لم يكن من الممكن تصديق أنها كانت تعني ما تقول؛ فلو كانت لديها مثل هذه النية، ألم يكن من الجنون أن تبوح بها لي؟ إذ من الممكن أن أشي بها، لم أكن أعتزم ذلك بالطبع، ولكن قد يستدرجني أحدهم ويعرف هذا مني. غالبا ما كنت أفكر، بسبب الحرب، كيف يكون شكل التعذيب، ما القدر الذي يمكنني تحمله منه؟ وذهبت بفكري إلى عيادة الطبيب حينما يضرب عصبا، فكرت في نفسي قائلة: لو استمر ألم كهذا بلا نهاية ما لم أشي بمكان اختباء أبي مع المقاومة، فماذا كنت سأفعل؟
حين استقرت جميع الأبقار بالداخل وأغلق رايموند وأبوه بابي الإسطبل، عدنا عبر أشجار السماق، وكنا لا نزال رابضين، وما إن توارينا عن الأنظار، حتى نزلنا إلى الطريق. ظننت أن داليا قد تقول الآن إن الجزء الخاص بإطلاق النار كان مجرد مزاح، ولكنها لم تفعل. وتساءلت لماذا لم تقل أي شيء عن والدتها، عن قلقها عليها مثلما كانت قلقة على رايموند. حينئذ خطر لي أنها ربما كانت تحتقر والدتها لما تحملته ولما آل إليه مصيرها. كان عليك أن تبدي بعض الجرأة لتجاري داليا في شجاعتها، ولم أكن لأرغب في أن تعرف أنني كنت خائفة من الأبقار ذات القرون.
كان على إحدانا أن تودع الأخرى حين اتخذت هي طريقها عائدة إلى البلدة إلى منزل جلوريا، فيما اتخذت أنا طريقنا المسدود، ولكن ربما تكون قد واصلت السير وتركتني. ظللت أفكر فيما لو كان من الممكن حقا أن تقتل أباها، وراودتني فكرة غريبة بأنها صغيرة للغاية بحيث لا يمكن أن تقدم على فعلة كهذه؛ وكأن قتل نفس مثل قيادة سيارة أو التصويت أو الزواج، لا بد أن تصل إلى سن معينة لكي تتمكن من القيام به. وراودتني فكرة أخرى كذلك - وإن لم أكن لأعرف كيف لي أن أعبر عنها - وهي أن القتل لن يكون سببا في أي راحة لها؛ إذ كانت كراهيتها له قد وصلت لحد أن أصبحت عادة. كنت أتفهم أنها قد اصطحبتني معها، لا لكي تأتمني على سرها أو لكوني بأي نحو صديقة حميمة لها؛ لقد أرادت فقط أن يراها شخص ما وهي تمارس كراهيتها له. •••
ربما كان يقع على طريقنا فيما مضى اثنا عشر منزلا، كان معظمها منازل صغيرة ورخيصة للإيجار، حتى تصل إلى منزلنا الذي كان أقرب إلى منزل ريفي عادي في مزرعة صغيرة. كان بعض هذه المنازل يطل على السهل الفيضي للنهر، ولكن قبل بضعة أعوام، إبان فترة الكساد العظيم، كانت جميعها مأهولة. ثم جاءت وظائف الحرب، جميع أنواع الوظائف، لتأخذ تلك الأسر بعيدا، ونقلت بعض المنازل إلى مكان آخر لتكون بمنزلة جراجات أو حظائر للدجاج. أما تلك التي تركت مكانها، فكان منها اثنان خاويين، فيما كانت البقية يسكنها في الغالب أشخاص مسنون؛ الأعزب العجوز الذي يسير إلى البلدة كل يوم لمتجر الحدادة خاصته، والزوجان المسنان اللذان كان لديهما متجر للبقالة ولا يزال على نافذتهما الأمامية ملصق مشروب البرتقال كراش، والزوجان المسنان الآخران اللذان يتاجران في بضائع محظورة قانونا، وكان يقال إنهما يخفيان أموالهما في علب الطلاء في الفناء الخلفي لمنزلهما. هذا إلى جانب العجز اللاتي تركن بمفردهن: السيدة كوري، والسيدة هورن، وبيسي ستيوارت.
كانت السيدة كوري تربي كلابا كانت تتسابق في النباح على نحو جنوني طوال اليوم في حظيرة سلكية، وفي الليل كانت تساق إلى داخل منزلها الذي كان مبنيا جزئيا في منحدر أحد التلال، والذي لا بد أنه كان مظلما وذا رائحة كريهة جدا. أما السيدة هورن، فكانت تربي زهورا، وكان منزلها وفناؤها الصغيران يبدوان في الصيف كقطعة قماش مطرزة؛ فترى فيها كرمات الياسمين البري، وزهرة شارون، وكل أنواع الورود والفلوكس والدلفينيون. أما بيسي ستيوارت، فكانت ترتدي ثيابها الأنيقة وتتجه إلى أعلى البلدة فيما بعد الظهيرة لتدخين السجائر وتناول القهوة في مطعم باراجون. ورغم أنها لم تكن متزوجة، فقد كان يقال إن لها صديقا.
كان أحد المنازل الخاوية تسكنه، ولا تزال تملكه، السيدة إدي. كانت تسكن هذا المنزل منذ فترة قصيرة - منذ أعوام؛ أي أربعة أو خمسة أعوام قبل أن ألتقي داليا، وكانت فترة طويلة في حياتي - عائلة تسمى وينرايت، وكانت تربطهم صلة قرابة بالسيدة إدي وتركتهم يعيشون هناك، ولكنها لم تكن تعيش معهم، فقد نقلت إلى المكان الذي نقلت إليه، وكان يدعى كير.
قدم السيد والسيدة وينرايت من شيكاجو، حيث كانا يعملان في تزيين المعروضات وتنسيقها في الواجهات لدى أحد المتاجر الكبيرة المتعددة الأقسام. أغلق هذا المتجر أبوابه، أو تقرر أنه لا يحتاج إلى تزيين الكثير من واجهاته؛ أيا كان ما حدث، فقد فقدا وظيفتيهما وجاءا إلى هنا للإقامة في منزل السيدة إدي وحاولا تأسيس شركة للصق ورق الحائط.
كان لديهما ابنة تدعى فرانسيس، كانت تصغرني بعام واحد، وكانت ضئيلة الجسم ونحيفة سرعان ما تلهث بسبب إصابتها بالربو. في أول يوم لي في الصف الخامس، خرجت السيدة وينرايت واستوقفتني في الطريق، بينما فرانسيس كانت تسير خلفها ببطء، طلبت مني أن أصطحب فرانسيس إلى المدرسة وأريها مكان قاعة الدراسة الخاصة بالصف الرابع، وأن أكون صديقة لها؛ لأنها لم تكن تعرف أي شخص بعد، أو مكان أي شيء.
وقفت السيدة وينرايت تتحدث إلي على قارعة الطريق مرتدية لباس بيت حريريا ذا لون أزرق فاتح. وكانت فرانسيس متأنقة في ثوب قطني ذي نقوش مربعة وقصير للغاية ومكشكش عند الجزء السفلي وشريط شعر ذي نقوش مربعة يتماشى معه. •••
وسرعان ما أصبح مفهوما أنه يتوجب علي السير إلى المدرسة مع فرانسيس ثم العودة إلى المنزل معها بعد ذلك، كانت كلتانا تحمل غداءها إلى المدرسة، ولكن لم يطلب مني صراحة أن أتناول الغداء معها، ومن ثم لم أفعل هذا قط.
Bilinmeyen sayfa