فلما شرف بإشاراتهِ النّطاف، وأطرفَ بتنبيهاتهِ اللطافِ، وأفادَ أسماعَنا وفادَ، وأستادَ عقائلَ انتقادنا وسادَ، أُفرغ لديهِ من الولاءِ أصفاهُ، وأحضِرَ إليه من الحِباءِ أضفاهُ واعتبرتْ حروفهما اعتبارَ إتقان، فكانتا كفرسيْ رهان، ما نقص حرف ولا زاد، ولا أخطأ المرادَ، فقالوا له: إنك ومستحقّ التبجيلِ والتمجيدِ، لكالأنفحةِ في التحليل والتجميد، فحينَ حقّقَ إقبالهم عليه، وتحقَّقَ انثيالُهم لنصاعةِ صناعتيه، قال لهم - وقد تأثّفوهُ واستوكفوه، وفاض بالدررِ فوه -: يا مطارف الهوف وصياصي الملهوفِ، اخلعوا الخز، واترعوا البزَّ، وارفعوا العزَّ والبَزّ فمن عزّ بزَّ فأحضروا لحكمهِ المِحضيرَ، واستحضروا لهُ النضيرَ، وشكروا لفظَه المشتارَ، وجاءوا إليه بما أشارَ ليشتار فبادرَ إلى إنهائه، وغادرَ كلًا بإهابهِ والتهابه، وانثنى يستصحبُ الحقّ، وامتطى الطِّرفَ الأحقَّ وانتهز الفرصةَ بسكرِ مواتٍ، وأحرز من العسجدِ جذر تسع مئاتٍ، قال القاسم بن جريال: وكنتُ حينَ كفتَ خروقَ أطمارهِ، وانكفَتَ إلى شُموس المجلس وأقماره، أمعنُ لمعرفتهِ، لأعرفَ نكرةَ نُكرهِ من معرفتهِ، إلى أن ظهرتْ ظواهرُ ألفاظِه، واستظهرتْ جواهرُ استيقاظهِ فعلمتُ أنهُ أبو المصريّ، غوّاُص اللآلئ، وقنّاص أبناء الليالي، فهممتُ عندَ ذلكَ بمجازاته، واسترجاع إجازاته، لأرحضَ عني الونيم، وأنتهبَ النهدَ والنيمَ وأدركَ منه الثأرَ المُنيمَ، بَيْدَ أني كرهتُ انطفاءَ ضَوءِ قمرِ قدرهِ، والانكفاءَ لاستردادِ ما وقعَ في قدره، وعفْتُ انتشار فواحشه في الأحشاء، وادكَرت ما ورد في إفشاء الفحشاء، ولمَا حصلَ على زُييته وحَوْصَلَ لحواصل بيُتْه، وتوشَّح بوشاح النجاح، وترنح ترنحَ الجحفل الجحجاح ملْتُ إلى إيثاره، وتتبُّع آثاره، وجعلتُ أنحُوهُ كاللصِّ المحصور، والصلِّ المصحور بعد أنْ هوَى هويَّ الصقور، بين القصور، وصافحتْ أكفُّ لحَاظنا يد ققائه الممدود المقصور، فحين قَرُب من عرينه، وكادَ ينقلبُ إلى قرينه، نظَر إلى نظر الصِّيد، أو الموالي بالغَصب إلى العبيدِ، وأقبَل يتمزَّعُ منَ الحَرَدِ، ويتوقع فري إفساد ذلك البرد، وجعل يتعامس علي، ويثب ويثيب أبي وثاب إلي فقلت له أقسم بمن خصك بخصال القليب إنّك لصاحب يوم القليب، فقهقه لارتجال قوافيه، وعجاج سوافيه، واختصرت على تلافيه لما تلافيه فقال لي: يا بن جريال، لا تقنط لدفع ما هر، ولو اسمهر، ولا تسخط لشرب ما أمر، وقد مر، فأعرفك السليم السليم، الشارب بيد الحميم الحميم، فقلت له: انتصف من اعترف بما اقترف، عفا الله عما سلف، فأغمد لصحفي النصال، وضارع القصال، وقصد الانفصال، ومال لجذم الصخب وصال، وأنشد بعدما سكنت ألوية بطشه وعصائبه، وبركت ركائب طيشه ونجائبه: البسيط
واحفظ وصية من أوصاك معترفًا ... أن الزمان جزيلات عجائبه
لا تفرحن بما أوتيت من نعم ... فربما عاد في الموهوب واهبه
واصبر إذا نزلت كرهًا نوازله ... إن الصبور عزيز عز جانبه
واركب مع العفو طرفًا لا يعارضه ... يومًا عثار فإن الحر راكبه
والبسْ ثيابَ الحجى والحِلْمُ مُدَّرِعًا ... دِرْعًا تجولُ على العَليا مساحبُه
وَخُذْ مِن الورد ما يكفيك من ظمإ ... وخَلِّ بعدكَ كي تَصفُو مشاربُه
وارحلْ إذا كنتَ في الأقوام مطّرحًا ... واترك حِجاك بلا شَوق يجاذبهُ
وعدِّ نفسَكَ عن باب اللئيم فما ... يدنو إليكَ بما ترضاه حاجبهُ
واخفض عدوّك لا تنصب مصادرَه ... لا انْجَرَّ جازمه، واعتل ناصبُه
قال: فلما فَرَغَ من مفيدته المُزهرةِ، وخريدته الخيّرة المبهرة، قبضَ يدي قبضَ البازِ وتملّق تملّقَ الخازبازِ، ثمَ إنّه اعتذرَ لفراقي، وابتدرَ إلى عناقي وأمطرَ حيَّ شؤونهِ، وأظهرَ خبيّ شُجونهِ، بعدَ أن تململَ تململَ الحَبْر، وتذلَّلَ تذللَ الجَبْرِ، ومسخَ صورةَ الغَدْرِ، ونسخَ سُورةْْ الغَضَبِ، منْ مْصحَفِ الصَّدْرِ.
المقامة الثالثة اللاذقية
1 / 8