وشتان - مع هذا - النقائض التي يستدعيها العقل، ويبحث عنها إذا تفقدها فلم يجدها، والنقائض التي يرفضها العقل ولا موجب لها من الواقع ولا من الفكر السليم.
فهذه النقائض التي تحاول أن تشككنا في وحدة اللغة العربية قبل الإسلام يرفضها العقل؛ لأن قبولها يكلفه شططا، ولا يوجبه بحث جدير بالإقناع.
فمما يتكلفه العقل إذا تقبلها أن يجزم - كما تقدم - بانقطاع عرب اليمن عن داخل الجزيرة كل الانقطاع، وأن يجزم ببقاء لغة قحطانية تناظر اللغة القرشية في الجيلين السابقين للبعثة المحمدية غير معتمد على أثر في ذاكرة الأحياء، ولا في ورق محفوظ، وأن يلغي كل ما توارثه العرب عن أنسابهم وأسلافهم، وهم أمة تقوم مفاخرها وعلاقاتها على الأنساب وبقايا الأسلاف، وأن يفترض وجود الرواة المتآمرين على الانتحال بتلك الملكة التي تنظم أبلغ الشعر، وتنوعه على حسب الأمزجة والدواعي النفسية والأعمار، وأن يفهم أن القول المنتحل مقصور على الأسانيد العربية، مبطل لمرجعها دون غيرها من مراجع الأمم التي صح عندها الكثير مما يخالطه الانتحال والكذب الصريح.
ومن النقائض التي يستدعيها العقل ويستلزمها، ويتخذ منها حجة الثبوت الواقع في جملته أن يحدث الاختلاف في الرواية، وأن يتعذر فيها الإجماع بين الرواة؛ فإن العقل لا يصدق الأقاويل التي يتفرق رواتها، ويطول العهد عليها، ويعول أصحابها على الذاكرة والإسناد، ثم تأتي متفقة في الجملة والتفصيل، ولا تتعرض مع الزمن وعوامل الأهواء للاضطراب والحذف والإضافة عن قصد، أو بفعل النسيان والإهمال.
فاختلاف الرواة إذن سبب من أسباب التصديق، واتفاقهم يدعو إلى الشك أو التكذيب.
وقد نسمع النقيضين في هذه الحالة فنرفضهما، ولا نرفض لباب الخبر ومغزاه؛ فقد سمعنا أن عمرو بن كلثوم أو الحارث بن حلزة ألقى قصيدته في وقفة واحدة، وسمعنا أن زهير بن أبي سلمى كان ينظم قصيدته في الحول، وتسمى قصائده من أجل ذلك بالحوليات، وقد نسقط هذه المبالغة كما نسقط تلك، ولا يلزم من ذلك أن نسقط الشعر الذي بولغ في وقت نظمه بين أقصى الطرفين.
وربما وقفنا على روايتين نصدقهما الآن عند النظر إلى الحقائق العصرية، ونعلم أن تلفيقهما في الزمن الماضي جد عسير ولو أراده الملفقون، فمما يروى عن امرئ القيس أنه تعجب من إعراض النساء عنه مع وسامته ومكانته، وسأل إحدى النساء في ذلك فقالت له: نعم، ولكن لك عرقا كأنه عرق كلب. ثم نقرأ أخبار وفاته فنعلم منها أنه أصيب قبل موته بقروح تساقط منها جلده، وسمى الحلة التي كان يلبسها من أجل ذلك بذات القروح.
ومؤدي الروايتين معا أن الشاعر كان على استعداد للمرض الجلدي لفساد رائحة العرق الذي يفرزه، وأنه لم يزل حتى استشرى به الفساد في رحلته القصية، فظهر في تلك القروح، ويقترن ذلك بنوادره مع النساء المعرضات عنه، وغلبة الشاعر علقمة عليه في عيني امرأته، فلا يسهل على الناظر في جميع هذه الأخبار أن ينسب تلفيقها عمدا إلى راوية واحد، ولا يسهل عليه أن يتلقاها متفرقة ثم يجردها من الدلالة التي تربط بينها على غير علم من الرواة المتفرقين.
وربما كذب الكثير من أخبار طرفة، ولم تكذب قصيدته التي تنم في جملتها على خلائقه التي تنوب عن تلك الأخبار، وتغنينا عن محاسبة الرواة على التصديق أو على التكذيب.
وهذه القرائن الأدبية هي التي يغفل عنها المستشرقون ولا يفطنون لها؛ لأنهم ينظرون في النصوص والإسناد، ولا ينظرون في الأدب، ولا في روح الكلام ومضامين التعبير، ومنهم من لا يعرف أدب بلاده، ولا يحسن الحكم عليه، وهو أدب اللغة التي تلقنها في حجر أمه، فليست معرفته باللغة العربية كافلة له أن يحكم على آدابها وأساليبها ومضامين الكلام على تعدد الأمزجة والأذواق، ومنهم علامة تصدى لوضع المعجمات الكبرى في اللغة العربية، فكتب في مادة «أخذ» أنها تأتي بمعنى نام؛ لقوله تعالى:
Bilinmeyen sayfa