ثم ساق السيد يحيى - رحمه الله - من هذا وأمثاله إلى أن قال: ولما بلغ التكليف، وكمل عقله الشريف، وتوفي والداه - رحمة الله عليهما وعليه وعلينا معهم- ضرب أكباد المطي بالارتحال إلى صنعاء اليمن ليرقى إلى درج الكمال، فأناخ مطي سفره بعقوة(3) من استنار بعلمه، واستصبح بمصباح حكمته وفهمه، إمام أهل الشريعة المحمدية وسلطان علماء الحقيقة الربانية، السجاد في الليالي، والبكاء في صلواته من خوف البارئ، حاتم بن منصور الحملاني - قدس الله روحه - في الجنان - فحلق(4) عليه في الفقه مدة من الزمان، حتى حصل الفائدة من فقه آل محمد - عليه وعليهم السلام - قدر عشر سنين، فظهرت فائدته فحلق عليه، وأقرى فيه برهة من الزمان، وقرأ في الفرائض على الشيخ الأجل الخضر بن سليمان الهرش، حتى برز فيها على مشائخه، سمعت من القاضي العالم أحمد بن محمد الشامي - رحمة الله عليه ورضوانه - قال: ما في الجيل واليمن أفرض من إبراهيم بن أحمد سيما في الجبر والمقابلة، وسمعته يوما قال: يمكنني أن أفهم ما في هذه البركة من أرطال الماء بالمساحة، وطالت صحبته مع الشيخ الخضر، ولم يفترقا حتى الممات، حجا معا سبع سنين، وتوفي خضر في البحر، ودفن في جزيرة، وأوصى إلى إبراهيم بكتبه. ثم إن إبراهيم اتخذ صنعاء مسكنا؛ لأنها مجمع الفضلاء، فسكن في درب الفقيه أحمد بن حميد الآتي ذكره، وكان يتكسب على من يجب عليه ثم على إخوانه في الله تعالى بالتجارة، وكان يسافر إلى مكة المشرفة، وكانت له عجائب في تجارته من الصدق، حتى كان يقول للمشتري: انظر في السوق لعل فيه أحسن من سلعتي(1)، قال السيد يحيى: فلما انتهى في التجارة على هذه الصفة المحمودة والسيرة المفقودة، وجمع مع علمه مالا من حله، وعاد به على إخوانه وأهله بقصده الحسن وببركة البيت العتيق الراحض(2) للفقر والمحن، لحظته عين الرحمة من رب العباد، وأدركته عناية القرب والوداد، وقرأ كتاب الله بالتدبر والخشوع، فعند ذلك وجل قلبه، ولبس سرابيل أهل الورع، وخالط أهل الخوف والعبادة، وقلق منه الوضين(3)، واستوحش من كل صديق أمين(4)، حتى شرب من عين الحياة شرب الهيم، وراض نفسه حتى كأنها حبة مقلاة وريشة في فلاة، فشرب بالكأس الروية، وعكف على خدمة مولاه بالجارحة والروية، سمعته يوما يقول: أنا وقلبي في علاج أريده لا يدخل إليه شيء /20/ إلا لله تعالى. ولا يخرج منه شيء إلا لله تعالى، قال السيد: ولقد سمعته مرارا يحاسب نفسه فأظن معه رجالا معه يحاسبونه، قال لي يوما: لو أعطيت الدنيا بجوانبها ومفاتيح الجنة كلها لما اخترت إلا وقوفي بين يدي الله تعالى(5) ساعة أناجيه فيها، ولا تخرج النفس الأمارة إلى النفس اللوامة إلى النفس المطمئنة إلا بعد الرياضة التامة والمثاغرة(6) القوية والمخاصمة(7) العظيمة، والحرب خدعة، والخير عادة. وكان - رحمه الله - يصوم الأبد إلا العيدين والتشريق، وترك إدام عشائه لئلا يثقله عن القيام، ثم قال: كان يؤخر العشاء حتى قال: كم من ليلة أسابق الفجر على عشائي، فتارة أسبقه، وتارة يسبقني، وكان إذا جاءه العشاء مأدوما تركه وآثر به بعض إخوانه. وقال يوما لتلميذه: إذا دخل عليك فقير فأعطه شيئا، وإذا دخل عليك عالم فراجعه في المسائل، وإذا دخل عليك من أبناء الدنيا فاحتشمه، وعظمه(1)، واضرب له الأمثال. وكان إذا دخل عليه أحد من إخوانه أقعده على مصلاه ووقف بين يديه مطرقا لعلها تطرق سمعه كلمة حكمة، وكان كلامه - رحمه الله - نافعا، فمن كلامه: (ليس الزاهد من لا يملك شيئا، إنما الزاهد من لا يملكه شيء)، ومن كلامه - رضي الله عنه -: (بالفقر والإقتار والذل والإنكسار تحيا قلوب العارفين)، ومن كلامه - رضي الله عنه -: (يا أخي، جدد السفينة فإن البحر عميق، وأكثر الزاد فإن الطريق بعيد، وأخلص العمل فإن الناقد بصير)، ومن شعره ما كتبه في ضمن كتاب إلى تلميذه السيد يحيى المؤلف لسيرته الذي عنه هذا النقل، وكتابه إليه من مكة من جملته: (سلام عليك من قلب مشغول ومن نفس معلول، أحوالي جميلة فوق ما تظنه من سكون قلب وقرار ودعة، وما طعمت لذة الحياة إلا في مجاورتي هذه المباركة، حالي في مكة كبعض الزيالع ما بيني وبين أحد معرفة، ومن عرفني قطعته إلا هذا السيد محمد وإخوانه، وهم قوم عجم انتفع بهم، ولا يضرونني بشيء ، والنفس متطلعة إلى قدومك إلى هذا البيت [الشريف](2)، وتزور جدك - صلى الله عليه وآله وسلم - [وعليكم أجمعين](3)، وقد صدر لك محبى(4) من السيد وكوفية ومسبحة وسجادة.
إن كنت تسمع ما أقول وتعقل ... فارحل بنفسك قبل أن تك ترحل
ودع التشاغل بالذنوب وخلها ... حتى متى وإلى متى تتعلل
تلهو وعمرك يضمحل وينقضي ... والظهر منك بما قضيت (5) مثقل كن كالذي حذر البيات فلم يزل ... في ظلمة الليل الطويل يقلقل
Sayfa 42