادر على أن يخلق لإبراهيم أبناء من حجارة الأرض؛ فإن لم يخلصوا في إيمانهم فلا أمل لهم في الخلاص.»
وتحولت الدعوة المسيحية من بني إسرائيل إلى الأمم على الرغم من بني إسرائيل؛ لأن السيد المسيح شبههم بالمدعوين الذين أقيم لهم العرس فتعللوا بالمعاذير وتخلفوا عن إجابة الدعوة: «فقال هذا: إني اشتريت حقلا وعلي أن أخرج فأنظره ... وقال ذاك: إني اشتريت أزواجا من البقر وسأمضي لأجربها، فغضب السيد وقال لعبده: اذهب عجلا إلى طرقات المدينة وأزقتها وهات إلي من تراه من المساكين، فعاد العبد وقال لسيده: قد فعلت كما أمرت ولا يزال في الرحبة مكان، قال السيد: فادع غيرهم من أعطاف الطريق وزواياه حتى يمتلئ بيتي؛ فلن يذوق عشائي أحد من أولئك الذين دعوت فلم يستجيبوا الدعاء.»
ولم تتحول الدعوة المسيحية عن بني إسرائيل إلا بعد إعراضهم عنها، وإصرارهم على الإعراض في كل بقعة من بقاع فلسطين توجهت إليها دعوة السيد المسيح وتلاميذه. أما قبل ذلك فكانت الدعوة مقصورة عليهم، صريحة في تقديمهم على غيرهم من الأمم: «ثم خرج يسوع من هناك وانصرف إلى نواحي صور وصيداء، وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت إليه قائلة: ارحمني يا سيد، يا ابن داود، ابنتي مجنونة جدا. فلم يجبها بكلمة، فتقدم إليه تلاميذه وطلبوا إليه قائلين: اصرفها؛ لأنها تصيح وراءنا، فأجاب وقال: لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة. فأتت وسجدت له قائلة: يا سيد، أعني، فأجاب وقال: ليس حسنا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب، فقالت: نعم يا سيد، والكلاب أيضا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها. حينئذ أجاب يسوع وقال لها: يا امرأة، عظيم إيمانك! ليكن لك ما تريدين ...»
وتحولت دعوة السيد المسيح ودعوة الرسل المسيحيين إلى الأمم غير مقصورة على بني إسرائيل، ولكنهم كانوا يدعون الأمم لأنهم أحق بإبراهيم من أبنائه بالجسد؛ إذ كان المستجيبون للدعوة أبناء إبراهيم بالروح. •••
وإذا روجع تاريخ الأديان قبل ألفي سنة لم يوجد منها دين واحد خرجت دعوته من نطاق القومية فعمت شعوب الإنسانية على اختلاف أصولها وأجناسها.
وقد وجدت في الصين شعوب بلغت في ذلك العهد مائة مليون أو تزيد، ووجدت في الهند شعوب تقاربها في العدد، ولم يعرف هؤلاء ولا هؤلاء دعوة الإنسانية إلى دين واحد؛ بل كانت الصين تدين بعبادة الأسلاف، وكل بيت له هيكله وعبادته على حدة، وكانت ديانة الهند ديانة الطبقة الغالبة ينفرد الأحبار بتلاوة أسفارها، ويحرمون على الطبقات المحرومة تلاوتها والتعرض لفهمها وتفسيرها، ويقول جوتاما ريشي في بعض كتب الفيدا: «إذا سمع الفيدا رجل من المنبوذين، فمن واجب الملك أن يصب الرصاص المذاب في أذنيه.»
هذه مقدمات الدعوات الدينية قبل الدعوة المحمدية بعدة قرون، وتقف المقدمات عند هذه الدعوات، ثم يستمع الناس إلى دعوة من أعماق جزيرة العرب تنادي بني الإنسان جميعا إلى دين واحد، وإله واحد، وحق واحد:
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم [الحجرات: 13].
وما أرسلناك إلا كافة للناس [سبأ: 28].
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [الأنبياء: 107].
ويفصل رسول الدعوة آيات الكتاب الذي أنزل إليه فيقول في تفسير هذه الآيات: «لا فضل لعربي على أعجمي ولا لقرشي على حبشي إلا بالتقوى.»
ولو لم يكن من سعة المسافة بين المقدمات وهذه النتيجة غير هذا الذي أجملناه لكان فيه الكفاية.
لكن العجب منه يتضاعف ويتعاظم حين تأتي النتيجة من أعماق الجزيرة العربية، حيث مشتجر الأنساب والأعراق على نحو لم يعرف له مثيل بين الأمم والعصبيات.
وبقية تبقى بعد ذلك لعجب فوق ذلك العجب المتضاعف المتعاظم، فإن الرسول الذي نادى بهذه المساواة بين الأصول والأمم لم يكن دون أحد من أبناء الجزيرة كلها حسبا ونسبا من أبويه الشريفين؛ بل كان من شرف الأبوة في الذؤابة التي يعترف بها النظراء، ويعنو لها المكابرون. وهذا الرسول هو الذي يتعلم منه الناس أنهم إذا صلحوا واستقاموا:
فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون [المؤمنون: 101].
المسئولية الفردية
وللديانة الإنسانية مناط واحد هو ضمير كل فرد من أفرادها، فما لم يكن لهذا الضمير حساب وعليه تبعة، فلا ديانة لإنسان ولا لجملة الناس.
وفكرة التبعة الفردية والمسئولية الفردية بسيطة سهلة الفهم، تتجدد الحاجة إلى تطبيقها كل يوم في كل بيئة اجتماعية، فلو كانت الفكرة تروج بمقدار بساطتها، وسهولة فهمها، وتجدد الحاجة إلى تطبيقها؛ لما خلا المجتمع الإنساني قط من مبدأ المسؤلية الفردية منذ أوائل عهد الإنسان بالاجتماع.
لكن الواقع أن هذه الفكرة البسيطة قد أهملت، وظلت مهملة من عهد البداوة إلى عهود الحضارة الأولى؛ لأن محاسبة الفرد لم يكن لها مرجع إلى سلطان واحد؛ إذ كان الفرد من القبيلة يعتدي على فرد من قبيلة أخرى، ويندر أن ترضى قبيلة المعتدي أن تسلمه إلى قبيلة المعتدى عليه؛ فإن لم تسلمه «تضامنت» في الدفاع عنه، ووقعت الحرب بين القبيلتين، أو تعرض كل فرد من أفراد قبيلة المعتدي لأخذ الثأر منه، وقد يتوارثون الثأر إلى الأبناء والأعقاب.
فمضى نظام القبيلة على «مسئولية» القبيلة كلها عن جميع أفرادها، ثم تطورت القبيلة، وتألف الشعب من جملة قبائل متعارفة على نظامها القديم، فثبتت على عاداتها لصعوبة التغيير في الجماعات التي تقوم على المحافظة ورعاية المأثورات السلفية، وبلغ من ثبات هذه العادات أن رومة - التي كانت تسمى أم الشرائع - جعلت الأب مسئولا عن الأسرة، وأباحت له التصرف في أرواحها وأموالها. وقد ناظرتها في الشرق شريعة حمورابي، فجعلت من حق الرجل الذي تقتل بنته أن يتسلم بنت القاتل ليقتلها كأنها لا تحسب عندهم إنسانا مستقلا بحياته.
وكانت في الهند حضارات تأخذ بمبدأ المسئولية الفردية، ولكنها ترجع بها إلى حياة سابقة متسلسلة من حياة سابقة على مدى الأزمنة التي لا تعرف لها بداءة منذ أزل الآزال، فهو مولود بجرائره وآثامه، وكفارة تلك الجرائر والآثام إلى الأجل المقدور، وليست تبعاته مرهونة بما يعمله بعد ميلاده؛ بل هي سابقة للميلاد لاحقة به آمادا بعد آماد.
وعلى هذا تعاقبت الأجيال على إهمال المسئولية الفردية في أطوار البداوة وأطوار الحضارة، ولم تعرف حضارة واحدة دانت بهذه المسئولية على النحو الذي نفهمه الآن، أو على نحو قريب منه غير الحضارة المصرية في عصور الأسر القديمة، ثم طواها الزمن وطوى معها شرائعها فلم يبق منها إلا اليسير. •••
ولا نطيل في شرح «المسئولية الفردية» كما اعتقدها أناس من المتدينين الكتابيين قبل الإسلام، ولكننا نشير إلى طرف منها للإبانة عما انتهت إليه واستقرت عليه عند ظهور الدعوة الإسلامية.
ففي سفر التكوين أن «نوحا شرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خبائه، فأبصر حام أو كنعان عورة أبيه، وأخبر أخويه خارجا ... فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير فقال: ملعون كنعان، عبد العبيد يكون لإخوته ...»
وفي سفر يشوع أن «عاخان» سرق من غنائم القتال في وقعة عاي، فانهزم الإسرائيليون ... «وأجاب عاخان يشوع وقال: حقا إني قد أخطأت إلى الرب إله إسرائيل ... رأيت في الغنيمة رداء شنعاريا نفيسا ومائتي مثقال من الفضة، ولسان ذهب وزنه خمسون مثقالا، فاشتهيتها وأخذتها، وها هي مطمورة في الأرض وسط خيمتي والفضة تحتها. فأخذ يشوع عاخان بن زارح والفضة والرداء، ولسان الذهب، وبنيه وبناته، وبقره وحميره، وغنمه وخيمته، وكل ماله وجميع إسرائيل معه وصعدوا بهم وادي عجوز ... فقال يشوع: كيف كدرتنا يكدرك الرب في هذا اليوم؟ فرجمه جميع إسرائيل بالحجارة، وأحرقوهم بالنار، ورموهم بالحجارة، وأقاموا فوقه رجمة حجارة عظيمة إلى هذا اليوم، فرجع الرب عن حمو غضبه.» •••
وكان القول الشائع أن عصيان آدم جريرة لا يسأل عنها وحده؛ بل يسأل عنها كل ولد من ذريته. •••
أما الدعوة الإسلامية فالمسئولية الفردية فيها شيء جديد كل الجدة لم يتطور مما تقدمه، ولم يكن نتيجة قط لإحدى هذه المقدمات، ومعجزة المعجزات فيها أنها قامت بالمسئولية الفردية، حيث يصدها كل عرف قائم، ويعوقها كل نظام مصطلح عليه في المعاملات والعقوبات، قامت بها في أعماق الجزيرة العربية ولا قانون فيها غير قانون الثأر، ولا شريعة لها غير شريعة القبيلة، وتعلم الناس لأول مرة في تاريخ البداوة والحضارة:
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [النجم: 39]. وأن جيلا من الأجيال لا يؤخذ بجريرة أسلافه، ولا يؤخذ خلفاؤه بجريرته:
تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون [البقرة: 134]،
وكل امرئ بما كسب رهين [الطور: 21]. •••
مرحلة شاسعة لم يعمل فيها تاريخ البشرية كله ما عمله الإسلام وحده مبتدئا بغير سابقة؛ بل مبتدئا على الرغم من العوائق والموانع والمناقضات.
ولم تكن هذه المرحلة الشاسعة نافلة من نوافل الرأي على حواشي العقيدة، ولكنها هي الفتح الأكبر من فتوح الضمير في جميع مراحل التاريخ؛ إذ لا قوام للخلق ولا للدين بغير التبعة، ولا معنى بغير التبعة لتكليف ولا حساب.
الفصل السابع
الكعبة
ونعود بعد هذه المقدمات جميعا إلى حديث الكعبة أو الكعبات التي ثابت إلى قبلة واحدة: هي قبلة الكعبة المكية خاتمة المطاف.
يدور البحث ما يدور في تاريخ العرب الديني ثم يتصل من إحدى نواحيه بتلك البيوت التي تعرف ببيوت الله، أو البيوت الحرام، ويقصدها الحجيج في مواسم معلومة يشترك فيها القبائل من سكان البقاع القريبة، ويتعاهدون على المسالمة في جوارها.
وكان منها في الجزيرة العربية عدة بيوت مشهورة، وهي بيت الأقيصر، وبيت ذي الخلصة، وبيت صنعاء، وبيت رضاء، وبيت نجران، وبيت «مكة» أشهرها وأبقاها، عدا بعض البيوت الصغار التي يعرفها الرحالون، ولا تقصد من مكان بعيد.
وكان بيت الأقيصر في مشارف الشام مقصد القبائل من قضاعة ولخم وجذام وعاملة، يحجون إليه ويحلقون رءوسهم عنده، ويلقون قبضة من الدقيق مع كل شعرة، وهو الذي عناه زهير بن أبي سلمى بقوله:
1
حلفت بأنصاب الأقيصر جاهدا
وما سحقت فيه المقاديم والقمل!
وبيت «ذي الخلصة» كان يدعى بالكعبة اليمانية في أرض خثعم بين مكة واليمن على مسيرة سبع ليال من مكة، وروى البخاري أن النبي - عليه الصلاة والسلام - أمر بهدمه فهدم، وأن الذين كانوا يسمونه بالكعبة اليمانية كانوا يطلقون اسم الكعبة الشامية على كعبة مكة تمييزا بين الكعبتين.
وكان بصنعاء بيت رئام يحجون إليه وينحرون عنده، فطلب حبران «يقرآن التوراة» من ملك اليمن أن يأمر بهدمه «لأنه شيطان» يفتن الناس، فأذن لهما فهدماه.
وفي بيت رضاء يقول المستوغر بن ربيعة بن كعب حين هدمه بعد الإسلام:
ولقد شددت على رضاء شدة
فتركتها قفرا بقاع أسحما
وأعان عبد الله في مكروهها
وبمثل عبد الله أغشى المحرما
أما كعبة نجران فقد تعفت آثارها، وكشفها الرحالة عبد الله فلبي في رحلته (25 يونيو سنة 1936)، وهي التي قال فيها الأعشي يخاطب ناقته:
فكعبة نجران حتم علي
ك حتى تناخي بأبوابها
نزور يزيد وعبد المسي
ح وقيسا هم خير أربابها
ويقول بعض المؤرخين - ومنهم أبو المنذر
2 - إن هذا البيت وبيت سنداد بين الكوفة والبصرة لم يكونا من بيوت العبادة، وإنما كانا من المزارات الشريفة التي يذكرها السياح.
اسم الكعبة
وقد ذهب المؤرخون مذاهب شتى في تفسير اسم الكعبة، فقال بعضهم: إنها كانت كلمة رومية أطلقت على كعبة مكة لتكعيبها، وأن بناء من الروم عمل في بنائها وهندستها، فاستعير اسمها من اللغة الرومية، وقيل: بل كان بناؤها من الحبشة، ومنها - أي من الحبشة - عرف العرب بناء هذه المعابد وأمثالها؛ لأنهم أمة خيام لم تتأصل فيهم صناعة البناء.
وهؤلاء المؤرخون وأشباههم يتشبثون بالفرع ويغفلون الأصل بجذوره وجذوعه عليه.
فمهما يكن من لغة البناء الرومي أو الحبشي فالقبائل العربية لم تبن تلك البيوت؛ لأن البناء من الروم أو من الحبش، ولم ترد أن تنشئ لها بيتا يسمى «الكعبة» أو المكعبة في اللغة الرومية، وإنما وجدت الحاجة إلى البيت الحرام، ثم وجدت الوسيلة إلى تلك الغاية، ولو لم يبنه أحد من الروم أو الحبش؛ لبناه أحد من فارس أو مصر أو الهند أو غيرها من الأمم التي تقدمت في هذه الصناعات. وقد احتاج سليمان بن داود إلى بناء هيكله، فاستعان بالصناع العاملين في الحجر والمعدن والحديد من شواطئ البحر الأبيض إلى جواره في الشمال، ولم تقم العقيدة تبعا لأصحاب الصناعة؛ بل كان أصحاب الصناعة جميعا ممن يخالفون تلك العقيدة، ويتسمون بسمة الكفر والإنكار عند المعتقدين بها.
ولم نعرف أن معبدا سمي بشكله، أو كان له شكل غير أشكال الأبنية التي يغلب عليها التكعيب مع بعض الاستطالة، وليست مادة «كعب» بالغريبة عن اللغة العربية؛ لأنهم كانوا يعرفون كعوب الفتاة، ويسمون الفتاة كاعبا إذا كعب ثدياها، ويلعبون بالكعوب، ويتسلحون بالرماح وهي من القصب أو من الأقنية، فيغلب أن يكون اليونان هم الذين أخذوا من العرب كلمة الكعب وكلمة القناة، فتصحفت في لغتهم إلى القانون، وهو العصا التي تتخذ للقياس.
البيوت الحرام
ومهما يكن من أصول هذه الأسماء والأشكال، فالأمر الذي لا يجوز فيه الشك أن «البيوت الحرام» وجدت في الجزيرة العربية لأنها كانت لازمة، ولم توجد فيها العبادات والمعبودات لأن أحدا اخترعها لتعبد وتقصد، وإنما كانت العبادات والمعبودات مرعية موروثة، ثم أقيم لها المكان الذي تعبد فيه وتقصد من أجله.
وقد اجتمع لبيت «مكة» من البيوت الحرام ما لم يجتمع لبيت آخر في أنحاء الجزيرة؛ لأن مكة كانت ملتقى القوافل بين الجنوب والشمال، وبين الشرق والغرب، وكانت لازمة لمن يحمل تجارة اليمن إلى الشام، ولمن يعود من الشام بتجارة يحملها إلى شواطئ الجنوب، وكانت القبائل تلوذ منها بمثابة مطروقة تتردد عليها، ولم تكن فيها سيادة قاهرة على تلك القبائل في باديتها أو في رحلاتها.
فليست في مكة دولة كدولة التبابعة في اليمن، أو المناذرة في الحيرة، أو الغساسنة في الشام، وليس من وراء أصحاب الرئاسة فيها سلطان كسلطان دولة الروم، أو دولة فارس، أو دولة الحبشة وراء الإمارات العربية المتفرقة على الشواطئ، أو بين بوادي الصحراء، فهي - أي مكة - مثابة عبادة وتجارة، وليست حوزة ملك يستبد بها صاحب العرش فيها، ولا يبالي من عداه، وهي إن لم تكن كذلك من أقدم أزمانها، فقد صارت إلى هذه الحالة بعد عهد جرهم والعماليق، الذين روى عنهم الرواة أنهم كانوا يعشرون كل ما دخلها من تجارة. •••
كانت «مكة» عربية لجميع العرب، ولم تكن كسروية ولا قيصرية ولا تبعية ولا نجاشية، كما عساها كانت تكون لو استقرت على مشارف الشام، أو عند تخوم الجنوب، ولهذا تمت لها الخصائص التي كانت لازمة لمن يقصدونها، ويجدون فيها من يبادلهم ويبادلونه على حكم المنفعة المشتركة، لا على حكم القهر والإكراه.
ولقد حاولت الدول الكبرى أن تستغني عنها بتحويل الطريق منها، أو هدم كعبتها فلم تفلح، وبقيت لها مكانتها وقداستها كما كانت من أقدم عهودها، وهي قديمة سابقة لكتابة أسفار العهد القديم في التوراة، فإنها هي «ميشة» المشار إليها في سفر التكوين، وهي «ميشة» التي يقول الرحالة «برتون»: إنها كانت بيتا مقصودا لعبادة أناس من أبناء الهند، ويقول الرحالون الشرقيون: إنها كانت كذلك بيتا مقصودا للصابئين الذين أقاموا في جنوب العراق قبل الميلاد بأكثر من عشرة قرون، ونرجح نحن ترجيح الظن أن سكان شواطئ الهند وخليج فارس وجدوا فيها سماحة لعبادة أربابهم العلوية وأفلاك السماء، كلما ترددوا عليها في تجارتهم من أقدم عهود التاريخ، فكان حكمهم فيها حكم القبائل البادية التي وجدت فيها محلا لعبادة أوثانها في مواسم الحج والإحرام.
ومن المحاولات التاريخية التي لا شك في بواعثها محاولة عام الفيل، ومحاولة عثمان بن الحويرث أن يدخل مكة في حوزة الروم، وأن تستولي دولة الروم من ثم على تجارة المشرق كلها من شواطئ اليمن إلى مشارف الشام.
فالحبشة كانت تخشى نفوذ الفرس في اليمن، وكانت تلقى من دولة الروم معونة على مقاتلة التبابعة اليمانيين، وكانت تحذر دولة الروم؛ لأنها كانت تملك الوصول إلى بلادها من وادي النيل، وتملك طريق البحر الأحمر في نهايته القصوى، فلما خرجت جيوش الحبشة بقيادة أبرهة وأرياط كانت دولة الروم من وراء هذه الغزوة، وانتهت بهزيمة ذي نواس ملك اليمن، فاقتحم البحر بجواده ليغرق فيه، وسفر أبرهة عن غايته بعد التمكن من اليمن وشواطئها فبنى «القليس» في صنعاء.
ويجوز أن تكون مصحفة من كلمة الكليس اليونانية بمعنى المعبد والمجمع، أو من كلمة الكلس بمعنى التكليس أو الطلاء، فلما تم بناؤها أمر بتحويل الحج إليها، وكتب إلى النجاشي يقول: «إنه ليس بمنته حتى يصرف إليها العرب أجمعين» ... فقيل فيما قيل: إن أناسا من العرب كانوا يذهبون إلى هذه الكعبة الجديدة ليدنسوها، وإن سيدا من سادات تميم فعل ذلك وتحدى أربابها أن تصيبه بأذاها إن كانت لها قدرة الأرباب، فكان من جراء ذلك هجوم أبرهة على مكة في عام الفيل المشهور.
هذه محاولة لا شك في الغرض منها، وهو الاستيلاء على طريق الحجاز من اليمن إلى الشام.
والمحاولة الأخرى كانت من محاولات السياسة الخفية لتمليك سيد من العرب على مكة يدين بالولاء لدولة الروم، فارتضى قيصر لملك مكة رجلا من ساداتها هو عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى، وكتب له رسائل يبلغها قومه، فعاد بها وجمع القوم إليه يرغبهم في حسن الجزاء من قيصر ، وينذرهم بسوء العاقبة في الشام إذا هم عصوه، وأهون ما هنالك أن يغلق أبوابها في وجوههم وهم يذهبون إليها ويعودون منها كل عام، قال: «يا قوم، إن قيصر قد علمتم أمانكم ببلاده، وما تصيبون من التجارة في كنفه، وقد ملكني عليكم وأنا ابن عمكم وأحدكم، وإنما آخذ منكم الجراب من القرظ والعكة
3
من السمن والأوهاب، فأجمع ذلك ثم أذهب إليه، وأنا أخاف إن أبيتم ذلك أن يمنع منكم الشام فلا تتجروا به، وينقطع مرفقكم منه.»
وهذه المحاولة السياسية غرضها - كما هو ظاهر - كغرض تلك المحاولة العسكرية، وكلتاهما تثبت شيئا واحدا، وهو قيام كعبة الحجاز على كره من ذوي السلطان في الجنوب، وأن دولة الروم لم تكن تريدها باختيارها، وإنما كانت مشغولة بها، معنية بتحويلها إلى حوزتها، فلم تستطع أن تنال منها منالها، واستطاعت «الكعبة» أن تحفظ مكانها على الرغم من خلو مكة من العروش الغالبة على أنحاء الجزيرة بجميع أطرافها؛ بل استطاعت ذلك لخلوها من تلك العروش، وقيام الأمر فيها على التعميم دون التخصيص، وعلى تمثيل جملة العرب بمأثوراتهم ومعبوداتهم دون أن يسخرهم المسخرون، أو يستبد بهم فريق يسخرهم تسخير السادة للأتباع المكرهين على الطاعة وبذل الإتاوة.
قداسة الكعبة
والأساس المهم الذي قامت عليه مكانة البيت المكي: أن البيت بجملته كان هو المقصود بالقداسة غير منظور إلى الأوثان والأصنام التي اشتمل عليها، وربما اشتمل على الوثن المعظم يقدسه بعض القبائل وتزدريه قبائل أخرى، فلا يغض ذلك من مكانة «البيت» عند المعظمين والمزدرين، واختلفت الشعائر والدعاوى التي يدعيها كل فريق لصنمه ووثنه، ولم تختلف شعائر البيت كما يتولاها سدنته المقيمون إلى جواره، والمتكفلون بخدمته، فكانت قداسة البيت هي القداسة التي لا خلاف عليها بين أهل مكة وأهل البادية، وجاز عندهم - من ثم - أن يحكموا بالضلالة على أتباع صنم معلوم، ويعطوا البيت غاية حقه من الرعاية والتقدير ...
وعلى هذا كان يتفق في موسم الحج أن يجتمع حول البيت أناس من العرب يأخذون بأشتات متفرقة من المجوسية واليهودية والمسيحية وعبادات الأمم المختلفة، ولا يجتمع منها دين واحد يؤمن به متعبدان على نحو واحد، وما من كلمة من كلمات الفرائض لم تعرف بين عرب الجاهلية بلفظها وجملة معناها كالصلاة والصوم والزكاة والطهارة، ومناطها كلها أنها حسنة عند رب البيت أو عند الله. وجاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن الصامت، أن أبا ذر قال له: «يا ابن أخي! صليت مرتين قبل مبعث النبي
صلى الله عليه وسلم ، فسأله: فأين كنت توجه؟ قال: حيث وجهني الله!»
وجاء في الأغاني أن زيد بن عمرو بن نفيل كان يستقبل الكعبة في صلاته ويقول:
لبيك حقا حقا
تعبدا ورقا
عذت بما عاذ به إبراهم
مستقبل الكعبة وهو قائم
يقول إني لك عان راغم
مهما تجشمني فإني جاشم
وذكر صاحب كتاب حجة الله البالغة أنهم كانوا يصومون يوم عاشوراء، وكان صيامهم من الفجر إلى مغرب الشمس، وكانت لهم بقايا من العبادات التي عرفت بين أهل الكتاب، ولم تكن معروفة على وتيرة واحدة بين أتباع دين من الأديان، وإنما يرغبهم فيها أنها أعمال ترضي «الإله»، وأنهم يعرفون إلها أعظم من سائر الآلهة يتوجهون إليه بالدعاء. وهي حقيقة لا يعتورها الشك؛ لأنهم كانوا يسمون «عبد الله»، ويلبون فيقولون: اللهم لبيك، ولا يدعون أحدا من الأصنام «رب البيت»، فإذا قالوا: «رب البيت» أرادوا به ربا فوق جميع الأرباب.
إننا في هذه الرسالة نذكر المقدمات ونقسمها - كما قلنا - في مفتتحها إلى قسمين: قسم ينقطع دون النتائج التي جاءت بعده، وقسم يتصل بنتائجه، ويسير من مبدئه إلى غايته في مجرى الحوادث، وليس بين هذه المقدمات المتصلة ما هو أحكم اتصالا بين أوائله وخواتيمه من قيام البيت في مكة وتوثيقه قبائل العرب على حرمة واحدة.
وقد سميت الكعبة «الحمساء»، وانتسب إليها «الحمس»، وهم طوائف متشددون في فرائضهم وخلائقهم يدينون أنفسهم بالتقشف والزهد في مواسم العبادة، فيقضون زمنا في العراء لا يحول بينهم وبين السماء حائل من سقف أو ستار، ويحرمون على أنفسهم في الأشهر الحرم أكل الأقط والسمن، ولبس النسيج من الوبر والشعر، ولا يجيزون لغيرهم أن يطوف بالبيت في غير الثياب الأحمسية، ويجعلون المطاف بالليل للنساء إذا لم تكن عليهن هذه الثياب. •••
ومن رعاية جوار البيت حلف الفضول الذي تعاهد عليه أناس من علية قريش لينصرن كل مظلوم، ويردن الحق إلى كل مغصوب، وليكونن يدا واحدة في قتال كل غاصب يلج في ظلمه وغصبه اعتزازا بماله، أو بعصبته وحزبه. وما من مقدمة للدعوة المحمدية كانت ألزم ولا أكرم من هذه المقدمة؛ تيسيرا لاجتماع الكلمة على الخير، وتوحيد أبناء الجزيرة العربية في دعوة واحدة ليست لذي سلطان من ملوك اليمن، أو خليج فارس، أو مشارف الشام، الذين يدينون بالولاء للأكاسرة وللقياصرة وللنجاشيين؛ بل هي دعوة الله يتلقاها أصحاب التيجان والعروش كما يتلقاها عامة الخلق من عباد الله.
الفصل الثامن
أسرة النبي
منذ ثبتت للبيت الحرام تلك المكانة العالية بين العرب كافة، وجبت له أمانة الخدمة بما له من حق محفوظ وشرف ملحوظ، ووجب لخدامه السمت الذي يجمل بهذا المقام، وهو فوق مقام الرئاسة الدنيوية، وعلى مثابة من مقام العبادة والتقديس.
ولم يقم بهذه الأمانة أحد كما قام بها أجداد النبي - عليه السلام - من بني هاشم، فقد حفظوا حقها، وعرفوا سمتها، بل طبعوا عليه فطرة بغير كلفة، وبدا منهم الإيمان بها في مآزق الشدة التي يمتحن فيها الإيمان بحب النفس، وحب البنين، فيغلب الإيمان على حب المرء لنفسه وحبه لبنيه.
وقد تنافس بنو هاشم وبنو أمية على هذا الشرف، فأسفرت المنافسة بينهما عن فارق في الطباع ملحوظ الأثر في خلائق الأسرتين من أيام الجاهلية إلى ما بعد الإسلام بعدة قرون، ومهما تجد من ندين متناظرين في هاشم وأمية إلا وجدت بينهما هذا الفارق على نحو من الأنحاء.
كان بنو هاشم أصحاب عقيدة وأريحية ووسامة، وكان بنو أمية أصحاب عمل وحيلة ومظهر مشنوء، وينعقد الإجماع أو ما يشبه الإجماع على أخبار الجاهلية التي تنم على هذه الخصال في الأسرتين، وبقى الكثير منها إلى ما بعد قيام الدولة الأموية فلم يفندوه.
ومن هذه الأخبار أخبار المنافرات المتتالية تجمعها منافرة حرب وعبد المطلب إلى نفيل جد عمر بن الخطاب؛ إذ يقضي لعبد المطلب ويخاطب حربا قائلا: أتنافر رجلا هو أطول منك قامة، وأعظم منك هامة، وأوسم منك وسامة، وأقل منك لامة، وأكثر منك ولدا، وأجزل منك صفدا، وأطول منك مذودا؟
أبوك معاهر وأبوه عف
وذاد الفيل عن بلد حرام
والنسابون يؤيدون ما تواترت به هذه المنافرات، فيقول دغفل النسابة لمعاوية وقد سأله عن جده أمية: «رأيته رجلا قصيرا ضريرا يقوده عبده ذكوان»، قال معاوية: «ذلك ابنه أبو عمرو!» قال دغفل: «ذلك شيء تقولونه أنتم، أما قريش فلم تكن تعرف إلا أنه عبده.»
ويقول الكلبي في أبناء عبد المطلب: «كانوا إذا طافوا بالبيت يأخذون البصر.»
قلنا في كتابنا عن ذي النورين عثمان بن عفان: «وقد يتردد المؤرخ في قبول بعض الروايات المتقدمة على علاتها، ولكنه لا يحتاج إلى المشكوك فيه من تلك الروايات ليعلم هذا الفارق الواضح من خلائق العشيرتين فيما أثر عنهم قبل الإسلام وبعد الإسلام، ففي حلف الفضول قام بنو هاشم بالأمر، وقام به معهم بنو أسد وبنو زهرة وبنو تيم، وتخلى عنه بنو عبد شمس فلم يشتركوا فيه ... وخلاصة قصته أن رجلا يمانيا قدم مكة ببضاعة فاشتراها رجل فلواه بحقه، وأبى أن يرد عليه بضاعته، فقام في الحجر أو في مكان على شرف وصاح يستغيث، وكان من أجل ذلك أن تعاهد أناس من بني هاشم وأحلافهم ألا يظلم بمكة غريب ولا قريب، ولا حر ولا عبد، إلا كانوا معه حتى يأخذوا له بحقه من أنفسهم ومن غيرهم، وعمدوا إلى ماء من زمزم، فجعلوه في جفنة، وبعثوا به إلى البيت، فغسلت به أركانه وشربوه. وقد أبى الأمويون وبنو عبد شمس عامة على أحد منهم أن يدخل هذا الحلف، فكان أحدهم عتبة بن ربيعة يقول: لو أن رجلا وحده خرج من قومه لخرجت من عبد شمس حتى أدخل حلف الفضول.»
وربما خفي السبب الذي يرجع إليه هذا الفارق بين الأسرتين، فقد يرى بعضهم أنه يرجع إلى النسب المدخول ، وقد رمي الأمويون الأوائل بشبهات كثيرة في عمود النسب، وعرض لهم بذلك أناس من ذوي قرباهم في صدر الإسلام، وأشهر ما اشتهر من هذه الشبهات قصة ذكوان الذي يقولون إنه من آبائهم، ويقول النسابون: إنه عبد مستلحق على غير سنة العرب في الجاهلية.
ومما يعلل به هذا الفارق أن بني أمية كانوا يغيبون عن ديارهم ويعودون إليها، فلا يطيب للمقيمين فيها أن يعترفوا لهم بدعوى الزعامة عليهم، وأنهم أكثروا من الرحلة في بادئ الأمر لحاجتهم وقلة محصولهم من نتاج النعم وأرباح التجارة، وليس بالبعيد أن «المعاهرة» التي أشار إليها المحكمون بينهم وبين الهاشميين قد أورثتهم بعض أمراضها، ودست في أخلاقهم شيئا من خبائثها، وليس بالبعيد أيضا أن الفارق بين الأسرتين إنما كان من قبيل تلك الفوارق التي نراها بين الإخوة كأنها قسمت بينهم ميراث الأخلاق، فذهب أحدهم بالحول، وذهب أخوه بالحيلة، أو ذهب أحدهم بالكرم والأريحية، وذهب أخوه بنقائضها من خلال الأثرة والدعوى.
وأيا ما كان سر هذا الفارق البين، لقد كان بنو هاشم - أسرة النبي - أصحاب رئاسة، وكانت لهم أخلاق رئاسة.
عرفوا بالنبل والكرم والهمة والوفاء والعفة، وبرزت كل خليقة من هذه الخلائق في حادثة مأثورة مذكورة، فلم تكن خلائقهم هذه من مناقب الأماديح التي يتبرع بها الشعراء، أو من الكلمات التي ترسل إرسالا على الألسنة ولا يراد بها معناها.
كان هاشم غياث قومه في عام المجاعة، فبذل طعامه لكل نازل بمكة أو وارد عليها، وسمي بالهاشم من ذلك اليوم لهشمه الثريد ودعوة الجياع إلى قصاعه:
عمرو الذي هشم الثريد لقومه
ورجال مكة مسنتون عجاف
ومما يروي عنه أنه كان أول من سن الرحلتين لقريش: رحلة الصيف ورحلة الشتاء، وحقيقة ذلك فيما يخلص لنا من سوابق الرحلات أنه كان يحمي تلك الرحلات وينظمها، فنسب إليه أنه أول من سنها.
ومكانته في غير قريش - وفي مدن التجارة الخاصة - تدل عليها مصاهرته لبني النجار في المدينة، وزواجه من سلمى بنت عمرو التي كانت - لشرفها وعزتها - تأبى أن تتزوج إلا أن يكون أمرها بيدها ، ولو لم يكن لهاشم مقامه في الحجاز كله لما أصهر إلى القوم، ولا ارتضى القوم هذه المصاهرة من رجل يزور مدينتهم زيارة الطريق بين مكة والشام. وقد كان المعهود في بني عبد مناف أنهم لا يقعدون جميعا في ديارهم، وأنهم لا تزال لهم همة طامحة في رحلاتهم وأسفارهم، ومات أكثرهم في غير وطنهم، فمات هاشم بغزة في الشام، ومات عبد المطلب برومان إلى ناحية من أرض اليمن، ومات نوفل بسلمان في العراق.
وابن هاشم عبد المطلب سيد قريش غير مدافع، ويبلغ هذا التقابل بين الأسرتين أقصاه في عهد مناظرة حرب بن أمية، فكان كلاهما نمطا في بابه من طرفي العقيدة والأريحية وطرف السعي والحيلة.
وكان عبد المطلب متدينا صادق اليقين، مؤمنا بمحارم دينه في الجاهلية؛ لأن ثقة الإيمان طبيعة في وجدانه، وهو أول من حلى الكعبة بالذهب من ماله، ويغنينا منه أنه كان في الحق نمطا فريدا بين أصحاب الطبائع التي فطرت على الاعتقاد ومناقب النبل والإيثار.
فلم تكن مناقبه من مناقب الطابع والوتيرة التي تتكرر على صورة واحدة بين المتصفين بها، ولم يكن كرمة ولا حزمه ولا شجاعته من قبيل الصفات التي تعرف بهذه الأسماء في جميع الكرماء وذوي الحزم والشجاعة.
بل كانت مناقبه مطلبية تدل عليه ولا تصدر من غيره، وكانت كلها مزيجا من الأنفة والرصانة والاستقلال، ومواجهة الغيب على ثقة وصبر وأناة.
وهذه طائفة من أخباره لا نفتقد في واحدة منها تلك المناقب المطلبية التي تعز على خيال المتخيل ما لم يكن وراءها أصل تحكيه وترجع إليه.
وصل أبرهة الحبشي عام الفيل إلى أرباض مكة، وبعث رجلا من العرب يسمى حناطة يسأل عن «أمير مكة»، ويبلغه أن أبرهة لم يأت لقتالهم، وإنما أتي لهدم البيت الحرام، فإن لم يمنعوه فهم في أمان من حربه، فلما لقي الرسول عبد المطلب وأبلغه رسالة أبرهة، قال عبد المطلب: والله ما نريد حربه، وهذا بيت الله وبيت خليله إبراهيم، فإن يشأ منع بيته وحرمه، وإن لم يشأ تخلى عنه ، ووالله ما عندنا من قتال.
قال الرسول: انطلق معي إلى الملك. فانطلق معه عبد المطلب إلى أن أتى معسكر أبرهة، وأدخلوه عليه.
يقول الرواة: وكان عبد المطلب رجلا عظيما مهيبا وسيما، فنزل أبرهة عن سريره، وأجلسه معه، وسأله عن طلبته، فقال عبد المطلب: الإبل التي ساقها جندك!
ويقول الرواة: فهان أمر عبد المطلب في نظر أبرهة وقال له: أتسأل عن البعير وتترك البيت الذي هو دين آبائك ودينك من بعدهم؟! فقال عبد المطلب: أنا رب الإبل، وللبيت رب يحميه. فأمر برد إبل عبد المطلب دون غيرها، فأخذها عبد المطلب وقلدها النعال وساقها هديا إلى الحرم، ووقف على باب الكعبة يقول:
يا رب لا أرجو لهم سواكا
يا رب فامنع منهم حماكا
إن عدو البيت من عاداكا
فامنعهم أن يخربوا قراكا
هذه هي «المطلبية» التي نعنيها في خصال هذا الرجل العظيم: لا تهور مع القوة الطاغية، ولكن لا خضوع لها؛ بل وضع لها في موضعها، وقول يناسب كل مقام، فإذا خامر الظن أحدا لا يفهم معنى هذه الأنفة التي تأنف من التهور كما تأنف من الجبن، فهناك الجواب الفعال الذي يغني ما ليس يغنيه المقال: ما سألت عن الإبل لأنني أضن بأثمانها، فإنني قد وهبتها بعد ذلك للبيت، ولكنني سألت عنها لأنها هي موضع سؤالي، وتركت السؤال عن البيت لأن استجداء الرحمة من أبرهة لبيت الله ينفي الثقة بالبيت وبالله.
وقد حدث بعد ذلك ما حدث مما لا شك فيه، وهو فتك الجدري بجنود أبرهة، وانهزامه عن البيت، وخوفه من أن يتقدم إليه بأذى، وإنه لخبر قد يسهل إنكاره على المتحذلقة من أدعياء التاريخ الذين يجمعون التمحيص كله في الإنكار، لولا أن حديث الجدري الذي فشا (في سنة 569) مثبت كما تقدم في تاريخ بروكوب
الوزير البيزنطي المعروف.
وخبر آخر من أخبار هذه المناقب المطلبية: أنه عاش زمنا قليل الولد لم يرزق غير ابنه الحارث الذي كان يكنى به. عيره عدي بن نوفل بن مناف يوما فقال له: أتستطيل علينا عبد المطلب وأنت فذ لا ولد لك؟ فأجابه عبد المطلب جوابه الذي أثر عن ذلك اليوم: أبالقلة تعيرني؟! فوالله لئن آتاني الله عشرة من الولد لأنحرن أحدهم عند الكعبة!
وسنعود إلى التعقيب على هذه القصة في حديث عبد الله أبي النبي - عليه السلام - ولكننا نجتزئ هنا بأن نقول: إننا لا نسقطها لمجرد اختلاف الروايات فيها، فإن أخبار الحاضر تتناقض أمامنا، ونحن لا ننكر وقوعها لهذا التناقض. وقد اختلفت الرواة في عبد الله بن عبد المطلب: هل هو أصغر أبنائه جميع،ا أو أصغر أبنائه من أمه؟ وهل بلغ أبناؤه العشرة، أو حسب منهم أبناء الأبناء؟ وكل أولئك لا يسقط القصة، كما أسلفناه، وكما يجيء في سيرة عبد الله.
وملتقى الروايات في هذه القصة أنه أمر بنيه أن يكتب كل منهم اسمه في قدح، وطلب من صاحب القداح أن يضرب عليها، فخرج السهم باسم عبد الله، فهم بإنفاذ نذره لو لم يتشفع عنده ابنه العباس ورجالات قريش، وتنادوا بينهم: لئن فعل ذلك لتكونن سنة، ولا يزال الرجل يأتي بابنه فيذبحه، فإن يكن فداء فبأموالنا جميعا نفديه.
واحتكموا إلى عرافة بالحجاز فسألتهم: كم الدية فيكم؟ قالوا: عشرة من الإبل، قالت: قربوا عن ولدكم عشرة من الإبل، ثم اضربوا عليها وعلى ولدكم، ثم زيدوا الإبل كلما أخطأها السهم حتى يخرج السهم عليها فانحروها عنه؛ فقد رضي ربكم ونجا ولدكم.
يقول الرواة: وعادوا إلى مكة فقربوا عشرة من الإبل، وضربوا القداح، فخرج القدح على عبد الله، وجعلوا يزيدون عشرة فعشرة حتى بلغت مائة، وقيل ثلاثمائة، فخرج السهم عليها فنحروها وتركوها لا يمنع من لحمها إنس ولا وحش ولا طير.
ومن أخباره أن قريشا خاصمته في ماء زمزم بعد أن احتفرها، وعارضوه في احتفارها، فاحتكموا إلى كاهنة بني سعد بن تميم بمشارف الشام، فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني عبد مناف، وركب من كل قبيلة من قريش نفر يتقدمون، وفني ماء عبد المطلب عند بعض المفاوز بين الحجاز والشام؛ فظمئ أصحابه حتى أيقنوا بالهلكة، وطلبوا الماء ممن معهم من قريش فلم يسقوهم، فجمع أصحابه وسألهم: ما ترون؟ قالوا: رأينا تبع لرأيك، فمرنا بما شئت، قال: فإني أرى أن يحفر كل منا حفرته فيواريه فيها أصحابه إذا مات، حتى يكون آخركم موتا قد وارى الجميع، فضيعة رجل واحد خير من ضيعة الركب كله ...
ثم بدا له رأي أصوب من هذا الرأي فقال لأصحابه: والله إن إلقاءنا أنفسنا بأيدينا للموت هكذا دون أن نضرب في الأرض ونبتغي لأنفسنا لهو العجز؛ فهلموا نرتحل. ولم يذهبوا في طريقهم غير يسير حتى انفجرت عين ماء عذب تحت خف راحلته، فشربوا وملئوا أسقيتهم، ثم دعا القبائل من قريش فقال: هلموا إلى الماء فقد سقانا الله، فقال أصحابه: لا نسقيهم والله؛ لأنهم لم يسقونا، قال: نحن إذن مثلهم. ولم يرضه أن يعمل مثل عملهم وهو أحق بالرجحان عليهم، وعرف القرشيون له هذا الحق فكفوا عن منازعته في ماء زمزم، وسلموا له السقاية التي كانوا ينفسونها عليه.
ويروى عنه أنه كان له جار يهودي يسمى أذينة، وكان له مال كثير، فطمع فيه حرب بن أمية وأغرى به فتيانا من قومه فقتلوه، فلم يزل عبد المطلب يستقصي خبره حتى علم باغتياله ومن اغتالوه، فأبى إلا أن يكره حربا على الدية، وأخذ منه مائة ناقة أسلمها إلى ابن عم اليهودي، وارتجع ماله إلا شيئا هلك، فارتجعه من ماله.
وهذه هي المناقب «المخصصة» التي نقول: إنها لا تجري مجرى الطابع والوتيرة، ولا تغني عناوينها عن النظر في ملامح أصحابها ومميزاتهم في التفكير والعمل، وهي مناقب لا تخترع، ولا يضيرها أن يضاف فيها الخبر المخترع إلى الخبر الواقع؛ لأن الرواة المخترعين في هذه الحالة إنما ينقلون عن صورة أصيلة تمت في أذهانهم قبل اختراع أخبارهم عنها، فحاولوا أن تكون أخبارهم المخترعة مطابقة لحقيقتها.
ففي كل خبر من هذه الأخبار «المطلبية» إيمان وحزم ووفاء وجرأة على الخطر، ولكن في غير مغالطة ولا اصطناع، وإنما قوام ذلك كله حزم يملك زمامه، ويفعل واجبه كما يراه.
وأدعياء التاريخ خلقاء أن يسألوا أنفسهم هنا سؤالين لا يغفلهما أحد يفقه معنى تمحيص الخبر، وأولهما في هذا السياق: لماذا يخترع الرواة هذه الأخبار عن عبد المطلب دون غيره؟ وثانيهما: لماذا لم يخترعوها ولا اخترعوا أمثالها عن حرب بن أمية؟
فإذا كانت صورة الرجل في الأذهان هي علة الاختراع، فهناك حقيقة إذن ماثلة وراء هذه المخترعات، وهناك دلالة في اتفاق الأذهان على الاختراع أولى بالتصديق من اتفاقهم على رؤية العيان؛ لأن رؤية العيان تحتاج بعدها إلى البحث عما تدل.
وقد اتفقت الروايات كلها على صفات عبد المطلب قبل الاتفاق على أخباره، واتفقت الصفات والأخبار معا على ملامح شخصية قوامها الإيمان والحزم والوفاء وضبط النفس في مواجهة القوة والخطر بعزيمة، لا تتهور في غير جدوى، ولا تنكص على عقبيها خوفا من فوات الجدوى، وكلها صفات جديرة بآباء الأنبياء والمرسلين.
عبد المطلب
ولد عبد المطلب في المدينة وسمي «شيبة» تفاؤلا له بطول العمر في أسرة لم يكن طول الأعمار من خصائصها، وتربى بعيدا من آل أبيه، فصدق عليه في طفولته قول القائلين في عصرنا: إن الطفل أبو الرجل؛ لأنه كان يلاعب الصبيان من لداته فيذكرون آباءهم، ويفخرون بهم عليه وهو لا يرى أباه بينهم، وحز ذلك في نفسه، فجعلت أمه تسري عنه وتحدثه عن آل أبيه ومآثرهم في جوار البيت الحرام، فطال اشتياقه إلى رؤيتهم والإقامة بينهم، بيد أنه أحجم عن السفر مع عمه «المطلب» حين قدم إلى المدينة لأخذه إلى مكة، وبصر بأمه في الدار حزينة واجمة تبكي لفراقه، وتستمهل عمه عسى أن يبقيه لديها إلى عام قابل، فقهر في تلك السن الباكرة شوقه إلى أهل أبيه، وقد عز عليه في المدينة أن يفاخر بهم لداته بين آبائهم وذويهم، وقهر في إبان الطفولة ذلك التطلع إلى المجهول، وذلك الحنين إلى الغرائب، وتلك الرغبة في كل حركة وكل انتقال من مكانه الذي هو فيه، وقال لعمه بعد أن تهلل لمرآه ورحب بالعودة معه إلى قومه: لن أترك أمي، أو تأذن لي بالسفر معك راضية!
وفي سفرته تلك سمي عند مدخل مكة بعبد المطلب؛ لأن أهلها رأوه مع المطلب لأول مرة، فحسبوه عبدا اشتراه، وجعلوا يدعونه باسم «عبد المطلب» كلما أرادوا أن يميزوه من أبنائه، فغلبت عليه.
وشب الغلام عزوفا أبيا لا يستكين للهضيمة، ولا ينزل عن حق له أو حق كان لأبيه، فلما أراد عمه نوفل أن يستأثر بمنزلة أبيه هاشم وميراثه لديه تحين الفرصة للسفر إلى المدينة، وعاد إلى مكة بعصبة من أقارب أمه وأخواله، وهم أولو عصبة أشداء يشاد بغوثهم في مدائح الشعراء:
ولو بأبي وهب أنخت مطيتي
غدت من نداه رحلها غير خائب
فتلقاهم عمه نوفل مرحبا، ودعاهم إلى ضيافته، فلم يقبلوها أو يرضي فتاهم، فصالحهم على ما يرضيهم ويرضيه.
وصح التفاؤل في عبد المطلب، فعاش حتى ناهز المائة أو جاوزها، ومات والنبي - عليه السلام - دون العاشرة، فعهد به إلى كفالة عمه أبي طالب شقيق أبيه.
وكل ما تفرقت فيه الروايات من أمره قد استقرت على صفة لا تتفرق فيها روايتان؛ وهي: صدق التدين والإيمان بمحارم الدين في سدانته أو في غير سدانته. واسم ولد من أولاده عبد العزي الذي اشتهر بعد ذلك باسم أبي لهب لزهرة كانت في لون وجهه، ومن حديثه أنه كان يتعصب للعزى التي نمى إليها باسمه، وأنه زار أحد عبادها المتنسكين لها في مرض موته فوجده يبكي، فسأله: ما يبكيك؟ أمن الموت تبكي ولا مفر منه؟ قال الرجل: كلا، ولكني أخاف ألا تعبد العزى بعدي!
فقال أبو لهب: والله ما عبدت وأنت حي لأجلك، ولا تترك بعدك لموتك. فاطمأن الرجل ومات وهو يقول: الآن علمت أن لي خليفة يرعاها.
وكانت العزى بوادي خراص على يمين المصعد إلى العراق، وكانت قريش قد حمت لها شعبا يقال له: سقام، يضاهون به الكعبة، وهي التي يعنيها أبو جندب الهذلي إذ يقول في بعض غزله:
لقد حلفت جهدا يمينا غليظة
بفرع التي أحمت فروع سقام
ولها منحر تذبح فيه الذبائح، ويقصد إليه الحاج بعد منى كما يقول نهيكة الفزاري يخاطب عامر بن الطفيل :
يا عام لو قدرت عليك رماحنا
والراقصات إلى منى فالغبغب
وشأن هذه القصة في مناقب عبد المطلب أن التدين لم يكن وسيلة من وسائل الرجل إلى طلب السيادة والسدانة، وأنه لم يتدين لأنه سادن الكعبة وصاحب المنفعة في تعظيمها؛ بل كان يعظم العزي ولا منفعة له في هذا التعظيم، وكان الدين عنده إيمانا خالصا من الحيلة ومن مآرب الكهانة.
ولا يخفى أن الوراثة في الطبائع لا في الشعائر وظواهر العبادة، فمن كانت عنده عقيدة الإيمان بالغيب، والعلو بما يؤمن به عن عوارض الأهواء واللذات، وهان عليه نسيان المنافع والشهوات في سبيل رضاه، وطابت نفسه بالفداء وفرائض الطاعة والوفاء، فهذه هي الطبيعة التي تورث على اختلاف الشعائر والعبادات، ومثلها في ذلك مثل الشجاعة في القتال، ومثل السخاء بالمال؛ فإن الابن الذي يرث الشجاعة من أبيه لا يرث منه ميدانه، ولا تتوقف شجاعته الموروثة على سلاحه؛ فقد يحارب الابن بسلاح لم يعرفه أبوه، وفي ميدان غير ميدانه، وقد يبذل المال لإقامة مسجد ولم يبذل أبوه المال إلا لنحت صنم، أو ذبح قربان على وثن، ولا غضاضة على ما ورثه من شجاعة، ولا ما ورث من سخاء.
وهذه الطبيعة هي التي ينظر إليها الناظر في مناقب الأسرة الموروثة، فلو كان عبد المطلب ينافق بالتدين ليخدع به قومه، ويتذرع به إلى الرئاسة عليهم، لما كان هو عبد المطلب الذي تورث منه خصال الصدق والإيمان، ولكن تورث منه هذه الخصال حين يصدق في معتقده بالكعبة وبالعزى، وحين يدين الناس بما يدين به نفسه في رئاسة هؤلاء الناس.
أبو طالب
وكان أبو طالب - خليفته في الوصاية على النبي - أشبه أبنائه به في جميع خصاله ومناقبه.
والخلاف كثير في إسلام أبي طالب؛ إذ لم يتفق الرواة على إسلام أحد من أعمام النبي غير حمزة والعباس وهما في مثل سنه، والعباس يكبرهما بنحو ثلاث سنوات.
ولكن لا خلاف على حمايته له، وحبه إياه، وصبره على عداوة قريش كلها في سبيل نصرته، ورد أذاهم عنه، وقد لقي في ذلك ما يطيق وما لا يطيق، وعظم عليه الخطب، وأشفق من مغبته عليه وعلى ابن أخيه، فقال له في ساعة من أشد ساعات الحرج: «أبق على نفسك يا بني ولا تحملني من الألم ما لا أطيق.» فحزن النبي وحسب أنه سيخذله، وقال له وهو يهم بمفارقته: «والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته.»
فلم يبرح النبي غير قليل حتى ناداه عمه وقال له وهو حزين لحزنه: «اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدا.»
وفي رواية ابن إسحاق: أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة وخرج معه علي بن أبي طالب مستخفيا من أبيه أبي طالب ومن جميع أعمامه وسائر قومه، فيصليان الصلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا، فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا، ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوما وهما يصليان، فقال لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
يا ابن أخي، ما هذا الدين الذي أراك تدين به؟ قال: «أي عم، هذا دين الله ودين رسله ودين أبينا إبراهيم، بعثني الله به رسولا إلى العباد، وأنت - أي عم - أحق من بذلت له النصيحة ودعوته إلى الهدى، وأحق من أجابني إليه، وأعانني عليه.» فقال أبو طالب: «أي ابن أخي، إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي وما كانوا عليه، ولكن - والله - لا يخلص إليك بشيء تكرهه ما بقيت.»
وقال ابن إسحاق: «وذكروا أنه قال لعلى: أي بني، ما هذا الدين الذي أنت عليه؟ فقال: يا أبت آمنت بالله وبرسول الله، وصدقت بما جاء به، وصليت معه لله واتبعته. فزعموا أنه قال له: أما إنه لم يدعك إلا إلى خير؛ فألزمه.»
وبر أبو طالب بقسمه، وحمل السيف في سبيل نجدته، وروى القرطبي أنه ناجز أبا جهل وجلة قريش في مجموعهم يوم اعتدى ابن الزبعرى عليه في صلاته. وكان النبي - عليه السلام - قد دخل الكعبة ليصلي كعادته، فقال أبو جهل: من يقوم إلى هذا الرجل فيفسد عليه صلاته؟ فقام ابن الزبعرى فأخذ فرثا ودما فلطخ به وجه النبي، وانفتل النبي من صلاته وقصد إلى عمه، فسأله عمه: من فعل هذا بك؟ قال: عبد الله بن الزبعرى، فقام أبو طالب ووضع سيفه على عاتقه ومشى معه حتى أتى القوم، فلما رأوه قد أقبل جعلوا ينهضون، فقال أبو طالب: والله لئن قام رجل لجللته بسيفي. فقعدوا حتى دنا منهم، وأخذ أبو طالب فرثا ودما فلطخ به وجوههم ولحاهم، وانصرف وهو يغلظ لهم القول.
وقد تكفل أبو طالب بالنبي في طفولته الباكرة، وصحبه في غدواته وروحاته؛ خوفا عليه من إساءة تمسه في غيابه، وانتوى السفر إلى الشام والنبي في نحو الثانية عشرة من عمره، فأشفق عليه أن يجشمه عناء السفر البعيد، ثم تهيأ للرحيل فتعلق به الغلام الودود وبكى لفراقه، فلم يقو على مفارقته وهو باك، وقال لصحبه: والله لأخرجن به معي ولا يفارقني ولا أفارقه أبدا.
ولقد كان الرجل الجليد يذكر أخاه كلما لمحت عيناه الغلام اليتيم فتشرق عيناه بالدموع، ويقول: ما أشبهه بعبد الله! وقد كان أبو طالب وعبد الله - كما تقدم - أخوين شقيقين، ولم يثبت قط أن هذا العم الكريم تخلى طرفة عين عن ابن أخيه، أو أحزنه بكلمة لا ترضيه من طفولته إلى أن جهر بدعوته، ولم يخالف هذا الإجماع - من أخبار أبي طالب والنبي - أحد من المؤرخين، حتى أولئك المفسرين الذين حسبوا أن أبا طالب هو المقصود بما جاء في القرآن في سورة الأنعام:
وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين * وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون [الأنعام: 25، 26].
فقد وهم أولئك المفسرون أن أبا طالب كان هو المقصود بهذه الآيات لأنه كان ينهي عن أذى النبي ولا يدين بدينه، ولم يكن أبو طالب ممن يلقون النبي ليجادلوه فيصدق عليه ذلك التفسير، وأوضح من خطأ هؤلاء المفسرين هنا ظنهم أن أبا طالب مقصود بعد وفاته بقوله تعالى في سورة القصص:
إنك لا تهدي من أحببت [القصص: 56]؛ فإن سورة الأنعام قد نزلت بعد سورة القصص كما جاء في كتاب الإتقان، فلا هداية ولا جدال ولا نهي عن أذى النبي بعد الوفاة.
وعلى الجملة تبدو لنا رعاية أبي طالب لابن أخيه - على الرغم من قريش - خلائق رحمة ونخوة ووفاء واعتداد بالجاه والكرامة، وتبدو لنا من سيرته كلها خلائق أخرى من قبيل هذه الخلائق التي تجمع بين الطيبة والقوة؛ فإننا نعلم أنه كان يلقب بسيد الأباطح، وأنه كان يخرج للتجارة آونة بعد أخرى، وأن أباه عبد المطلب كان على ثراء عظيم، وكان سادات بني أمية ينافسونه بالغنى والسخاء، فلا يدركونه في هذا ولا ذاك.
ثم نعلم على كل هذا أن أبا طالب قد لقي ضنكا في شيخوخته، وأن النبي قد أعانه بكفالة ابنه علي وتربيته في داره، ونعلم كذلك أن النبي لم يكن على حال من الوفر قبل اشتغاله بتجارة السيدة خديجة، ومشاركته في ربح أموالها، فمصير ابن عبد المطلب وحفيده إلى حال من القلة بعد غنى الجدود الأوائل قد ينبئ عن نصيب الأسرة النبوية من السدانة، ومن مناصب الدين في البيت المعمور، فأكبر الظن أنها كانت مغرما يأخذ من أموالهم، ولم تكن مغنما يربحون منه الكثير أو القليل، ولولا سعة التجارة التي عمل فيها هاشم والمطلب حتى قيل: إن أحدهما سن لقريش سنة الرحلتين إلى الشام واليمن لما وصل إليهما ذلك الثراء المشهور، ولا استطاعا النهوض بأعباء الشرف ومناصب الدين.
ولقد مر بنا من نجدة أبي طالب لابن أخيه ما تتم به فضيلة النجدة كاملة لهذا الشيخ الكريم، ولكنها كانت في الحق نجدة تتسع لكل قاصد ومستجير، ولو لم تكن حقوق ابن الأخ على عمه، فقد استجار به أبو سلمة صاحب بني مخزوم، فأجاره وأعلن على الملأ جواره، فمشى إليه رجال من بني مخزوم فقالوا: يا أبا طالب، ما هذا؟ منعت منا ابن أخيك محمدا، فما لك ولصاحبنا تمنعه منا؟ قال: إنه استجار بي وهو ابن أختي، وإن أنا لم أمنع ابن أختي لم أمنع ابن أخي.
فغضب أبو لهب في هذه المرة لأخيه الشيخ وثار بهم قائلا: يا معشر قريش، والله لقد أكثرتم على هذا الشيخ، ما تزالون تتواثبون عليه في جواره من بين قومه، والله لتنتهن عنه أو لنقومن معه في كل ما قام فيه حتى يبلغ ما أراد. فخشي زعماء قريش مغبة الوفاق بين الأخوين في النجدة والجوار - وكان أبو لهب معهم على رسول الله في دعوته - فقالوا: بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة. وانصرفوا راغمين.
وحكي عن هشام بن السائب الكلبي عن أبيه في رواية لا نثبتها ولا ننفيها: أن أبا طالب لما أحس الموت «جمع إليه وجوه قريش فأوصاهم فقال: يا معشر قريش، إني أوصيكم بمحمد خيرا؛ فإنه الأمين في قريش، والصديق في العرب، وهو الجامع لكل ما أوصيكم به، وقد جاء بأمر قبله الجنان، وأنكره اللسان؛ مخافة الشنآن، وايم الله كأني أنظر إلى صعاليك العرب، وأهل الوبر والأطراف المستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته، وصدقوا كلمته، وعظموا أمره، فخاض بهم غمرات الموت، فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا، ودورها خرابا، وضعفاؤها أربابا، وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه، وأبعدهم منه، وأحظاهم عنده، قد محضته العرب ودادها، وأصفت له فؤادها، وأعطته قيادها. يا معشر قريش، كونوا له ولاة، ولحزبه حماة، والله لا يسلك أحد سبيله إلا رشد، ولا يأخذ بهديه إلا سعد، ولو كان لنفسي مدة، ولأجلي تأخير؛ لكففت عنه الهزاهز، ولدفعت عنه الدواهي ...»
وهذه الوصية لا يثبتها القارئ لها على هذا الأسلوب إلا أن تكون لسان حال لا لسان مقال، وإلا أن يكون ما قيل بعض لفظها وبعض معناها، ولم يكن كل ما جاء فيها.
العباس وحمزة
وعمان آخران غير أبي طالب كانت لهما شهرة وصلة بالدعوة النبوية عرفنا منها بعض ما اتصفا به من صفات وكفايات، وهما: العباس وحمزة، وكلاهما أخ لعبد الله غير شقيق.
فالعباس على صغره تولى السقاية بعد أبيه، وامتاز بين سادات قريش بالرأي والدهاء وطول الأناة، وكان له علم بالأنساب، وقدرة على تألف الناس ودفع العداوات، مع هيبة يحسب لها حسابها جلة قريش من هاشميين وأمويين، وهو جد بني العباس، ومن خلائقه خلائق أبنائه الكفاة الدهاة من كل رئيس مطاع في هذا البيت الفريد بين بيوتات الهاشميين.
وحمزة فارس الفرسان في خلائق الفروسية كلها من شجاعة وصدق وإيمان ودراية بالسيف والخيل، قال ابن إسحاق في قصة إسلامه: «فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب - رضي الله عنه - أن أقبل متوشحا قوسه، راجعا من قنص يرميه ويخرج له، وكان إذا خرج من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم، وكان أعز فتى في قريش وأشد شكيمة، فلما مر بالمولاة - مولاة عبد الله بن جدعان - قالت له: يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفا من أبي الحكم بن هشام، وجده ها هنا جالسا، فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد
صلى الله عليه وسلم .
فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله به، من كرامته، فخرج يسعى ولم يقف على أحد، معدا لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع به، فلما دخل المسجد نظر إليه جالسا في القوم فأقبل نحوه، حتى إذا قام على رأسه رفع القوس، فضربه بها فشجه شجة منكرة، ثم قال: أتشتمه؟ فأنا على دينه أقول ما يقول، فرد ذلك علي إن استطعت. فقامت رجال من بني مخزوم لينصروا أبا جهل، فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة؛ فإني والله قد سببت محمدا ابن أخيه سبا قبيحا ...»
قال القوم: ما نراك يا حمزة إلا قد صبأت.
فقال حمزة: وما يمنعني وقد استبان لي منه ذلك ... أنا أشهد أنه رسول الله.
ومن أعمام رسول الله غير حمزة والعباس رجلان لم يسلما؛ وهما: الزبير وعبد العزى أبو لهب، وكلاهما كان يحتفي بالطفل الصغير ويدلله ويواليه بالسؤال عنه، وكان الزبير يرقصه بأبيات الشعر يرجو له طول العمر والنجابة، ووهب له أبو لهب جاريته ثويبة ترضعه وتخدمه في طفولته. ولا نعرف من أخبار الزبير ما ينبئ عن صفاته وكفاياته، وأما أبو لهب فالمعروف عنه - ولا سيما في علاقاته بابن أخيه بعد الدعوة - غير قليل.
كان بنو هاشم وبنو المطلب جميعا في نصرة النبي من آمن منهم به ومن لم يؤمن، ما عدا أبا لهب وبنيه، وفيه نزلت الآيات:
تبت يدا أبي لهب وتب * ما أغنى عنه ماله وما كسب * سيصلى نارا ذات لهب * وامرأته حمالة الحطب * في جيدها حبل من مسد [المسد: 1-5].
وتعليل هذا الشذوذ أنه من لوازم الأسر الكبيرة التي لا تشذ منها أسرة ذات خطر في التاريخ، فهو هنا القياس المطرد مع طبائع الأمور، كان من علله أنه يدعى بعبد العزى؛ يتعصب لها ويغضب أن يحسب أحد أمامه أن عبادتها مرهونة بحياته كما تقدم.
وكان من علله أنفة الكبير أن ينقاد للصغير، ولا ننسى أنها أنفة لا تستغرب في عشائر البادية، وعشائر الرئاسة منها على التخصيص، ومن استغربها فليذكر أن العباس وحمزة - عمي الرسول اللذين أسلما - كانا من لداته عليه السلام، إلا سنوات ثلاثا أو أربعا تقدم بها العباس، فكان لها أثرها في تأخير إسلامه سنوات.
وكان من علل ذلك الشذوذ أنه كان على حلف ومشاركة لبيوتات قريش كلها؛ لكثرة ماله وسعة تجارته وأعماله، وقد قال للنبي في مجمع الأسرة: هؤلاء هم عمومتك وبنو عمك، فتكلم ودع الصبأة، واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة، وأنا أحق من أخذك، فحسبك بنو أبيك، وإن أقمت عليه فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش وتمدهم العرب، فما رأيت أحدا جاء على بني أبيه بشر مما جئتهم به.
وفي مجلس آخر قال له أبو طالب: هؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم، غير أني أسرعهم إلى ما تحب، فامض لما أمرت؛ فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب.
قال أبو لهب : هذه والله السوءة؛ خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم. وانفض المجلس على غيظ يكظمه أبو لهب، وعهد يبرمه أبو طالب ويقول فيه مقسما: والله لنمنعنه ما بقينا.
وهذا هو الهوى الذي يزين لصاحبه أن يسوقه مساق الحكمة والحيطة، فيزعم أنه يدفع الشر عن ابن أخيه وعن قومه، ويجنبهم ما لا يطيقونه من جهاد العرب، وإنه في طويته ليأنف أن ينقاد لمن هو أصغر منه، ويخشى ما يصيبه من جراء انقياده لو سلست له كبرياؤه. •••
وليس من العلل التي تنسى في هذا المقام أنه كان زوجا لأخت أبي سفيان، وأن ولديه كانا متزوجين لرقية وأم كلثوم كريمتي رسول الله، وبين الزوجتين والزوجة إحن لا تهدأ، ولا تزال تتحين الفرصة للوقيعة والتفرقة والعداء.
وأيا ما كان من أبي لهب فهو الشذوذ الذي يستغرب ألا يكون، وليس بالغريب أن يكون!
وأشهر أبناء الأسرة من غير الأعمام ابن عمه الحبيب وابنه بالتربية: علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، وصفاته وكفاياته تأخذ من كل سيد من ساداتها بنصيب: شجاعة، وطيبة، وفهم، وإقبال على المعرفة، وإيثار للمعروف.
أسرة لا تخرج النبوة وما خرجت قط من خير منها.
ونشأة النبي - عليه السلام - فيها أصدق المقدمات التي قلنا: إنها مقدمات التمهيد والتحضير، إلا أنها كسائر المقدمات التي مهدت من جانب لتقيم المصاعب كلها من جانب آخر.
أسرة عزيزة الآباء والأجداد، فخرها بالنسب أعظم من كل فخر، وسيادتها بالخلائق الموروثة أثبت من كل سيادة، ثم ينشأ لها من بينها نبي ينعى على الآباء والأجداد ما كانوا عليه من ضلالة، وينكر من الأبناء أن يسلكوا مسلكهم، ويهيموا على آثارهم، ويقول لهم كما قال إبراهيم:
قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين [الأنبياء: 54].
ويهيب بمن آمن منهم:
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان [التوبة: 23].
ويدعوهم أن يتبعوا ما أنزل الله؛ لأن آباءهم لا يعقلون:
وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون [البقرة: 170].
لقد نشأ محمد في الأسرة التي تعطيه خير ما تعطي الأسر بنيها.
ولكنه جاءها بالنبوة التي لا يعطيها غير الله!
وكانت الأسرة تمهيدا له فيما ورث منها.
ولكنها وما ورثت من قومها هي عقبة الأرض التي تمهدها السماء.
الفصل التاسع
والدا النبي
تلك هي الأسرة العامة التي شملت الأجداد والأعمام، وللنبي صلوات الله عليه، مع هذه الأسرة العامة، أسرة خاصة من أبويه الشريفين: عبد الله وآمنة.
ولم يعقب لنا التاريخ كثيرا من أنباء هذين الأبوين الشريفين، ولكنه أعقب لنا ما فيه الكفاية لبيان أثرهما النفساني في وجدان ولدهما العظيم.
ندرت في أبوات العظماء أبوة كأبوة عبد الله بن عبد المطلب، ونكاد نقول: إنها مرت بغير نظير فيما وعيناه من تواريخ الأنبياء والهداة من كل قبيل.
فتى لم يكد ينجو من الموت ذبيحا حتى مات بعيدا عن زوجه التي فارقها عروسا، وعن ولده الذي لم تره عيناه.
لكأنما وجد هذا الفتى في الدنيا ليعقب ذرية تريدها العناية الإلهية، ثم يتركها في كلاءة تلك العناية لقدر لا تغني فيه عناية الآباء.
وفي تاريخ الأنبياء أب عاش حتى شهد بعثة ابنه فأنكرها، وتواطأ مع قومه على خذلانها، فبقيت ذكراه خيبة أمل وحيرة لمن يجل الدعوة ويجل إبراهيم.
فأما هذه الأبوة فالرحمة فيها تملأ مكان الخيبة، والبر بالذكرى يملأ مكان الحيرة، ويتطلع وراءه إلى الأسى على الفقيد، والعزاء للوليد الوحيد.
وحياة لا تشبع سجل الحوادث والخطوب، ولكن النفس تشبعها بما يعوضها عن حوادثها وخطوبها حبا سابغا، وجمالا يفتن فيه الحس والخيال.
وهذا الذي صنعته بديهة الحياة الصادقة، فلم تدع سيرة عبد الله حتى أودعتها من الخواطر والأماني ما تزدحم به أعمار طوال، فما تمناه له المحزونون على صباه وتقواه يفيض في جوانب سيرته حتى تمتلئ به مائة حياة.
قيل في بعض ما قيل من هذه الخواطر والأماني: «إنه لما انصرف مع أبيه بعد أن فداه بنحر مائة من الإبل لرؤيا رآها، مر على امرأة كاهنة متهودة قد قرأت في الكتب يقال لها: فاطمة، فقالت له حين نظرت إلى وجهه - وكان أحسن رجل في قريش: لك مثل الإبل التي نحرت عنك، وأبذل لك نفسي؛ لما رأت في وجهه من نور النبوة، ورجت أن تحمل بهذا النبي الكريم
صلى الله عليه وسلم ، فأجابها بقوله:
أما الحرام فالممات دونه
والحل لا حل فأستبينه
فكيف بالأمر الذي تبغينه
يحمي الكريم عرضه ودينه
ثم خرج به عبد المطلب حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة وهو يومئذ سيد زهرة نسبا وشرفا، فزوجه ابنته آمنة وهي يومئذ أفضل امرأة من قريش نسبا وموضعا، فحملت برسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ثم خرج من عندها فمر بالمرأة التي عرضت عليه ما عرضت، فقال لها: ما لك لا تعرضين علي اليوم ما عرضت بالأمس؟ فقالت: فارقك النور الذي كان معك، فليس لي بذلك اليوم حاجة؛ إنما أردت أن يكون النور في، فأبى الله إلا أن يجعله حيث شاء.»
وفي أسانيد ابن هشام: أن عبد الله «إنما دخل على امرأة كانت له مع آمنة بنت وهب، وقد عمل في طين له، وبه آثار من الطين، فدعاها فأبطأت عليه لما رأت به من أثر الطين، فخرج من عندها فتوضأ وغسل ما كان به، ثم خرج عائدا إلى آمنة، فمر بامرأته الأولى فدعته فلم يجبها، وعمد إلى آمنة فحملت بمحمد
صلى الله عليه وسلم ، ثم مر بامرأته تلك فقالت له: مررت بي وبين عينيك غرة بيضاء فدعوتك فأبيت».
قال إسحاق بن يسار صاحب الخبر: «فزعموا أن امرأته تلك كانت تحدث أنه مر بها وبين عينيه غرة مثل غرة الفرس، قالت: فدعوته رجاء أن تكون لي، فأبى علي، ودخل على آمنة فحملت برسول الله ...»
وجاء في غير خبر أن فتيات مكة ذهبت بهن الحسرة لزواج عبد الله من آمنة، وكانت كل فتاة منهن تتمناه زوجا لها؛ لجماله وتحدث الناس بفدائه.
وفي كل هذه الأخبار قسط من الصحة لا نهمله، ولا نسوي بين رواية السير له وبين خلوها منه، فإن مجيئه في السير يثبت لنا معنى صادق الدلالة وإن يكن غير معناه المقصود، يثبت لنا لونا من شعور الناس بصاحب السيرة، ولونا من تعبيرهم عن ذلك الشعور، ومن كان هذا المعنى لغوا عنده فخير له أن يتجنب السير والتواريخ.
وأما حكم الواقع على حدوث الخبر، فحسبنا فيه حكم القرآن الكريم الذي يبطل علم الكهان بالغيب، كما ينكره على أعوانهم من الجان، وفي سورة سبأ عن سليمان بن داود - عليهما السلام:
فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين [سبأ: 14].
والقرآن الكريم يقول في غير موضع إنه لا يعلم الغيب إلا الله، ويقول بلسان النبي: ولا أعلم الغيب؛ فلا كاهن يعلم من أمر الدنيا سرا من أسرار الغيب؛ فضلا عن أمر النبوة والرسالة، والكاهنة التي تريد أن تحمل بنبي لا يخطر لها أن تحمل به سفاحا، فيقول لها عبد الله:
أما الحرام فالممات دونه
والحل لا حل فأستبينه
وأما أن تكون زوجة ثم لا ترى من زوجها تلك الغرة قبل ذهابها، ثم تأبى معاشرته بعد ذهابها، فليس مما يجوز تصديقه من شئون الزواج.
فالقصة كلها وما شابهها من القصص رغوة وزبد، وزبدتها جمال عبد الله، وأسى النفوس لما فات ذلك الجمال في عنفوان صباه.
ولا نكران لما كان عليه عبد الله من الوسامة والوضاءة وغضارة الشباب، سواء حفظت لنا السيرة قصة من تلك القصص أو جاءتنا غفلا منها، فقد حفظت لنا رؤية العيان أنه كان وإخوته يطوفون بالكعبة مع أبيهم فيأخذون الأبصار، ولم يصف الواصفون بني هاشم بدمامة أو معابة في الخلق والصورة، حتى فيما وصفهم به الشانئون وطلاب العيوب ... •••
وفيما وصل إلينا من سيرته قصة غير تلك القصص لا قبل للمبالغة وحدها بأن تخلقها؛ لأنها تحتاج إلى افتنان في وصفها، وتحتاج - مع الافتنان - إلى مصلحة مفروضة تدعو إلى اختلاقها، أو علة من العلل المعروفة تفسر لنا ذلك الاختلاق.
وتلك هي قصة النذر التي أوردناها في الكلام على الكعبة، وهي تقوم بديوان جامع من القصص للتعريف بخلائق عبد الله.
وليس يكفي في معيار النقد التاريخي أن يكون اختراع القصة ممكنا ليقال: إنها مخترعة؛ فإن اتهام كل خبر بالاختراع لأنه يجوز أن يخترع يسقط أخبار التاريخ كله في الزمن القديم وفي الزمن الحديث، وإنما يظن الاختراع بالخبر لمسوغ يدعو إلى الشك فيه، ولمصلحة توجب اختراعه، وتضطرنا اضطرارا إلى نفيه على ثقة أو على ترجيح.
وهذه القصة بعينها ينبغي قبل نفيها أن نعرف مصلحة المسلم أو الجاهلي في اختراعها وإلصاقها بعبد المطلب وعبد الله، فقد قيل: إنها اخترعت لتصوير عبد الله أبي النبي في صورة الذبيح إسماعيل، وقيل: إنها لم تظهر في الجاهلية قبل البعثة الإسلامية.
فهل من مصلحة مسلم أن يختلق القصة ليقول: إن جد النبي أوشك أن يذبح أباه قربانا للأصنام؟
وهل من مصلحة جاهلي أن يبدع الافتنان في القصة، وفي وسيلة الخلاص من الفداء؛ لينكر على سدنة الكعبة قدرتهم على استخبار أربابها، ويرجع بالفضل في الوسيلة والاستخبار إلى كاهنة خيبرية تفتي لهم في شئون عباداتهم وأبنائهم، حيث يعجزون عن الفتيا وهم مفتقرون إليها؟
ولم هذا التخصيص بعبد المطلب وعبد الله؟ ومن الذي كان عنده من قدرة الافتنان في القصص مثل هذه القدرة، ثم خفي أمره، ولم تأت منه أفنونة مثلها في زمانها؟
وهناك مسوغ آخر للظن يبدر إلى الذهن إذا كانت هذه القصة قد حدثت لأحد قبل عصر عبد المطلب ثم نقلت إليه، كما حدث كثيرا في القصص المتكررة التي تروى عن أناس متفرقين، ولكن هذه القصة بذاتها لم ترد بها الرواية في بلاد العرب أو غيرها عن أحد غير عبد الله، وليست هي مما يوضع في بلاد لم تعهد السهام وضرب القداح، والفداء بالإبل، والتقرب إلى كعبة تجمع الأصنام من هبل إلى نائلة إلى إساف. فلماذا اخترعت في بلاد العرب وخص عبد الله باختراعها عليه؟
إن لم تكن هناك شبهة من هذه الشبهات ومسوغ من هذه المسوغات فقبول القصة أولى من رفضها، وتأليفها على هذا الافتنان لغير قصد معلوم أصعب من وقوعها، وقد تساق في معرض ترجيحها وتداولها إلى منتصف القرن الأول للهجرة رواية للطبري يقول فيها بعد سند متصل: «إن ابن عباس سألته امرأة أنها نذرت ذبح ولدها عند الكعبة، فأمرها بذبح مائة من الإبل، وذكر لها هذه القصة عن عبد المطلب، وسألت عبد الله بن عمر فلم يفتها بشيء بل توقف، فبلغ ذلك مروان بن الحكم وهو أمير على المدينة فقال: إنهما لم يصيبا الفتيا. ثم أمر المرأة أن تعمل ما استطاعت من خير، ونهاها عن ذبح ولدها، ولم يأمرها بذبح الإبل، وأخذ الناس بقول مروان.»
والحق بين رفض القصة وقبولها أنه لا موجب لرفضها، وليس في قبولها ما يخالف مألوفا من مألوفات زمانها، وقد كان نذر عبد المطلب طلبا عزيزا من الإله يبذل له فديته، وكان الوفاء من فضائله المأثورة، وكان مع الوفاء بالنذر إيمان بسوء العقبى، وحذر من أن يصيب الجزاء أبناءه جميعا، فليس في هذا الوفاء خليقة تختلق؛ لأنها فوق طاقة الإنسان.
ومن ارتضى قصة النذر هذه فنصيب عبد الله عنده أعظم من نصيب أبيه؛ لأنه سلم حياته فدية لإخوته، ولم ينكص عن طاعة أب وطاعة رب، ومن يفعل ذلك ينبئ عن إيمان قوي بالواجب، وإقدام على الموت في ريعان الشباب، وقد كان له أن يتمحل المعاذير فلا تعوزه الحيلة، فكأي من رجل لا ينكر الدين ولا يمرق منه إذا سامه الدين ما يعز عليه، لم تتعذر عليه الحجة للتحلل من فرائضه، والاجتراء على أوامره ونواهيه.
على أن الملاحظة التي تستوقف النظر من أمر هذه الأسرة القوية المباركة: أن أخبارها المتناثرة التي ترسل إرسالا في المناسبات المتفرقة أدل عليها من الأخبار التي تنتظم في مناسبة واحدة، وتحتمل مظنة الوضع والتأليف. ومهما تتناثر الأخبار عن أحوالها في الجاهلية تخلص بنا إلى خصلة ملحوظة في جميع هذه الأخبار، وهي «النظام» الذي تتوخاه في معاملاتها وعلاقات أفرادها على البديهة بغير تدبير مقصود.
فمن هنا كلمة ومن هناك خبر ، ومن جوانب شتى أحاديث وروايات، وكلها ينطبع بهذا الطابع بغير شذوذ حتى حين ينتظر الشذوذ ولا يستغرب، فأبو لهب نفسه - وهو الخارج على إجماع الأسرة - يأبى في مجلس قريش أن يسام أخوه الكبير - أبو طالب - ما لم يتعوده من الطاعة والتوقير، ويحضر مجلس الأسرة فلا يزيد على كلمة يقولها حين يسمع من أخيه أنه ينصر محمدا، ولا يستمع فيه لملامة بعيد أو قريب، ثم ينصرف من المجلس وهو كظيم.
أما في سائر مجامع الأسرة فالطاعة والتوقير سنة لا يخالفها صغار الأسرة في مجالس كبارها، فإذا جلس عميدها جلسوا وراءه وصمتوا في حضرته، لا يبدءون بالكلام إلا أن يدعوهم إليه. ومن هنا عجبهم أن يقبل الغلام اليتيم إلى مجلس جده فيقصد إليه ويجلس إلى جواره، وهم مع علمهم بإشفاق الجد عليه وتدليله إياه يستدعونه إليهم ليجلس معهم، حتى يأمرهم الجد فيسكتوا عنه وهم لا يقلون إشفاقا عليه.
ومن نظام الأسرة أن عبد الله خرج بعد زواجه مع أول قافلة حان موعدها، ولم يتخلف عامه ذاك إلى عام قابل، وهو لما يفرغ من عرسه الذي كان خليقا أن يطيله تلهف أبيه وآله على حياته بعد اليأس منه في قصة النذر المشهور، فخرج مع القافلة ولما ينقض على زفافه أسبوعان على أرجح الأقوال.
ولا شيء أشبه بالواقع المنظور في قصة زواج عبد الله بعد الوفاء بنذره واستبقاء حياته؛ فإن أباه - لا جرم - قد امتلأت نفسه زمنا بشبح الموت يطيف بولده الحبيب إليه، فليس أقرب إلى خاطره من تعويض ذلك الشعور الجاثم على صدره بالاطمئنان على بقاء فتاه، والغبطة بدوامه ودوام ذريته من بعده، ولا سيما الدوام بعد النذر الذي كان مبعثه تعبير الشانئين بقلة الذرية، وابتئاس الأب خوفا من انقطاع العقب مع ولد وحيد.
واختار الأب زوجة عبد الله من بني زهرة أحلاف بني هاشم والمطلب في كل خلاف: زوجه آمنة بنت وهب أعرق بني زهرة نسبا، وأكرمها محتدا، ومدره العشيرة كلها في مجامع قريش، وينتهي نسبه لأبيه وأمه إلى عبد مناف، وقد فخر رسول الله بانتسابه إلى هذه الأمومة فقال: «أنا ابن العواتك من سليم.»
روى الإمام أبو نعيم الحافظ في كتاب دلائل النبوة بعد إسناد متصل: «أن عبد المطلب قدم اليمن في رحلة الشتاء فنزل على حبر من اليهود، قال: فقال لي رجل من أهل الديور - يعني أهل الكتاب - يا عبد المطلب، أتأذن لي أن أنظر إلى بعضك؟ قال: نعم، إذا لم يكن عورة، قال: ففتح إحدى منخري فنظر فيه، ثم نظر في الآخر فقال: أشهد أن في إحدى يديك ملكا، وفي الأخرى نبوة، وأنا نجد ذلك في بني زهرة؛ فكيف ذلك؟ قلت: لا أدري! قال: هل لك من شاغة؟ قلت: وما الشاغة؟ قال: الزوجة! قلت: أما اليوم فلا، قال: فإذا رجعت فتزوج فيهم. فرجع عبد المطلب فتزوج هالة بنت وهب بن مناف بن زهرة، فولدت حمزة وصفية، ثم تزوج عبد الله بن عبد المطلب آمنة بنت وهب، فولدت رسول الله، فقالت قريش حين تزوج عبد الله بآمنة: فلج - أي فاز - وغلب عبد الله على أبيه.»
وهذا مثل من الأخبار التي لا تثبت على النظر وتبنى على حقيقة ثابتة، وهي اتصال النسب بين آل عبد المطلب وآل وهب، واتصال البيتين في الحياة الزوجية لما كان من الاتصال بينهما في الحياة العامة، ولم يأت هذا الاتصال القديم بنبوءة من ناسك في اليمن تنكشف من النظر في منخرين.
انتقل عبد الله بعروسه من حي وهب إلى حي عبد المطلب بعد أيام العرس، فلم يطل فيه البقاء إلا ريثما أذن مؤذن القافلة بالرحيل.
ولم يعد من رحلته تلك إلى داره؛ فإنها كانت الرحلة الأخيرة لكل راحل أو قاعد في هذه الحياة؛ رحلة من ظاهر الأرض إلى جوف الضريح.
وولد النبي - عليه السلام - بعد موت أبيه على أشهر الروايات، فأرضعته أمه وأرضعته معها ثويبة جارية عمه أبي لهب، ثم عهد به إلى حليمة بنت ذؤيب تستتم رضاعه في بادية قومها بني سعد على سنة العلية من أشراف مكة، يبتغون النشأة السليمة واللغة الصحيحة بعيدا من أخلاط مكة وأهوائها. ولم يكن الطفل اليتيم على يسار؛ لأن أباه مات في مقتبل الشباب، ولكن أسرة أبيه وأسرة أمه تكفلتا بنشأته كما ينشأ أبناء السراة من قريش، فأخذته المرضعة بعد تردد، ثم أعادته إلى مكة قبل أن يبلغ الثالثة؛ لأنها سمعت من ابنها أن أخاه القرشي قد صرع وهو معه، وأن رجلين أخذاه فإذا هما يشقان بطنه ولا يزالان يسوطانه، فلما ذهبت إليه حيث تركه ابنها وجدته قائما ممتقع الوجه، فبادرت به إلى مكة مخافة عليه، وطلبت إليها أمه أن تعود به إلى البادية؛ تخشى على الطفل من هواء البلد، ولا تخشى عليه من ذلك الخطر الذي خشيته المرضع الرءوم، بعدما سمعته من ابنها ورأته من امتقاع لون الوليد القرشي، وقيامه منفردا في الخلاء.
فلما عادت به إلى البادية أتم رضاعه فيها، ولبث معها إلى الخامسة أو قبلها بقليل، وتكلم وجرى لسانه بالعربية الفصحى وهو بين بني سعد. فذاك فخره بعد النبوة إذ يعجب الصحابة من فصاحته، فلا يرى عليه السلام عجبا في فصاحة عربي نشأ في بني سعد، وتربى في الذؤابة من قريش. •••
ولم يكد الصبي يطمئن إلى جوار أمه بعد عودته من البادية حتى فقدها وهما في زيارة لقبر أبيه بالمدينة.
وما كان قد بقى في الدنيا للفتاة الأيم غير هذا الصبي وذكرى أبيه الراحل في غربتين: غربة الموت وغربة المكان.
فخرجت به ضيفا تزور الفقيد الراحل في مثواه وتحسبه مشوقا تحت طباق الأرض إلى رؤية الوليد الذي لم تبصره عيناه تحت شمس النهار.
وكذلك تزير الوليد اليتيم أباه.
فلما قضت حق الزيارة ولبثت في جيرة أخوال عبد الله شهرا أو بعض شهر، قفلت بوليدها راجعة إلى مكة، فماتت ودفنت في الطريق.
وكل ما وعته السيرة من مرضها أنها وعكت من لفحة السموم، فلم تطل بها الوعكة غير أيام. •••
ومن اليسير أن نعلم وقع هذه الفاجعة في نفس الصبي اليتيم يتجدد له مصابه في أبيه، فلا يكاد يبرح ضريحه حتى يقف على ضريح أمه مهجورا في عرض الطريق.
إلا أن هذه الفاجعة بما تدل عليه أهم في دراستنا هذه مما خلفته في نفس الصبي الصغير.
مصابه في أبيه ومصابه في أمه، ولم يزل صبيا صغيرا حين أطبق عليهما مصابه في جده الذي ضمه إليه بعد فقد أبويه.
لو نفس صغيرة تتابعت عليها هذه الضربات في صباها لسحقتها واستنزفت كل ما حوته من عطف وأمل، فلا تعيش - إن عاشت بضرباتها - إلا كما يعيش الأشباح في ظلمات الحياة.
فإذا وجبت لنا وقفة عند هذه الضربات التي تلقاها الصبي، فأول ما نقف لديه وأولاه بالوقوف الطويل أنها دلالة على القوة في مكمنها، وعلى الروح العظيم الذي تجلي بعد ذلك في تاريخ بني الإنسان كفؤا لأعظم الأعباء، وأفدح الخطوب.
وتلي ذلك وقفتنا أمام العطف الذي أفادته تلك النفس القوية من ضربات تسحق ما دونها، وتنزف منها كل عطف وأمل.
وقد خرج الصبي من تلك الضربات القاصمة بالعاطفة الزاخرة التي تشمل العالمين: عالم الحياة وما بعد الحياة، مذ كان أحب الناس إليه في عالم آخر لا تبديه له هذه الحياة، وجاءت بعثته إلى الناس كافة باسم الله الرحمن الرحيم.
ولعله أول فتح أطل عليه من فتوح عالم الغيب؛ فاستمد منه بعد ذلك قوته التي دان لها هذا العالم المشهود.
دنياه بعد ذلك أوسع من دنيا الناس، وأعم من دنيا الأحياء، وحاجز الموت عنده برزخ تتصل به الدنيا والآخرة، ويعيش فيه الحي والميت، ولا ينتقل فيه الخلق في دنياهم ليهلكوا آخر الدهر، بل ليعيشوا آخر الدهر خالدين.
وقليل في جنب هذا فائدة العطف الذي عهدناه من صباه إلى ختام حياته يحيط به كل إنسان، وكل حي، وكل شيء، وإنما يترجم عنه عطفه على حاضنته، وعلى مرضعته، وعلى كل باق من بقايا أمه وأبيه، ولم يزل يترجم عنه عطفه الذي لم يحرمه أحد قط من صاحب أو صديق. •••
ولا ندع الكلام على الأسرة النبوية وفي الخاطر سؤال توحي إلينا أن نسأله، وأن نجيب عنه ما استطيع الجواب.
لقد مات عبد الله وآمنة ولما يجاوزا الخامسة والعشرين، ولا يكون الموت في هذه السن إلا علامة على الضعف والهزال إن لم يكن من مرض يستنفد الأجل في عنفوان الشباب.
فهل كان محمد - عليه السلام - سليل أبوين ضعيفين هزيلين؟
إن لم تكن غرابة الالتقاء بين الأبوين على هذا الضعف كافية لدفع هذا الظن، فلا حاجة إلى دافع له غير حياة الوليد بما استوفته من قوة الروح وقوة الجثمان.
وقد سأل أناس من كتاب الغرب هذا السؤال، وخيل إليهم أنهم وجدوا جوابه في قصة الصرع المزعوم قبل الفطام، وفيما كان يعروه من برحاء الوحي التي وصفها الأقربون منه، وأيسرها أنه كان عليه السلام يرعد ويضطرب ويتقاطر منه في اليوم الشاتي عرق كحب الجمان.
وعجيب أن يصاب الإنسان بصرع لا يعروه غير مرة واحدة في سن الرضاع، ثم لا يعاوده مرة أخرى إلى قرابة الأربعين.
وأعجب منه أنه يصاب به بعد الأربعين في حال واحدة؛ حين يتلقى الوحي، ثم لا يصاب به مرة في غير تلك الحال.
ولكنه ليس بالعجيب أن تجيش بنية اللحم والدم من أعماقها في غاشية كغاشية الوحي كائنا ما كان قوام البدن الذي تغشاه.
ولا نعلم أن أحدا من الأنبياء وصف لنا كما وصف محمد - عليه السلام - في كل لمحة من لمحاته، وفي كل حركة من حركاته، وفي يقظته ورقاده، وفي حديثه وصمته، وفي جلوسه ومسيره، وفي ركوبه وارتجاله، فلم تكن له صفة قط في كل أولئك غير صفة البنية السوية، والخلق القويم.
كان باتفاق جميع واصفيه فوق المربوع بعيد ما بين المنكبين، غزير الشعر، تلمس جمته شحمة أذنيه، شثن الكفين والقدمين، ضخم الكراديس - أي ملتقى العظام - ولم يكن بالمطهم ولا بالمكلثم، أدعج العينين، أهدب الأشفار، إذا مشى تقلع كأنما ينحط من صبب، ذريع الخطوة، سائل الأطراف.
1
والنطق أبين عن حالات الصرع من سائر الصفات، وما وصف منطق النبي بشيء ينم على اضطراب في عصب أو في عضل، أو ينبئ عن عرض من الأعراض غير سليم أو قويم: كان ضليع الفم، يتكلم بكلام بين فصل مفسر، إذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا تحدث اتصل بها - أي صحب كلامه بما يوافقه من حركتها - وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جل ضحكه التبسم، ليس بصخاب ولا يرتفع له صوت في غير دعاء.
وهذه صفات كلامه من أكثر من عشرين مصدرا جمعها أبو عيسى الترمذي، صاحب الشمائل المحمدية، ولم يأت بين ثناياها مساغ اشتباه في عرض من أعراض خلل الصرع والاضطراب؛ بل هي كلها توكيد للمنطق السليم والخلق القويم. •••
الله أعلم حيث يجعل رسالته.
وقد جعلت رسالة محمد حيث ينبغي أن تكون - خلقا وخلقا - من ميراث الزمن وميراث الأجداد والآباء، فكل خلق وصف به فهو الصالح لأداء رسالته والنهوض بأمانته. إن تكن ضريبة من ضرائب العظمة الكبرى - ولا بد لها من ضريبة - فتلك هي النقص في نسله؛ ليستوفى التمام من أمر هذه الذرية الباقية إلى يومنا، وبعد يومنا، جامعة واعية لكل تابع من تابعيه، وكل مولود له في عالم الضمير من بنيه وغير بنيه.
وإنه لعلى خلق عظيم.
وإنه لعلى خلق قويم.
الفصل العاشر
نتيجة النتائج
ونتيجة النتائج من مقدماتها جميعا: أن حوادث الدنيا وحوادث الجزيرة وحوادث الأسرة قد مهدت سبلا شتى للرسالة المحمدية، ولكنها مهدتها لتأتي الرسالة بعدها فتثور عليها، وتنكث غزلها، وتعيدها على العالم الإنساني في نسج جديد.
يتيم في غير ذلة.
عزيز في غير قسوة.
يرث الكعبة ولكنه يهدم أربابها، ويرث الأريحية من يقين بني هاشم، ولكنه يغير مجراها، ويرث العصبية في أقواها وأمنعها، ولكنه يقودها إلى عصبية واحدة تضم إليها العرب والعجم، وتؤمن برب واحد هو رب العالمين.
وجائز أن يكون صاحب الرسالة قد عرف في صباه كل دين من أديان الجزيرة العربية، ولكنه ليس بالجائز أن تعلمه كيف ينكر أخطاءها، ويقوم التواءها، ويرتقي بها من أوشاب الشرك إلى صفاء التوحيد.
مهدت له الدنيا طريقا، ولكنه هداها إلى غير تلك الطريق.
فهما تمهيدان يتلاقيان ويفترقان: تمهيد من قوانين الكون، وتمهيد من العناية الأزلية، وحيث ينهض رجل واحد بما يأباه قومه، ويأباه معهم أقوام زمانه، فليست هي بإرادة إنسان، ولكنها إرادة الله، وما هي بقدرة أحد أو آحاد، ولكنها قدرة الخالق فيما خلق، يوليها من يشاء حيث شاء.
Bilinmeyen sayfa