نشأ عند القصر بنوء الغفر حبيًا عارضًا، ضاحكًا وامضًا، فكلا ولا ما كان حتى شجيت به أقطار الهواء، واحتجبت به السماء، ثم أطرق فاكفهر، وتراكم فادلهم، وبسق فازلأم، ثم حدت به الريح فحن، فالبرق مرتعج والرعد متبوج، والخروج تنبعج، فأثجم ثلاثًا، متحيرًا هثهاثًا، أخلافه حاشكة ودفعه متواشكة وسوامه متعاركة؛ ثم ودع منجمًا، وأقلع متهما، محمود البلاء، مترع النهاء، مشكور النعماء، بطول ذي الكبرياء.
قال أبو بكر: القصر العشي؛ والغفر من نجوم الأسد؛ والحبي الداني من الأرض؛ والعارض المعترض في الأفق: والوامض الذي برقه وميض يقال: ومض البرق وأومض إذا لمع كالتبسم؛ وقوله: فكلا ولا ما كان أي كقولك: لا ولا، في السرعة؛ وشجيت به أي تضايقت كما يشجى المغتص؛ اطرق تكاثف بعضه على بعض؛ واكفهر تراكم وغلظ؛ بسق فازلأم ارتفع فانتصب؛ حدت به الريح ساقته؛ حنّ سمعت له حنينًا؛ المرتعج المتدارك؛ والرعد متبوج أي عالي الصوت؛ والخروج السحاب؛ تنبعج أي تنشق، وهو مثل؛ فأثجم أي أقام متحيرًا كأنه قد تحير ليس له وجه يقصده؛ هثهاثًا متداخل بعضه في بعض؛ قال أبو بكر: أصل الهثهثة اختلاط الأصوات، وأنشد: وهثهثوا فكثر الهثهاث. أخلافه حاشكة هذا مثل؛ أخلاف الناقة ضروعها، حاشكة: ممتلئة؛ ودفعه متواشكة مسرعة؛ سوامه متعاركة هذا مثل: السوام: الإبل السائمة أي الراعية، فشبه السحاب بالإبل التي يعارك بعضها بعضًا أي يزاحم، ثم ودع منجمًا أي انقشع: أنجم السحاب إذا أقلع متهمًا نحو تهامة.
أخبرنا السكن بن سعيد الجرموزي، عن محمد بن عباد المهلبي عن ابن الكلبي، عن أبيه، عن أشياخ من بني الحرث بن كعب قالوا: أجدبت بلاد مذحج، فأرسلوا روّدًا من كل بطن رجلًا، فبعثت بنو زبيد رائدًا، وبعثت جعفي رائدًا، وبعثت النخع رائدًا، فلما رجع الرواد قيل لرائد زبيد: ما وراءك؟ قال: رأيت أرضًا موشمة البقاع ناتحة النقاع مستحلسة الغيطان ضاحكة القريان واعدةً وأحر بوفائها، راضيةً أرضها عن سمائها؛ وقيل لرائد جعفي: ما وراءك؟ فقال: رأيت أرضًا جمعت السماء أقطارها فأترعت أصبارها وديثت أوعارها، فبطنانها غمقة، وظهرانها غدقة، ورياضها مستوسقة، ورقاقها راتخ وواطئها سائخ، وماشيها مسرور، ومصرمها محسور؛ وقيل للنخعي: ما وراءك؟ قال: مداحي سيل، وزهاء ليل، وغيل يواصي غيلًا، قد ارتوت أجرازها ودمث عزازها والتبدت أقوازها، فرائدها أنق، وراعيها مسنق، فلا قضض ولا رمض، عازبها لا يفزع، وواردها لا ينكع، فاختاروا مراد النخعي.
قول الأول: - قال أبو بكر قوله: رأيت أرضًا موشمة البقاع: يقال أوشمت الأرض، إذا بدا فيها النبات؛ والناتحة: الراشحة؛ استحلست الأرض: إذا تجللت بالنبات؛ والغائط: مطمئن من الأرض؛ والقريان: واحدها قري، وهي مجاري الماء من الغلظ إلى الرياض.
قول الثاني. - قال أبو بكر قوله: رأيت أرضًا جمعت السماء أقطارها يريد أن السماء ألطت عليها، وكأنها جمعت أكنافها، والسماء: المطر ههنا، يقال: أصابتنا سماء، وما زلنا نطأ السماء حتى جئناكم: أي مواقع الغيث؛ وقوله: أترعت: أي ملأت؛ أصبارها: أعاليها؛ وقوله: ديثت: أي لينت؛ أوعارها: غلظها، والغمقة: الندية؛ والبطنان: ما غمض من الأرض، والظهران: ما غلظ، والغدقة: الكثيرة النبات والندى، المستوسقة ههنا: المتصل بعضها ببعض؛ والرقاق: الأرض التي يركبها رمل يسير يخلطه طين؛ والارتخ الطين الذي قد أكثر ماؤه حتى صار كالعجين اللين، يقول: فمن وطئها ساخ فيها؛ والماشي: صاحب الماشية، والمصرم ههنا الذي لا ماشية له، محسور لما يرى.
قول الثالث. - قوله: مداحي سيل: أي قد جرى فيها السيل ودحاها حتى استوت ولان وجهها؛ زهاء ليل: أي كأنها ليل من شدة خضرتها، والزهاء الشخص، والغيل: الماء الجاري في بطون الأودية يتخلل الحجارة؛ يواصي: يواصل؛ والأجراز: الأرضون التي لم يصبها مطر؛ دمث عزازها أي لين: صار دمثًا، والدمث الأرض السهلة، والعزاز: الأرض الصلبة الغليظة، والتبدت دخل بعضها في بعض؛ والأقواز: واحدها قوز، وهي رمال تستدير وتنعطف نحو الأحقاف؛ رائدها أنق، الأنق: المعجب بها؛ وراعيها مسنق، تقول: تسنق ماشيته أي تبشم من كثرة المرعى؛
1 / 6