تصدير
الجزء الأول: أبرشية بلا ميزة
أبرشية بلا ميزة
المنظر من صخرة القلعة
إلينوي
براري بلدة موريس
العمل من أجل كسب العيش
الجزء الثاني: المنزل
الآباء
الاستلقاء أسفل شجرة التفاح
الأجيرة
التذكرة
المنزل
لماذا تريد أن تعرف؟
خاتمة
الرسول
تصدير
الجزء الأول: أبرشية بلا ميزة
أبرشية بلا ميزة
المنظر من صخرة القلعة
إلينوي
براري بلدة موريس
العمل من أجل كسب العيش
الجزء الثاني: المنزل
الآباء
الاستلقاء أسفل شجرة التفاح
الأجيرة
التذكرة
المنزل
لماذا تريد أن تعرف؟
خاتمة
الرسول
المنظر من صخرة القلعة
المنظر من صخرة القلعة
تأليف
أليس مونرو
ترجمة
شيماء طه الريدي
محمد جبريل زناتي
مراجعة
مصطفى محمد فؤاد
إهداء إلى دوجلاس جبسون، الذي كان نعم العون لي في كثير من المواقف الصعبة، والذي قاده تحمسه لهذا الكتاب على وجه الخصوص إلى أن يتجول ليلا في جبانة كنيسة إتريك، والمطر - في الغالب - ينهمر عليه.
تصدير
بدأت منذ عشرة أعوام أو اثني عشر عاما تقريبا أهتم أكثر بتاريخ فرع من فروع عائلتي، الذي كان اسمه «ليدلو». لقد كانت المعلومات التي لدي عنهم كثيرة، بل أكثر من المعتاد إذا ما أخذنا في الاعتبار أنهم كانوا غير معروفين وغير أثرياء، وكانوا يعيشون في وادي إتريك الذي يصفه السجل الإحصائي الاسكتلندي لعام 1799 بأنه «بلا ميزة». عشت في اسكتلندا بضعة أشهر بالقرب من وادي إتريك؛ وهو ما مكنني من الوصول إلى أسماء هذا الفرع من العائلة، من خلال الاطلاع على السجلات المحلية للمنطقة في المكتبات العامة الموجودة في سيلكيرك وجالاشيلز، والتعرف على ما قاله جيمس هوج عنه في مجلة «بلاكوودز ماجازين». كانت أم هوج من أبناء عائلة ليدلو، واصطحب هوج والتر سكوت ليريه أمه، عندما كان سكوت يجمع القصائد والأغاني الشعبية لعمله «قصائد وأغاني مناطق اسكتلندا الحدودية». (أعطته أم هوج بعضا من هذه القصائد والأغاني، وإن كانت قد شعرت بالاستياء بعد ذلك عندما علمت أنها طبعت في كتاب.) وكنت محظوظة؛ إذ كان كل جيل من أجيال عائلتنا يخرج منه فيما يبدو شخص يكتب رسائل طويلة وجريئة، بل وفاضحة أحيانا، وتأملات حافلة بالتفاصيل الدقيقة. كانت اسكتلندا هي البلدة التي قرر فيها جون نوكس ضرورة أن يتعلم كل طفل القراءة والكتابة، في أي شكل من أشكال المدارس القروية؛ ليتمكن الجميع من قراءة الكتاب المقدس.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد.
تراكمت لدي كل هذه المعلومات على مر السنين، وبدأت تتشكل، من هنا وهناك، في صورة أقرب ما تكون إلى القصص، وذلك دون أن ألاحظ ذلك على الإطلاق. بدا لي بعض شخصيات تلك القصص من خلال كلماتهم، وبعضهم خرج من رحم مواقفهم. تجمعت كلماتهم وكلماتي، في عملية إعادة خلق مثيرة لحياتهم، في مواقف محددة لا تقل صدقا عن أصدق تصوراتنا عن الماضي.
في خلال تلك الأعوام، كنت أكتب أيضا مجموعة قصصية خاصة. ولم أضم هذه القصص التي تشكلت داخلي في الكتب الأدبية التي كنت أكتبها على فترات زمنية منتظمة. لم لا؟ لأنني شعرت أنها لا تتلاءم معها. صحيح أنها لم تكن عبارة عن مذكرات أو سيرة ذاتية، لكنها كانت أقرب إلى حياتي الخاصة من القصص الأخرى التي ألفتها، وحتى تلك التي كتبتها بضمير المتكلم، والتي اعتمدت فيها على معلومات شخصية، لكنني لم أفعل بها أيا مما كنت أريد؛ ذلك لأن جل ما كنت أسعى إليه هو تأليف قصص. أما في هذه القصص، فلم أكن أفعل ذلك بالضبط، بل كنت أفعل شيئا أقرب إلى ما تفعله المذكرات؛ ألا وهو سبر أغوار حياتي الشخصية، لكن ليس بطريقة بالغة الدقة أو شديدة الواقعية؛ فقد كنت أضع نفسي في قلب القصة، وأكتب عنها، منقبة فيها ما استطعت. إلا أن الشخصيات المحيطة بهذه النفس كانت تظهر على حقيقتها، ولكنها تفعل أشياء لم تكن تفعلها في الواقع؛ إذ التحق البعض بجيش الخلاص، وقال آخرون إنهم كانوا يعيشون في شيكاجو فيما مضى. إحدى هذه الشخصيات صعقت نفسها بالتيار الكهربي، وأخرى قتلت نفسها رميا بالرصاص في إسطبل تملؤه الخيول. بل إن بعض هذه الشخصيات تغير كثيرا عما كان عليه في البداية، حتى إنني لا أستطيع أن أتذكر ملامحهم الأصلية.
هي «قصص» وحسب.
تستطيع القول إن تلك القصص تولي اهتماما أكبر بحقيقة حياة الشخصيات أكثر مما يفعله الأدب في الغالب، غير أن هذا الاهتمام ليس كبيرا للغاية. وأجزاء هذا الكتاب الذي بين يديك، التي تتعلق بتاريخ عائلتي، قد نسجت بالكامل في عالم الخيال الأدبي، لكن دون الخروج دوما عن الإطار السردي الحقيقي. وباتباع هذا الأسلوب، اقترب تيارا الحقيقة والخيال معا على نحو كاف؛ حتى بدا لي أنهما يتدفقان في قناة واحدة، كما يفعلان في هذا الكتاب.
الجزء
أبرشية بلا ميزة
أبرشية بلا ميزة
ليس لهذه الأبرشية أي ميزة؛ فالتربة فوق تلالها، في مواضع كثيرة منها، تكسوها الطحالب ولا تصلح لأي شيء، والهواء رطب في الغالب؛ والسبب في هذا ارتفاع التلال التي لا تجذب السحب باستمرار، والبخار الذي لا ينقطع عن الانبعاث من التربة المكسوة بالطحالب ... وأقرب بلدة بها سوق منتظمة تبعد 15 ميلا، والطرق المؤدية إليها يكاد يستحيل السير عليها بسبب وعورتها، والجليد كذلك يسبب متاعب كبيرة أحيانا؛ إذ غالبا ما نقضي شهورا كثيرة دون أي اتصال بالناس من حولنا. ومن بين العيوب الخطيرة في هذه الأبرشية نقص الجسور؛ حتى إن المجاري المائية إذا فاضت أعاقت حركة الناس تماما ... ولا يكاد يزرع هنا غير البطاطس والشعير والشوفان، ولم تجرب زراعة القمح ولا الجاودار ولا اللفت ولا الكرنب أبدا ...
يمتلك أراضي هذه الأبرشية عشرة من الملاك، لكن لا يقطن أي منهم بها.
مساهمة قس أبرشية إتريك بمقاطعة سيلكيرك للسجل الإحصائي الاسكتلندي عام 1799
يقع وادي إتريك على بعد حوالي 50 ميلا جنوب إدنبرة و30 ميلا - أو ما يقرب من ذلك - شمال حدود إنجلترا، التي تمتد بالقرب من السور الذي بناه هادريان ليعزل القبائل الهمجية عن الشمال. وفي أثناء حكم أنطونيوس، وصل الرومان إلى أماكن أبعد، وشيدوا سورا حصينا بين خليجي كلايد وفورث، إلا أنه لم يدم طويلا. وقد احتل الأرض الواقعة بين السورين لفترة طويلة شعوب شتى؛ منها السلتيون الذين جاء بعضهم من أيرلندا، وكان يطلق عليهم السكوتس، والأنجلو ساكسون الذين جاءوا من الجنوب، والنورديون الذين جاءوا من شتى أنحاء بحر الشمال، وربما احتلها كذلك بعض من فلول البكتيين.
كنا نطلق على المزرعة المرتفعة، التي يغطي أرضها الحصى، التي كانت تقيم فيها عائلتي لبعض الوقت في وادي إتريك؛ اسم فار-هوب. وكلمة «هوب» - كما هي مستخدمة في الجغرافيا المحلية - كلمة قديمة من الكلمات النوردية؛ فالكلمات النوردية والأنجلو ساكسونية والغيلية تمتزج جميعا، بعضها مع بعض، في هذه المنطقة من الدولة - كما هو متوقع - مع بعض الكلمات البريثونية القديمة للإشارة إلى الوجود الويلزي القديم هناك. وكلمة «هوب» تعني الخليج، لكنه ليس خليجا مليئا بالمياه، بل خليج تملؤه الأرض وتحيط به التلال جزئيا، وهي في هذه الحالة التلال القاحلة المرتفعة؛ أي المرتفعات القريبة من منطقة النجود الجنوبية، حيث توجد التلال الثلاثة الضخمة؛ بلاك نو وبودزبيك لو وإتريك بن، وكلها تحتوي في أسمائها على كلمة «تل» ولكن بثلاث لغات مختلفة. والآن يعاد تشجير بعض هذه التلال بأشجار التنوب السيتكي، ولكن كانت هذه التلال على مدار القرنين السابع عشر والثامن عشر قاحلة، أو معظمها كان قاحلا؛ فغابة إتريك العظيمة التي كانت ساحة يمارس فيها ملوك اسكتلندا رياضة الصيد قطعت أشجارها، وتحولت إلى مرعى أو أرض خلاء قبل ذلك بقرن أو قرنين من الزمان.
ويعتبر الحد المائي فوق فار-هوب، الذي يظهر عند طرف الوادي، بمنزلة العمود الفقري لاسكتلندا، الذي يمثل علامة الفصل بين المياه التي تتدفق جهة الغرب إلى خليج سولواي والمحيط الأطلنطي والمياه التي تتدفق جهة الشرق إلى بحر الشمال. ويقع على بعد 10 أميال ناحية الشمال أشهر شلال في البلاد، وهو شلال جراي ميرز تيل. ويقع على بعد 5 أميال من بلدة موفات - وهي بلدة تنعقد فيها سوق منتظمة يأتي إليه السكان الذين يعيشون في الجزء المرتفع من الوادي - صدع ديفيلز بيف تب، وهو صدع عظيم في التلال يعتقد الناس أنه كان مخبأ للماشية المسروقة؛ الماشية الإنجليزية التي كان يستولي عليها اللصوص إبان القرن السادس عشر، حيث كانت تسود الفوضى وغياب القانون. يقع في الجزء السفلي من وادي إتريك بلدة أيكوود، وهي مسقط رأس مايكل سكوت، الفيلسوف والساحر الذي عاش في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، والذي يظهر في قصيدة دانتي الملحمية «الجحيم». وإذا لم يكن كل ما سبق كافيا، فيقال إن ويليام والاس البطل الاسكتلندي الشهير قد اختبأ هنا من الإنجليز، ويروي الناس قصة عن مطاردة رعاة الأغنام الإتريكيين للساحر ميرلين وقتله في الغابة القديمة. (لقد كان أجدادي جيلا بعد جيل - بحسب علمي - رعاة أغنام إتريكيين. ربما يبدو غريبا للبعض أن يتم توظيف رعاة أغنام للرعي في الغابة، إلا أن غابات الصيد - على ما يبدو - كانت في أماكن كثيرة عبارة عن ساحات مفتوحة.)
ومع ذلك، جعلني الوادي أشعر بخيبة أمل عندما رأيته لأول مرة. عادة ما تترك الأماكن مثل هذا الشعور عندما ترسمها في مخيلتك قبل أن تزورها. لقد زرته في أول الربيع، وقد اكتست التلال باللون البني أو ما يشبه البني الأرجواني الفاتح، وهو ما ذكرني بالتلال المحيطة بمدينة كالجاري. كان نهر إتريك يتدفق بسرعة وصفاء، إلا أنه لا يتجاوز اتساعه اتساع نهر ميتلاند، الذي يمر بالمزرعة التي تربيت وترعرعت فيها في مقاطعة أونتاريو. كانت دوائر الحصى، التي ظننت في بادئ الأمر أنها من آثار الديانة السلتية المثيرة للاهتمام، كثيرة جدا ومنظمة جيدا، لا لشيء إلا ليسهل استخدامها في حظائر الأغنام.
كنت مسافرة بمفردي، وقد جئت من سيلكيرك مستقلة حافلة المتسوقين، التي تعمل مرتين في الأسبوع، والتي لم تأخذني إلى ما هو أبعد من جسر إتريك، حيث تجولت في جنبات المكان منتظرة ساعي البريد، والذي قيل لي إنه سوف يأخذني إلى أعلى الوادي. ولعل أهم ما يراه الناظر في جسر إتريك لافتة على محل مغلق تروج لشيء اسمه سيلك كت. ولم يتسن لي أن أعرف هذا الشيء، لكن تبين لي أنه علامة تجارية معروفة خاصة بالسجائر.
وبعد فترة وجيزة جاء ساعي البريد، وركبت معه إلى كنيسة إتريك. وحينها كانت السماء قد بدأت تمطر، وبغزارة. كانت الكنيسة مغلقة، وهو ما أصابني بخيبة أمل مرة أخرى؛ فبالرغم من أن تلك الكنيسة قد شيدت في عام 1824، فإنه لا يمكن مقارنتها، من حيث الشكل التاريخي أو الطابع المعماري الباهت، بالكنائس الأخرى التي كنت قد زرتها بالفعل في اسكتلندا. عندها شعرت بالغربة وعدم الراحة والبرد. احتميت بالجدار إلى أن هدأ المطر قليلا، ثم تفقدت فناء الكنيسة حيث الحشائش الطويلة المبتلة التي بللت قدماي.
وجدت هناك - أول ما وجدت - شاهد قبر ويليام ليدلو، جدي المباشر الذي ولد في نهاية القرن السابع عشر، والذي كانت كنيته ويل أوفوب. وهذا الرجل اكتسب - على الأقل محليا - شيئا من التألق الأسطوري، وتمكن من ذلك في آخر لحظة يمكن لأي رجل أن يفعل ذلك فيها من لحظات التاريخ؛ أي تاريخ سكان الجزر البريطانية. كان شاهد القبر يحمل أيضا اسم ابنته مارجريت ليدلو هوج التي سبق أن هاجمت السير والتر سكوت، واسم روبرت هوج زوجها الذي كان مزارعا مستأجرا في إتريكهول. ثم رأيت على اليمين شاهدا آخر للكاتب جيمس هوج الذي كان ابنهما وحفيد ويل أوفوب. وكان معروفا بين الناس ب «راعي أغنام إتريك». وفي مكان ليس ببعيد عن هذا الشاهد يوجد شاهد قبر القس توماس بوستون الذي كان مشهورا في جميع أنحاء اسكتلندا بكتبه ووعظه، وإن لم تشفع له هذه الشهرة في الوصول إلى أي منصب كهنوتي مهم.
وجدت كذلك - بين أبناء عائلة ليدلو الكثيرين - شاهد قبر يحمل اسم روبرت ليدلو، الذي مات في هوبهاوس في التاسع والعشرين من يناير عام 1800، عن عمر ناهز 72 عاما، وهو ابن ويل، وأخو مارجريت، وعم جيمس، والذي ربما لم يعرف أبدا أن الناس سوف يتذكرونه بسبب قرابته لهؤلاء الأشخاص تماما كما لم يكن له أن يعرف تاريخ موته.
إنه جدي الأكبر.
وعندما كنت أقرأ هذه النقوش الموجودة على تلك الشواهد، إذا بالمطر يعود مرة أخرى، ولكنه كان متقطعا هذه المرة، وظننت أنه من الأفضل أن أبدأ بالعودة مشيا إلى توشيلو؛ حيث ينبغي أن ألحق بحافلة المدرسة كي أعود إلى سيلكيرك. ولم يكن بمقدوري أن أتلكأ؛ لأن الحافلة قد تأتي قبل موعدها، وقد يزداد المطر.
عندها أصابني شعور يألفه - على ما أظن - كثير ممن ترجع أصولهم لبلد بعيد جدا عن البلد الذي نشئوا فيه. كنت شخصا ساذجا من أبناء أمريكا الشمالية بالرغم من معرفتي المتراكمة؛ فالماضي والحاضر الماثلان ها هنا أفرزا واقعا مألوفا، ولكنه واقع مقلق أكثر مما كنت أتخيل. (1) رجال إتريك (1-1) ويل أوفوب
ها هنا يرقد جسد ويليام ليدلو المشهور بويل أوفوب، الذي لم يكن يضاهيه من رجال زمانه أحد في مرحه وذكائه وقوته ...
نقش كتب على قبر ويل أوفوب في جبانة كنيسة إتريك على يد حفيده جيمس هوج
اسمه ويليام ليدلو، وشهرته ويل أوفوب، وفوب هو الاسم المحلي للمزرعة فار- هوب التي سكن فيها في أعلى وادي إتريك. ويبدو أن تلك المزرعة كانت مهجورة لسنوات قبل أن يسكن بها ويل. أما منزل المزرعة، فقد كان مهجورا بسبب موقعه المرتفع عند طرف الوادي البعيد، وكانت تهب عليه أسوأ عواصف الشتاء الموسمية، وكانت تتساقط عليه الثلوج بشدة. وبجوار هذا المنزل يوجد منزل بوتبيرن، الذي يقع في منطقة أقل ارتفاعا، والذي قيل إلى وقت قريب إنه أكثر المنازل التي تم العيش فيها في جميع أنحاء اسكتلندا. غير أنه صار مهجورا الآن، اللهم إلا من عصافير الحسون والدوري التي تطوف حول ملحقاته.
لم يكن ويل ليملك الأرض الخاصة بالمزرعة، بل ولم يكن ليستأجرها، إنما كان له أن يستأجر المنزل أو يحصل عليه باعتباره جزءا من أجره كراعي أغنام؛ إذ لم يكن يسعى أبدا وراء المتع الدنيوية.
المجد وحده هو ما كان يسعى إليه. •••
لم يكن ويل من سكان الوادي الأصليين، وإن كان أفراد من عائلة ليدلو يسكنون هناك، وذلك منذ أن دونت سجلات الوادي الأولى. وأقدم رجل يحمل لقب العائلة هذا عرفته هنا وجدته في سجلات المحكمة التي يرجع تاريخها إلى القرن الثالث عشر، وكان متهما بقتل فرد آخر من أفراد عائلة ليدلو الآخرين. لم يكن ثمة سجون في تلك الأيام، بل كانت هناك أبراج محصنة يحتجز فيها بالأساس المنتمون للطبقة العليا أو أصحاب المكانة السياسية الذين يختلفون مع الحكام، كما كانت هناك عمليات إعدام فورية، ولكنها كانت تحدث في الغالب في أوقات الاضطرابات الكبرى كالتي حدثت أثناء الغارات الحدودية في القرن السادس عشر، حيث كان من الممكن أن يشنق اللصوص على أبواب منازلهم، أو في ميدان سيلكيرك، كما حدث عندما أعدم 16 لصا من لصوص الماشية، وكلهم من عائلة إيليوت، في يوم واحد. إلا أن ويل أفلت من العقاب بدفع غرامة.
قيل إن ويل كان «واحدا من أفراد عائلة ليدلو القدامى الذين سكنوا قرية كريك»، والذين لم أستطع معرفة أي شيء عنهم على الإطلاق، باستثناء ما عرفته عن كريك؛ فهي قرية اختفت تقريبا، تقع على طريق روماني قد اختفى تماما في واد من الأودية القريبة إلى جنوب إتريك. لا بد أنه انتقل عبر التلال - شأنه في ذلك شأن أي فتى في سنوات المراهقة - باحثا عن عمل. لقد ولد في عام 1695، وقتئذ كانت اسكتلندا لا تزال بلدا منفصلا، وإن كانت تدخل تحت لواء مملكة واحدة مع إنجلترا. ولا بد أنه كان يبلغ من العمر 12 عاما في وقت الاتحاد المثير للجدل بين إنجلترا واسكتلندا، وصار شابا عند وقوع تمرد اليعاقبة الذي فشل فشلا ذريعا في عام 1715، وصار رجلا في منتصف العمر عند وقوع معركة كلودن. ولا توجد أي رواية تسجل رأيه في هذه الأحداث، وإن كان يراودني شعور بأنه عاش حياته في عالم منعزل ومتحفظ يحتفظ بأساطيره وعجائبه المحلية. وكان هو نفسه جزءا من هذه العجائب والأساطير. •••
إن أول ما حكي عن ويل كانت براعته في العدو. وكان رعي الأغنام أول عمل يمتهنه في وادي إتريك لصالح رجل يدعى السيد أندرسون، وقد لاحظ السيد أندرسون كيف كان يجري ويل على نحو مستقيم وسريع وراء الأغنام دون أن يتخذ طرقا ملتوية عندما كان يريد الإمساك بها، وعرف من ذلك أن ويل عداء سريع. وعندما جاء إلى الوادي بطل إنجليزي من أبطال العدو راهن السيد أندرسون بويل ضد هذا البطل بمبلغ كبير من المال . سخر البطل الإنجليزي، وسخر مشجعوه من ذلك، وفاز ويل في السباق. وقد جمع السيد أندرسون كومة كبيرة من النقود، وكان نصيب ويل معطفا رماديا وجوربا.
قال إن هذا ليس ظلما؛ حيث إن المعطف والجورب كانا يعنيان له ما تعنيه كل هذه الأموال لرجل مثل السيد أندرسون.
وإليكم قصة كلاسيكية سمعت لها روايات شتى بأسماء مختلفة وجوانب مختلفة عندما كنت طفلة أترعرع في هورون بمقاطعة أونتاريو. القصة تقول إن شخصا أجنبيا شهيرا يتفاخر بقدراته جاء إلينا، إلا أنه هزم على يد البطل المحلي الذي هو شخص طيب لم يكن يطمع حتى في الحصول على أي مكافأة.
تكررت عناصر تلك القصة في قصة قديمة أخرى ينتقل فيها ويل عبر التلال حتى يصل بلدة موفات لإنجاز مهمة ما، غير مدرك أن هذا اليوم هو يوم السوق، وقد أقنعه الناس بأن يشارك في سباق عام. لم يكن يرتدي ملابس تتناسب مع السباق، وفي أثناء العدو سقط منه سرواله الريفي، لم يعبأ بسقوطه، وشق طريقه من دونه، وواصل العدو وهو لا يرتدي إلا قميصا، وفاز بالسباق. كان ثمة اهتمام كبير به، وتلقى دعوة لتناول العشاء في فندق البلدة مع النبلاء والنبيلات. حينها، كان من المفترض أن يكون قد ارتدى سرواله، ولكنه كان يشعر بالخجل على أي حال، ولم يقبل الدعوة مدعيا أنه يشعر بالإحراج الشديد أمام تلك النبيلات.
ربما كان الأمر كذلك بالفعل بالنسبة إليه، غير أن إعجاب النبيلات برياضي، شاب وسيم مثله، بطبيعة الحال يعتبر محور القصة الفاضح والممتع.
تزوج ويل في وقت غير معلوم لي، من امرأة تدعى بيسي سكوت، وبدآ معا في تكوين أسرتهما. وفي أثناء هذه الفترة تحول البطل الشاب إلى رجل عادي، وإن كانت هناك أعمال بطولية أظهرت مواهبه ولا يزال يفتخر بها؛ فقد أطلق على إحدى البقاع على نهر إتريك «قفزة ويل» تخليدا لذكرى قفزة قفزها لجلب مساعدة أو إحضار دواء لشخص مريض. ومع ذلك، لم يتكسب ويل ماديا من وراء أي عمل من تلك الأعمال، ويبدو أن ضغوط كسب لقمة العيش لإعالة أسرته، إضافة إلى حبه للخمور، حولته إلى مهرب للخمور. وكان منزله في موقع مناسب يمكنه من استلام الخمور المهربة عبر التلال من بلدة موفات. ومما يدعو للدهشة أن هذه الخمور لم تكن من الويسكي، بل كانت من البراندي الفرنسي الذي لا شك أنه كان يدخل البلد بطريقة غير قانونية عن طريق خليج سولواي، وهو الوضع الذي سيستمر على ما هو عليه بالرغم من جهود روبرت بيرنز الشاعر ومحصل الضرائب في مواجهة هذا الفعل في أواخر ذلك القرن. وصار فوب مشهورا بالعربدة أو على الأقل بالحفلات الصاخبة. وما زال اسمه كبطل مرتبطا بالسلوك النبيل والقوة والكرم، ولكنه لم يعد مرتبطا بالرزانة والوقار.
ماتت بيسي سكوت في سن صغيرة بعض الشيء، وربما بدأت هذه الحفلات بعد موتها. وأغلب الظن أن الأولاد قد نقلوا إلى مبنى خارجي ملحق بالبيت أو إلى الطابق العلوي المخصص للنوم. ولا يبدو أن الرجل قد ارتكب جرما كبيرا أو خسر احترام الناس له. ومع ذلك، ربما يجدر بنا أن نشير إلى البراندي الفرنسي في ضوء المغامرات التي مر بها ويل في سنوات نضجه. •••
خرج إلى التلال والنهار يلج في الليل، وأخذ يسمع صوتا كصوت زقزقة أو دندنة. غير أنه كان يعرف كل الأصوات التي يمكن أن تصدرها الطيور، وكان يدرك أن هذا الصوت ليس بصوت طائر. وبدا له أن هذا الصوت خرج من حفرة عميقة غير بعيدة؛ لذا أخذ يزحف ويزحف برفق إلى حافة الحفرة، ثم انبطح أرضا، ورفع رأسه بالقدر الذي يمكنه فقط من رؤية ما أمامه.
لم ير بالأسفل سوى مجموعة من المخلوقات لم يبلغ طول أي منها طول طفل في عامه الثاني، إلا أنه لم يكن بينهم طفل على الإطلاق؛ إنهن نساء صغيرات ذوات طلة جميلة ويرتدين فساتين خضراء اللون. وكن مشغولات بشدة؛ فبعضهن يخبز الخبز في تنور صغير، وبعضهن يصب الخمور من براميل صغيرة في أوعية زجاجية، وغيرهن يمشطن شعر أخريات، وكن يدندن ويزقزقن طوال الوقت، ولا ينظرن إلى أعلى أبدا ، ولا يرفعن رءوسهن أبدا، ولا ينظرن إلا على ما يقمن به. لكن كلما واصل الإنصات إليهن، ظن أنه يسمع شيئا يألفه، ثم اتضح الصوت - أو الأغنية القصيرة التي كن يغنينها - أكثر فأكثر. وأخيرا، صارت واضحة كدقات الجرس. «ويل أوفوب، ويل أوفوب، ويل أوفوب.»
الكلمة الوحيدة التي كن ينطقن بها هي اسمه. ولم تعد تلك الأغنية عذبة كما بدت له عندما سمعها لأول مرة؛ فقد صارت كلها قهقهات، غير أنها قهقهات غير لطيفة جعلت ظهره يتصبب عرقا باردا. وتذكر في الوقت نفسه أن تلك الليلة كانت ليلة عيد القديسين أو ما يسمى بالهالوين؛ وفي هذا الوقت من كل عام تفعل هذه المخلوقات ما يروق لها مع أي مخلوق بشري؛ لذا نهض وركض عائدا إلى بيته بسرعة كبيرة لا تمكن أي عفريت من اللحاق به.
وظل طوال الطريق يسمع أغنية «ويل أوفوب، ويل أوفوب» ترن خلف أذنيه مباشرة دون أن يعلو الرنين أو يخفت أبدا. وصل إلى البيت، ودخله وأغلق الأبواب وجمع أولاده كلهم حوله، وبدأ يصلي لربه بأعلى صوت، ولم يكن يسمع هذه الأغنية طوال صلاته. لكنه عندما سمح لنفسه أن يتوقف قليلا عن الصلاة ليلتقط أنفاسه، وجد أن الصوت يأتي إليه من المدخنة، ومن شقوق باب البيت، بل وصار أعلى بينما تشوش هذه المخلوقات عليه صلاته وتخالطها، ولم يجرؤ أن يستريح حتى حلول منتصف الليل عندما دعا ربه قائلا: «رحماك ربي!» وسكت بعدها. لم يسمع بعد ذلك صوت هذه المخلوقات أبدا، ولو زقزقة واحدة. أما خارج البيت، فلم يزل الوقت ليلا كأي ليلة، وكان سلام الرب يغشى الوادي من أقصاه إلى أقصاه. •••
ثم في مرة أخرى في الصيف، ولكن في ساعة متأخرة ليلا وبينما هو في طريقه إلى البيت بعد أن أغلق الحظيرة على الأغنام؛ ظن أنه يرى بعض جيرانه على مسافة منه، وخطر بباله أنهم راجعون إلى البيت من سوق بلدة موفات، حيث كان ذلك اليوم يوم سوق موفات حقا؛ لذا ظن أنه سوف ينتهز الفرصة ويسرع قليلا ليتحدث إليهم ويعرف أخبارهم وكيف كان يومهم في السوق.
وما إن اقترب منهم بالقدر الكافي، حتى نادى عليهم.
لكن لم ينتبه أي منهم له؛ لذلك نادى عليهم مرة أخرى، ولكن لم يستدر أو ينظر إليه أي منهم. يستطيع أن يتبينهم جيدا من ظهورهم، بملابسهم الريفية وقبعاتهم، رجالا ونساء بأحجامهم الطبيعية، لكنه لم يكن بإمكانه النظر إلى وجوههم؛ إذ كانوا ما يزالون يعرضون عنه. ولم تكن تبدو عليهم العجلة، بل كانوا يتلكئون ويتسامرون ويثرثرون، وكان بإمكانه سماع كلامهم وإن لم يستطع تفسير ما يقولونه على وجه التحديد.
لذا أسرع الخطى في تتبعهم، وفي النهاية ركض خلفهم حتى يلحق بهم، لكنه لم يستطع مهما زاد من سرعته، وإن كانوا لا يسرعون في خطاهم على الإطلاق، وما زالوا يتسكعون وحسب. ولم يخطر بباله - وهو مشغول بالتفكير في اللحاق بهم - ولو لبرهة أنهم غير متجهين إلى بيوتهم على الإطلاق.
إنهم كانوا لا يسيرون باتجاه الوادي، بل باتجاه واد جانبي صغير وضيق بعض الشيء به جدول صغير يتدفق إلى وادي إتريك. ومع خفوت الضوء، كانت الرؤية تزداد ضبابية وتشويشا ويزداد عددهم، وهو أمر يدعو للغرابة!
ومن سفح التلال خرج تيار هواء بارد، وإن كان المساء مساء صيف دافئ.
عندئذ أدرك ويل الأمر، أدرك أن هؤلاء ليسوا جيرانه، وأنهم لا يقودونه إلى أي مكان يريد أن يصل إليه، وكما ركض خلفهم من قبل ليلحق بهم، ها هو الآن يركض ولكن في الطريق المعاكس. ولما كانت هذه الليلة ليلة عادية وليست كعشية عيد القديسين، فلم يكن في مقدورهم أن يتعقبوه. لكن كان خوفه مختلفا عن الخوف الذي شعر به في المرة السابقة، وتملكه نفس الشعور بالبرد؛ لأنه كان مؤمنا بأنهم أشباح بشر تحولوا بفعل السحر إلى جن. •••
يجانبني الصواب إن اعتقدت أن كل الناس كانوا يؤمنون بمثل هذه القصص، ولا شك أن لتناول البراندي دورا في ذلك، إلا أن أكثر الناس - سواء كانوا يؤمنون بها أم لا - كانوا يسمعون هذه المخلوقات ويشعرون بخوف شديد. ربما كانوا يشعرون ببعض الفضول وتساورهم بعض الشكوك، إلا أنهم في الغالب كانوا يشعرون بذعر واضح. لم يكن حينها يتم الجمع أبدا بين الجن والأشباح والدين تحت مسمى ما (ربما «القوى الروحية»)، كما جرت العادة في الوقت الحاضر. فالجن لم يكن مرحا وآسرا، وكان ينتمي إلى العصور السحيقة، وليس إلى الفترات التاريخية القديمة الخاصة بمعركة فلودن التي قتل فيها كل رجال سيلكيرك، اللهم إلا من كان يأتي بالأنباء، أو تلك الخاصة بالخارجين عن القانون الذين كانوا يغيرون ليلا عبر الأراضي المتنازع عليها بين إنجلترا واسكتلندا، أو عصر الملكة ماري - أو حتى ما قبل ذلك من عصور؛ عصر ويليام والاس، أو عصر أرتشيبالد دوجلاس، أو مارجريت سيدة النرويج - وإنها عصور الظلام بحق، ما قبل بناء سور أنطوني وما قبل وصول المبشرين المسيحيين الأوائل عبر البحر قادمين من أيرلندا. لقد كان ينتمي إلى عصور قوى الشر والفتن، ونياته كانت عادة خبيثة، بل ومدمرة. (1-2) توماس بوستون
أقام هذا الشاهد جمهور ممتن ومتدين كنوع من التقدير لصاحب الفضيلة القس توماس بوستون، الذي يكن الجميع لشخصيته احتراما جما، والذي استفاد من جهوده العامة الكثيرون، والذي ساهمت كتاباته كثيرا في ترسيخ الدين المسيحي وانتشاره.
اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيق؛ فإني أقول لكم إن كثيرين سيطلبون أن يدخلوا ولا يقدرون.
إنجيل لوقا، الإصحاح الثالث عشر، الآية الرابعة والعشرون
ولا شك أن مشاهدات ويل لم تكن مقبولة على الإطلاق بالنسبة إلى الكنيسة، ولا سيما خلال الجزء الأول من القرن الثامن عشر، عندما كانت الكنيسة تحظى بنفوذ عظيم في أبرشية إتريك.
وكان قس الكنيسة في هذا الوقت الواعظ توماس بوستون، الذي يتذكره الناس - هذا إن تذكروه أصلا - بكتابه «الطبيعة البشرية في صورها الأربع»، والذي قيل إنه كان يوضع بجوار الكتاب المقدس في بيوت المتدينين في اسكتلندا. والمقصود بالمتدين في اسكتلندا هو ذلك الذي يتبع الكنيسة المشيخية التي كانت تفتش باستمرار في الحياة الخاصة للناس وتجدد إيمانهم على نحو معذب من أجل أن يهتموا بالتدين والورع. لم يجد هؤلاء راحة في الشعائر ولا المراسم الدينية. والصلاة لم تكن شكلية فحسب، بل شخصية كذلك ومعذبة. وكان استعداد أرواحهم للحياة الأبدية محل شك وخطر على الدوام.
واصل توماس بوستون هذا العذاب دون أن يلتمس أي هدنة لنفسه ولغيره من أبناء الأبرشية؛ إذ يتحدث في سيرته الذاتية عن معاناته المتكررة، وأوقات فتور إيمانه، وشعوره بالضآلة والكآبة حتى في أثناء الوعظ بالإنجيل أو في أثناء الصلاة في دراسته؛ إذ كان يتضرع طالبا الرحمة والفضل من الرب. وكان يعري صدره باتجاه السماء - وإن كان على نحو رمزي على أقل تقدير - في أوقات اليأس. وكان مستعدا دون أي تردد أن يجرح نفسه بسوط شائك إن كان هذا السلوك لن يجعله يتشبه بأفعال الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، ولن يشكل خطيئة أكبر.
تارة يجيب الرب دعاءه وتارة لا يجيب. ولم يكن شوقه للرب يفارقه أبدا، ولم يكن أبدا يشعر بالشبع والرضا في هذا الشأن. وكان من الممكن أن ينهض من نومه مغمورا بالروح القدس، ويدخل في عمليات وعظ طويلة، ويرأس قداسات العشاء الرباني التي يرى نفسه فيها أنه وعاء الرب ويشهد تغير الكثير من الأرواح. غير أنه لم يكن مهتما بإرجاع الفضل لنفسه في هذه التحولات، ويعلم أنه قادر تماما على ارتكاب خطيئة التفاخر، ويعلم أيضا كيف يمكن أن يسحب الرب الرحمة منه فجأة.
كان يجتهد ويخطئ، ويعود للظلام واليأس مرة أخرى. •••
في تلك الأثناء، كانت المياه تتسرب من سقف بيته، والرطوبة تنتشر في جدرانه، والمدخنة يتسرب منها الدخان، وزوجته وأبناؤه، وهو نفسه، كثيرا ما يمرضون بالحمى. وكانوا يعانون من التهابات بكتيرية في الحلق وآلام روماتيزمية، بل مات بعض أبنائه. وقد ولدت أول ابنة له وهي تعاني - على ما يبدو لي - من انشقاق العمود الفقري، وقد ماتت بعد ولادتها بقليل. وكانت زوجته تعاني اضطرابا نفسيا، وعلى الرغم من أنه كان يفعل ما بوسعه لتهدئتها وتوفير سبل الراحة لها، فإنه كان يشعر بأنه مضطر أيضا إلى توبيخها؛ لتذمرها من إرادة الرب. وكان عليه أيضا أن يؤنب نفسه بعدما كان يرفع غطاء التابوت ليلقي نظرة الوداع الأخيرة على وجه ابنه المحبب إليه البالغ من العمر ثلاث سنوات. يا لها من خطيئة وضعف من جانبه أن يحب هذه القطعة الخطاءة من اللحم، وأن يجادل على أي نحو في حكمة الرب في أخذها! لا بد أن هذا سيعقبه مزيد من الصراعات ولوم النفس والصلاة والدعاء.
صراعات ليست مع كآبة روحه فحسب، بل مع معظم زملائه من القساوسة؛ إذ صار يبدي اهتماما عميقا بأطروحة اسمها «جوهر اللاهوت المعاصر». وقد اتهموه بأنه مؤيد لتلك الأطروحة، وأنه على شفا اعتناق فكرة الأنتينومانية (أي مناهضة الناموس)، التي كانت نتاجا منطقيا لمذهب الجبرية، وهي تطرح سؤالا بسيطا ومباشرا؛ ألا وهو: لماذا - إن كنت منذ خلقك واحدا من المختارين - لا تستطيع فعل ما تريد دون محاسبة؟
لكن مهلا، مهلا. أما بالنسبة إلى كون المرء واحدا من المختارين، فمن يدريه أنه كذلك؟
والمشكلة بالنسبة إلى بوستون ليست بالتأكيد هي فعل أي شيء يريده دون محاسبة، ولكنها تتعلق بالرغبة الملحة، الرغبة الملحة العظيمة، في تتبع ما تقوده إليه خطوط تفكير وتأمل معينة.
ولكن في الوقت المناسب يرجع عن الخطأ، ويكف عنه ويشعر بالأمان.
وفي خضم ولادة الأطفال وموت بعضهم والعناية بمن تبقى منهم ومشاكل السقف والمطر البارد الذي لا ينقطع؛ تغلب مرض عصبي على زوجته، وجعلها لا تستطيع مغادرة الفراش. كان إيمانها قويا، ولكن به خلل في جانب أساسي، حسب قوله، إلا أنه لم يذكر هذا الجانب. لقد كان يصلي معها. ونحن لا نعرف كيف كان يدير البيت. ويبدو أن زوجته - كاثرين براون التي كانت جميلة فيما مضى - لازمت الفراش لسنوات طويلة فيما عدا الفترة التي مرض فيها كل أفراد الأسرة بعدوى مؤقتة، حينها نهضت من فراشها، واعتنت بهم جميعا دون تعب وفي حنان وبنفس القوة والتفاؤل اللذين كانت تبديهما أيام شبابها عندما وقع في حبها بوستون أول مرة. الجميع شفي من المرض لتعود هي طريحة الفراش. وعلى الرغم من تقدمها في السن، فإنها كانت ما تزال على قيد الحياة في الوقت الذي كان يحتضر فيه زوجها، ونأمل أن تكون قد نهضت حينها وذهبت لتعيش في بيت غير رطب مع بعض الأقارب اللطفاء في بلدة متحضرة؛ عندها سوف تحافظ على إيمانها، ولكن ربما تنحيه جانبا بعض الشيء حتى تستمتع بقدر ضئيل من السعادة الدنيوية.
كان زوجها يعظ من نافذة حجرته عندما صار أضعف وأقرب إلى الموت، بدلا من أن يذهب إلى الكنيسة ويصعد منبر الوعظ. وكان يعظ بشجاعة وحرارة كما كان طوال عمره، وتلتف الجموع حتى تسمعه كالعادة برغم المطر.
وهذا النوع من الحياة هو الأكثر بؤسا وكآبة من وجهة نظر غير إيمانية. من خلال وجهة النظر الإيمانية فقط، يمكن للمرء أن يجد فيها الثواب الكبير إلى جانب الصراع، والسعي الحثيث من أجل التقوى الخالصة والاستمتاع بنفحة من نفحات الرب وفضله.
لذا، يبدو غريبا بالنسبة إلي أن توماس بوستون كان القس الذي كان يستمع لوعظه ويل أوفوب في كل يوم أحد في شبابه، وربما القس الذي زوجه لبيسي سكوت. من المفترض أن جدي - وهو رجل شبه كافر، محب للمرح، مدمن للبراندي، رجل تعقد عليه المراهنات، رجل يؤمن بالجن - قد استمع إلى قيود هذا الدين الكالفني القاسي وآماله البعيدة المنال وآمن بها. بل عندما تتبعت بعض العفاريت ويل عشية عيد القديسين، ألم يطلب الحماية من نفس الرب، الذي كان يدعوه بوستون، بأن يرفع الأحمال عن كاهله؛ أحمال الفتور والشك والحزن؟ إن الماضي يعج بالتناقضات والتعقيدات - التي ربما لا تختلف عن تناقضات الحاضر وتعقيداته - وإن كنا لا نعتقد ذلك في الغالب.
كيف يمكن لهؤلاء الناس ألا يأخذوا الدين مأخذ الجد وهو يهددهم بأن النار لن ينجو منها أحد، وأن الشيطان يمكر بهم مكرا شديدا، وأنه لا يفتر عن إغوائهم، وأن أهل الفردوس قلة قليلة؟ لقد فعلوا كذلك، أخذوه بالفعل مأخذ الجد. لقد استدعوا ليجلسوا على كرسي الاعتراف ليعترفوا بخطاياهم ويحملوا خزيهم - عادة بسبب علاقة جنسية يشار إليها عقائديا بالزنا - أمام جمع من المصلين. استدعي جيمس هوج من قبل إلى هذا المقعد مرتين على الأقل للرد على ادعاء بنتين من بنات البلدة بأنه أبوهما. وقد اعترف بسهولة بحالة واحدة، وقال في الحالة الأخرى إنه ربما يكون بالفعل أباها. (وعلى بعد 80 ميلا أو ما يقرب من ذلك ناحية الغرب، في بلدة موكلين بأيرشاير، عانى روبرت بيرنز الذي يكبر هوج بإحدى عشرة سنة، نفس الإذلال العلني.) وكان المسئولون في الكنيسة يتنقلون من بيت لآخر حتى يتأكدوا من عدم طبخ الأهالي يوم الأحد، ودائما ما يستخدمون أياديهم القاسية في عصر صدر أي امرأة يشكون في ولادتها طفلا غير شرعي عصرا عنيفا، حتى إذا خرجت نقطة لبن من صدرها تأكدوا من أنها كذلك. إلا أن حقيقة تعاملهم مع هذا الحذر على أنه ضروري تبين أن هؤلاء المؤمنين متأثرون بالطبيعة على نحو سلبي يعوقهم عن ممارسة حياتهم بالأسلوب الصحيح، كما هو الحال مع الناس دائما. ويروي مسئول في كنيسة بيرنز قائلا: «لم تحدث سوى 26 واقعة زنا فقط منذ آخر سر مقدس.» كما لو كان هذا الرقم يعد في واقع الأمر خطوة في الاتجاه الصحيح.
علاوة على ذلك، هؤلاء المؤمنون يتأثرون بالطبيعة أيضا في طريقتهم في ممارسة الدين، بل ويتأثرون كذلك بنتاج عقولهم من أفكار، بالحجج والتأويلات التي من المفترض أن تثار.
لا بد أن هذا الأمر له علاقة بكونهم أكثر أهل الريف ثقافة وتعلما في أوروبا. لقد أراد جون نوكس أن يكونوا متعلمين؛ حتى يستطيعوا قراءة الكتاب المقدس، وقد قرءوه عن إيمان وشغف على حد سواء؛ كي يكتشفوا أوامر الرب وتدبيره. وقد وجدوا كثيرا من الألغاز في هذا التدبير. شكا بعض القساوسة ممن كانوا يعيشون في زمن بوستون من الولع الشديد بالجدل الذي كان عليه أهالي الأبرشية، «حتى النساء منهم» (لم يذكر بوستون أي شيء عن هذا الأمر؛ بسبب كثرة انشغاله بلوم نفسه). إنهم كانوا لا يقبلون - في هدوء - ما جاءهم به من العظات التي كانت تستمر لساعات، ولكنهم كانوا يعتبرونها نوعا من الغذاء الفكري، ويحكمون عليها كما لو أنهم ملتزمون بخوض نقاشات أبدية وجادة للغاية. وكانوا دائما ما يشعرون بالقلق حيال موضوعات في العقيدة ومقتطفات من الكتاب المقدس، وهو ما يرون أنه من الأفضل - كما يقول لهم كهنتهم - عدم الخوض فيها وتركها للأشخاص المدربين على التصدي لمثل هذه الأمور. ولكنهم لم يفعلوا ذلك، بل إن بعض القساوسة المدربين كانوا يصلون في بعض الأحيان إلى استنتاجات يرفضها قساوسة آخرون. والنتيجة هي أن الانقسامات كانت تعصف بالكنيسة، وأن رجال الدين في حالة مستمرة من التناحر بعضهم مع بعض، كما اتضح من المشكلات التي وقع فيها بوستون. وربما كان اتهامه بأنه مؤيد لأطروحة «جوهر اللاهوت المعاصر» وبأنه متبع لأفكاره التي لم يستطع أن يتحاشاها هما ما جعلاه يبقى في وادي إتريك النائي ولا ينقل إلى مكان مريح إلى حد ما حتى يوم وفاته. (1-3) جيمس هوج وجيمس ليدلو
كان دائما يتمتع بشخصية فريدة ومسلية للغاية تتمسك بكل فكرة قديمة ومدحضة في العلم والدين والسياسة ... وما من شيء أثار غضبه أكثر من النظرية التي تقول بدوران الأرض حول محورها ودورانها حول الشمس ... ... وقد كان يتحدث ويقرأ عن أمريكا على مدار سنوات، حتى تملك الحزن منه، وفي النهاية، عندما ناهز الستين من عمره، شرع بالفعل في البحث عن بيت مؤقت يعيش فيه وقبر يدفن فيه في هذا العالم الجديد.
جيمس هوج، كاتبا عن ابن عمه جيمس ليدلو
هوج، هذا الرجل المسكين، قضى معظم حياته في اختلاق الأكاذيب ...
جيمس ليدلو، كاتبا عن ابن عمه جيمس هوج، الشاعر والروائي الذي عاش في اسكتلندا في بداية القرن التاسع عشر
كان رجلا مرهف الإحساس للغاية، رغم كل الهراء الذي كتبه ...
تيبي شيل، صاحب إحدى الحانات، الذي دفن أيضا في جبانة كنيسة إتريك، متحدثا عن جيمس هوج
كان جيمس هوج وجيمس ليدلو أبناء عمومة مباشرة، ولدا وتربيا في وادي إتريك، وهو مكان غير ملائم لمن هم على شاكلتهما؛ أي لهؤلاء الذين يحبون الظهور ولا يفضلون الحياة الهادئة.
أما إذا صار أحد هؤلاء مشهورا، فتلكم قصة أخرى بالطبع. فإن كان على قيد الحياة، فإنه يطرد، وإن كان ميتا، فهو مرحب به. أما بعد مرور جيل أو جيلين، فتلكم قصة أخرى.
هرب هوج إلى إدنبرة متقمصا الدور الصعب للمهرج الساذج العبقري الريفي، ثم هرب - عندما ألف عمله «اعترافات مذنب معذور» - إلى شهرة دائمة رحبة الآفاق. أما ليدلو، وإن كان يفتقد المواهب التي كان يحظى بها ابن عمه، فإنه لم يكن يفتقر - فيما يبدو - إلى الاستعراض وحب الظهور وإبراز أنه بحاجة إلى مكان آخر غير حانة تيبي شيل لاستعراض مواهبه. وكان له بعض التأثير عندما رفع من شأن أكثر أفراد عائلته خضوعا وإذعانا وجعلهم ينتقلون للعيش في أمريكا - أو بالأحرى كندا - عندما كبر في السن، حسبما أشار هوج، حتى إنه كان على وشك الموت.
إن حب الظهور واستعراض الذات صفة مرفوضة من قبل عائلتنا. والآن عندما أتأمل هذا المصطلح، أتذكر أنهم لم يكونوا يستخدمونه كذلك على وجه التحديد، بل كانوا يستخدمون مصطلح «جذب الانتباه»؛ أي «أن يجذب المرء انتباه الآخرين إليه.» ولم يكن التواضع هو المقابل الدقيق لهذا المصطلح؛ بل كان الوقار وضبط النفس الشديدين، أو نوعا من الرفض؛ رفض الشعور بالحاجة لتحويل حياتك إلى قصة من أجل الآخرين أو من أجل نفسك. وعندما أمعنت النظر في الأفراد الذين أعرف معلومات عنهم في العائلة، بدا لي أن بعضهم يشعر بتلك الحاجة على نحو كبير، لا يقاوم، بالنحو الكافي الذي يجعل الآخرين يشعرون بالإحراج والضيق. من أجل ذلك كان يجب أن يعلن الحكم عليهم أو التحذير من أمرهم على نحو متكرر. •••
أفل عالم ويل أوفوب تقريبا، لما صار حفيداه - جيمس هوج وجيمس ليدلو - شابين. كان هناك وعي تاريخي بهذا الماضي الحديث؛ إما إعجابا به وإما استغلالا له، وهو أمر ممكن فقط عندما يشعر الناس بأنهم منبوذون لا محالة. وهذا بالضبط ما شعر به جيمس هوج، وإن كان ينتمي بشدة لإتريك. يرجع الفضل إلى كتاباته في كل ما عرفت عن ويل أوفوب. لقد كان هوج عالما بما يحدث ببلدته وفي الوقت نفسه غريبا عنها، وكان يجتهد في صياغة قصص أهله وتسجيلها، ويحدوه الأمل إلى استثمار ذلك على نحو مربح. ولقد وجد في أمه مارجريت ليدلو - أكبر بنات ويل أوفوب - مصدرا رائعا في هذا الشأن، وهي التي تربت وترعرعت في فار-هوب. وكان هوج يتولى تهذيب المعلومات التي يجمعها وتجميلها، وهو نوع من الكذب البارع الذي نتوقع من الكتاب أن يضمنوه في كتبهم.
كان والتر سكوت غريبا عن بلده، ولكن على نحو مختلف؛ إذ كان محاميا في إدنبرة ثم عين في منصب رفيع في المنطقة التي كانت تعيش فيها عائلته. إلا أنه كان قد أدرك أيضا - كما يفعل الغرباء في بعض الأحيان - مدى أهمية شيء كان يتلاشى. عندما أصبح القاضي المحلي لسيلكيرك شاير، بدأ يتنقل في أنحاء البلاد ليجمع الأغنيات والقصائد الشعبية القديمة التي لم تدون من قبل، ونشرها في كتابه «قصائد وأغاني مناطق اسكتلندا الحدودية». أما مارجريت ليدلو هوج، فقد اشتهرت محليا بسبب القصائد الكثيرة التي كانت تحفظها. وأما هوج - الذي كانت عينه على الأجيال القادمة وما سيحصل عليه من مكاسب في الوقت الحاضر - فقد سعى لاصطحاب سكوت ليرى أمه.
أنشدت مارجريت كثيرا من القصائد، بما في ذلك «قصيدة جوني أرمسترونج» المكتشفة حديثا، التي قالت إنها حصلت عليها هي وأخوها «من أندرو مور العجوز، الذي حصل عليها بدوره من بيبي متلين (أو ميتلاند) التي كانت مديرة منزل أول لوردات توشيلو.» (تصادف أن أندرو مور هذا كان خادما لبوستون وهو من قال إن بوستون قد «طرد الشبح» الذي ظهر في إحدى قصائد هوج. وهذا بعد جديد في شخصية القس.)
اعترضت مارجريت هوج بشدة عندما رأت الكتاب الذي ألفه سكوت عام 1802 وبه إسهاماتها.
وأظن أنها قالت إن هذه القصائد «كتبت كي تنشد لا كي تطبع، وإنها لن تغنى بعد هذا اليوم على الإطلاق.»
واعترضت أيضا قائلة إن القصائد «لم تدون تدوينا صحيحا، وهجاؤها ليس سليما»، وإن بدا أن هذا الحكم غريب أن يخرج من شخص قدم - من قبل نفسه أو من قبل هوج - على أنه امرأة ريفية عجوز وبسيطة لم تحصل إلا على الحد الأدنى من التعليم.
ربما كانت بسيطة وشديدة الذكاء على حد سواء. فقد كانت تعرف ماذا كانت تفعل، لكنها لم تستطع منع نفسها من الندم على ما قامت به. «ولن تغنى بعد هذا اليوم أبدا.»
وربما كانت تستمتع بإظهار أن الأمر كان يحتاج لأكثر من كتاب مطبوع، ولأكثر من تدوين القاضي المحلي لسيلكيرك، كي يترك انطباعا جيدا لديها. وأظن أن كل الاسكتلنديين كذلك. كل أفراد عائلتي كانوا كذلك. •••
وبعد مرور 50 عاما على جمع ويل أوفوب لأبنائه حوله ودعائه ليلة عيد القديسين لأن يشمله الرب بالحماية، التقى هوج عددا من أبناء عمومته من الذكور - الذين لم يذكر أسماءهم - في نفس البيت المرتفع في مزرعة فوب. وكان البيت يستخدم آنذاك كنزل يسكنه أي راع أعزب يرعى أغناما تحتاج إلى طعام كثير. وقد اجتمع المجتمعون في هذا البيت، لا ليسكروا ويحكوا قصصا بل من أجل «قراءة مقالات». ويصف هوج هذه المقالات بأنها حماسية ورنانة. ومن تلك الكلمات ومما قيل بعد ذلك، يبدو أن هؤلاء الشباب الذين لم يخرجوا عن نطاق إتريك قد سمعوا عن عصر العقل - وإن كانوا ربما لم يطلقوا عليه ذلك - وعن أفكار فولتير ولوك وديفيد هيوم، الاسكتلندي الذي ينتمي لمنطقة الأراضي المنخفضة. نشأ هيوم في ناينويلز التي تبعد حوالي 50 ميلا عن قرية تشيرنسايد، تلك القرية التي عاد إليها مرة أخرى عندما كان يعاني من انهيار عصبي في سن الثامنة عشر، وهو أمر ربما تغلب عليه مؤقتا بسبب ما رآه هناك من تنقيب في الحياة الشخصية للناس. وقد كان ما زال على قيد الحياة وقت ولادة هؤلاء الشباب.
يمكن بالطبع أن يكون تخميني في غير محله؛ إذ ربما كان ما يسميه هوج مقالات هو في واقع الأمر قصص؛ حكايات عن مطاردة المعاهدين في اجتماعاتهم السرية الخارجية من قبل فرسان المشاة الذين يرتدون سترات حرب حمراء، وحكايات عن الساحرات وعن الموتى الذين يسيرون على أقدامهم. وكان هؤلاء الشباب يحاولون قراءة أي مؤلف، نثرا كان أم شعرا. مدارس جون نوكس أدت ما عليها، وقد بدأ حب الأدب والشعر ينتشر في جميع المراحل الدراسية بتلك المدارس. ولما كان هوج في أقل منزلة له، حيث كان يعمل راعيا للأغنام على تلال نيثسدال الموحشة ويعيش في كوخ صغير يصعب العيش فيه؛ جاءه الأخوان آلان كانينجهام، الشاعر والمتدرب لدى البناء بالحجر، وأخوه جيمس - بعد أن اجتازا مسافة طويلة عبر الريف حتى يقابلاه ويعبرا له عن إعجابهما به. (أصاب هوج الذعر في بداية الأمر؛ إذ ظن أنهما أتيا إليه يتهمانه بإثارة مشكلة ما مع إحدى النساء.) ترك ثلاثتهم الكلب هيكتور يحرس الأغنام وجلسوا يتحدثون عن الشعر طوال اليوم، ثم دخلوا إلى الكوخ كي يحتسوا الويسكي ويتحدثوا عن الشعر طوال الليل.
وقد عقد اجتماع رعاة الأغنام شتاء في مزرعة فوب، وهو الاجتماع الذي ادعى هوج أنه لم يتمكن من حضوره على الرغم من وجود مثل هذا المقال في جيبه. كان الجو دافئا على غير العادة، إلا أن عاصفة هبت في هذه الليلة، وسرعان ما تبين أنها أسوأ عاصفة منذ نصف قرن مضى. تجمدت الأغنام من البرد في حظائرها، وحوصرت الخيول والرجال وتجمدوا على الطرق، ودفنت المنازل حتى أسقفها في الجليد، واستمرت العاصفة على مدار ثلاثة أو أربعة أيام، وهي تزمجر وتدمر، ولما انتهت، ونزل رعاة الأغنام الشباب إلى الوادي أحياء، هدأت عائلاتهم وتنفست الصعداء، ولكنها لم تكن راضية عنهم على الإطلاق.
قالت أم هوج لابنها بوضوح إن العاصفة كانت عقابا حل بالمنطقة كلها بسبب العمل الشيطاني المتمثل في أي مطالعة أو مناقشة جرت في المزرعة في تلك الليلة. ولا شك أن كثيرا من الآباء ظنوا كما ظنت أم هوج.
وبعد مرور بضع سنوات، كتب هوج وصفا دقيقا لهذه العاصفة، ونشر هذا الوصف في مجلة «بلاكوودز ماجازين». وكانت هذه المجلة من المجلات المحببة للأختين برونتي وهما صغيرتان في بيت أبيهما القسيس الكائن في قرية هاوورث، وعندما اختارت كل منهما بطلا لتجسيده في ألعابها، اختارت إيميلي شخصية راعي أغنام إتريك، جيمس هوج (أما الأخت شارلوت، فقد اختارت دوق ويلنجتون). وتبدأ رواية «مرتفعات ويذرينج»، وهي الرواية الشهيرة لإيميلي ، بوصف عاصفة هوجاء مرعبة. وكثيرا ما تساءلت إن كان ثمة رابط بين هذا الوصف ومقال هوج. •••
لا أعتقد أن جيمس ليدلو كان واحدا من الموجودين في مزرعة فوب في تلك الليلة؛ فخطاباته التي قرأتها له لا توحي بأن له عقلا كعقل المتشككين أو المنظرين أو الشعراء. وبالطبع، فإن الخطابات التي قرأتها كتبها عندما صار عجوزا. فالناس يتغيرون بلا شك.
ولا شك أنه كان خفيف الظل في أول لقاء لنا معه هنا - حسب رواية هوج - في حانة تيبي شيل (التي ما زالت موجودة، والتي تبعد عن مزرعة فوب مسافة أكثر من ساعة مشيا عبر التلال، تلك المزرعة التي ما زالت موجودة أيضا، وقد تحولت الآن إلى كوخ صغير عام على ممر ساوثذرن أبلاند واي للمشي). وكان يقدم عرضا فنيا قد يراه البعض نوعا من الكفر. لقد كان نوعا من الكفر، ومحفوفا بالمخاطر، ومضحكا. كان يركع على ركبتيه ويصلي للكثير من الحضور. كان يطلب العفو ويتحدث عن الخطايا المعلق أمر توبتها، بادئا كلا منها بعبارة «إن صح أن ...» ««إن صح أن» الطفل قد ولد لأسبوعين بعد أن أصبح لزوجة فلان طلة مبهرة عن كذا، فهل سترحم يا ربي كل الضالعين ...؟» ««إن صح أن» فلانا غش فلانا في عشرين قطعة من الفضة في سوق الأغنام الأخيرة بقرية سانت بازويلز، فندعوك يا رب، على الرغم من هذا الفعل الشيطاني، أن ...»
لم يكن بالإمكان منع بعض من ذكر أسماءهم من الهجوم عليه، واضطر أصدقاؤه إلى إخراجه قبل أن يمسه سوء.
ربما كان في هذا الوقت أرملا، رجلا حرا بلا قيود، أفقر من أن ترضى أي امرأة بالزواج منه. أنجبت له زوجته بنتا وخمسة أولاد ثم ماتت وهي تضع مولودها الأخير. سمى البنت ماري، وسمى الأولاد: روبرت، وجيمس، وأندرو، وويليام، ووالتر.
عندما كان يكتب لجمعية مختصة بالهجرة إبان اندلاع معركة ووترلو، كان يقدم نفسه على أنه شخص مناسب للهجرة؛ لأن لديه خمسة أولاد أقوياء كان سيصطحبهم إلى العالم الجديد. لا أعرف إن كان قد حصل على مساعدة للهجرة أم لا. ولكنه على الأرجح لم يحصل؛ لأننا سمعنا بعد ذلك أنه كان يمر بمشاكل في جمع تكاليف السفر. ثم حل الكساد بعدما وضعت الحروب النابليونية أوزارها، وانهارت أسعار الأغنام. ولم يعد يتفاخر بأولاده الخمسة. رحل الابن الأكبر روبرت إلى منطقة الأراضي المرتفعة الاسكتلندية، وذهب جيمس إلى أمريكا - التي كانت كندا جزءا منها آنذاك - بمفرده تماما، ويبدو أنه لم يرسل خطابا يخبر فيه أباه عن مكانه أو عما يفعل. (كان في نوفا سكوشا ويعمل معلما بإحدى المدارس في منطقة اسمها إيكونومي، وإن كان لا يتمتع بأي مؤهلات تؤهله لشغل هذه الوظيفة باستثناء ما تعلمه في مدرسة إتريك وربما ذراعه اليمنى القوية.)
أما ابنه قبل الأخير ويليام - الذي كان ما زال صبيا لم يتجاوز مرحلة المراهقة بعد، والذي سيصبح جد جدي فيما بعد - فقد رحل أيضا. ولما سمعنا عنه بعد ذلك، عرفنا أنه استقر في منطقة الأراضي المرتفعة الاسكتلندية، وكان عاملا في إحدى مزارع الأغنام الجديدة التي أخليت من المستأجرين. وكان يمقت مسقط رأسه مقتا شديدا، وهو ما ظهر في خطابه إلى الفتاة التي تزوجها فيما بعد، الذي قال فيه إنه لا يمكن أن يفكر في العيش مرة أخرى في وادي إتريك.
ويبدو أن الفقر والجهل أصاباه بالحزن الشديد؛ فالفقر بدا له متعنتا، والجهل - حسبما رأى - كان جاهلا حتى بوجوده. كان رجلا عصريا.
المنظر من صخرة القلعة
كان أندرو يبلغ من العمر عشر سنوات عندما زار إدنبرة لأول مرة في حياته. في ذلك الوقت، سار أندرو بصحبة والده ورجال آخرين في شارع زلق أرضيته سوداء. وكانت السماء تمطر ورائحة الدخان المنبعثة من المدينة تملأ الهواء، وكانت الأبواب النصفية مفتوحة وتظهر منها الأجزاء الداخلية للحانات المضاءة بنور نيران المدافئ التي كان يتمنى أن يدخلها؛ لأنه كان مبللا تماما بالماء. ولكنهم لم يدخلوها، بل توجهوا إلى مكان آخر؛ إذ كانوا في بداية فترة ما بعد الظهيرة في ذلك اليوم في مكان يشبه تلك الحانات، إلا أنه لم يكن إلا فجوة داخل جدار بها بعض ألواح الخشب التي توضع عليها الزجاجات والكئوس والعملات المعدنية. وقد حشر أكثر من مرة بين الجالسين؛ مما كان يؤدي إلى دفعه خارج هذا المكان إلى الشارع، ومنه إلى البركة الصغيرة التي صنعتها قطرات الماء المتساقطة من الرف الموجود أعلى المدخل. ولكي يمنع حدوث ذلك، زج بنفسه تحت العباءات والسترات المصنوعة من جلد الأغنام وحشر نفسه بين الثملة وتحت أذرعهم.
تفاجأ بعدد الناس الذين بدا أن والده كان يعرفهم في مدينة إدنبرة. وربما ظن أن الناس الذين يجلسون في الحانة غرباء بالنسبة إليه، لكن اتضح له أن الأمر ليس كذلك. كان صوت أبيه هو الأعلى بين كل الأصوات الغريبة المجادلة والهائجة. قال أبوه: «أمريكا!» ثم ضرب بكفه على أحد الألواح الخشبية ليجذب انتباه من حوله، وهو نفس الشيء الذي اعتاد أن يفعله في بيته. سمع أندرو هذه الكلمة بنفس هذه النبرة قبل فترة طويلة من إدراكه أنها أرض تقع عبر المحيط. كانت هذه الكلمة تقال من باب التحدي وباعتبارها حقيقة لا جدال فيها، لكنها كانت تقال أحيانا - في غياب والده - على سبيل التهكم والمزاح. كان أخواه الأكبر سنا يسأل كل منهما الآخر قائلا: «هل ستذهب إلى أمريكا؟» عندما يرتدي أحدهما وشاحه ليخرج ويؤدي عملا ما كأن يئوي الأغنام إلى الحظيرة؛ أو «لماذا لا تذهب إلى أمريكا؟» عندما يدخلان في جدال ويريد أحدهما أن يظهر الآخر على أنه أحمق.
كان إيقاع صوت أبيه في كلامه الذي تلا هذه الكلمة إيقاعا مألوفا للغاية، وقد طغى الدخان على أعين أندرو حتى إنه لم يستغرق وقتا طويلا قبل أن ينام واقفا. استيقظ على وقع تدافع عدد من الأشخاص أثناء خروجهم من المكان وكان أبوه واحدا منهم. قال أحدهم: «أهذا ولدك أم هو عابر سبيل دخل إلى هنا حتى يسرقنا؟» فما كان من والده إلا أن ضحك ومسك يده وبدآ في الصعود. تعثر رجل ووقع آخر عليه وسبه. مررت امرأتان سلتين على الجمع بازدراء شديد ليضعوا فيهما النقود، وأطلقتا بعض التعليقات بكلام غير مألوف لم يفهم منه أندرو سوى عبارتي: «أجسام جميلة» و«ممرات عامة للمشاة.»
ثم ذهب أبوه ومن معه من الأصدقاء إلى شارع أوسع بكثير مرصوف بقوالب كبيرة من الحجر، وكان في حقيقة الأمر عبارة عن ساحة. استدار الأب عندئذ وتوجه بالحديث إلى أندرو.
ثم قال: «أتعلم أين أنت يا بني؟ أنت في ساحة القلعة، قلعة إدنبرة التي ظلت صامدة على مدار عشرة آلاف عام، وسوف تظل صامدة لعشرة آلاف عام أخرى. وقعت ها هنا أحداث شنيعة. كانت الدماء تسيل على هذه الأحجار.» ثم قال ذلك رافعا رأسه حتى يصغي الجميع إلى ما يقول: «أتعلمون ذلك؟»
ثم أضاف: «إن الملك جيمي هو من دعا نبيلي دوجلاس إلى العشاء معه، وعندما جلسا واطمئنا في جلستهما، قال لرجاله: أوه، نحن لا نرغب في العشاء معهم، خذوهم إلى الساحة واقطعوا رءوسهم. وقد فعلوا. كل هذا حدث ها هنا في هذه الساحة التي نقف عليها الآن.»
ثم واصل حديثه قائلا: «غير أن الملك جايمي مات متأثرا بالجذام.» قال ذلك متنهدا ثم متأوها؛ مما جعل الجميع يهدءون ليفكروا في هذا المصير.
ثم هز رأسه.
ثم قال: «آه، لا، ليس هو. إنه الملك روبرت ذا بروس من مات وهو أبرص. صحيح أنه مات ملكا، لكنه مات وهو أبرص أيضا.»
لم يستطع أندرو أن يرى شيئا سوى أسوار حجرية كثيرة وبوابات مؤصدة، وجنديا يرتدي سترة حمراء ويسير ذهابا وإيابا. على أي حال، لم يمهله أبوه كثيرا من الوقت حتى يتأمل المكان، ودفعه إلى الأمام، ثم قال لمن معه أثناء عبور ممر مقنطر: «أخفضوا رءوسكم أيها الرجال! فقد كان الرجال في ذلك الوقت صغار الحجم وقصار القامة، مثلهم مثل بوني الفرنسي (نابليون)، وكان ثمة قتال وتشاحن كبيران بين هؤلاء الرجال الضئيلي الأجسام.»
كانوا يصعدون درجات حجرية غير مستوية، يبلغ ارتفاع بعضها ارتفاع ركبتي أندرو، الذي كان عليه أن يزحف من حين لآخر، داخل ما اعتقد أنه برج بلا سقف. صاح أبوه قائلا: «هل الجميع معي الآن؟ هل الجميع يصعدون معي؟» وردت عليه أصوات قليلة متفرقة. لكن تكون لدى أندرو انطباع بأن عدد من كانوا يتبعون أباه ليس كما كان أثناء سيرهم معه في الشارع.
تسلقوا إلى أن وصلوا إلى درج دوار، وفي نهايته ظهرت صخرة جرداء، جرف صخري، تنحدر عنده الأرض انحدارا شديدا. وكان المطر قد توقف عن الهطول بحلول ذلك الوقت.
قال والد أندرو: «آه، قد وصلنا. والآن أين كل من كانوا يسيرون في أعقابنا وصولا إلى هنا؟»
رد عليه أحد الرجال الذين وصلوا توا إلى القمة: «ثمة اثنان أو ثلاثة منهم انسلوا حتى يلقوا نظرة على مدفع ميج.»
قال والد أندرو: «آلات الحرب! كل ما يريدون أن يروه هو آلات الحرب. لا تدعهم يذهبوا حتى لا ينسفوا أنفسهم.»
وقال آخر وهو يلهث: «الأرجح أنه ليست لديهم القوة التي تمكنهم من صعود الدرج.» فرد الأول ضاحكا: «إنهم يخافون من صعود كل هذا الدرج حتى يصلوا إلى هنا. إنهم يخافون من السقوط من هذا المكان المرتفع.»
صعد رجل ثالث - وكان آخرهم - وأخذ يترنح عبر الجرف الصخري كما لو كان متعمدا ذلك.
ثم صرخ قائلا: «أين هو إذن؟ ألم نصل إلى مقعد آرثر؟» رد والد أندرو قائلا: «كلا، لم نصل. انظر خلفك.»
ها هي الشمس قد أشرقت الآن لتتألق فوق مجموعة المنازل والشوارع الحجرية الموجودة أسفلهم، وكذلك فوق الكنائس التي لم تصل قممها المستدقة إلى هذا الارتفاع، وبعض الأشجار الصغيرة والحقول، ومساحة فسيحة من الماء بلون الفضة. ووراء هذا كله أرض لها لون أخضر باهت وأزرق يميل إلى الرمادي، بعضها يصل إليه ضوء الشمس والبعض الآخر يغشاه الظل، وهي أرض باهت لونها كالضباب، تتوارى في غيابات السماء.
قال والد أندرو: «ألم أقل لكم؟ إنها أمريكا. هذا ليس سوى جزء صغير منها؛ شاطئها فقط. هناك يجلس كل رجل وسط أملاكه، حتى المتسولون يتنقلون من مكان لآخر مستخدمين العربات.»
قال الرجل الذي توقف عن الترنح: «حسنا، لا يبدو لي أن البحر عريض جدا بقدر ما ظننت. ولا يبدو أنه سوف يستغرق منك أسابيع حتى تعبره.»
رد الرجل الواقف بجوار والد أندرو: «إن هذا هو تأثير الارتفاع الذي نحن عليه الآن. إذ إن هذا الارتفاع يجعل عرض البحر يبدو أصغر.»
رد والد أندرو قائلا: «إنه يوم مثالي لرؤية هذا المنظر. فكم مرة يمكن للمرء أن يصل إلى هذا الارتفاع وما يرى إلا الضباب!»
ثم استدار ووجه كلامه إلى أندرو قائلا: «ها قد وصلت يا بني، وها أنت تنظر إلى أمريكا. اللهم هب له يوما يراها من مسافة أقرب ويتفقدها ويعايشها بنفسه.» •••
ذهب أندرو إلى القلعة مرة واحدة منذ ذلك اليوم وبصحبته مجموعة من الفتية من إتريك كانوا يريدون جميعا رؤية مدفع مونس ميج الكبير. لكن لم يعد شيء - على ما يبدو - في نفس مكانه آنذاك، ولم يستطع أندرو أن يجد الطريق الذي اتخذوه من قبل حتى يصعدوا إلى الصخرة. بل رأى مكانين مغلقين بألواح، أحدهما قد يكون هذا الطريق. غير أنه لم يحاول أن ينظر عبر أي منهما؛ إذ لم يكن يرغب في إخبار من معه عما يبحث عنه. وحتى عندما كان عمره عشر سنوات، أدرك أن الرجال الذين كانوا مع والده آنذاك كانوا سكارى، وإذا لم يكن يدرك أن والده كان ثملا؛ نظرا لثبات خطى والده وعلمه بما يفعل وسلوكه القيادي، فقد كان يدرك بلا شك أن شيئا ما ليس صحيحا. كان يعلم أنه لم يكن ينظر إلى أمريكا، وإن كان هذا قد حدث قبل سنوات قليلة من إلمامه بالخرائط بالقدر الذي يكفي لأن يعرف أن ما كان ينظر إليه هو مقاطعة فايف.
ومع ذلك، لم يكن يعرف إن كان هؤلاء الرجال الذين قابلهم في الحانة كانون يهزءون بوالده أم أن والده كان يمارس خدعة من خدعه عليهم. •••
جيمس الأب، وأندرو، ووالتر، وأختهم ماري، وأجنيس زوجة أندرو، وجيمس الابن - ابن أندرو وأجنيس - الذي لم يبلغ عامه الثاني بعد.
ركب كل هؤلاء لأول مرة في حياتهم سفينة، وذلك من ميناء ليث في الرابع من يونيو عام 1818.
ذكر جيمس الأب هذه الحقيقة للشخص المسئول عن التحقق من أسماء الركاب على ظهر السفينة.
قال له: «إنها أول مرة في حياتي كلها. نحن من وادي إتريك، إنه جزء غير ساحلي من هذا العالم.»
عاجلهم الرجل بكلمة غامضة، غير أنها كانت واضحة في معناها؛ قال لهم: «تحركوا للأمام!» ووضع علامة على أسمائهم. تحركوا بالفعل للأمام أو دفعوا للأمام، وكان جيمس الابن محمولا على خصر ماري.
قال جيمس الأب: «ما هذا؟» في إشارة منه إلى تزاحم الناس على ظهر السفينة. وتساءل: «أين سننام؟ ومن أين جاء كل هؤلاء الأوباش؟ انظر إلى وجوههم، هل هم من الزنوج؟»
قال ابنه والتر: «أغلب الظن أنهم سكان منطقة الأراضي المرتفعة من السود.» كانت هذه مزحة تمتم بها حتى لا يسمعه والده؛ حيث كان هؤلاء من الذين كان يحتقرهم أبوه.
ثم واصل الأب حديثه قائلا: «الناس ها هنا كثيرون للغاية. السفينة ستغرق.»
رد والتر - وبصوت عال هذه المرة - قائلا: «لا، لا تغرق السفن في العادة بسبب كثرة الموجودين عليها. هذا ما كان يفعله ذلك الرجل هناك؛ كان يحصي الركاب.»
لا يكاد يوجد على ظهر السفينة من يحاول التصرف بتكلف سوى هذا الفتى البالغ من العمر سبعة عشر عاما، وقد أخذ يعارض والده. ويبدو أن التعب والدهشة وثقل المعطف الذي كان يرتديه جيمس الأب منعه من أن يصفع هذا الفتى.
لقد علمت العائلة كل ما يتعلق بالوجود والتصرف على متن السفينة. وكان جيمس الأب العجوز هو من أخبرهم بكل هذه المعلومات؛ إذ كان هو الشخص الوحيد الذي يعرف كل شيء عن المؤن، وأماكن المبيت، وأصناف البشر التي قد تسافر على متن هذه السفن؛ الاسكتلنديين والأشخاص المحترمين فقط، وليس سكان منطقة الأراضي المرتفعة الاسكتلندية أو الأيرلنديين.
غير أنه صرخ الآن قائلا إن السفينة تشبه سرب نحل تكالب على جثة أسد.
ثم أضاف: «هذه مصيبة، مصيبة بالفعل. أوه، هذا ما دعانا إلى أن نترك وطننا.»
رد أندرو: «لم نتركه بعد. ما زال ميناء ليث باديا لنا. حري بنا أن ننزل لأسفل لنبحث عن مكان نمكث فيه .»
وهنا ظهر المزيد من الامتعاض. الأسرة ضيقة، ما هي إلا ألواح خشبية عليها فراش خشن وشائك، قماشه مصنوع من شعر الخيول.
قال أندرو: «أفضل من لا شيء.» «أوه، لم يخطر ببالي قط أن نأتي إلى هنا، على ظهر هذا القبر العائم.»
قالت أجنيس في نفسها: ألا يسكته أحد؟ سوف يستمر على هذا المنوال، كما لو كان واعظا أو معتوها، وهذا هو الحال الذي يكون عليه عندما تأتيه النوبة. لم تكن باستطاعتها تحمل هذا؛ فحجم الألم والمعاناة الذي كانت تشعر به أكبر مما يمكن أن يدركه.
قالت: «حسنا، هل سنجد مكانا للمبيت هنا أم لا؟»
علق بعض الناس أوشحتهم وشالاتهم حتى يصنعوا أماكن شبه خاصة لعائلاتهم وذويهم. وما كان منها إلى أن خلعت ما تلبسه من لفاح فوق ملابسها وفعلت مثلما فعلوا.
كان جنينها يتحرك حركات عنيفة في بطنها، ووجهها تخرج منه الحرارة كما تخرج من قطعة فحم مشتعلة، ورجلاها كانتا ترتجفان، واللحم المنتفخ الموجود بينهما - الشفرتان اللتان سوف يندفع من خلاهما قريبا جنينها ليأتي إلى الوجود - كان مصدرا لآلام شديدة. لعل أمها كانت تعلم ما كان ينبغي عليها فعله في مثل هذه الظروف؛ إذ لعلها كانت تعلم أي أنواع الأعشاب يجب أن تهرسها حتى تصنع منها لبخة مسكنة لهذه الآلام.
ولما تذكرت أمها، تملكها هذا العناء والشقاء، حتى إنها كانت تريد أن تركل أي شخص.
نشر أندرو وشاحه حتى يصنع مقعدا مريحا لوالده. جلس الرجل العجوز وتأوه ثم وضع يديه على وجهه حتى تخرج كلماته وكأنها تخرج من أعماقه.
ثم قال: «لن أرى المزيد من هذا بعد الآن. ولن أصغي إلى أصواتهم العالية أو كلماتهم الشيطانية. ولن أدخل في جوفي أي شيء - ولو طعاما قليلا - حتى أرى شواطئ أمريكا.»
ويبدو أن أجنيس كانت تقول في نفسها إنه كان لديهم نفس هذا الشعور.
لماذا لم يتحدث أندرو صراحة إلى والده ويذكره بمن كان صاحب هذه الفكرة ومن بالغ في الحديث عن الأمر واستدان وتوسل حتى يصلوا إلى ما هم فيه الآن ؟
لم يكن أندرو ليفعل، ووالتر كان يمزح فقط، أما ماري، فقلما كانت تنبس بكلمة في وجود أبيها.
انحدرت أجنيس من عائلة كبيرة من النساجين ينتمون إلى بلدة هويك، يعملون الآن في مصانع بعد أن ظلوا يعملون لأجيال في المنازل. ولما كانوا يعملون في هذه البلدة، فقد تعلموا كل فنون الجدال والتعامل مع الآخرين ووضع الآخرين في حجمهم الحقيقي والنجاة في المواجهات والمواقف الصعبة. غير أن الدهشة كانت لا تزال تعتريها من طباع أفراد عائلة زوجها القاسية وخنوعهم وسكوتهم. ظنت منذ البداية أنهم صنف غريب من البشر، وكانت ما زالت تظن بهم هذا الظن. هم كانوا لا يقلون فقرا عن عائلتها، غير أنهم كانوا يتصورون أنهم أفضل من الآخرين. ما الذي كان لديهم لدعم هذا التصور؟ كان الرجل العجوز أضحوكة في حانة بلدته على مدار أعوام عديدة، وابن عمهم كان شاعرا كذوبا يرتدي ثيابا مهترئة، واضطر للانتقال إلى نيثسدال عندما لم يجد أحدا في إتريك يثق به ويوليه رعي الأغنام. تربوا كلهم على أيدي ثلاث من العمات اللاتي كن يشبهن الساحرات، واللاتي كن يفزعن من الرجال لدرجة أنهن كن يجرين ويختبئن في حظيرة الأغنام إن مر رجل من غير رجال العائلة بالقرب منهن على الطريق.
كما لو لم يكن من المفترض من الرجال أن يكونوا هم من يهربون منهن.
عاد والتر بعدما حمل مقتنياتهم الثقيلة ووضعها في مكان ما في باطن السفينة.
قال والتر والدهشة تعتريه: «إنكم لم تروا مثل هذا الجبل من الصناديق والحقائب وأجولة الطعام والبطاطس في حياتكم أبدا. على المرء أن يتسلق كل هذه الأكوام حتى يصل إلى أنبوب المياه. ولا يسع المرء إلا أن يسكب الماء في طريق عودته، وهو ما سوف يؤدي إلى بلل الأجولة وعطب ما بها.»
قال أندرو: «لم يكن عليهم جلب كل هذه الأشياء. ألم يتعهدوا بأن يطعمونا عندما سددنا لهم قيمة الرحلة؟» رد الرجل العجوز قائلا: «بلى، ولكن هل من الملائم لنا أن نأكل؟»
قال والتر، الذي ما زال يحافظ على حالته المزاجية المازحة من أي شيء: «إذن، حسنا فعلت أن أحضرت قطع الكعك معي.» نقر بإحدى قدميه على الصندوق المعدني الصغير والمرتب والمملوء بكعك الشوفان الذي أعطته إياه عماته باعتباره هدية خاصة؛ لأنه كان الابن الأصغر، ولأنهن كن لا يزلن ينظرن إليه على أنه يتيم الأم.
قالت أجنيس: «ستدرك معنى السعادة عندما نتضور جوعا.» كان والتر كالبلاء بالنسبة لها، شأنه في ذلك شأنه الرجل العجوز. كانت تعرف أنه على الأرجح لا يوجد أي احتمال بأن يتضوروا جوعا؛ لأن أندرو كان يبدو ضجرا فقط وليس قلقا. وبطبيعة الحال كان من الصعب أن يتسلل القلق إلى أندرو بسهولة. وبدا أنه كان غير قلق عليها؛ لأنه فكر أول ما فكر في أن يوفر مقعدا مريحا لوالده. •••
عادت ماري بجيمس الابن مرة أخرى إلى سطح السفينة؛ إذ استشفت أن الخوف قد انتابه في هذا المكان شبه المظلم بأسفل. فلم يكن ينبغي له أن يتذمر أو يشكو؛ فهي كانت تدرك مشاعره من طريقة دفع ركبتيه الصغيرتين في خصرها.
تم لف أشرعة السفينة بإحكام. قالت ماري وهي تشير إلى أحد البحارة بأعلى السفينة وهو مشغول بتجهيز السفينة وربط الصواري والقلوع: «انظر إلى أعلى، انظر إلى أعلى.» وأصدر الطفل الذي كان محمولا على خصرها صوتا أشبه بصوت طائر. قالت: «البحار-صو صو، البحار-صو صو.» قالت المسمى الصحيح لوظيفة هذا الرجل، وهي بحار، ولكنها استخدمت كلمته هو التي كان يعبر بها عن الطائر. لقد كانت تتواصل معه بلغة نصفها من اللغة العادية ونصفها الآخر من ابتكاره هو. كانت تعتقد أنه أحد أمهر الأطفال الذين ولدوا في العالم بأسره. ولأنها كانت أكبر الأبناء سنا في عائلتها، ولأنها كانت الفتاة الوحيدة بينهم؛ فقد كانت تعتني بكل إخوتها وترعاهم، وكانت فخورة بهم جميعا في السابق، لكنها لم تر طفلا كهذا الطفل. لا أحد غيرها كان يعرف مدى براعته واستقلاليته وذكائه؛ فالرجال لا يهتمون كثيرا بالأطفال في هذه السن الصغيرة، وأمه أجنيس لا صبر لها معه.
كانت أجنيس تقول له: «تحدث كما يتحدث البشر!» وإن لم يفعل ذلك، كانت تضربه. وكانت تقول له: «ماذا أنت؟ هل أنت من البشر أم من العفاريت؟»
كانت ماري تخشى من طبع أجنيس، ولكنها نوعا ما كانت لا تلومها على ذلك؛ إذ كانت تظن أن النساء اللائي مثل أجنيس - سواء كن زوجات أم أمهات - يعشن حياة عصيبة؛ أولا، فيما يتعلق بما يفعله الأزواج معهن - حتى وإن كانوا في مثل طيبة أندرو - وثانيا، بما يجدن من الأطفال عند ولادتهم. لم تكن لتنسى أمها التي لازمت الفراش وفقدت عقلها من الحمى، ولم تستطع التعرف على أي منهم حتى أتاها الموت بعد ثلاثة أيام من ولادة والتر. وكانت تصرخ خوفا من الإناء الأسود المعلق فوق المدفأة؛ لأنها كانت تظن أنه مليء بالشياطين.
يطلق إخوة ماري عليها «ماري المسكينة». وفي واقع الأمر، أدى خنوع الكثير من النساء وضعفهن في عائلتهم إلى إلحاق هذه الكلمة بأسمائهن التي أعطين إياها عند تعميدهن؛ وهي الأسماء التي غيرت إلى أسماء أقل قبولا واحتراما. فصار اسم إيزابيل تيبي المسكينة، ومارجريت ماجي المسكينة، وجين جيني المسكينة. وكان الناس في إتريك يعتقدون أن جمال المظهر وطول القامة أمران يخصان الرجال فقط.
تبلغ ماري من الطول أقل من خمس أقدام، ولها وجه مشدود قليلا، وذقن ناتئ، وجلد معرض دوما للإصابة بحالات طفح التهابي لا يزول إلا بعد مرور فترة طويلة. عندما يتحدث إليها أحد، يجد فمها ينتفض كما لو أن الكلمات امتزجت كلها بلعابها وأسنانها الصغيرة المعوجة، ويكون ردها عبارة عن كلام مختلط بالرذاذ، وكانت نبرة صوتها منخفضة وكلماتها متلعثمة جدا حتى يصعب على الآخرين ألا يظنوا أنها متأخرة عقليا. كما كانت تعاني من صعوبة بالغة في النظر إلى وجوه الآخرين أثناء الحديث معهم، حتى مع أفراد عائلتها. وكانت لا تقدر على أن تتحدث حديثا متسقا وواضحا على نحو ما إلا عندما ترفع الولد الصغير إلى أعلى خصرها النحيف، وعندها يكون معظم كلامها موجها إليه.
ها هو شخص ما يقول شيئا لها. إنه شخص يكاد يشبهها في النحافة ؛ رجل أسمر ضئيل الجسم، إنه أحد البحارة، له شارب رمادي اللون، وليس له أي أسنان. كان ينظر إليها نظرة مباشرة، ثم ينظر إلى جيمس الابن، ثم يعود وينظر إليها مرة أخرى، وذلك في وسط هذا الحشد المتدافع أو المتسكع أو الحائر أو المتسائل. ظنت في بداية الأمر أن الرجل كان يتحدث لغة أجنبية، ثم ما لبثت أن التقطت كلمة
cu (بقرة). وقد وجدت نفسها ترد بنفس الكلمة، وضحك الرجل ولوح بذراعيه مشيرا إلى مكان بعيد بمؤخرة السفينة، ثم أشار مرة أخرى إلى جيمس وهو يضحك أيضا. لا بد أن هناك شيئا ما يجب أن تأخذ جيمس حتى يراه. وكان عليها أن تقول: «حسنا، حسنا» حتى توقفه عن الكلام، ثم أن تسير في ذلك الاتجاه حتى لا تغضبه.
أخذت تتساءل: من أي منطقة من البلاد، بل من العالم، يمكن أن يكون قد جاء هذا الرجل؟ ثم أدركت أنها كانت تتحدث لأول مرة في حياتها مع شخص غريب. ولولا ما كانت تجده من صعوبة في فهم ما كان يقوله، لتمكنت من الحديث إليه بسهولة أكبر مما لو كانت تتحدث إلى جار لها في إتريك أو حتى إلى والدها.
سمعت صياح بقرة قبل أن يكون بإمكانها رؤيتها. أخذ احتشاد الناس من حولها ومن حول جيمس يزداد ويشكل سورا من أمامها ويحشرها من خلفها. ثم سمعت صوت صياح بقرة في السماء، وعندما نظرت إلى أعلى، رأت بقرة بنية اللون معلقة في الهواء موضوعة في قفص من الحبال، وهي ترفس وتزمجر على نحو جامح. البقرة مربوطة في خطاف على ونش كان يسحبها الآن بعيدا عن الأنظار. والناس من حولها كانوا يصيحون ويصفقون. تحدث طفل بصوت عال باللغة التي كانت تفهمها، وكان يريد أن يعرف إن كانوا سيلقون بالبقرة في البحر أم لا. رد عليه رجل بالنفي، وقال له إنها سوف تسافر معهم على سطح السفينة. «هل سيحلبونها إذن؟»
رد الرجل زاجرا: «نعم، الزم الصمت! نعم، سيحلبونها.»
وجاء صوت رجل آخر ليهيمن بصخب على صوت هذا الرجل ، وقال : «سوف يحلبونها بعنف لدرجة أنهم سيضربونها بالمطرقة حتى تنتج المزيد من اللبن، ومن ثم، ستحصلون على بودنج الدم كطعام على العشاء.»
والآن نتابع الدجاج وهو يتأرجح في الهواء داخل الأقفصة، وهو يصيح ويرفرف بجناحيه في محبسه وينقر بعضه بعضا متى استطاع حتى خرج بعض الريش وتهاوى في الهواء إلى أسفل. وبعد ذلك، رفع خنزير مربوط كما رفعت البقرة، وكان يصيح بصوت بشري معبرا عن وجعه وحزنه، ويتغوط بقوة في الهواء حتى ارتفع صياح الناس من أسفله غضبا وفرحا، حسب مكانهم بين هؤلاء الذين وقع عليهم غائط الخنزير أو بين هؤلاء الذين رأوا آخرين وقد وقع عليهم هذا الغائط.
ضحك جيمس أيضا وقد تعرف على غائط الخنزير وصاح معبرا عن ذلك بكلمته الخاصة، ألا وهي «كخ».
ربما تذكر كل هذا في يوم ما، وقال في نفسه: «لقد رأيت بقرة وخنزيرا يطيران في الهواء.» وربما تساءل إن كان هذا حلما. ولن يكون معه أحد في ذلك الوقت - هي لن تكون معه بالتأكيد - لإخباره بأن ذلك لم يكن حلما، وأنه حدث بالفعل على سطح السفينة. سوف يعرف أنه كان على متن سفينة في يوم من الأيام لأنه سيقال له هذا، لكن ربما لن يرى سفينة مثل هذه السفينة مرة أخرى في حياة اليقظة. لم تكن تعرف إلى أين سيذهبون عندما يصلون إلى الجانب الآخر من البحر، لكنها تتخيل أنه سيكون مكانا داخليا وسط التلال، مكانا يشبه إتريك.
لم تكن تظن أنها سوف تعيش طويلا، أيا كان المكان الذي كانت ستذهب إليه؛ فقد كان يصيبها السعال في الصيف والشتاء، وعندما كانت تسعل كان صدرها يؤلمها بشدة. وكانت تعاني كذلك من شحاذ في العينين، وتقلصات في البطن، وقلما كانت تأتيها الدورة الشهرية، ولكنها إن جاءت قد تستمر شهرا كاملا. ومع ذلك، كانت تتمنى ألا تموت وجيمس لا يزال صغيرا يجلس على خصرها أو في حاجة إليها، وهذا ما سيكون عليه الوضع لبعض الوقت. وكانت تعرف أنه سيحين الوقت الذي سيعرض عنها فيه، كما أعرض عنها إخوتها، وذلك عندما يعتريه الخجل من علاقته بها. هذا ما كانت تقوله لنفسها أنه سيحدث، ولكن لم يكن باستطاعتها أن تصدقه، شأنها في ذلك شأن كل محب. •••
في رحلة قصيرة إلى بيبلز قبل أن يغادروا منزلهم، اشترى والتر لنفسه دفترا حتى يكتب فيه، ولكنه - على مدار عدة أيام - انشغل بعدة أمور مهمة، ولم تكن ثمة مساحة أو هدوء كافيين على سطح السفينة ليتمكن حتى من فتح دفتره. وكان لديه أيضا قارورة من الحبر ملفوفة في جراب من الجلد ومربوطة بحزام في صدره تحت قميصه. وقد كانت هذه هي الحيلة التي كان يستخدمها ابن عمه، جايمي هوج الشاعر، عندما كان يخرج إلى براري نيثسدال يرعى الأغنام. وما إن تخطر ببال جايمي قصيدة شعرية، حتى يسحب قطعة ورق من بنطاله، ثم ينزع سدادة الحبر، الذي حالت حرارة جسمه دون تجمده، ويدونها بالكامل، بغض النظر عن المكان الذي هو فيه أو حتى حاله وقتها.
أو هكذا قال. فكر والتر في تجربة هذه الطريقة، ولكن تبين له أن الأمر قد يكون أسهل بين الأغنام منه بين الناس. كذلك، فإن قوة الريح في عرض البحر يمكن بالتأكيد أن تكون أكبر من قوتها في نيثسدال. وكان من المهم له بالطبع أن يكون ذلك على غير مرأى من عائلته؛ إذ قد يسخر منه أندرو بلطف، لكن أجنيس كانت ستسخر منه بوقاحة؛ إذ تغضبها مجرد فكرة قيام أي شخص بعمل لا تريد هي القيام به. أما ماري، فبالطبع ما كانت لتتفوه بكلمة كعهدها، لكن الطفل الذي يجلس على خصرها، والذي تحبه بشدة وتدلله، كان كل همه إمساك القلم والورق والعبث بهما وإتلافهما. ناهيك أنه لا يمكن أن يعرف أي نوع من التدخل كان سيأتي من جانب والده.
ها هو قد وجد مكانا ملائما على سطح السفينة بعدما تحقق هنا وهناك. ولما كان غلاف الدفتر سميكا، فلم يكن بحاجة إلى منضدة. والحبر الدافئ المربوط على صدره كان يتدفق في سلاسة كالدم. ثم كتب ما يلي:
صعدنا على متن السفينة في اليوم الرابع من شهر يونيو، ثم بتنا في الأيام الأربعة التالية في مرسى ليث، نحرك السفينة إلى المكان، حيث نستطيع أن نبدأ الإبحار، وبدأنا الإبحار بالفعل في التاسع من يونيو. عبرنا منعطف فايفشاير دون أي مشكلات، ولم يحدث أي شيء يستحق الذكر حتى صباح يوم الثالث عشر من يونيو، عندما استيقظنا على صرخة من بيت جون أوجروتس. كان باستطاعتنا رؤية البيت بوضوح، وقد كان الإبحار جيدا عبر خليج بنتلاند، وكانت الريح والمد في صالحنا، ولم يبد البيت على أي نحو خطيرا كما كنا نسمع. ومن بين ما سمعناه أن طفلا قد مات هناك، اسمه أورميستون، وقد تم التخلص من جثته بإلقائها في البحر بعد أن لفت في قطعة من قماش الكتان مع وضع قطعة كبيرة من الفحم عند قدميه ...
توقف قليلا عن الكتابة ليفكر في الجوال الثقيل الموضوع فيه الطفل الميت وهو يسقط إلى عرض البحر. المياه كان يزداد لونها دكانة أكثر فأكثر، وكان سطحها يلمع على نحو خافت مثل السماء في الليل. هل كانت قطعة الفحم الكبيرة ستؤدي بالمهمة المطلوبة منها، وهل كان الجوال يسقط إلى قاع البحر مباشرة؟ أو هل كان تيار البحر قويا بالقدر الكافي بحيث يستمر في رفعه على سطح البحر ثم إسقاطه ودفعه جانبيا، آخذا إياه إلى مكان بعيد جدا مثل جرينلاند، أو ناحية الجنوب حيث المياه الاستوائية المليئة بالأعشاب الكثيفة؛ بحر سارجاسو؟ أو ربما عثرت على الجوال سمكة مفترسة وقطعته والتهمت الجثة الموجودة فيه حتى قبل أن يترك سطح البحر والمنطقة المضيئة منه.
لقد رأى رسوما لأسماك لا تقل في حجمها عن حجم الخيول، أسماك لها قرون أيضا، وعدد هائل من الأسنان التي تشبه السكاكين التي يستخدمها تجار الجلود. وبعضها كان أملس ومبتسما، ومشاكسا على نحو شرير، له صدر كصدر المرأة، لكنه لم يكن يشتمل على الأجزاء الأخرى من الصدر التي يذهب فكر الرجل إليها عندما يتخيله. كل هذا كان موجودا في كتاب مليء بالقصص والنقوش، والذي حصل عليه من مكتبة بيبلز .
لم تصبه هذه الأفكار بأي ضيق؛ إذ كان يعد نفسه دائما للتفكير بوضوح في أكثر الأمور بغضا وترويعا، والتخيل الدقيق لها إن أمكن؛ وذلك حتى يقلل من تأثيرها عليه. وكما كان يتخيل الأمر الآن، فالطفل كان يؤكل. لم يبتلع مرة واحدة كما حدث مع النبي يونس، بل يمضغ إربا إربا مثلما يمضغ هو قطعة لذيذة من لحم الأغنام المسلوق. لكن يبقى شأن روح الطفل. الروح تفارق الجسد في لحظة موت الشخص مباشرة، لكن من أي عضو من أعضاء الجسم تخرج؟ أين هو موضعها على وجه التحديد في الجسد؟ أفضل تخمين هو أن الروح - على ما يبدو - تخرج مع آخر نفس، بعد أن كانت مختفية في موضع ما في الصدر في محيط منطقة القلب والرئتين. هذا على الرغم من أن والتر قد سمع مزحة تعودوا أن يسردوها عن رفيق قديم لهم في إتريك، مفادها أنه من شدة قذارته خرجت روحه من مؤخرته عندما مات، وسمعوا أنها خرجت بصوت عال.
هذه هي نوعية المعلومات التي قد يتوقع الناس أن يعطيها لهم الوعاظ؛ هم لا يذكرون بالطبع شيئا من قبيل خروج الروح من المؤخرة، لكنهم يخبرونك بشيء عن المكان الصحيح لوجود الروح وخروجها. غير أنهم يتحاشون الحديث عنها. كما أنهم لا يسعهم توضيح - أو ربما لم يسمعهم أحد أبدا يوضحون - كيفية بقاء الأرواح خارج الأجساد حتى يأتي يوم الحساب، وكيف تجد كل روح في ذلك اليوم جسد صاحبها وتميزه، وكيف يتحد الروح والجسد من جديد، وإن كان الجسد لا يشبه الهيكل العظمي كثيرا عندئذ، «وإن كان ترابا». لا بد أن ثمة أشخاصا قد درسوا من المواد ما يكفي لأن يعرفوا كيفية حدوث تلك الأمور كلها، لكن ثمة أناس آخرون أيضا - وهو ما علم به منذ وقت قريب - ممن درسوا وقرءوا وفكروا حتى وصلوا إلى نتيجة مفادها عدم وجود أرواح على الإطلاق. لا يعبأ أي أحد بالحديث عن هؤلاء أيضا، بل إن مجرد التفكير فيهم أمر مخيف ومفزع. كيف يمكنهم العيش في ظل الخوف من جهنم وكذلك اليقين من وجودها؟
كان ثمة رجل من هؤلاء، جاء من بيرويك، وكان يدعى ديفي البدين؛ لأنه كان يجد صعوبة في الجلوس أمام الطاولة لتناول الطعام لفرط بدانته. وعندما مات في إدنبرة، حيث كان يعمل باحثا في مجال ما، وقف الناس في الشارع خارج منزله ينتظرون ليروا إن كان الشيطان سيأتي لحصد روحه أم لا. فقد ألقيت عظة في إتريك عن هذا الموضوع، زعمت - حسبما فهم والتر - أن الشيطان لا يقوم بمثل هذه الأمور، وأنه لا يؤمن بذلك سوى الدهماء من الناس ومن يؤمنون بالخرافات والرومان الكاثوليك، وأن أخذه للروح كان أكثر رهبة بكثير على الرغم من ذلك، وألوان العذاب التي تصاحبه كانت أكثر دهاء وبراعة مما قد يخطر على بال أي من هؤلاء. •••
وفي اليوم الثالث على متن السفينة، استيقظ جيمس الأب، وبدأ يسير في أرجاء المكان. أصبح الآن يقضي كل وقته في المشي. كان يتوقف ويتحدث مع أي شخص يبدو له أنه على استعداد لأن يسمعه. كان يخبره باسمه ويقول له إنه من إتريك، من وادي وغابة إتريك؛ حيث اعتاد ملوك اسكتلندا الأوائل أن يمارسوا الصيد.
وكان يقول: «يقال إنه في أرض فلودن، بعد انتهاء المعركة، كان بإمكان المرء أن يتحرك هنا وهناك بين الجثث ويتعرف على مقاتلي إتريك وجنودها؛ لأنهم كانوا أكثر المقاتلين طولا وقوة ووسامة. لدي خمسة من الأولاد وكلهم أقوياء ومؤدبون، لكن لا يوجد معي الآن سوى اثنين منهم. ذهب أحدهم إلى نوفا سكوشا، وكان اسمه كاسمي وآخر ما سمعت عنه أنه كان في مكان اسمه إيكونومي، لكن لم نعرف عنه شيئا منذ ذلك الوقت، ولا أعرف إن كان حيا أو ميتا. أما أكبر أولادي، فقد هاجر ليعمل في منطقة الأراضي المرتفعة الاسكتلندية، وأما الابن قبل الأخير، فقد قرر الرحيل إلى هناك هو الآخر، ولن أرى أيا منهما مرة أخرى. خمسة أبناء، كلهم - بفضل الرب - صاروا رجالا، غير أن الرب لم يشأ أن يظلوا معي. ماتت أمهم بعدما وضعت آخرهم؛ إذ أصابتها حمى ، ولم تقو على النهوض أبدا من فراشها بعدما ولدته. إن حياة المرة مليئة بالأحزان. لدي أيضا بنت واحدة، وهي أكبرهم، غير أنها أقرب ما يكون إلى الأقزام. طارد أمها كبش عندما كانت تحملها. وعندي ثلاث أخوات كبيرات كلهن نفس الشيء، قزمات.»
ارتفع صوته فوق كل الضجيج الذي تعج به الحياة على سطح السفينة، وكان أولاده كلما سمعوا صوته يذهبون في إحراج شديد في غير الاتجاه الذي كان يأتي منه صوته.
وفيما بعد ظهيرة يوم الرابع عشر من يونيو، هبت ريح من ناحية الشمال، وأخذت السفينة تهتز كما لو كان كل ما فيها من ألواح خشبية سوف تتفكك بعضها من بعض. شعر الناس بالغثيان وفاضت الدلاء التي كانوا يتقيئون فيها، وأخذت محتوياتها تتسرب وتنتشر في كل مكان على سطح السفينة. وصدر أمر لجميع الركاب بأن يتركوا سطح السفينة، غير أن الكثير منهم سقط عند سور السفينة، ولم يعبأ إن كان سيغمره الماء أم لا. ومع ذلك، لم يصب أي من أفراد عائلتي بالغثيان، وها هي الريح قد هدأت، والشمس قد أشرقت، ونهض الذين لم يكونوا يعبئون إن كانوا سيموتون في القذارة أم لا منذ فترة قليلة، وأخذوا يجرجرون أنفسهم حتى يغتسلوا؛ حيث كان البحارة يسكبون دلاء المياه في جميع الأرجاء على سطح السفينة. وكانت النساء مشغولات في غسل الملابس المتسخة وشطفها وعصرها. لقد كانت هذه أسوأ وأسرع معاناة أراها في حياتي كلها ...
وقفت فتاة صغيرة عمرها عشرة أعوام أو اثنا عشر عاما تشاهد والتر وهو يكتب. وكانت ترتدي ثوبا رائعا وقلنسوة، وكان لها شعر مجعد لونه بني فاتح، غير أن وجهها لم يكن جميلا كالوجه الصغير الجميل.
قالت: «هل أنت أحد نزلاء الكبائن؟»
رد والتر: «لا، لست كذلك.» «أعرف أنك لست منهم؛ إذ لا توجد سوى أربع كبائن، الأولى لأبي ولي، والثانية لقبطان السفينة، والثالثة لأمه، وهي لا تخرج من غرفتها أبدا، والرابعة لسيدتين. لا يجوز لك الجلوس في هذا الجزء من سطح السفينة إلا إذا كنت أحد نزلاء الكبائن.»
رد والتر دون أن يهم بترك المكان قائلا: «حسنا، لم أكن أعرف ذلك.» «لقد رأيتك من قبل وأنت تكتب في دفترك.» «لم أرك.» «لا، كنت تكتب؛ ولذلك لم تلحظ وجودي.»
قال والتر: «حسنا. لقد انتهيت من الكتابة الآن على أي حال.»
قالت دون أن تبالي بشيء، كما لو كان الأمر مسألة اختيار وأنها قد تغير رأيها: «أنا لم أخبر أحدا عنك». •••
في نفس ذلك اليوم - لكن بعد ساعة، أو ما يقرب من ذلك - خرجت صيحة عالية من ناحية الميناء تقول إن هذا هو آخر جزء من اسكتلندا ستمر عليه السفينة، وبعدها ستختفي اسكتلندا عن الأنظار. صعد كل من والتر وأندرو إلى السطح حتى يلقيا النظرة الأخيرة على البلد، وهكذا فعلت ماري وجيمس الابن الذي كانت تحمله على خصرها، وغيرهم كثيرون. لم يذهب جيمس الأب، ولا أجنيس لأنها كانت تأبى التحرك من مكانها إلى أي مكان آخر، لا لسبب آخر سوى العناد. حث أولاد جيمس أباهم على الذهاب، لكنه قال: «الأمر لا يعني أي شيء بالنسبة إلي. لقد ألقيت آخر نظرة على إتريك، وهو ما يعني أنني قد ألقيت بالفعل آخر نظرة على اسكتلندا.»
وتبين أن صيحة الوداع هذه قد أطلقت قبل موعدها؛ إذ ظلت تظهر في الأفق حافة رمادية من الأرض، وذلك لعدة ساعات. كان كثيرون يتعبون من كثرة النظر إليها؛ فهي ليست سوى قطعة من الأرض، كأي أرض أخرى، لكن البعض لم يغادروا سور السفينة حتى تلاشى آخر جزء منها، مع بزوغ الفجر.
قال جيمس الأب مخاطبا أجنيس: «يجب أن تذهبي إلى هناك كي تودعي وطنك وأبيك وأمك؛ لأنك لن تري أيا منهم مرة أخرى. وما زال ينتظرك ما هو أسوأ. نعم، هذا صحيح، ما زال أمامك لعنة حواء (آلام الولادة).» قال ذلك وهو يتلذذ كتلذذ الوعاظ، غير أن أجنيس قالت في نفسها إنه حقير، ولم تكن لديها طاقة حتى كي تعبس في وجهه. «حقير. أنت ووطنك.» •••
وفي النهاية، كتب والتر جملة واحدة، وهي:
وفي هذه الليلة من عام 1818، غابت اسكتلندا عن أنظارنا.
بدت الكلمات مهيبة بالنسبة إليه، وتملكه شعور بالعظمة والوقار والأهمية الشخصية.
أما يوم السادس عشر من يونيو، فكان يوما عاصفا تأتي الريح فيه من الناحية الجنوبية الغربية. وارتفع المد على نحو كبير جدا، وتحطمت ذراع ساري مقدمة السفينة بفعل الرياح العنيفة. وفي هذا اليوم، أدخلت أختنا أجنيس إلى إحدى الكبائن.
كتب كلمة «أختنا» كما لو لم يكن فارق بينها وبين ماري المسكينة بالنسبة إليه، لكن الأمر لم يكن كذلك على الإطلاق؛ كانت أجنيس فتاة طويلة، قوية البنية، شعرها أسود غزير، وعيناها سوداوان، يأخذ الاحمرار الذي يعتلي إحدى وجنتيها شكل بقعة كبيرة ذات لون بني فاتح في حجم بصمة اليد. لقد كانت وحمة يأسف الناس لوجودها؛ إذ لولاها لصارت أجنيس أجمل. لا يكاد والتر يتحمل النظر إلى تلك الوحمة، ليس لأنها قبيحة المنظر؛ بل لأنه كان يشتاق إلى لمسها، إلى أن يتحسسها بأطراف أصابعه. لم تكن تبدو مثل الجلد العادي، ولكن مثل قطعة من القطيفة على جلد غزالة. ومن شدة اضطراب مشاعره تجاه أجنيس، كان لا يستطيع أن يتحدث إليها إلا حديثا منفرا، هذا إن تحدث إليها من الأساس. وما كان منها إلا أن تبادله بقدر مناسب من الازدراء. •••
كانت أجنيس تعتقد أنها في الماء وأن الأمواج تارة ترفعها إلى أعلى وتارة تلقيها إلى أسفل. كل مرة كانت تلقيها فيها الأمواج إلى أسفل كانت أسوأ من المرة التي قبلها، وكذلك أعمق وأبعد، وكانت لا تشعر بالراحة إلا لبرهة قبل أن تلتقطها الأمواج مرة أخرى، التي كانت تستجمع قواها لتتقاذفها مرة أخرى.
أحيانا كانت تعرف أنها ترقد في فراش، فراش غريب في شكله وفي نعومته، لكنه سيئ جدا؛ لأنها عندما كانت تغوص فيه، لم تكن تجد أي مقاومة؛ لا تجد موضعا صلبا حيث يتوقف معه الألم. وهنا، أو في المياه، لا ينقطع الناس عن الاندفاع جيئة وذهابا من أمامها. كانت تراهم كلهم من الجانب، وكانوا واضحين تماما، يتحدثون بسرعة كبيرة، حتى إنها لم تستطع أن تتبين ما يقولونه جيدا ، وكانوا يتجاهلونها، وكان هذا خبثا منهم. رأت أندرو في وسطهم اثنين أو ثلاثة من إخوتها. بل رأت من بينهم كذلك بعض الفتيات التي كانت تعرفهن، وهن صديقاتها اللائي اعتادت أن تمرح معهن في بلدة هويك. ولم يهتممن بالنظر إليها أو حتى إعطائها بنسا واحدا لما هي فيه من شدة الآن.
صرخت فيهن طالبة منهن الابتعاد عنها، ولكن لم تعرها أي منهن أي انتباه، ورأت المزيد منهن قادمات عبر الحائط مباشرة. لم تكن تعرف من قبل أن لها أعداء كثيرين جدا. لقد كانوا يسحقونها ويتظاهرون بأنهم لا يفعلون شيئا البتة. حركتهم هذه كادت تسحقها حتى الموت.
مالت أمها نحوها وقالت بصوت بارد وضعيف ومتثاقل: «أنت لا تحاولين، يا بنيتي! لا بد أن تحاولي بقوة أكبر.» كانت أمها ترتدي ملابس مهندمة، وتتحدث بأسلوب لطيف مثل سيدات إدنبرة.
سكبت مادة رديئة الطعم في فمها، وأخذت تحاول أن تلفظها معتقدة أنها سم.
تقول في بالها: سوف أنهض وأتخلص من كل هذا. حاولت سحب نفسها بعنف من جسدها، كما لو كانت عبارة عن كومة من الثياب البالية الموضوعة في النار.
سمعت صوت رجل يصدر أمرا ما.
قال الرجل: «امسكها!» ثم فرج بين ساقيها وأصبحتا مكشوفتين على العالم ونار المدفأة.
قال الرجل: «آه، آه، آه!» وهو يلهث كما لو كان يجري في سباق.
ثم صعدت بقرة ثقيلة جدا مليئة باللبن وهي تصيح ثم جلست على بطن أجنيس.
قال الرجل: «الآن، الآن»، وتأوه بكامل قوته وهو يحاول أن يخرج الطفل.
الحمقى، الحمقى، هم من تركوه يدخل.
لم تتحسن حالتها إلا في يوم الثامن عشر من يونيو عندما ولدت بنتا. وحيث إننا كان معنا جراح على سطح السفينة، فلم يحدث شيء. لم يحدث أي شيء حتى يوم الثاني والعشرين من يونيو، الذي كان أصعب يوم مررنا به في ذلك الوقت. تحطم في هذا اليوم ذراع ساري مقدمة السفينة للمرة الثانية، ولم يحدث بعدها أي شيء يستحق الذكر، وكانت أجنيس تتعافى على نحو طبيعي، حتى حل علينا التاسع والعشرون من نفس الشهر عندما رأينا سربا ضخما من خنازير البحر، وكان البحر في الثلاثين من نفس الشهر (أي بالأمس) عاتيا جدا، وكانت الريح تهب من ناحية الغرب، وأخذت السفينة تتقهقر بدلا من أن تتقدم للأمام ...
قال جيمس: «لدينا في إتريك ما يرى الناس أنه أعلى بيت في اسكتلندا، ولكن البيت الذي عاش فيه جدي كان أعلى بكثير من هذا البيت. المكان اسمه فوهوب، وكان الناس يطلقون عليه فوب، وكان جدي اسمه ويل أوفوب، وقبل خمسين عاما مضت، لو أنك جئت من أي مكان جنوب خليج فورث أو شمال الأراضي المتنازع عليها بين إنجلترا واسكتلندا؛ لكنت سمعت به.»
يقول والتر في نفسه: ما لم يسد المرء أذنيه، فما عساه أن يفعل إلا أن يستمع إليه؟ يوجد أناس يلعنون عندما يرون الرجل العجوز قادما إليهم، لكن يبدو أن ثمة آخرين يسعدون بأي نوع من التسلية.
كان يتحدث عن ويل والسباقات التي دخلها والمراهنات التي كانت تعقد عليه، وغير ذلك من الحماقات التي لم يكن والتر يستطيع تحملها.
وأضاف: «وتزوج من امرأة اسمها بيسي سكوت، وكان أحد أولاده اسمه روبرت وهذا هو والدي. نعم، والدي. وها أنا ذا أقف أمامكم.»
وقال أيضا: «استطاع ويل في وثبة واحدة لا غير أن يعبر نهر إتريك، ومكان القفزة صار من بعد ذلك معلما.» •••
رفض جيمس الابن أن يترك خصر ماري على مدار اليومين أو الأيام الثلاثة الأولى. كان جريئا بالقدر الكافي، طالما كان جالسا على خصرها. وعند حلول الليل، ينام في عباءتها بجانبها، طاويا ذراعيه وساقيه بالقرب من جسده، وكانت تستيقظ من الألم في جنبها الأيسر؛ لأنها كانت تضطجع دون أن تتقلب طوال الليل كي لا تزعجه. وفي صباح يوم من الأيام، تركها وحاول التجول في المكان، وعندما حاولت أن تمسكه، ركلها برجليه.
كل شيء على سطح السفينة كان يسترعي انتباهه، حتى إنه في أثناء الليل كان يحاول أن يتسلق عليها ويجري في الظلام. ولهذا، كانت تستيقظ من نومها متألمة، ليس من وضعية نومها المقيدة، بل من عدم النوم على الإطلاق بسببه. غلبها النعاس في إحدى الليالي، وتسلل الطفل منها، ولكنه تعثر لحسن الحظ في جسم أبيه وهو في طريقه للهروب. أصر أندرو منذ هذه اللحظة على أن يربطه أثناء الليل. كان الطفل يبكي بشدة بطبيعة الحال عند ربطه، إلا أن أندرو كان يهزه ويصفعه، ثم يظل الولد ينشج بالبكاء حتى ينام. كانت ماري تنام بالقرب منه، وتشرح له في لطف ضرورة ربطه حتى لا يسقط من السفينة في المحيط، لكنه كان ينظر إليها في مثل هذه الأوقات على أنها عدوة له، وكانت إذا وضعت يدها على وجهه لتتحسسه، يحاول أن يعضها بأسنانه الصغيرة. كان ينام كل ليلة وهو غاضب، ولكن عندما يحل الصباح وتفك رباطه، وهو ما يزال شبه نائم ومفعما بلطف الأطفال، كان يتعلق بها والنعاس يغشاه وهي في غمرة من مشاعر الحب تجاهه.
الحقيقة أنها كانت تحب حتى بكاءه وغضبه ورفسه وعضه. بل كانت تعشق روائحه القذرة والمتخثرة، كما تعشق رائحته وهو نظيف. وما إن تركه النعاس حتى كانت عيناه الزرقاوان الصافيتان وهما تنظران إلى عينيها يملؤهما ذكاء عجيب وعناد شديد، الأمر الذي يبدو لها وكأنه هبة من السماء. (هذا على الرغم من أن دينها يقول لها دائما إن العناد يأتي من الاتجاه المعاكس؛ أي من الشيطان.) كانت تحب إخوتها أيضا عندما يكونون ظرفاء ومشاكسين، وكان يتحتم عليها أن تحافظ عليهم من الوقوع في جدول المياه، ولكنها لم تكن بالطبع تحبهم كحبها الجم لجيمس.
وذات يوم، تاه منها جيمس. كانت تقف في صف طويل تنتظر دورها في الحصول على ماء للغسيل، وعندما استدارت لم تجده بجانبها. تحدثت ببعض الكلمات إلى المرأة التي كانت تسبقها في الصف، وأجابتها عن سؤال سألته عن أجنيس وعن الطفلة، وذكرت لها اسم الطفلة - إيزابيل - وفي هذه اللحظة ضاع منها. وعندما كانت تنطق باسم إيزابيل، شعرت برغبة مفاجئة في حمل هذه الحزمة الجديدة الخفيفة والناعمة. وبينما هي تتخلى عن مكانها في الصف وتذهب هنا وهناك بحثا عن جيمس، بدا لها أنه حتما شعر بعدم إخلاصها له فاختفى عقابا لها.
وتبدل الحال في لمح البصر، وتغيرت طبيعة العالم من حولها، أخذت تجري هنا وهناك وتصرخ بأعلى صوتها منادية على جيمس. سألت الغرباء والبحارة الذين سخروا من توسلها لهم وهي تقول: «هل رأيت طفلا صغيرا؟ هل رأيت طفلا صغيرا طوله هكذا وعيناه زرقاوان؟»
رد عليها رجل قائلا: «لقد رأيت ما يقرب من خمسين أو ستين طفلا بمثل هذه الأوصاف في الدقائق الخمس الفائتة.» وقالت امرأة حاولت أن تكون لطيفة معها إنه سوف يظهر، وإن ماري يجب ألا تقلق؛ إذ لا بد أنه كان يلعب مع غيره من الأطفال. وأخذ بعض النساء ينظرن هنا وهناك كما لو كن يساعدنها في البحث، لكن لم يستطعن مساعدتها بطبيعة الحال؛ بسبب ما لديهن من مسئوليات.
رأت ماري بجلاء، في لحظات الشدة والحزن هذه، أن العالم الذي تحول إلى شيء مرعب لها لا يزال هو نفس العالم العادي بالنسبة إلى الآخرين من حولها، وسوف يظل كذلك حتى وإن اختفى جيمس بحق، حتى وإن حبا إلى سور السفينة - رمقت بعينيها كل الأماكن التي يحتمل أن يكون قد ذهب إليها - وسقط في المحيط.
فأكثر الأحداث بشاعة بالنسبة إليها، والتي لم تكن تستطيع تصورها، قد تبدو لكثير غيرها مجرد حادثة حزينة ولكنها عادية. الأمر وارد بالنسبة إليهم.
أو هكذا يبدو بالنسبة إلى الرب. فعندما يخلق الرب طفلا جميلا على نحو ملحوظ ونادر، ألا يتوق لاستعادة هذا المخلوق، وكأن العالم لا يستحقه؟
لكنها كانت تصلي له طوال الوقت. في البداية، دعت باسم الرب، غير أنه عندما أصبح البحث أكثر تحديدا، وأصبح أكثر غرابة نوعا ما - حيث شرعت تبحث بجنون تحت حواجز الملابس التي أنشأها الناس ليتمتعوا ببعض الخصوصية، ولم تتردد في مقاطعة أي عمل يقوم به الناس، وأخذت تفتش في صناديقهم وتطيح بأغطية أسرتهم، بل إنها حتى لم تسمعهم وهم يسبونها وهي تفعل ذلك - أصبحت صلواتها أكثر تعقيدا وجرأة. حاولت أن تفكر في شيء ما كنذر شيء يمكن أن تتخلى عنه في مقابل أن يعود إليها جيمس. ولكن ما الذي كانت تملك؟ لم تكن تملك أي شيء؛ لم تكن تملك حتى الصحة أو فرصا في المستقبل أو أي شيء يعتبره الناس ذا قيمة، ولا حتى شيئا من الحظ أو الأمل، كل ما كانت تملكه هو جيمس.
وكيف لها أن تتخلى عن جيمس مقابل عودته هو نفسه؟
كان هذا هو كل ما كان يجول بخاطرها.
لكن ماذا عن حبها لجيمس؟ الحب المبالغ فيه الذي قد يصل إلى حد العبادة أو الذي قد يكون نوعا من الشر لمخلوق آخر. هي الآن مستعدة أن تتخلى عن ذلك، كانت على استعداد للتخلي عنه عن طيب خاطر، في مقابل ألا يكون قد تاه، في مقابل أن يعثر عليه، في مقابل ألا يكون قد مات. •••
تذكرت كل هذا بعد ساعة أو ساعتين من لمح أحد الأشخاص للولد وهو يظهر جزئيا من تحت دلو فارغة كبيرة ويستمع إلى الضجيج. تراجعت على الفور عن نذرها الذي نذرته، وأمسكت به بين ذراعيها وضمته إليها بقوة، وأخذت أنفاسا عميقة متأوهة، بينما كان هو يحاول التملص منها.
فكرتها عن الرب ضحلة وغير مستقرة، والحقيقة أنها لم تكن تتذكره إلا في أوقات الخوف كتلك التي شهدتها لتوها. شعرت دائما أن الرب أو حتى مجرد التفكير فيه بعيد عنها أكثر من بعده عن غيرها من الناس. وكانت لا تخاف من عقابه بعد الموت كما كان ينبغي عليها، ولم تكن حتى تعرف السبب وراء ذلك. كانت لديها حالة من اللامبالاة والعناد في عقلها لا يعرف عنها أحد شيئا. قد يتصور الجميع في الواقع أنها متدينة بداخلها؛ إذ ليس لديها خيارات كثيرة. غير أنهم كانوا مخطئين تماما؛ فبعد أن عاد جيمس إليها مرة أخرى، لم تشكر الرب، ورأت كم كانت ساذجة وكيف أنه من المستحيل أن تتخلى عن حبها للولد، الحب الذي لن تتخلى عنه ما دام لها قلب ينبض. •••
وبعد ذلك، أصر أندرو أن يربط جيمس ليس فقط أثناء الليل، بل أثناء النهار أيضا ، وذلك بعمود السرير أو بحبل الملابس خاصتهم على سطح السفينة. رغبت ماري أن يربط جيمس معها بحبل، لكن أندرو أخبرها أنها قد تصاب بأذى بسبب ركلات صبي كهذا. ضرب أندرو الولد بشدة بسبب حيلته، لكن نظرة في عيني جيمس تقول إن حيل ذلك الولد لم تكن لتنتهي. •••
إن هذا التسلق إلى قمة قلعة إدنبرة، هذا المنظر الذي رآه عبر البحر، لم يكن بالأمر الذي يذكره أندرو حتى لإخوته؛ حيث كان الحديث عن أمريكا حينها موضوعا شائكا. فأخوه الأكبر روبرت رحل إلى منطقة الأراضي المرتفعة الاسكتلندية، بمجرد أن كبر، تاركا البيت دون كلمة وداع ظهر يوم ما كان والده فيه بحانة تيبي شيل. وقال صراحة إنه قد فعل هذا حتى لا يصاحب أباه في أي مغامرة قد يقوم بها. ثم رحل أخوه جيمس على عكس ما كان متوقعا إلى أمريكا بمفرده، قائلا إنه على الأقل بقيامه بهذا يمكن أن يوفر على نفسه سماع أي أخبار حول هذا الموضوع. ثم تلاهم ويل - الذي على الرغم من أن سنه أصغر من أندرو، فإنه كان دائم الخلاف والصراع مع أبيه - الذي هرب كذلك ليلحق بروبرت. ولم يبق سوى والتر، الذي كان لا يزال طفوليا في تفكيره بحيث لا تشغل المغامرات فكره، والذي كبر وهو يعتقد أنه سوف يذهب للقتال ضد الفرنسيين؛ وربما يعتقد الآن أنه سيحارب الهنود.
ثم نأتي إلى أندرو نفسه، الذي منذ اليوم الذي كان فيه على الصخرة أحس تجاه أبيه بشعور عميق وغريب من المسئولية، وهو شعور أقرب ما يكون إلى الشعور بالأسى والحزن.
لكن حينها شعر أندرو بالمسئولية تجاه كل أفراد عائلته؛ تجاه زوجته الصغيرة السن العصبية في معظم الأوقات التي جعلها عرضة للخطر مرة ثانية، وتجاه إخوته البعيدين عنه وأخيه الذي يوجد بجانبه، وتجاه أخته المثيرة للشفقة وابنه المتهور. كان هذا عبئا بالنسبة إليه؛ فلم يخطر بباله أبدا أن يسميه حبا. •••
ظلت أجنيس تطلب ملحا حتى خشي من معها أن تصيبها حمى من فرط عصبيتها وألمها. وكانت السيدتان اللتان ترعيانها من نزلاء إحدى الكبائن، وكانتا من إدنبرة، وقد تطوعتا للقيام بهذه المهمة.
قالتا لها: «اهدئي الآن! أنت لا تعلمين كم أنت فتاة محظوظة؛ لأن السيد سوتر كان على متن السفينة.»
أخبرتاها أن الطفل لم يكن في الوضع المناسب للولادة، وأنهما كانتا تخشيان أن يضطر السيد سوتر لفتح بطنها، الأمر الذي قد يكون فيه هلاكها. إلا أنه تمكن من إدارة الجنين حتى يتمكن من إخراجه.
قالت أجنيس: «أنا بحاجة إلى الملح من أجل الرضاعة»، التي لم تكن لتسمح لهما بالحط من قدرها من خلال توبيخهما لها وطريقة حديثهما الراقية الخاصة بإدنبرة. فقد كانت ترى أنهما حمقاوان على أي حال. كان عليها إخبارهما أنه ينبغي أن تمتزج أول نقطة لبن يحصل عليها الرضيع بقليل من الملح؛ حيث تضع الأم بضع ذرات من الملح على إصبعها ثم تعصر أحد ثدييها لتنزل منه قطرة أو اثنتين من اللبن على هذا الملح، ثم تعطي الخليط للطفل قبل أن يبدأ في الرضاعة الفعلية. ومن دون هذه الاحتياطات، فهناك احتمال كبير أن يكون الرضيع غبيا حين يكبر.
قالت إحداهما للأخرى: «هل هي أصلا مسيحية؟»
قالت أجنيس: «أنا مسيحية مثلكما تماما!» ولكن بسبب تفاجئها وشعورها بالهوان، أخذت في البكاء بصوت عال، وبكى الرضيع بشدة معها، تعاطفا معها أو بسبب الجوع. وما زالت هي ترفض إطعامه.
أتى السيد سوتر ليسأل عن حالها، وسأل عن سر كل هذا الحزن البادي عليها، فأخبرتاه بالأمر. «كيف يمكن إعطاء رضيع حديث الولادة قليلا من الملح؟ من أين أتت بهذه الفكرة؟»
قال: «أعطوها الملح!» ثم ظل يرقبها وهي تعصر أحد ثدييها ليخرج لبنا على إصبعها الذي عليه الملح، ثم تضع هذا الإصبع في فم الطفل، ثم تلقمه حلمة ثديها.
سألها عن السبب، فأخبرته.
سألها: «وهل يجدي ذلك في كل مرة؟»
أخبرته أن ذلك لم يفشل ولو لمرة واحدة، ودهشت قليلا عندما اكتشفت أنه في غباء السيدتين، وإن كان أكثر لطفا منهما. «هل هذا معناه أن المكان الذي جئت منه يتمتع أهله كلهم بقدر عال من الذكاء؟ وهل الفتيات هناك كلهن قويات وجميلات مثلك؟»
أخبرته أنها لا تعلم حقا.
أحيانا كان بعض الشباب الزائرين لبلدتها، المتعلمين القادمين من المدينة، يقتربون منها ومن صديقاتها ويثنون على حسنهن، محاولين بدء حديث معهن، وكانت دائما ما تعتقد أن أي فتاة تسمح بأن يحدث هذا هي فتاة حمقاء، حتى لو كان الرجل وسيما. والسيد سوتر أبعد ما يكون عن الوسامة؛ فهو أيضا نحيف جدا، ووجهه تغطيه البثور تماما؛ مما جعلها لأول وهلة تظن أنه رجل عجوز. غير أن له صوتا عطوفا جعلها تغفر له حتى لو حاول مغازلتها قليلا. فلن يكون بوسع أي رجل أن يغازل امرأة بعد أن كان هو القائم على توليدها ورأى منها ما رأى.
سألها: «هل تشعرين بالألم؟» نظرت إلى خديه التالفين فلاحظت ظلا عليهما؛ قليلا من حمرة الخجل. أخبرته أنها ليست أسوأ مما ينبغي. أومأ برأسه وأمسك برسغها، ضاغطا بقوة عليه ليقيس نبضها.
قال لها: «قوية مثل فرس السباق.» قال هذا وما تزال يده عليها، وكأنه لا يعرف أين يضع يده بعد ذلك. ثم قرر أن يزيح شعرها إلى الوراء ويضغط بأصابعه على صدغيها، وكذلك خلف أذنيها.
ستتذكر لمسته هذه، تلك الضغطة الغريبة، الرقيقة، المثيرة، مع مزيج مشوش من الازدراء والاشتياق، لسنوات عديدة قادمة.
قال لها: «جيد! لا أثر للحمى.»
وأخذ لوهلة يراقب الرضيع وهو يرضع من ثديها.
ثم قال لها بتأوه: «كل شيء على ما يرام بالنسبة لك الآن. لديك بنت جميلة يمكنها أن تتباهى طوال حياتها أنها ولدت في البحر.» •••
وصل أندرو لاحقا ووقف عند مؤخرة السرير. لم يرها على سرير كهذا من قبل (كان سريرا عاديا، وإن كان مربوطا بالحائط). احمر وجهه خجلا أمام السيدتين، اللتين أتيتا بحوض حتى تغتسل.
قال لها: «لقد انتهت الولادة، أليس كذلك؟» قال هذا وهو يومئ تجاه كومة اللحم التي بجانبها، دون أن ينظر إليها.
ضحكت بطريقة تنم عن الضيق وكأنها تسأله: وماذا تعتقد أنت؟ كان هذا كافيا لينزل من عليائه غير المستقر، وينهي تظاهره بالهدوء ورباطة الجأش. الآن بدأت علامات التوتر تظهر عليه، وازداد وجهه احمرارا من الخجل، وكأنه وضع في النار. ولم يكن ذلك بسبب ما قالته فحسب، وإنما كان بسبب المشهد ككل ورائحة الطفل ولبن الرضاعة والدماء، وفوق ذلك كله بسبب الحوض وقطع القماش والسيدتين الواقفتين بنظراتهما الملائمة التي يمكن أن تبدو لأي رجل معاتبة ومليئة بالازدراء.
لم يجد كلمة أخرى يقولها، فكان عليها أن تطلب منه - بنوع من اللطف الصارم - الخروج؛ لأن لديهن عملا هنا يجب أن يقمن به.
اعتاد بعض الفتيات على القول بأنه عندما تستسلم امرأة في النهاية لرجل وتقيم علاقة جنسية معه - حتى لو اعتقدت أنه لم يكن الاختيار الأفضل - فإن ذلك يعطيها شعورا بقلة الحيلة، لكنه أيضا شعور هادئ ولطيف. لكن أجنيس لم تتذكر أنها أحست بشعور كهذا مع أندرو، فكل ما شعرت به هو أنه رجل مخلص، وأنه هو الشخص المناسب لظروفها، وأنه ليس الشخص الذي يمكن أن يفكر في الهرب وتركها على الإطلاق. •••
ظل والتر يذهب إلى نفس المكان الخاص الذي يكتب فيه في دفتره ولم يره أحد هناك، بالطبع سوى الفتاة التي تحسنت علاقته بها الآن. وذات يوم ذهب إلى هذا المكان، وكانت قد سبقته إلى هناك وأخذت تنط حبلا ذا شرابات حمراء. وعندما رأته، توقفت عن النط وأخذت تلهث. وبمجرد أن التقطت أنفاسها، بدأت في السعال لدرجة أنها أخذت عدة دقائق قبل أن تتمكن من التحدث إليه. رمت بنفسها على كومة من القماش التي كانت تحيط بالمكان الذي كانت فيه، واحمر وجهها، وامتلأت عيناها بالدموع اللامعة من كثرة السعال. وظل هو واقفا يراقبها، وانزعج من نوبة السعال هذه، ولم يكن يدري ما عساه أن يفعل.
سألها: «هل تودين أن أحضر إليك إحدى السيدتين؟»
إنه الآن على علاقة طيبة بالسيدتين اللتين من إدنبرة، بسبب أجنيس، واللتين كان لديهما اهتمام وعطف تجاه الأم والرضيع وماري وجيمس الابن، وكانتا تعتقدان أن الأب العجوز خفيف الظل. كما راق لهما أندرو ووالتر، اللذين بدا لهما أنهما خجولان للغاية . لم يكن والتر في واقع الأمر خجولا كما كان الحال مع أندرو، غير أن موضوع الولادة برمته كان يصيبه بالفزع أو الاشمئزاز الشديد (رغم أنه كان معتادا على هذا الأمر عند ولادة الأغنام). وقد فقدت أجنيس الكثير من جاذبيتها المتجهمة بسبب هذا الأمر. (هذا ما حدث من قبل عندما وضعت جيمس الابن، لكن بعد ذلك استعادت قواها الشرسة تدريجيا؛ مما جعله يظن أن هذا لن يحدث مرة أخرى. فهو كان قد رأى الكثير في هذا العالم بحلول ذلك الوقت، وعلى متن هذه السفينة رأى الكثير من النساء.)
أخذت الفتاة التي كانت تسعل تهز رأسها ذا الشعر المجعد بعنف تعبيرا عن الرفض.
قالت عندما أصبح بإمكانها التحدث وهي لاهثة: «لست بحاجة إليهما، ولم أخبر أحدا أبدا أنك تأتي إلى هنا؛ لذا عليك ألا تخبر أحدا بشأني.»
قال لها: «أنت موقفك سليم.»
هزت رأسها مرة أخرى تعبيرا عن الرفض، وأومأت له أن يصبر حتى تستطيع أن تتحدث على نحو أكثر سهولة.
قالت: «ما أعنيه أنك رأيتني أنط الحبل. وقد خبأ والدي حبل النط، لكنني وجدته حيث خبأه، غير أنه لم يعرف ذلك.»
قال لها والتر بتعقل: «هذا ليس يوم الأحد. فما الخطأ إذن في أن تنطي الحبل؟»
أجابته مستعيدة نبرتها الوقحة: «وكيف لي أن أعرف؟ ربما يعتقد أني قد كبرت على هذا. فهل تقسم ألا تخبر أحدا بهذا؟» ثم ضمت إصبعي السبابة لتصنع شكل الصليب. كان يعرف أن المشهد بريء، لكنه مع ذلك صدم؛ فقد كان يعرف كيف يمكن أن ينظر بعض الناس إلى الأمر.
غير أنه أخبرها أنه مستعد للقسم.
قالت له: «أنا كذلك أقسم أنني لن أخبر أحدا بأنك تأتي إلى هنا.»
بعد أن قالت ذلك بجدية شديدة، تجهمت.
ثم أردفت قائلة: «رغم أنني لم أكن لأخبر أحدا عنك في كل الأحوال.»
يا لها من كائن صغير معتد بنفسه وغريب! لم تتحدث عن أحد سوى أبيها، الأمر الذي جعله يستنتج أن ليس لديها إخوة أو أخوات، ومثله تماما، ليس لديها أم . وهذا ربما هو الذي جعلها مدللة ووحيدة في الوقت نفسه. •••
بعد هذا القسم المتبادل، أصبحت هذه الفتاة - واسمها نيتي - كثيرة التردد على والتر حينما كان يكتب في دفتره. كانت دائما تقول له إنها لا تود إزعاجه، ولكنها بعد أن تظل صامتة على نحو متباه لنحو خمس دقائق، كانت تقاطعه بسؤال عن حياته أو تخبره شيئا عن حياتها. وتبين حقا أنها بلا أم، وحيدة أبيها، ولم تذهب إلى مدرسة قط. أكثر حديثها كان عن حيواناتها الأليفة - سواء تلك التي ماتت أو التي تحتفظ بها في منزلها في إدنبرة - وكذلك عن امرأة تدعى الآنسة أندرسون، كانت تسافر معها وتعلمها. وبدا من طريقة حديثها أنها سعدت برحيل هذه السيدة عنها، وبالتأكيد الآنسة أندرسون نفسها سعدت بالرحيل، خاصة بعد كل المكائد التي كادتها لها الفتاة؛ بداية من الضفدع الحقيقي الذي وضعته في حذائها، وانتهاء بالفأر المصنوع من الصوف الذي يشبه الفأر الحقيقي، والذي وضعته على سريرها. وكذلك وطؤها بقدميها الكتب التي لم تكن تروق لها، وتظاهرها بالصمم والغباء كلما أصابها الملل من أداء تمرينات الهجاء.
ذهبت إلى أمريكا ثلاث مرات وعادت؛ فقد كان أبوها بائع خمور يقتضي عمله أن يسافر إلى مونتريال.
أرادت أن تعرف كل شيء عن حياة والتر وأهله، وكانت أسئلتها وقحة جدا بمعايير أهل الريف. ولكن والتر لم يكن يهتم؛ ففي عائلته، لم يكن أبدا في موضع يسمح له بإعطاء الأوامر أو بتلقين شخص أصغر منه سنا أو إثارة حنقه، وقد كان سعيدا على نحو ما بطريقة كلامها.
لكن من المؤكد أنه في العالم الذي جاء منه لم يكن ليفلح أحد بمثل هذا التطاول والجرأة والفضول البادي على هذه الفتاة التي تدعى نيتي؛ فقد كانت تسأله أسئلة كثيرة؛ على غرار: ماذا كنتم تتناولون في المنزل على العشاء؟ وكيف تنامون؟ وهل كنتم تحتفظون بحيوانات في المنزل؟ وهل كنتم تطلقون أسماء على أغنامكم؟ وما هي أسماء الكلاب التي تحرس الأغنام؟ وهل كان من الممكن أن تتخذها لنفسك باعتبارها حيوانات أليفة لك؟ ولم لا ؟ وكيف يجلس التلاميذ في حجرة الدراسة؟ وعلى أي شيء يكتبون؟ وهل المعلمون قساة؟ وماذا تعني بعض الكلمات التي لم تكن تفهمها منه؟ وهل الناس في البلد التي جاء منها يتحدثون بنفس طريقته؟
أجابها والتر: «أوه، نعم. حتى صاحب العظمة الدوق؛ دوق باكلو.»
ضحكت وأخذت تضرب بقبضتها الصغيرة بحرية على كتفيه.
ثم قالت: «أنت الآن تغيظني، أليس كذلك؟ فأنا أعلم أن الدوق لا نصفه بصاحب العظمة. ليس ثمة دوق يوصف بذلك.»
ذات مرة أحضرت معها ورقا وأقلام رصاص للرسم. قالت إنها أحضرتهما لتنشغل بشيء حتى لا تكون مصدر إزعاج له. وأخبرته أنها ستعلمه الرسم إذا أراد ذلك. ولكن محاولاته للرسم أثارت ضحكها، وأخذ عن قصد يرسم أسوأ فأسوأ، حتى ضحكت بشدة، ومن فرط ضحكها أتتها إحدى نوبات السعال التي كانت تصيبها (لم يعد ينزعج كثيرا من نوبات السعال هذه؛ لأنه وجد أنها كانت تبدو على دراية بكيفية التعامل معها). ثم أخبرته أنها سترسم له بعض الرسومات في الصفحات الأخيرة من دفتره حتى تذكره بهذه الرحلة البحرية كلما نظر إليها. رسمت أشرعة سفينة ترفرف في السماء، ودجاجة هربت من قفصها بطريقة ما، وتحاول أن تسافر كطائر بحري فوق الماء. وكذلك رسمت من ذاكرتها كلبا لها قد مات اسمه بايرت. في البداية زعمت أن اسم الكلب كان والتر، غير أنها ندمت واعترفت فيما بعد أنها لم تكن تقول الحقيقة. وكذلك رسمت صورة للجبال الجليدية التي رأتها في رحلات بحرية سابقة لها مع أبيها، والتي كانت أكثر ارتفاعا من المنازل. حينها سطعت شمس الغروب عبر تلك الجبال؛ مما جعلها تبدو - حسب قولها - وكأنها قلاع من ذهب، ذات لون وردي وذهبي.
قالت له: «كنت أتمنى أن تكون معي علبة ألواني؛ فأريك كيف سيكون شكل هذه الرسومات. لست أدري أين وضعتها. على أي حال أنا لست خبيرة في التلوين، لكنني في الرسم أفضل.»
لقد كان كل ما رسمته، بما في ذلك الجبال الجليدية، يبدو ساذجا وساخرا في نفس الوقت، ويعبر عنها تعبيرا دقيقا. ••• «كنت قد حدثتكم قبل أيام عن هذا الرجل الذي يدعى ويل أوفوب وهو جدي في الوقت نفسه، لكن ما زال يوجد الكثير عنه مما لم أخبركم به. فأنا لم أخبركم أنه كان آخر رجل في اسكتلندا يتحدث إلى الجن. لا شك أنني لم أسمع أبدا أن أحدا غيره فعل ذلك، سواء في عصره أو من بعده.»
اضطر والتر لسماع هذه الحكاية التي سمعها بطبيعة الحال مرات ومرات، وإن لم يسمعها برواية أبيه. كان يجلس عند ركن من أركان السفينة حيث يصلح بعض البحارة الأشرعة الممزقة. كان بعضهم يتحدث إلى بعض من حين لآخر - ربما باللغة الإنجليزية، لكنها ليست الإنجليزية التي كان يفهمها والتر - وفي أحيان أخرى، كان يبدو أنهم يستمعون إلى بعض ما كان يحكيه جيمس الأب. واستطاع والتر أن يخمن، من خلال الأصوات التي كان يسمعها أثناء حكاية القصة، أن جمهور المستمعين لأبيه - ممن لا يستطيع تمييزهم - كان معظمه من النساء.
لكن، ثمة رجل طويل مهندم الثياب - لا شك أنه أحد نزلاء الكبائن - توقف ليستمع للحكاية على مرأى من والتر. يوجد شخص بالقرب من الجانب الآخر لهذا الرجل، وفي لحظة من لحظات الحكاية؛ إذ بهذا الشخص يبحث بعينيه هنا وهناك عن والتر، وأدرك أنها نيتي. بدا عليها أنها كانت على وشك الضحك، لكنها وضعت إحدى أصابعها على شفتيها كما لو كانت تطلب من نفسها - ووالتر - السكوت.
لا بد أن هذا الرجل هو أبوها، وقد وقف الاثنان هناك يصغيان إلى الحكاية في هدوء حتى نهايتها.
ثم استدار الرجل وتحدث مباشرة، على نحو معتاد وإن كان وديا، إلى والتر.
وقال له: «لم تقل أي شيء عما حدث لأغنام هذا الرجل. أتمنى ألا يكون الجن قد أخذوها.»
انزعج والتر ولم يعرف ماذا يقول. لكن نيتي نظرت إليه بسكينة تدعو إلى الهدوء، وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة خفيفة، ثم نظرت بعيدا، وانتظرت بجوار أبيها كما هو المفترض من آنسة صغيرة رزينة.
سأله الرجل وهو يشير إلى دفتره: «هل تدون ما يمكن أن تستفيد منه من هذه الحكاية؟»
رد والتر ردا جامدا قائلا: «إنني أكتب يوميات الرحلة.» «الآن الأمر شائق. تلك حقيقة مثيرة؛ لأنني أيضا أكتب يوميات هذه الرحلة. إنني أتساءل إذا كنا نشترك في نفس الأشياء التي نجدها تستحق التدوين.»
قال والتر، وهو يريد أن يوضح أن هذه مهمة موكلة إليه، وليست متعة فارغة: «إنني أكتب فقط ما يحدث.» كان لا يزال يشعر بالحاجة إلى تقديم مزيد من التبرير، فأضاف: «إنني أكتب كي أسجل تفاصيل كل يوم من أيام الرحلة، بحيث أستطيع في نهايتها أن أرسلها في رسالة إلى أهلي.»
أصبح صوت الرجل أكثر نعومة وأسلوبه أكثر لطفا من أي أسلوب اعتاده والتر. وأخذ والتر يسأل نفسه إن كان هذا الرجل يستهزئ به بأي نحو، أو إن كان والد نيتي من نوعية الأشخاص الذين يسعون بسرعة إلى التعرف على الآخرين على أمل الاستحواذ على أموالهم لاستثمارها في أشياء عديمة الفائدة.
لا يبدو من مظهر والتر ولا أسلوب لبسه أنه يمكن أن يكون أحد الضحايا المحتملين لهذا الرجل. «لذلك، أنت لا تصف ما تراه، أليس كذلك؟ تصف فقط - حسب قولك - ما «يحدث»؟»
كان والتر على وشك أن يقول لا، لكنه قال نعم؛ إذ خطر بباله توا أنه إذا كتب في يومياته أن ريحا عاتية قد هبت، أفلا يكون هذا وصفا؟ ولسان حاله يقول: المرء لا يعرف كيف يميز مواقفه مع هذا النوع من الناس.
فسأله: «ألم تكتب عما قد سمعناه لتونا؟» «لا.» «ربما الأمر يستحق. ثمة أناس الآن يتنقلون بين كل أنحاء اسكتلندا ويدونون كل ما يقوله أولئك العجز من أهل الريف. إنهم يعتقدون أن الأغاني والقصص القديمة في طريقها للاختفاء وأنها تستحق التدوين. إنني لا أعرف الكثير عن هذا الأمر، فهو شأن لا يخصني. لكنني لن أندهش إن كان من يدونون كل هذا يجدون أن ما يفعلونه يستحق العناء؛ أقصد أن أقول إن هذا الأمر سيجلب لهم المال.»
وهنا تتحدث نيتي على غير المتوقع. «أوه، كفى يا أبتي! ها هو الرجل العجوز يبدأ كلامه من جديد .»
ليس هذا ما ينبغي بأي ابنة أن تقوله لأبيها من وجهة نظر والتر، لكن الرجل بدا مستعدا للضحك وهو ينظر إليها بإعجاب.
قال الرجل: «شيء واحد آخر أريد أن أسأل عنه، ماذا تعتقد فيما يخص الجن؟»
رد والتر: «أعتقد أن كل هذا هراء.»
وعادت نيتي تقول متبرمة: «لقد بدأ من جديد.»
في الواقع، كان صوت جيمس مسموعا في تلك الأثناء ليقاطع بإصرار وتوبيخ مستمعيه الذين ربما ظنوا أن هذا الوقت قد يكون هو الوقت المناسب للحديث بعضهم مع البعض. «... ومرة أخرى، لكن في أيام الصيف ذات النهار الطويل، وفوق التلال في نهاية النهار، ولكن قبل حلول الظلام الدامس ...»
أومأ الرجل الطويل برأسه، لكنه بدا كما لو كان ما زال لديه شيء ليسأل عنه والتر. رفعت نيتي يدها لأعلى ووضعتها على فمه. «وسوف أقول لكم وأقسم بحياتي إن ويل لم يكن ليكذب ولو لمرة واحدة؛ فقد كان في أيام شبابه يذهب إلى الكنيسة التي يعظ بها توماس بوستون، الذي زرع مخافة الرب مثل السكين في قلب كل رجل وامرأة حتى يوم مماتهم. لا، أبدا. لم يكن ليكذب أبدا.» •••
قال الرجل الطويل، في هدوء وقد تأكد أن القصة قد انتهت: «أكان كل ذلك هراء؟ حسنا، إنني أميل لموافقتك الرأي. لك طريقة تفكير مستنيرة، أليس كذلك؟»
أجاب والتر بالإيجاب، كان تفكيره هكذا، وكان يتحدث بطريقة أكثر جرأة وعنادا من ذي قبل. لقد سمع تلك الحكايات التي كان يتحدث عنها أبوه، وما شابهها من حكايات على مدار حياته كلها، لكن الغريب أنه لم يسمع هذه الحكايات من والده مباشرة حتى اعتلوا متن هذه السفينة. وكان على يقين من أن والده، الذي كان يعهده إلى وقت قريب، لم يكن ليؤمن بالخرافات الموجودة بتلك الحكايات.
اعتاد أبوه أن يقول: «ما أفظع هذا المكان الذي نعيش فيه! فلا تجد عن هؤلاء الناس إلا الهراء والعادات السيئة، وحتى صوف الأغنام الذي نملكه لا نستطيع أن نبيعه لرداءته. والطرقات من سوئها لا يستطيع أي حصان أن يقطع عليها أكثر من أربعة أميال في الساعة. والناس هنا يستخدمون المجرفة أو المحراث الاسكتلندي القديم في حرث الأرض، وإن كان يوجد محراث أفضل مستخدم في أماكن أخرى منذ خمسين عاما. وإذا سألتهم عن السبب في ذلك، قالوا: حسنا، لكن الأرض شديدة الانحدار ها هنا، وصعبة الحرث.»
وقال أيضا: «أن يولد المرء في إتريك معناه أن يولد في مكان متخلف، حيث يؤمن جميع الناس بالحكايات القديمة ورؤية الأشباح، وأقول لك إن من اللعنة أن يولد المرء في إتريك.»
وأغلب الظن أن هذا ما قاده للهجرة إلى أمريكا؛ حيث اجتمعت كل مزايا الاختراعات الحديثة ليستفيد منها الناس الذين لا يتوقفون عن تحسين الحياة من حولهم.
لكن استمع إليه الآن.
قالت نيتي: «أنا لا أعتقد أن ما رآه كان من الجن.»
رد أبوها: «إذن هل تعتقدين أنهم كانوا يجاورونه طوال الوقت؟ هل تعتقدين أنهم كانوا يخدعونه؟»
لم يسمع والتر من قبل أبا يتحدث إلى ولده بمثل هذا التساهل. ورغم إعجابه بنيتي، لم يستطع أن يستحسن ذلك؛ إذ يمكن أن يجعلها هذا تؤمن بأنه لا توجد على وجه الأرض آراء تستحق أن يصغى إليها سوى آرائها.
ردت: «لا، أنا لا أعتقد ذلك.»
فيسأل الأب: «ماذا إذن؟» «أعتقد أنهم موتى.»
سألها أبوها بشيء من الصرامة: «ماذا تعرفين عن الموتى؟ الموتى لا يبعثون إلا يوم القيامة. أنا لا أريدك أن تستخفي بأمور كهذه.»
تقول نيتي بتهاون: «أنا لا أستخف بشيء.»
تدافع البحارة بسرعة تاركين أشرعتهم، وأخذوا يشيرون إلى السماء، إلى أقصى الغرب. لا بد أنهم كانوا يرون شيئا ما يثير حفيظتهم. تجرأ والتر وسأل: «هل هم من الإنجليز؟ أنا لا أستطيع فهم ما يقولون.» «بعضهم إنجليزي، والبعض الآخر من أماكن تبدو لغاتها غريبة بالنسبة إلينا. بعضهم برتغاليون. لكنني لا أستطيع أن أفهمهم أيضا، أظنهم يقولون إنهم يرون طيور الروتش. كلهم يتمتعون بنظر حاد جدا.»
كان والتر يعتقد أن لديه أيضا عيونا حادة، لكن الأمر استغرق منه لحظة أو لحظتين قبل أن يتمكن من رؤية هذه الطيور، تلك التي تسمى الروتش. انطلقت أسراب متعددة من طيور البحر هذه بسرعة مرتفعة فوق الرءوس، فبدت كأنها نقط لامعة في الهواء.
قال والد نيتي: «يجب ألا تغفل ذكر تلك الطيور في يومياتك. لقد رأيتها عندما قمت بهذه الرحلة من قبل. تتغذى هذه الطيور على السمك، وهذا أفضل مكان لها. سترى قريبا الصيادين أيضا. ولكن رؤية طيور الروتش وهي تملأ السماء العلامة الأولى على أننا حتما في جراند بانكس في نيوفاوندلاند.»
ثم قال لوالتر وهو يتركه: «يجب أن تصعد إلى سطح السفينة وتتحدث إلينا. لدي عمل مشغول به، وهذا يجعلني أنشغل كثيرا عن مصاحبة ابنتي. كما أنها ممنوعة من الجري واللعب؛ لأنها لم تشف بعد من نزلة البرد التي أصابتها في الشتاء، ولكنها مولعة بالجلوس بالخارج والحديث مع الآخرين.»
قال والتر بشيء من الارتباك: «أعتقد أنني لا يجوز لي الصعود إلى سطح السفينة.» «لا، لا، هذا ليس بالأمر المهم. ابنتي وحيدة، تحب القراءة والرسم، ولكنها أيضا تحب الرفقة. يمكنها أن تعلمك الرسم، إن أحببت. وهذا سيضيف كثيرا إلى يومياتك.»
إذا تهلل وجه والتر، فلن يلاحظ ذلك. بقيت نيتي متزنة ومتماسكة تماما. •••
وهكذا اعتادوا الجلوس بالخارج يرسمون ويكتبون، وأحيانا كانت تقرأ له بصوت مرتفع من كتابها المفضل «قادة اسكتلندا»، ولكنه كان يعرف بالفعل الكثير مما حدث في تلك الرواية - فمن الذي لا يعرف ويليام والاس؟ - ولكنها كانت تقرأ بسلاسة وبسرعة مناسبة، وكانت نبرة قراءتها في بعض المواضع نبرة مهيبة، وفي أخرى مرعبة، وفي أخرى فكاهية؛ مما جعله يقع في أسر الكتاب، تماما كما كانت هي أيضا، على الرغم من أنها قالت إنها قد قرأته من قبل اثنتي عشرة مرة.
بات يفهم الآن على نحو أفضل قليلا لماذا كانت تسأله كل هذه الأسئلة؛ كان يذكرها هو وأهله ببعض الناس في كتابها، هؤلاء الذين كانوا يعيشون على التلال وفي الأودية في العصور القديمة. ماذا سيكون موقفها إذا عرفت أن هذا «الرجل العجوز»، راوي القصص القديمة، الذي يسرد قصصه في كل أرجاء السفينة، ويجبر الناس على الاستماع إليه كما لو أنهم كانوا أغناما وهو الكلب الراعي لهم؛ هو والد والتر؟
ربما ستكون مسرورة جدا، وسيزيد فضولها أكثر من ذي قبل بشأن عائلة والتر. لن تنظر إليهم باستعلاء، وإنما على نحو خارج عن سيطرتها أو لا تستطيع فهمه.
وصلنا إلى مناطق الصيد في نيوفاوندلاند في الثاني عشر من يوليو، ورأينا في التاسع عشر البر، وبعث هذا المنظر البهجة في نفوسنا. كانت تلك الأرض جزءا من نيوفاوندلاند. أبحرنا بين نيوفاوندلاند وجزيرة سانت بول، ونظرا لأن الريح كانت جيدة في يومي الثامن عشر والتاسع عشر، وجدنا أنفسنا في النهر في صباح يوم العشرين، والبر الرئيسي لأمريكا الشمالية على مرمى بصرنا. أيقظونا في الساعة الواحدة صباحا، وأعتقد أن كل راكب كان بحلول الساعة الرابعة صباحا قد استيقظ وأخذ يحد النظر في البر، المغطى كله بالغابات، وكان هذا منظرا جديدا علينا تماما. كانت هذه الأرض جزءا من نوفا سكوشا، وبلدا مرتفعا جميلا. رأينا في ذلك اليوم حيتانا عديدة، وهي مخلوقات لم أرها من قبل في حياتي.
كان هذا هو يوم العجائب؛ الأرض كانت تغطيها الأشجار كغطاء الشعر للرأس، والشمس كانت تشرق في خلفية السفينة مفترشا ضوءها قمة الأشجار العالية. السماء كانت صافية ومشرقة كطبق مصقول، والماء كانت تداعبه الرياح فيضطرب على نحو لعوب. لقد ذهب كل غمام الضباب، وامتلأ الهواء بالرائحة الراتنجية للأشجار. وأخذت الطيور البحرية تطير بسرعة فوق الأشرعة، التي كانت كلها ذهبية اللون وكأنها مخلوقات من الجنة، لكن البحارين أطلقوا بعض الطلقات ليبعدوها عن حبال الأشرعة والصواري.
همت ماري برفع جيمس الابن لكي يتذكر دائما هذا الظهور الأول للقارة التي ستكون وطنه للأبد. أخبرته باسم هذه الأرض؛ نوفا سكوشا.
ثم قالت له: «يعني الاسم اسكتلندا الجديدة.»
سمعتها أجنيس، فسألتها: «إذن، لماذا لا يسمونها هكذا؟»
ردت ماري: «إن هذا الاسم باللغة اللاتينية، بحسب اعتقادي.»
نخرت أجنيس بضجر. كانت الطفلة قد استيقظت في وقت مبكر بسبب الضجيج والاحتفال، وقد أصبحت الآن حزينة، تريد أن ترضع طوال الوقت، وكانت تبكي كلما حاولت أجنيس التوقف عن إرضاعها. لاحظ جيمس الابن كل هذا عن قرب، وقام بمحاولة ليرضع من الثدي الآخر الذي لا ترضع منه أخته، فضربته أنجيس بشدة مما جعله يترنح.
ثم صرخت فيه قائلة: «غلام شقي!» صرخ باكيا قليلا، ثم زحف من ورائها وقرص أصابع قدم الطفلة.
ضربة قوية أخرى.
قالت والدته: «إنك حقير، حقير فعلا. ثمة شخص أمعن في تدليلك حتى ظننت أنك صرت رجلا بحق.»
كان صوت أجنيس العالي يجعل ماري تشعر دائما وكأنها على وشك أن تأخذ صفعة منها.
جلس جيمس الأب معهم على سطح السفينة، ولكنه لم يعر هذا الخلاف العائلي أي انتباه.
قالت ماري في حيرة: «هل ستأتي وتنظر إلى البلد يا أبي؟ تستطيع أن ترى المنظر على نحو أفضل من خلال السور.»
رد جيمس الأب قائلا: «أستطيع أن أراه على نحو جيد بالقدر الكافي.» لم تكن نبرة صوته تحمل أي شيء يدل على أن ما يرونه من مناظر مرض بالنسبة إليه.
قال جيمس: «كانت إتريك في قديم الزمان مغطاة بالأشجار. سكنها الرهبان في البداية، وبعد ذلك أصبحت الغابة الملكية. كانت هي غابة الملك، وكانت مليئة بشجر الزان، وشجر البلوط، وشجر الغبيراء.»
ردت ماري، وقد أصبحت أكثر جرأة من المعتاد بسبب الأمور الجديدة وغير المعتادة التي بدت لهم في ذلك اليوم: «هل كانت توجد أشجار كثيرة كهذه؟» «أشجار أفضل من تلك، وأقدم. وكانت مشهورة في جميع أنحاء اسكتلندا باسم «غابة إتريك الملكية».»
وأكملت ماري حديثها قائلة: «ونوفا سكوشا هي المكان الذي يعيش فيه أخي جيمس.»
فرد: «ربما نعم وربما لا. من السهل أن يموت المرء هنا دون أن يعرف أحد عن موته شيئا. من الممكن أن يكون قد أكلته حيوانات مفترسة.»
قالت أجنيس لجيمس الابن الذي يحوم حولها وحول الطفلة، متظاهرا بأنه غير عابئ بهما: «اقترب من هذه الطفلة مرة أخرى، وسأعاقبك عقابا شديدا.»
كانت أجنيس تعتقد أنه استحق ما حدث له، ذلك الشخص الذي لم يكلف نفسه حتى عناء وداعها قبل أن يغادر. لكنها كانت تتمنى ظهوره في وقت ما ليراها متزوجة من أخيه، وذلك حتى يتعجب، ويدرك أيضا في النهاية أنه لم يستطع النيل منها.
تعجبت ماري كيف لأبيها أن يتكلم بهذه الطريقة، كيف يتحدث عن أن الحيوانات المتوحشة ربما تكون قد أكلت ابنه! هل هذا يبين كيف يستحوذ حزن السنين على المرء، فيحول قلبه إلى حجر، وذلك حسب كلمات الأغنية القديمة؟ ثم هب الأمر كذلك، فإلى أي مدى من الازدراء واللامبالاة يمكن أن يتحدث عنها، وهي التي لم تكن تعني له ولو جزءا ضئيلا مما يعنيه له أولاده؟ •••
لقد أحضر شخص ما آلة كمان إلى سطح السفينة، وأخذ يضبطها ليعزف عليها. وقد شتتت أصوات العزف هذه انتباه الذين كانوا عالقين على سور السفينة، يشير كل منهم إلى الآخر، لما كان بإمكان أي منهم رؤيته بنفسه - إضافة إلى تكرار الاسم الذي بات يعرفه الجميع الآن؛ نوفا سكوشا - ثم بدءوا يتنادون من أجل الرقص. ذكروا أسماء الرقصات الشعبية الاسكتلندية التي يريدون من عازف الكمان أن يعزف موسيقاها. تم إخلاء مكان للرقص، واصطف كل اثنين للرقص بنوع من الترتيب، وبعد فترة تعالت فيها صيحات التشجيع النافد صبرها وصرير ضبط الكمان المزعج، بدأ العزف وانتظم اللحن وبدأ الرقص.
الرقص في الساعة السابعة صباحا.
صعد أندرو من أسفل حاملا ما يحتاجونه من الماء. وقف قليلا يشاهد الرقص، ثم فاجأ ماري بأن طلب منها الرقص معه.
قالت أجنيس على الفور: «ومن الذي سيعتني بالولد؟ لن أقوم من فراشي لأجري وراءه وأمسك به.» لقد كانت مغرمة بالرقص، ولكن لا يمكنها الرقص الآن، ليس فقط بسبب رضاعة الطفلة، ولكن بسبب تقرح أعضاء جسدها التي تأثرت بشدة أثناء الولادة.
رفضت ماري من جانبها، قائلة إنها لن تستطيع أن تشاركه الرقص، ولكن أندرو قال: «سنربطه بأمه بحبل.»
ردت ماري: «لا، لا، ليس لي حاجة بالرقص.» كانت ماري تعتقد أن أندرو يشفق عليها، متذكرا كيف اعتادت أن تترك وحيدة دون أن تشارك في الألعاب المدرسية وفي الرقص، على الرغم من أنها كانت تستطيع بالفعل الجري والرقص على نحو رائع. كان أندرو هو الوحيد من بين إخوتها القادر على مثل التعاطف، ولكنها كانت تفضل لو عاملها مثلما يعاملها إخوتها الآخرون، وتركها وحيدة كما كانت دائما؛ فالشفقة تغضبها.
بدأ جيمس الابن في التبرم بصوت عال، بعدما سمع كلمة «حبل».
قال له أبوه: «اهدأ، اهدأ وإلا سأضربك بقوة.»
ثم فاجأ جيمس الأب الجميع بصرف انتباهه إلى حفيده. «أنت، أيها الغلام الصغير! أنت ستجلس بجواري.»
قالت ماري: «أوه، إنه لن يجلس. سيجري، ولن تستطيع الجري وراءه يا أبي. سأجلس أنا معه.»
قال جيمس الأب: «سيجلس.»
قالت أجنيس لماري: «حسنا، احسمي الأمر. اذهبي أو ابقي معه.»
نظر جيمس الابن لأجنيس ثم لماري، وتنشق بحذر.
قال جده: «ألا يعرف حتى أبسط الكلمات؟ اجلس هنا يا غلام.»
ردت ماري: «إنها كلمات كثيرة. يعرف اسم ذراع ساري مقدمة السفينة.»
كرر جيمس الابن: «ذراع الساري.»
قال جيمس الأب: «لا تتكلم واجلس هناك.» طأطأ جيمس الابن رأسه على مضض، وجلس في المكان المشار إليه.
أشار جيمس الأب إلى ماري: «الآن، اذهبي.» مضت ماري وهي على وشك البكاء، والحيرة تعلو وجوه الجميع.
قالت أجنيس: «لقد جعلت منه غلاما سيئا.» لم تقل ذلك بالطبع أمام والد زوجها، ولكن بعيدا عنه. كانت تتكلم بقدر من اللامبالاة، وهي تمازح وجنة طفلتها بحلمة ثديها. •••
لم يكن الناس يرقصون على إيقاع الرقص وخطواته، بل يشذون عنهما تماما، وذلك بطول سطح السفينة. كانوا يمسكون بأي شخص ويجعلونه يدور كجزء من الرقص. حتى إنهم كانوا يجتذبون بعض البحارة ويرقصون معهم عندما يتمكنون من ذلك. كان الرجال يرقصون مع النساء، بينما رقص بعض الرجال مع رجال آخرين، ورقص بعض النساء مع نساء أخريات، ورقص الأطفال بعضهم مع بعض، أو كل بمفرده، وذلك دون مراعاة لخطوات الرقص، أو مع اعتراض البعض لطريق الآخرين؛ حيث كان يعترض كل منهم طريق الآخر، وهذا لا يهم. كان بعض الأطفال يرقصون في مكان ما، وأخذوا يدورون مع تشبيك أذرعتهم معا في الهواء، حتى شعروا بدوار شديد، فسقطوا على الأرض . وبعد ثانيتين، وقفوا على أقدامهم، متعافين من الدوار الذي كان قد أصابهم، ومستعدين للشروع في نفس الأمر من جديد.
أمسكت ماري يد أندرو، وها هي تدور حوله، ثم تنتقل للآخرين، لمن ينحني لها ويدفع جسدها الصغير في الهواء. غاب جيمس الابن عن بصرها، ولم يعد بإمكانها معرفة إن كان قد بقي مع جده أم لا. ترقص منخفضة في مستوى الأطفال، على الرغم من أنها أقل جرأة وبهجة. وفي ظل كثرة الأجساد كانت عديمة الحيلة، أصبحت غير قادرة على التوقف؛ يجب أن تتحرك مع أنغام الموسيقى وتدور معها وإلا ستسقط على الأرض. •••
قال جيمس الأب: «أنصت؛ الآن تنصت وسأقص عليك القصة. هذا الرجل العجوز، ويل أوفوب؛ جدي - كان جدي كما أنني جدك - كان يجلس خارج منزله في المساء مسترخيا، وكان الطقس صيفيا معتدلا. كان بمفرده. وكان هناك ثلاثة أولاد صغار أكبر منك قليلا، أتوا إلى منزل ويل. وألقوا عليه تحية المساء قائلين: «مساء الخير يا ويل أوفوب.»
فرد عليهم: «مساء الخير يا صغار، كيف يمكنني مساعدتكم؟»
أجابوه قائلين: «هل يمكنك أن تعطينا سريرا نبيت عليه الليلة أو مكانا لننام فيه؟» قال: «نعم، نعم. أعتقد أنه لا توجد مشكلة في توفير مكان لثلاثة من الصغار مثلكم للمبيت فيه.» ودخل المنزل وهم من ورائه، ثم قالوا: «بالمناسبة، هل يمكن أن تعطينا المفتاح أيضا؛ المفتاح الفضي الكبير الذي أخذته منا؟» أخذ ويل ينظر حوله، ويبحث عن المفتاح، وهو يقول في نفسه: أي مفتاح هذا؟ ثم التفت ليسألهم: أي مفتاح هذا؟ لأنه كان يعرف أنه لم يكن لديه هذا الشيء في حياته، لم يكن لديه من قبل مفتاح كبير أو مفتاح فضي. وعندما التفت ليسألهم لم يجدهم! فخرج من المنزل، وأخذ يبحث عنهم حول المنزل، ثم في الطريق. لكن لم يجد لهم أثرا. فنظر في التلال بحثا عنهم. لم يكن لهم أي أثر.» «ثم أدرك هول الأمر. هم لم يكونوا أولادا صغارا على الإطلاق. آه، لا. لم يكونوا صغارا على الإطلاق!»
لم يصدر جيمس الابن أي صوت. وجد خلفه الحائط السميك الذي يفصلهم عن الراقصين والجلبة التي يحدثونها، وإلى الجنب أمه، موجودة مع وحش صغير يعض في جسدها. وكان يجلس أمامه الرجل العجوز بصوته العالي، اللافت ولكن البعيد، ونفخات نفسه الكريه الرائحة، وشعوره بالاستياء والأهمية الذي يحاكي بالضبط شعور الطفل، وطبيعته الجائعة والماكرة والظالمة. هذه هي المواجهة الواعية الأولى لجيمس الابن مع شخص متمركز حول ذاته تماما مثله.
استطاع بالكاد أن يركز ليظهر أنه لم يهزم تماما.
وقال: «المفتاح. المفتاح؟» •••
لمحت أجنيس أندرو وهي تشاهد الرقص، فوجدت احمرارا في وجهه وثقلا في حركته، وكان يرقص ممسكا بيد العديد من النساء المرحات. إنهم يؤدون الآن رقصة «ستريب ذا ويلو». لا توجد فتاة واحدة يثير شكلها أو رقصها حفيظة أجنيس. كما أنها لم تكن لتقلق من أندرو على أي حال. ولكنها رأت ماري تدور، والتورد في وجهها، على الرغم من أنها كانت خجولة جدا وقصيرة جدا بحيث كانت لا تقوى على النظر لأي شخص في وجهه. ورأت المرأة التي لا أسنان لها تقريبا التي كانت تشبه الساحرات، والتي ولدت طفلا بعدها بأسبوع، وهي ترقص مع زوجها صاحب الخدين الغائرين. فلم تكن تعاني من تقرح في أعضاء جسدها. لا بد أنها قد أسقطت الطفل بسهولة كما لو كان جرذا، ثم أعطته لواحدة من بناتها النحيفات كي تعتني به.
ورأت أيضا السيد سوتر، الجراح، وهو يلهث، مبتعدا عن امرأة تريد الإمساك به، متملصا من الرقص وقد أتى ليلقي عليها التحية.
تمنت ألا يفعل ذلك. فها هو الآن سيعرف من هو والد زوجها، وقد يضطر إلى سماع ثرثرة ذلك العجوز الأحمق. كان سيلقي نظرة على أغراضهم وملابسهم الريفية التي هي الآن غير نظيفة. كان سيرى أجنيس على حقيقتها.
قال: «إذن، ها قد وجدتك. ها أنت مع كنزك.»
لم تسمع أجنيس من قبل هذه الكلمة تستخدم للإشارة إلى طفل. بدا وكأنه يتحدث إليها بالطريقة التي قد يتحدث بها إلى شخص من معارفه، ربما سيدة راقية، وليس كطبيب يتحدث إلى مريضة. أربكها هذا السلوك، ولم تعرف كيف ترد عليه.
قال لها: «هل طفلتك بخير؟» كان لا يزال يلتقط أنفاسه بعد الرقص، ووجهه، رغم أنه غير متورد، غطاه عرق خفيف. «نعم.» «وأنت؟ هل استرددت عافيتك؟»
هزت كتفيها قليلا، لكيلا تنزع حلمة ثديها من طفلتها. «بشرتك صافية على أي حال، وهذه علامة جيدة.»
اعتقدت أنه كان يتنهد أثناء قوله هذا الكلام، وتساءلت هل هذا ربما يرجع لكون بشرته هو، عندما ترى في ضوء الصباح، تكون شاحبة كشرش اللبن.
ثم سألها إن كانت تأذن له بالجلوس والتحدث إليها لبعض الوقت. وارتبكت للمرة الثانية بسبب رسميته، ولكنها ردت عليه قائلة إنه لا مانع لديها.
نظر والد زوجها إلى الجراح - وإليها أيضا - نظرة ازدراء، ولكن السيد سوتر لم يلحظها، ربما لم يدرك حتى أن هذا الرجل العجوز، والولد ذا الشعر الأشقر الذي يجلس مستقيم الظهر ومواجها للرجل العجوز؛ لهما علاقة بها.
قال: «إن الرقص رائع جدا. ولا تسنح للمرء فرصة أن يقرر مع من يرقص. وإنما يجري اجتذابه من قبل الجميع ومن قبل صنوف شتى من البشر.» ثم سألها: «ماذا ستفعلين في غرب كندا؟»
بدا السؤال لها أسخف ما يكون. هزت رأسها وفكرت ماذا عساها أن تقول؛ سوف تغسل وتخيط وتطبخ، وبالتأكيد سترضع أطفالا أكثر. ولن يمثل المكان الذي ستقوم فيه بكل هذا أهمية كبيرة بالنسبة إليها. سيكون في منزل ما، ليس أحد المنازل الأنيقة.
عرفت الآن أن هذا الرجل معجب بها، وكيف ذلك؟ تذكرت أصابعه وهي تمر على جسدها. ما الضرر الذي يمكن أن يحدثه ذلك لامرأة لديها طفلة ترضعها؟
شعرت بأن عليها إظهار قليل من اللطف له.
فقالت له: «ماذا ستفعل أنت؟»
ابتسم وقال إنه يعتقد أنه سيواصل العمل فيما قد تدرب على فعله، وأن الناس في أمريكا - كما سمع - في حاجة إلى أطباء وجراحين تماما مثل غيرهم في جميع أنحاء العالم.
وأضاف: «لكنني لا أريد أن أقيد بالإقامة في إحدى المدن. أود أن أذهب بعيدا حيث نهر المسيسيبي، على الأقل. لقد كان كل شيء خلف هذا النهر تمتلكه فرنسا، كما تعلمين، أما الآن، فهو ملك لأمريكا، والباب الآن مفتوح على مصراعيه، حيث يستطيع أي شخص أن يذهب إلى هناك، غير أنه من الممكن أن يصطدم بالهنود. ولا يقلقني هذا الأمر أيضا. فحيثما يكون قتال مع الهنود، تصبح الحاجة إلى جراح أشد.»
لم تكن تعرف أي شيء عن نهر المسيسيبي الذي يتحدث عنه، لكنها كانت تعرف أنه لا يبدو كمقاتل؛ فهو لم يكن يبدو وكأنه يستطيع أن يصمد في شجار مع الأولاد الصغار المشاغبين في هويك، ناهيك عن معركة مع الهنود الحمر.
تمايل راقصان على مقربة كبيرة منهما، بحيث جلبا الهواء على وجهيهما. كانت فتاة صغيرة، طفلة في واقع الأمر، أخذت تنورتها تطير، ولم يكن الشخص الذي يرقص معها سوى أخي زوجها، والتر. انحنى والتر على نحو سخيف لأجنيس والجراح ووالده، ودفعته الفتاة وجعلته يدور، وأخذ يسخر منها. فقد كانت متأنقة في ملبسها مثل السيدة الصغيرة، وقد وضعت أشرطة في شعرها. كان وجهها منيرا من السعادة، وخداها لامعان مثل المصابيح، وكانت تتعامل مع والتر بأريحية كبيرة، كما لو أنها كانت ممسكة بدمية كبيرة.
قال السيد سوتر: «هل هذا الفتى صديقك؟» «لا، إنه أخو زوجي.»
لم تتمالك الفتاة نفسها من الضحك، عندما تسببت هي ووالتر؛ بسبب عدم اكتراثها، في إسقاط راقصين آخرين أثناء الرقص. ولم تستطع الوقوف من شدة الضحك، واضطر والتر لمساعدتها على النهوض. ثم اتضح أنها لا تضحك، ولكنها في نوبة سعال، وفي كل مرة تكون النوبة على وشك التوقف، كانت تضحك، فتعود النوبة مرة أخرى. ضمها والتر إليه وتحرك بها وهو شبه حامل لها إلى سور السفينة.
قال السيد سوتر، وقد تحولت عيناه بسرعة إلى الطفلة الرضيعة قبل أن يركز مرة أخرى على الفتاة: «توجد فتاة واحدة هنا لن يكون لها أبدا طفل ترضعه من صدرها. أشك أن تلك الفتاة ستعيش لفترة طويلة بالقدر الكافي بحيث ترى الكثير في أمريكا. أليس لديها أحد ليعتني بها؟ كان يجب ألا يسمح لها بالرقص.»
وقف كي يتمكن من رؤية الفتاة بينما يمسكها والتر عند السور.
وقال: «لقد أوقفت هناك. لا يوجد نزف، ليس هذه المرة على الأقل.»
لم تكن أجنيس تهتم بأغلب الناس، لكنها كانت تستطيع أن تشعر بأي رجل يهتم بها، وكانت تستطيع أن ترى الآن أنه راض عن رأيه الذي صرح به بشأن هذه الفتاة الصغيرة. وكانت ترى هي أن هذا مرجعه حتما إلى حالته الشخصية؛ لا بد أنه كان يعتقد أن حاله لم يكن بالغ السوء بالمقارنة مع حال تلك الفتاة.
كان يوجد صراخ عند سور السفينة، ولم يكن الأمر متعلقا بالفتاة ولا بوالتر. ثم صرخة أخرى، وانصرف الكثير من الناس عن الرقص مسرعين لينظروا إلى الماء. نهض السيد سوتر من جلسته وتحرك بضع خطوات في ذلك الاتجاه، تابعا الحشد، ثم عاد.
وقال: «حوت. يقولون إنهم شاهدوا حوتا يبتعد من هذا الجانب.»
صرخت أجنيس بصوت غاضب قائلة: «اجلس أنت هنا»، وقد التفت إليها مندهشا. لكنه رأى أنها كانت توجه كلماتها إلى جيمس الصغير، الواقف على قدميه.
قال السيد سوتر وكأنه قد اكتشف شيئا غير عادي: «إنه ولدك إذن، أليس كذلك؟ هل يمكنني أن أحمله ليلقي نظرة؟» •••
وهكذا رأت ماري - التي تصادف أن رفعت وجهها لأعلى وسط حشد الركاب - جيمس الابن، وزاد ذهولها، وهي تراه محمولا عبر سطح السفينة بين ذراعي رجل غريب مسرع، رجل أسود الشعر شاحب الوجه ورابط الجأش على الرغم من دماثته الماكرة والذي كان يعد بالتأكيد غريبا. سارق أطفال أو قاتل أطفال، متجه إلى سور السفينة.
صرخت صرخة مدوية كان من شأنها أن تجعل أي شخص يعتقد أنها في قبضة الشيطان، وقد أفسح الناس الطريق لها كما يفعلون أمام كلب مجنون.
صرخت قائلة: «اقبضوا على هذا اللص، اقبضوا على هذا اللص. خذوا الولد منه. أمسكوه! جيمس، جيمس! اهرب منه!»
دفعت نفسها بقوة للأمام وأمسكت كاحلي الطفل، وأخذت تجذبه بعنف، مما جعله يصرخ بخوف وغضب. كاد الرجل الذي كان يحمله أن يسقط ولكنه لم يترك الطفل. تمسك الرجل بالطفل ودفع ماري بقدمه .
صرخ فيمن حولهما: «امسكوا ذراعيها!» وأخذ يلهث. ثم أضاف: «إنها مصابة بنوبة.»
شق أندرو طريقه بين الناس الذين كانوا ما زالوا يرقصون والآخرين الذين توقفوا عن الرقص ليشاهدوا المأساة. استطاع بطريقة ما الإمساك بماري وجيمس الابن، وأوضح أن هذا الطفل هو ابنه، وأن السيدة هي أخته، وأن الأمر لا علاقة له بالنوبات المرضية. أفلت جيمس الابن نفسه من والده وذهب إلى ماري، ثم أخذ في ركلها لتتركه.
شرح السيد سوتر باختصار كل ما حدث مقدما اعتذاره واحترامه لهم. وخلال ذلك، وبعد أن استعاد جيمس الابن نشاطه، إذا به يصرخ أكثر من مرة قائلا إنه لا بد أن يرى الحوت. أصر جيمس على هذا وكأنه كان يعرف تماما ما هو الحوت.
أخبره أندرو بما سيحدث له إذا لم يوقف الجلبة التي كان يحدثها.
قال الجراح: «لقد توقفت لدقائق قليلة لأتكلم مع زوجتك، لأسألها إن كانت بصحة جيدة أم لا. لم يكن لدي وقت لأودعها؛ لذلك يجب أن تودعها نيابة عني.» •••
كان ثمة حيتان كثيرة استطاع جيمس الابن أن يشاهدها طوال اليوم، وكذلك شاهدها الجميع حتى أصابهم الضجر. فقد مل الناس من النظر إلى الحيتان.
قال جيمس الأب موجها حديثه إلى السماء: «هل من أحد غير هذا الوغد المهندم كان ليجلس هكذا يتحدث إلى امرأة عارية الصدر؟»
ثم اقتبس من الكتاب المقدس آيات تتحدث حول الحيتان: «هناك تجري السفن. لوياثان هذا خلقته ليلعب فيه»، «الحية الهاربة. لوياثان الحية المتحوية ويقتل التنين الذي في البحر.»
لكنه لم يكن ليكلف نفسه عناء الذهاب وإلقاء نظرة عليها.
ظلت ماري غير مقتنعة بقصة الجراح. بالطبع، كان لا بد أن يقول لأجنيس إنه سيأخذ الطفل ليلقي نظرة على الحوت، لكن هذا لا يجعل القصة حقيقية بالنسبة إليها. فحين كانت تبرز فجأة في عقلها صورة هذا الرجل الشرير وهو يحمل جيمس الابن، وكانت تشعر في داخلها بقوة صرختها، كانت تندهش وتشعر بالسعادة. كانت لا تزال تعتقد أنها هي التي أنقذته. •••
كان والد نيتي يدعى السيد كاربرت. وكان يجلس أحيانا ويستمع إلى نيتي وهي تقرأ لوالتر أو تتحدث معه. وفي اليوم التالي للاحتفال والرقص، عندما كان الكثير من الناس في حالة مزاجية سيئة بسبب الإنهاك والبعض الآخر بسبب شرب الويسكي، ولا تكاد ترى شخصا واحدا ينظر إلى الشاطئ، بحث السيد كاربرت عن والتر ليتحدث إليه.
وقال له: «إن نيتي منجذبة إليك جدا، حتى إنها ترى أنك لا بد أن تأتي معنا إلى مونتريال.»
ضحك ضحكة اعتذارية، وضحك والتر أيضا.
رد والتر: «لا بد أنها تعتقد أن مونتريال توجد في غرب كندا.» «لا، لا. أنا لا أمزح. بحثت عنك لأتحدث معك متعمدا ألا تكون حاضرة معنا. أنت رفيق جيد لها، ويسعدها أن تكون معك. وأرى أنك فتى ذكي وعاقل وسوف تبلي بلاء جيدا إذا عملت معي.»
قال والتر، وقد اندهش بشدة حتى كان في صوته نبح بسيط: «أنا هنا مع أبي وأخي. سنحصل على أرض.»
رد قائلا: «حسنا. إذن، أنت لست الابن الوحيد لوالدك. ربما لا توجد أراض جيدة تكفيكم كلكم. وقد لا تريد أن تظل مزارعا طيلة حياتك.»
قال والتر في نفسه: هذا صحيح.
قال: «في رأيك، كم عمر ابنتي الآن؟»
لم يستطع والتر التفكير. وهز رأسه تعبيرا عن عدم معرفته بالأمر.
قال والد نيتي: «هي في الرابعة عشرة من عمرها أو تقترب من الخامسة عشرة. لن تظن أن هذا هو عمرها، أليس كذلك؟ لكن هذا لا يهم، ليس هذا هو ما أردت أن أتحدث عنه. وأنا لا أتحدث عنك ولا عن نيتي، ولا عن أي مما سيحدث في السنوات القادمة. هل فهمت هذا؟ لا تهم السنوات القادمة. لكنني أطلب منك أن تأتي معنا وأن تجعلها الطفلة التي هي عليها الآن وتسعدها بصحبتك. ثم إنني بالطبع سأكافئك على ذلك، وسيكون لك عمل أيضا، وإذا صار كل شيء على ما يرام، فيمكنك أن تتوقع المزيد من التقدم.»
رمق كل منهما في تلك اللحظة نيتي وهي تتقدم تجاههما. أخرجت لسانها لوالتر، بسرعة شديدة، حتى إن أباها لم يلحظ ذلك على ما يبدو.
قال والدها: «دعنا نتوقف الآن عن الحديث في هذا الأمر. فكر جيدا، وخذ وقتك قبل أن تخبرني برأيك. لكن الأفضل ألا تتأخر في تحديد موقفك.»
توقفت سفينتنا لقلة الرياح في يومي الحادي والعشرين والثاني والعشرين، أما في يوم الثالث والعشرين فكانت الريح أكثر، ولكن فيما بعد الظهيرة فزع الجميع بسبب هبوب ريح شديدة صاحبها رعد وبرق، وكانت مخيفة جدا، وأدت للمرة الثانية إلى تمزيق أحد الأشرعة الرئيسية بالسفينة، والتي كان قد تم تصليحها توا. استمرت الريح الشديدة لنحو 8 أو 10 دقائق. وفي يوم الرابع والعشرين كانت الرياح معتدلة؛ مما سهل لنا التقدم باتجاه النهر، حيث أصبح الطريق أكثر ضيقا، بحيث رأينا اليابسة على جانبي النهر. ولكننا توقفنا بسبب قلة الرياح مرة ثانية حتى يوم الحادي والثلاثين، عندما هبت ريح خفيفة استغرقت ساعتين فقط ...
لم يستغرق والتر وقتا طويلا ليتخذ قراره. كان يعرف قواعد اللياقة جيدا، فشكر السيد كاربرت، ولكنه قال له إنه لم يفكر في العمل في مدينة ما، أو في أي وظيفة داخلية. كان يعني أنه أراد أن يعمل مع عائلته حتى يبنوا منزلا ويحصلوا على أرض للزراعة، ثم بعد ذلك عندما لا يحتاجون إلى مساعدته، كان يفكر في أن يتاجر مع الهنود، مستكشفا من نوع ما. أو أن يصبح عامل منجم ذهب.
قال له السيد كاربرت وهما يمشيان عدة خطوات معا، جنبا إلى جنب: «كما تشاء. يجب أن أعترف أنني ظننتك أكثر جدية من ذلك. لحسن الحظ أني لم أقل شيئا لنيتي.»
لكن نيتي كانت على علم بموضوع كلامهما معا. وقد أخذت تلح على والدها حتى أخبرها بما حدث، فأخذت تبحث عن والتر حتى وجدته.
وقالت له بصوت أكثر نضجا مما اعتاد أن يسمعه منها قبل ذلك: «لن أتحدث معك مرة أخرى من الآن فصاعدا. ليس هذا لأني غاضبة، ولكن فقط لأنني إذا استمررت في الحديث إليك، فسأضطر للتفكير طوال الوقت في أنني قريبا ما سأودعك. لكني إذا توقفت عن الحديث إليك الآن، فسأكون قد ودعتك بالفعل ، بحيث ينتهي الأمر كله قريبا.»
قضت الوقت المتبقي في المشي برزانة مع أبيها وهي مرتدية أفخم ثيابها.
كان والتر يشعر بالأسى عند رؤيتها - ففي عباءاتها وقلنسواتها النسائية، كانت تبدو بائسة وأكثر طفولية من ذي قبل، كما كانت طريقتها في إظهار الغطرسة مؤثرة - لكن كان ثمة الكثير من الأمور التي تستحوذ على انتباهه، حتى إنه نادرا ما كان يفكر فيها عندما لا تكون أمام عينيه.
سوف تمضي السنون قبل أن تعاود الظهور في عقله، ولكن عندما يحدث ذلك، فإنه سيجد أنها كانت مصدرا للسعادة، وستظل كذلك حتى يوم وفاته. وأحيانا سيسلي نفسه بالتفكير فيما كان من الممكن أن يحدث إذا ما قبل عرض والدها. ومن الأمور التي سيستعيدها في ذهنه بأكبر قدر من التكتم والخصوصية تخيله لها وقد استعادت صحتها ونضارتها واكتسبت جسدا طويلا وأنثويا، وحياتهما معا. وهو كرجل قد يخفي مثل هذه الأفكار المضحكة في نفسه.
أتت قوارب عديدة من اليابسة بمحاذاة سفينتنا، بها سمك وشراب رم وأغنام حية وتبغ وأشياء أخرى، باعوها لنا بأسعار عالية جدا. في الأول من أغسطس، هبت ريح خفيفة. وفي صباح يوم الثاني مررنا بجزيرة أورليانز، وفي الساعة السادسة صباحا تقريبا كانت كيبك بادية لنا، وكنا في حالة صحية جيدة، حسبما أعتقد، كالوقت الذي تركنا فيه اسكتلندا. ومن المفترض أن نبحر إلى مونتريال غدا في سفينة بخارية ... •••
كتب أخي والتر في الجزء السابق من هذا الخطاب يوميات طويلة، أسعى إلى تلخيصها في دفتر صغير. قضينا رحلة بحرية رائعة جدا، وقد حافظنا فيها على صحتنا جيدا. مات ثلاثة فقط من أصل ثلاثمائة مسافر، كان اثنان من الثلاثة مريضين عندما غادرا بلادهما، والثالث طفل ولد في السفينة. وظلت عائلتي على متن السفينة تتمتع بحالة صحية جيدة، كالتي كانت عليها في اسكتلندا. لا يمكننا التعليق بعد على الوضع في البلد الجديد. ثمة أعداد كبيرة من الناس يهاجرون إلى هنا، ولكن العائد جيد. لا يمكنني أن أنصح الناس بالمجيء أو عدم المجيء إلى هنا. الأراضي شاسعة جدا هنا، وعدد سكانها ضئيل جدا. أعتقد أننا رأينا أرضا كثيرة يمكن أن تكفي كل سكان بريطانيا، وهي غير مزروعة ومغطاة بالغابات. سنكتب لكم مرة أخرى بمجرد استقرارنا.
عندما أضاف أندرو هذه الفقرة، أقنع جيمس الأب بأن يضيف توقيعه إلى توقيع ولديه قبل أن يقفل هذا الخطاب ويرسل إلى اسكتلندا، من كيبك. فهو لم يكن ليكتب شيئا آخر، وقال في هذا الشأن: «ما الذي عسى أن يمثله هذا الأمر من أهمية بالنسبة إلي؟ إنه لا يمكن أن يكون وطني. إنه ليس سوى المكان الذي سأموت فيه.»
رد أندرو: «إنه سيكون كذلك لنا جميعا. وفي يوم ما، سننظر إليه أكثر كوطن لنا.» «لن أعيش حتى أفعل هذا.» «هل أنت بصحة جيدة يا أبي؟» «أنا كذلك، ولست كذلك.»
أخذ الآن جيمس الابن يلتفت على نحو متقطع إلى الرجل العجوز؛ فقد كان يقف أحيانا أمامه وينظر مباشرة إلى وجهه قائلا له كلمة واحدة، بإصرار قوي، كما لو أنه لا يسعه إلا أن يفتح باب الحديث.
كان يختار نفس الكلمة في كل مرة؛ كلمة «مفتاح».
قال جيمس الأب: «إنه يزعجني. إني لا أحب جرأته. سيعيش هنا لفترة طويلة ولن يتذكر شيئا عن اسكتلندا، المكان الذي ولد فيه أو السفينة التي سافر عليها، وسيبدأ في التحدث بلغة أخرى بالطريقة التي يتبع الناس عندما يذهبون إلى إنجلترا، فقط ستكون أسوأ من طريقتهم. إنه ينظر إلي نظرة تشي بأنه يعرف أنني قد انتهيت أنا وعصري.»
قالت ماري: «سيتذكر العديد من الأمور.» أصبحت ماري أكثر جرأة وانفتاحا في حديثها داخل العائلة منذ فاصل الرقص الذي أقيم على سطح السفينة وحادثة السيد سوتر.
ثم أضافت: «وهو لا يقصد أن تكون نظرته جريئة. إنها تعني فقط أنه مهتم بكل شيء. إنه يفهم ما تقول، على نحو أبعد مما تعتقد. إنه يستوعب كل شيء ثم يفكر فيه. قد يصبح واعظا عندما يكبر.»
على الرغم من نظرتها القاسية لدينها وبعدها عنه، فإنه ما زال أكثر شيء مميز يمكن أن تتخيل أن يرتبط به شخص ما .
امتلأت عيناها بدموع الحماس، ونظرت إلى الطفل بتحفظات رصينة.
كان جيمس الابن يقف وسطهم؛ زاهي العينين، أشقر، قويا، مفتخرا بنفسه قليلا، متحفظا بعض الشيء، رزينا على نحو غير عادي، كما لو أنه قد شعر بالفعل أن أعباء المستقبل قد ألقيت على عاتقه.
شعر الكبار أيضا بدهشة اللحظة، كما لو أنهم قد حملوا في الأسابيع الستة الماضية ليس على متن سفينة ولكن على موجة واحدة كبيرة، قد أنزلتهم بقوة وسط هذا الضجيج العارم باللغة الفرنسية وصيحات طيور النورس ورنين أجراس الكنائس الكاثوليكية الرومانية؛ صخب كافر تماما.
فكرت ماري في انتزاع جيمس الابن والهرب به إلى داخل جزء ما من مدينة كيبك الغريبة والعمل كخياطة (عرفت من خلال الأحاديث التي دارت على متن السفينة أن تلك المهنة مطلوبة) والتكفل بتربيته بمفردها، كما لو أنها والدته.
فكر أندرو في حال المرء كيف سيكون إذا جاء إلى هنا بمفرده، دون زوجة أو والد أو أخت أو أطفال، دون عبء واحد على ظهره، ماذا يستطيع أن يفعل حينئذ؟ قال في نفسه إنه لا فائدة من التفكير في ذلك.
لقد سمعت أجنيس نساء على القارب يقلن إن الضباط الموجودين في الشوارع هنا هم بالطبع أوسم الرجال الذين يمكن أن تقابلهم أي امرأة في أي مكان في العالم، ورأت الآن أن هذا الكلام حقيقة مؤكدة. ستضطر كل فتاة لأخذ حذرها عندما تكون معهم. لقد سمعت أيضا أن عدد الرجال في أي مكان هنا أكبر من عدد النساء بعشرة أضعاف أو عشرين ضعفا. وهذا يعني بالضرورة أنك تستطيعين أن تحصلي على ما تريدين منهم. الزواج؛ الزواج من أحد الرجال الأغنياء يجعلك تتنقلين في عربة وتشترين أدوات تجميل لتغطي أي وحمة موجودة على وجهك، وترسلين هدايا إلى أمك. هذا إذا لم تكوني متزوجة بالفعل، وتجرين خلفك طفلين.
قال والتر في نفسه إن أخاه قوي، وكذلك أجنيس، التي يمكنها أن تساعده في الأرض، بينما ترعى ماري الطفلين. إذن، ما الذي يوجب عليه أن يكون مزارعا؟ فعندما يذهبون إلى مونتريال، سيذهب ويلتحق بشركة هدسون باي، وسوف يرسلونه إلى الحدود حيث سيجد الثروة والمغامرة كذلك. •••
لقد شعر جيمس الأب بأنه قد تخلى عن بلده، وها هو قد بدأ في التحسر عليه علانية: «كيف نرنم ترنيمة الرب في أرض غريبة؟» •••
لكنه تمالك نفسه، وها هو، بعد سنة أو نحو ذلك، في العالم الجديد، في مدينة يورك الجديدة التي كان اسمها على وشك التغيير ليصبح تورونتو. ها هو يكتب رسالة إلى ابنه الأكبر روبرت: ... يتكلم الناس هنا لغة إنجليزية جيدة جدا، ويوجد الكثير من كلماتنا الاسكتلندية التي لا يستطيعون فهمها، كما أنهم يعيشون مستقلين إلى حد كبير، بعد انتهاء حكم الملك جورج ... يوجد طريق يتجه شمالا مباشرة من مدينة يورك بطول 50 ميلا، وبيوت المزارع كلها تقريبا تتكون من طابقين. البعض لديه نحو 12 بقرة و4 أو 5 من الخيول؛ لأنهم لا يدفعون سوى مبلغ ضئيل جدا كضرائب، ويتنقلون في عرباتهم الخفيفة مثل اللوردات ... لا يوجد كاهن مشيخي في هذه المدينة حتى الآن، لكن توجد كنيسة إنجليزية كبيرة وكنيسة ميثودية ... يقرأ الكاهن الإنجليزي كل ما يقوله فيما عدا بكائه الدائم في نهاية كل نقطة قائلا: «يا ربي العظيم، نجنا!» في حين أن الكاهن الميثودي يصلي بأعلى صوت عنده، ويكون جميع الناس في الصلاة جاثين على ركبهم يصرخون قائلين: «آمين»، حتى إنك بالكاد تسمع ما يقوله الكاهن، ولقد رأيت بعضهم يقفز لأعلى كما لو أن روحهم وأجسادهم ستصعد إلى الجنة، ولكن أجسادهم كانت عائقا نجسا لهم؛ لأنهم دائما ما كانوا يسقطون مرة أخرى بالرغم من صراخهم: «يا يسوع، يا يسوع»، كما لو أنه هناك وسيسحبهم إليه لأعلى من خلال علية الكنيسة ... الآن، أنصحك يا روبرت بعدم المجيء إلى هنا. اسمع، ربما تكون قد اتخذت قرارك عندما لم تأت معنا إلى هنا، ولا أتوقع أبدا أن أراك مرة أخرى ... فليهبك الرب رضا الساكن في العليقة ... لو كنت أعلم أنك ستتركنا، ما كنت لآتي إلى هنا، كان هدفي أن تكونوا جميعا بالقرب مني، لقد جعلتني آتي إلى أمريكا، ولكن أفكار الناس باطلة ؛ لأنها أبعدتك عني تماما، لكن لا يمكنني تحمل هذا الآن ... لن أقول المزيد، لكن أرجو أن يكون رب يعقوب هو ربك، وأن يكون دأبك دائما هو صلاتك المخلصة لأبيك المحب حتى الموت ...
ما زال ثمة الكثير من الكلمات في هذا الخطاب الذي نقل كاملا بتواطؤ من هوج، ونشر في مجلة «بلاكوودز»، حيث أستطيع أن أبحث عنه اليوم.
وبعد ذلك بوقت طويل، كتب خطابا آخر وجهه إلى محرر جريدة «ذا كولونيال أدفوكيت»، ونشر الخطاب في الجريدة. في هذا الوقت، كانت الأسرة قد استقرت في إسكوسنج، بغرب كندا. ... يتعامل الاسكتلنديون الذين يعيشون هنا بطريقة جيدة مع كل شيء في هذا العالم، ولكنني أخشى أن القليل منهم فقط هم الذين يفكرون فيما سيحصل لأرواحهم عندما يأتي الموت بعد نهاية أيامهم هنا؛ لأنهم قد وجدوا هنا ما يسمونه الويسكي، وقد أعجبهم، وأخذوا يشربونه، حتى إنهم في بعض الأحيان يكونون أسوأ من الثيران أو الحمير ... أستطيع الآن أن أخبرك سيدي ببعض القصص، ولكنني أخشى أن تضع اسمي في جريدتك «كولونيال أدفوكيت»، فأنا لا أحب أن يظهر اسمي في منشورات مطبوعة. ذات مرة، كتبت خطابا صغيرا لابني روبرت في اسكتلندا، ونشره صديقي الشاعر جيمس هوج في مجلة «بلاكوودز»، وعرفني الجميع عبر أمريكا الشمالية قبل أن أعرف أن خطابي قد وصل إلى وطني ... قضى هوج، الرجل الفقير، معظم حياته في اختلاق الأكاذيب، وإذا كانت قراءتي للكتاب المقدس صحيحة، فأنا أعتقد أنه يقول إن جميع الكاذبين سيكون جزاؤهم الإلقاء في البحيرة المتقدة بنار وكبريت. ولكنني أظن أنهم يجدونها تجارة رابحة؛ لأنني أعتقد أن هوج ووالتر سكوت قد حصلا على أموال من الكذب أكثر مما حصل بوستون العجوز والإرسكينيين من كل العظات التي كتبوها ...
وأنا بالتأكيد أحد الكاذبين الذين تحدث عنهم الرجل العجوز، فيما كتبته عن الرحلة البحرية. فإن القصة كلها من تأليفي باستثناء يوميات والتر والخطابين.
أما عن قصة رؤية فايف من صخرة القلعة، فقد رواها هوج؛ لذلك لا بد أنها صحيحة. •••
ترقد أجساد هؤلاء المسافرين - جميعهم فيما عدا واحد - في جبانة كنيسة بوستون في إسكوسنج في مقاطعة هالتون، تقريبا على مرأى ومسمع الطريق السريع رقم 401 شمال ميلتون، الذي قد يكون في هذا المكان أكثر الطرق ازدحاما في كندا.
الكنيسة - التي بنيت على ما كان في السابق مزرعة أندرو ليدلو - سميت بالطبع على اسم توماس بوستون. وهي مبنية من قوالب سوداء من الحجر الجيري. الجدار الأمامي للكنيسة أكثر ارتفاعا من بقية أجزاء المبنى - ربما على غرار الواجهات الرئيسية للمباني التي كانت توجد في الشوارع الرئيسية القديمة - كما أن لها مدخلا مقنطرا أعلاها، وليس برجا من أجل جرس الكنيسة.
يوجد هنا جيمس الأب. في الحقيقة هو هنا مرتين، أو على الأقل اسمه، مع اسم زوجته، التي كان اسمها هيلين سكوت ودفنت في إتريك عام 1800. يظهر اسمهما على نفس شاهد القبر الذي يحمل اسمي أندرو وأجنيس. ولكن الشيء المدهش هو أن نفس الاسمين مكتوبان على شاهد آخر يبدو أنه أقدم من بقية الشواهد الأخرى في الجبانة؛ فهو عبارة عن لوح حجري أسود ملطخ كالذي يمكن أن تراه في جبانات الجزر البريطانية. قد يتساءل أي شخص يحاول أن يفهم هذا الأمر إن كانوا قد حملوا هذا اللوح عبر المحيط واسم الأم عليه، منتظرين أن يضيفوا إليه اسم الأب؛ وهل كان حملا كبيرا، لف بخيش وربط بحبل متين، نقله والتر إلى مخزن السفينة؟
ولكن لماذا يتحمل أحد عناء إضافة اسمي الأب والأم لهذا الشاهد الجديد الموضوع على قبر أندرو وأجنيس؟
يبدو الأمر كما لو أن موت مثل هذا الأب ودفنه أمر يستحق التدوين مرتين.
يوجد قبر ماري المسكينة بالقرب من قبري أبيها وأخيها وزوجته أجنيس، وقد تزوجت في النهاية، ودفنت بجانب زوجها روبرت موراي. كانت النساء قليلات ومن ثم مقدرات في البلد الجديد. لم تنجب ماري وروبرت أطفالا، لكن بعد موت ماري المبكر، تزوج روبرت امرأة أخرى، وأنجب منها أربعة أولاد، توجد قبورهم هنا أيضا، وقد ماتوا في سن الثانية والثالثة والرابعة والثالثة عشرة على التوالي. ويوجد قبر الزوجة الثانية هنا أيضا ، وقد كتب على شاهد قبرها: «الأم». في حين كتب على شاهد قبر ماري «الزوجة».
وهنا قبر الأخ جيمس، الذي سافر من نوفا سكوشا ليلحق بهم أولا في يورك ثم في إسكوسنج، ويساعد أندرو في الزراعة. أحضر زوجة معه، أو تزوج واحدة من المجتمع الجديد. ربما ساعدت أجنيس في تربية أبنائها قبل أن تلد هي الأخرى؛ فأجنيس حملت عدة مرات، وربت الكثير من الأطفال. وذكر أندرو، في خطاب كتبه لأخويه روبرت وويليام في اسكتلندا، لإعلامهما بوفاة والدهم عام 1829 (بسبب السرطان، الذي لم يسبب له ألما كبيرا إلا عندما اقترب من الموت، بالرغم من «أنه أكل جزءا كبيرا من خديه وفكه»)؛ أن زوجته كانت تشعر بالضعف في السنوات الثلاث الماضية. قد تكون هذه طريقة ملتفة لقول إنها ولدت في هذه السنوات طفلها السادس والسابع والثامن. لا بد أنها قد استردت صحتها بعد ذلك؛ لأنها عاشت حتى تجاوزت الثمانين من عمرها. •••
وهب أندرو الأرض التي بنيت عليها الكنيسة، أو ربما باعها لمن بنى الكنيسة؛ فمن الصعب أن تقيس التدين مقابل المنطق التجاري. يبدو أنه كان ميسور الحال، وإن لم يعش الحياة المترفة التي عاشها والتر؛ فوالتر تزوج من فتاة أمريكية من مقاطعة مونتجوميري في ولاية نيويورك، كانت في الثامنة عشرة عندما تزوجته، وقد توفيت في الثالثة والثلاثين من عمرها بعد ولادة طفلها التاسع. لم يتزوج والتر مرة أخرى، ولكنه عمل في الزراعة بنجاح، وربى أبناءه وضارب في الأراضي، وكتب خطابات إلى الحكومة يشتكي الضرائب المفروضة عليه، وأيضا ليعترض على انضمام المقاطعة إلى أحد الطرق السريعة المقترحة؛ قال إن الفائدة ستعود في المقام الأول على الرأسماليين في بريطانيا.
وعلى الرغم من ذلك، فمن الثابت أنه هو وأخوه أندرو كانا يدعمان الحاكم البريطاني السيد فرانسيس بوند هيد، الذي كان يمثل بكل تأكيد هؤلاء الرأسماليين، ضد التمرد الذي قاده مواطنهم الاسكتلندي ويليام ليون ماكينزي، عام 1837. كتبوا إلى الحاكم خطاب تملق، بأكثر طريقة ذليلة في عصرهم. ربما يود بعض أحفادهما ألا يكون هذا الأمر صحيحا ، لكن لا يوجد ما نستطيع فعله فيما يتعلق بالأمور السياسية لأقاربنا، سواء الأحياء منهم أو الأموات.
وقد استطاع والتر أن يقوم برحلة إلى اسكتلندا، حيث صور نفسه وهو يرتدي ملابس اسكتلندية ويمسك طاقة من الزهور الشائكة.
يظهر أيضا على شاهد القبر الخاص بأندرو وأجنيس (وجيمس الأب وهيلين) اسم ابنتهما إيزابيل، التي ماتت مثل والدتها أجنيس وهي طاعنة في السن. كان تحمل اسم زوجها، ولكن لا توجد إشارة أخرى إليه.
وقد كتب بجانب اسمها: «المولودة في البحر».
ويوجد على هذا الشاهد أيضا اسم أول مولود لأندرو وأجنيس، الأخ الأكبر لإيزابيل، وكذلك تاريخ ميلاده ووفاته.
مات جيمس الابن في غضون شهر من وصول العائلة إلى كيبك. اسمه موجود هنا، لكن لا يمكن بالطبع أن يكون جسده هنا. لم يكونوا قد حصلوا على أرضهم عندما مات، بل إنهم لم يكونوا قد رأوا حتى هذا المكان. ربما يكون قد دفن في مكان ما بطول الطريق من مونتريال إلى يورك أو في مدينة يورك الجديدة المحمومة. ربما في مكان مؤقت بدائي للدفن قد تم رصفه الآن، ربما من دون شاهد في جبانة بحيث يمكن وضع أجساد أخرى يوما ما فوق جسده. مات بسبب حادثة ما في الشوارع المزدحمة لمدينة يورك أو بسبب حمى أو زحار، أو أي من الأمراض أو الحوادث التي كانت تعد الأسباب الشائعة لوفاة الأطفال الصغار في ذلك الوقت.
إلينوي
في يوم ما في أوائل ثلاثينيات القرن الثامن عشر، تلقى ويليام ليدلو في منطقة الأراضي المرتفعة الاسكتلندية خطابا من أخويه، وقد اشتكيا فيه من عدم مراسلته لهما على مدار ثلاث سنوات، وأخبراه أن والده قد توفي. وما إن تأكد من هذا الخبر، لم يتوان عن الإعداد للذهاب إلى أمريكا. طلب من صاحب العمل الذي يعمل لديه، الكولونيل مونرو (الذي ربما كان واحدا من كثيرين من ملاك الأراضي في منطقة الأراضي المرتفعة الاسكتلندية، الذين تيقنوا من جدوى تربية الأغنام على يد الرجال الذين يعيشون على الحدود الجنوبية)؛ أن يعطيه خطاب تزكية، وقد وافق على ذلك . انتظر حتى تلد ماري ابنها الرابع - وهو جد جدي توماس - ثم أخذ أسرته وبدأ رحلته. كان أبوه وإخوته يتحدثون عن السفر إلى أمريكا، لكن كانت كندا هي ما يقصدون بالفعل. غير أن ويليام كان يقصد أمريكا على وجه التحديد. وقد ترك وادي إتريك من أجل منطقة الأراضي المرتفعة دون أي ندم، والآن كان على أتم الاستعداد للخروج من كنف الدولة البريطانية كلية؛ فقد كان يقصد إلينوي.
استقر به الحال في جوليت، بالقرب من شيكاجو.
توفي ويليام متأثرا بمرض الكوليرا في جوليت في الخامس من شهر يناير لعام 1839 أو 1840، وفي نفس اليوم وضعت زوجته ماري بنتا.
أرسلت خطابا إلى أخويه في أونتاريو - إذ ماذا عساها أن تفعل غير ذلك؟ - وفي أواخر ربيع ذلك العام عندما جفت الطرق وزرعت المحاصيل، وصل أندرو في عربة تجرها الثيران حتى يحملها هي وأولادها وأغراضهم عائدين إلى إسكوسنج.
قالت ماري: «أين الصندوق المعدني؟ كان آخر ما رأيته قبل أن أهجع إلى النوم. هل نقل بالفعل إلى العربة؟»
أجاب أندرو بالنفي. كان قد عاد لتوه من تحميل لفتين من فرش الأسرة مغطاتين بقماش من الكتان.
قالت ماري في حدة: «بيكي!» بيكي جونسون كانت موجودة هناك، تتأرجح للأمام والخلف فوق كرسي خشبي والطفلة على ذراعيها، وذلك بثبات شديد؛ لأنها كانت ستتكلم إن كانت تعرف مكان الصندوق. غير أن مزاجها كان متعكرا، ولم تنطق ولو بكلمة واحدة في هذا الصباح. والآن لم تكن تفعل شيئا سوى هز رأسها هزة خفيفة نافية معرفتها بمكان الصندوق، وكأن الصندوق وحزم الأغراض وتحميلها والرحيل، الذي كانوا قريبين منه، كل ذلك لا يعني لها أي شيء.
قال أندرو: «هل تفهم ما تقولين؟» كانت بيكي من أصل هندي، وقد ظن أنها خادمة إلى أن أوضحت ماري له أنها جارة لها.
قال أندرو، وكأن بيكي لا أذن لها: «ونحن عندنا جيران أيضا، لكنهم لا يأتون إلينا ويجلسون في بيوتنا هكذا.»
ردت ماري محاولة أن تسكته: «لقد كانت تساعدني أكثر من أي شخص آخر. وكان أبوها رجلا أبيض.»
قال أندرو: «حسنا»، كما لو أنه كان يريد أن يقول إن ثمة طريقتين للنظر إلى هذا الأمر.
قالت ماري: «لا أعرف كيف يمكن أن يختفي الصندوق من أمام عيني هكذا؟!»
ثم أدارت وجهها عن أخي زوجها ونظرت إلى ابنها الذي كان قرة عين لها.
ثم قالت له: «جوني، ألم تر الصندوق المعدني الأسود؟»
كان جوني يجلس على السرير السفلي في السرير المتعدد الطبقات - الذي كان خاليا من الفرش - ليعتني بأخويه الأصغر منه روبي وتومي كما طلبت منه أمه. ابتكر لعبة، وهي أن يسقط ملعقة بين شرائح أرضية المكان الخشبية ثم يرى من منهما يستطيع أن يخرجها قبل الآخر. وكان من الطبيعي أن يفوز دائما روبي، حتى عندما يطلب جوني منه أن يتباطأ قليلا وأن يعطي فرصة لأخيه الصغير. كان تومي في حالة من الإثارة حتى إنه لم يكن يعبأ - فيما يبدو - بما يحدث؛ إذ قد اعتاد على مثل هذه المواقف من قبل لكونه الابن الأصغر.
هز جوني رأسه نافيا رؤية الصندوق، وكان ذهنه مشغولا، ولم تنتظر ماري منه ما هو أكثر من ذلك. غير أنه تحدث فجأة كما لو كان قد استجمع للتو سؤالها الذي طرحته.
وقال: «جيمي يجلس عليه، بالخارج في فناء البيت.»
ولما خرجت ماري مهرولة، وجدته لا يجلس عليه فحسب، بل غطاه بمعطف والده، وهو المعطف الذي تزوج به ويل. لا بد أنه جاء بهذا المعطف من صندوق الملابس الذي كان موجودا في العربة بالفعل.
صرخت ماري كما لو كانت لا ترى ماذا يفعل الولد، وقالت: «ماذا تفعل؟ ليس من المفروض أن تلمس هذا الصندوق. ثم ماذا تفعل بمعطف والدك بعدما كنت قد وضعته في الصندوق؟ يجب أن أضربك.»
كانت تدرك أن أندرو كان يشاهد كل ما يدور، وربما ظن أن ما حدث منها ما هو إلا توبيخ بسيط. كان قد طلب من جيمي أن يساعده في تحميل الصندوق إلى العربة، وقد فعل جيمي ذلك وإن كان على مضض منه، ولكنه اختفى خلسة بدلا من أن ينتظر ليرى ما بوسعه أن يساعد فيه خلاف ذلك. عندما وصل أندرو بالأمس، تظاهر الولد بأنه لم يكن يعرفه؛ إذ قال لأمه: «يوجد رجل خارج البيت على الطريق، ومعه عربة وعدد من الثيران»، كما لو لم يكن ينتظر ذلك وكما لو كان لا يعبأ به أبدا.
سألها أندرو إن كان الولد على ما يرام، وكان يقصد إن كان عقل الولد سليما أم لا.
قالت: «إن وفاة أبيه كانت أمرا صعبا عليه.»
رد أندرو وقال: «أقدر ذلك.» ثم عاد وأضاف أن هذا الأمر قد مر عليه وقت طويل الآن.
كان الصندوق مغلقا، وكان مفتاحه مع ماري ترتديه حول عنقها. تساءلت إن كان جيمي يبغي الدخول في الصندوق، وهو لا يدري ذلك. وكانت على وشك البكاء.
وما كان منها إلا أن قالت له: «ضع المعطف في صندوق الملابس كما كان.»
كان في الصندوق المعدني مسدس ويل، والأوراق التي كان يحتاجها أندرو، والتي تتعلق بالبيت والأرض، والخطاب الذي كتبه الكولونيل مونرو قبل أن يتركوا اسكتلندا، وخطاب آخر، وهو خطاب أرسلته ماري بنفسها إلى ويل قبل أن يتزوجا. وكان خطابها هذا ردا على خطاب من خطاباته، وكان أول كلمات تسمعها منه منذ أن ترك إتريك قبل ذلك بسنوات، وقد قال فيه إنه يتذكرها جيدا، وقد كان يظن أنه سيسمع عن زفافها. وكان ردها أنها كانت ستبعث إليه دعوة لحضور زفافها لو أن الأمر كان كذلك.
كتبت تقول: «سأصبح عما قريب مثل التقويم القديم المهمل على الرف، الذي لن يشتريه أحد.» (غير أنها أحست بالخجل عندما أراها هذا الخطاب بعد ذلك بوقت طويل؛ حيث اكتشفت أنها أخطأت في هجاء إحدى الكلمات؛ ذلك أن حياتها معه التي كانت محاطة فيها بالكتب والمجلات كانت قد منحتها قدرة جيدة على الهجاء.)
صحيح أنها كانت تبلغ من العمر خمسة وعشرين عاما عندما كتبت هذا الخطاب، غير أنها كانت ما تزال واثقة من جمالها؛ إذ لا تجرؤ أي امرأة تشعر بالنقص في هذا الجانب على عقد مقارنة كهذه . وقد أنهت خطابها بدعوته دعوة صريحة لا تخطئها كلماتها؛ إذ قالت: «إذا كنت ستأتي لتخطبني في ليلة قمراء، فأظن أن الأفضلية ستكون لك على من سواك.»
قالت له عندما أراها الخطاب: «يا لها من فرصة يجب انتهازها! ألم يكن عندي أي كبرياء؟»
رد عليها قائلا: «ولا عندي.» •••
وقبل أن يرحلوا عن المكان، أخذت ماري الأولاد إلى قبر ويل لإلقاء نظرة الوداع. حتى الطفلة الصغيرة جين التي لم تكن لتتذكر هذا، غير أنهم كان من الممكن أن يخبروها فيما بعد أنها كانت هناك.
قالت بيكي، وهي تحاول الإبقاء على الطفلة في أحضانها لبضع دقائق أخرى: «هي لا تفهم أي شيء.» لكن ماري أخذت الطفلة من بين ذراعيها، وهذا ما جعل بيكي تتركهم، بل وتخرج من البيت دون حتى أن تودعهم. لقد كانت موجودة عندما ولدت الطفلة، وقد اعتنت بها عندما كانت ماري بمفردها، ولكنها الآن لا تطيق أن تنتظر لتودعهم.
أمرت ماري الأولاد أن يلقوا نظرة الوداع على قبر أبيهم، الواحد تلو الآخر، حتى إن تومي ودع أباه، وكان حريصا على أن يحذو حذو الآخرين. أما جيمي، فكان صوته متعبا وخاليا من أي تعبير، كما لو أن أحدا ما أمره أن يقرأ شيئا ما في المدرسة.
تضجرت الطفلة في ذراعي ماري؛ ربما لأنها افتقدت بيكي ورائحتها. في ظل هذا كله وتفكيرها في أندرو، الذي كان ينتظرها في عجلة من أمره حتى يبدأ الرحلة، ووعيها بنفسها وضيقها من نبرة صوت جيمي وهو يودع قبر أبيه؛ كان وداع ماري سريعا ورسميا، لا عاطفة فيه. •••
كان جيمي يعرف جيدا كيف كان والده يرى هذا الأمر، حيث يقفون هناك يودع الواحد منهم تلو الآخر حجرا. لم يكن والده تروق له تسمية الأشياء بغير مسمياتها، وما كان له إلا أن يرى الحجر حجرا، وإذا كانت ثمة طريقة للتحدث إلى الميت والاستماع إليه، فإنها ليست هذه الطريقة.
كانت أمه كاذبة، وإن لم تكن تكذب بالمعنى الصريح للكلمة، فإنها كانت على الأقل تخفي بعض الأمور؛ قالت إن عمه قادم، ولكنها لم تقل - كان متيقنا من أنها لم تقل - إنهم سوف يعودون معه. وعندما ظهرت الحقيقة، ادعت أنها أخبرته بذلك من قبل. والأمر الأكثر كذبا وحقارة أنها قد ادعت أن مثل هذا الأمر هو ما كان يريده أبوه.
عمه كان يكرهه، وكان هذا دون أي سبب. عندما قالت أمه، بطريقتها المتفائلة، الغبية: «هذا هو رجل البيت الآن»، رد عمه: «أوه، نعم»، كما لو كان يريد أن يقول إنها محدودة الأفق، لو أن هذا هو كل ما يمكن أن يتفتق ذهنها عنه. •••
استغرقهم الأمر نصف يوم حتى غادروا البراري بأوديتها الضحلة والكثيفة. وكان هذا على ظهر الثيران التي لا تزيد سرعتها في المشي عن سرعة الإنسان العادي، ولا حتى نصف سرعة جيمي في المشي الذي كان يختفي عنهم متقدما ثم يعود ويظهر مرة أخرى عند المنعطفات، ثم ما يلبث أن يختفي مرة أخرى، وظل على ما يبدو يتقدم عليهم.
سأل جوني عمه قائلا: «أليس لديكم خيول في بلدكم؟» وكانت عربات تجرها خيول تتجاوزهم بين الفينة والأخرى محدثة دوامة من الغبار.
رد عمه بعد توقف: «الثيران حيوانات قوية»، وأردف قائلا: «ألم يخبرك أحد أن تصمت وألا تتكلم حتى يطلب منك الكلام؟»
قالت أمه وصوتها تملؤه نبرة تجمع بين التحذير والاستعطاف: «لأن لدينا مثل هذه الحمولة من الأمتعة يا جوني، وعندما تتعب من المشي، اصعد إلى هنا وسوف تجرك الثيران معنا أيضا.»
كانت قد جذبت بالفعل تومي ووضعته على ركبتها، وكانت تضع الطفلة على الركبة الأخرى. سمع روبي ما قالته وفهمه على أنه دعوة له بالصعود؛ لذا رفعه جوني حتى يتسلق على الأغراض الموجودة بمؤخرة العربة.
قال عمه: «هل تريد أن تركب معهم؟ الآن لك أن تتكلم إن أردت.»
هز جوني رأسه نافيا رغبته في الركوب معهم، لكن يبدو أن عمه لم يره؛ لأنه قال له بعد ذلك: «عندما أتحدث إليك، أحتاج إلى رد.»
رد جوني وقال: «لا، يا سيدي»، وذلك بطريقة الحوار التي تعلمها في المدرسة.
قالت أمه: «لا، عمي أندرو »، وهو ما أربك الأمور أكثر؛ لأن هذا العم لم يكن عمها، بالتأكيد.
أعرب العم أندرو عن استيائه.
فقالت أمه: «جوني يحاول دوما أن يكون ولدا لطيفا»، وبالرغم من أن هذا الكلام كان ينبغي أن يسعد جوني، فإنه لم يسعد به.
دخلوا غابة من أشجار البلوط العملاقة، التي كانت فروعها تتلاقى وتتداخل فوق الطريق. كان في مقدور المرء أن يسمع، وأحيانا أن يرى، في هذه الفروع طيور الصفارية الزاهية الألوان وطيور الكاردينال وطيور الشحرور ذات الأجنحة الحمراء، وهي تطير. وقد أنتجت نباتات السماق أزهارها البيضاء، وكانت نباتات التوسيلاجو والأكيلاجيا تزهر، وكان نبات البوصير يقف ثابتا كما الجندي. أما أشجار العنب البرية، فقد التفت حول بعض الشجيرات بكثافة، حتى إن المرء قد يظن أن هذه الشجيرات ما هي إلا فرش من الريش أو سيدات عجز.
قالت ماري مخاطبة أندرو بصوت يشوبه القلق: «ألم تسمع أي قصص عن القطط البرية؟ أعني، عندما مررت بهذا الطريق من قبل؟»
رد أندرو قائلا: «إن كنت قد سمعتها، فلم أعرها أي اهتمام. أتفكرين في الفتى الصغير الذي يسبقنا؟ إنه يفكرني بأبيه.»
لم تجب ماري.
عاد أندرو يقول: «لن يستطع أن يواصل السير لنهاية الطريق.»
صدق كلامه؛ عندما اقتربوا من المنعطف التالي، لم يروا جيمي أمامهم. لم تذكر ماري أي شيء عن هذا؛ خوفا من أن يظن أندرو أنها حمقاء. ثم أتيحت لها رؤية مسافة لا بأس بها من الطريق المستوي، ولكنه لم يكن موجودا. وعندما قطعوا مسافة أخرى، قال أندرو: «أديري رأسك وكأنك تنظرين إلى الصغار في العربة، لا عليك بالطريق.» فعلت ماري ما قاله ورأت شخصا يتبعهم. غير أنه كان بعيدا جدا، حتى إنها لم تستطع أن تتبين وجهه، لكنها عرفت أنه جيمي، وقد كان يجر قدميه ببطء شديد.
قال أندرو: «اختفى بين الأشجار المتشابكة حتى مررنا به. هل أنت على ما يرام الآن فيما يتعلق بالقطط البرية؟» •••
توقفوا في المساء بالقرب من حدود إنديانا، عند نزل يقع عند مفترق طرق. لم تقطع أشجار الغابات منذ زمن بعيد ، لكن كان يوجد بعض الحقول المسورة والمباني أو مخازن الحبوب أو المنازل المبنية من جذوع الأشجار أو الخشب. قطع جيمي الطريق كله مشيا على قدميه، واقترب من العربة، مع اقتراب زوال فترة الظهيرة. حدث ذلك بسرعة تحت غطاء من الأشجار، وعندما خرجوا من بين الأشجار، تفاجئوا بمقدار ما بقي من ضوء النهار. استيقظ الأولاد الموجودون على العربة - وقد صعد جوني إلى العربة أيضا بمجرد حلول الظلام - وعم الصمت الجميع، وقد بدءوا في تفحص المكان الجديد ومن حولهم من أناس. كانوا يعرفون أن ثمة نزلا في جوليت - وقد قيل لهم إن ثمة ثلاثة منها هناك - غير أنه لم تتح لهم أبدا الفرصة لأن يتجولوا في أرجاء هذه الأماكن.
تحدث أندرو إلى الرجل الذي خرج من النزل وطلب منه توفير غرفة لماري وطفلتها والولدين الصغيرين، وقد رتب مكانا للنوم فوق الرواق له وللولدين الكبيرين الآخرين. ثم ساعد ماري في الترجل من العربة، وقد قفز الأولاد، ثم أخذ العربة إلى الخلف حيث قال المسئول عن النزل إنه مكان آمن لوضع أغراضهم. أما الثيران، فيمكن تركها في المرعى.
كان جيمي يتوسطهم، وقد علق حذاءه حول عنقه.
قال روبي بجدية: «قطع جيمي كل الطريق مشيا.»
وجه جوني كلامه إلى ماري وقال: «كم المسافة التي قطعها جيمي مشيا؟»
قالت ماري إنها لا تعرف، ثم أضافت: «بما يكفي لإنهاك نفسه على أي حال.»
قال جيمي: «لا، ليس الأمر كذلك. لست متعبا. أستطيع أن أقطع ما قطعته مره أخرى ولا أصاب بإرهاق.»
أراد جوني أن يعرف إن كان جيمي قد رأى قططا برية أم لا.
قال جيمي: «لا.»
تمشى الجميع عبر الرواق، حيث كان يجلس بعض الرجال على كراسي أو فوق الدرابزين وهم يدخنون. قالت لهم ماري: «مساء الخير»، ورد عليها الرجال قائلين: «مساء الخير»، وهم ينظرون إلى أسفل.
قال جيمي وهو يمشي بجوار أمه: «لقد رأيت شخصا ما.»
رد جوني متسائلا: «من هو؟ وهل هو شخص شرير؟»
غير أن جيمي لم يعره انتباها على الإطلاق . قالت ماري : «لا تضايقه يا جيمي!»
ثم أضافت وهي تتنهد: «أظن أن عليك رن هذا الجرس»، ففعل، وخرجت امرأة من غرفة خلفية. أخذتهم هذه المرأة إلى الطابق العلوي ثم إلى غرفة نوم، وقالت إنها سوف تحضر ماء لماري حتى تغتسل. وقالت إن الأولاد يستطيعون الاغتسال خارج النزل بالخلف عند حوض الماء، وتوجد هناك مناشف معلقة فوق شماعة.
قالت ماري لجيمي: «اذهب وخذ جوني معك، وسوف أبقي روبي وتومي هنا معي.»
قال جيمي: «لقد رأيت شخصا تعرفينه.»
كانت حفاضة الطفلة مبتلة، وكان على ماري أن تغيرها على الأرض وليس على الفراش. قالت ماري وهي جاثية على ركبتيها: «من هذا؟ من هذا الذي أعرفه؟» «رأيت بيكي جونسون.»
قالت ماري وقد أرجعت ظهرها إلى الوراء: «أين؟ أين بيكي جونسون؟ أهي هنا؟» «رأيتها في الغابة.» «إلى أين كانت ذاهبة؟ وماذا قالت؟» «لم أكن قريبا منها بالقدر الكافي لأتمكن من الحديث إليها. ولكنها لم ترني قط.»
قالت ماري: «أرأيتها بالقرب من المنزل؟ تذكر الآن، هل رأيتها بالقرب من المنزل أو بالقرب من حيث نحن الآن؟»
قال جيمي وهو يفكر: «كانت أقرب إلى حيث نحن الآن. لماذا تقولين بالقرب من المنزل طالما أنك قلت إننا لن نعود إلى هناك مرة أخرى؟»
تغاضت ماري عن ذلك، وسألت: «إلى أين كانت تذهب؟»
هز رأسه وكأنه رجل عجوز، وقال: «كانت تسير في هذا الاتجاه، وتوارت عن نظري في لحظة، ولم تكن تحدث أي صوت.»
ردت ماري وقالت: «هكذا يفعل الهنود. ألم تحاول أن تتتبعها؟» «كانت تطأطئ رأسها وهي تمشي بين الأشجار، ولم أتمكن من رؤيتها بعد ذلك، وإلا لكنت قد تتبعتها، وسألتها إلى أين تسير.»
قالت ماري: «لا تفعل ما فعلت مرة أخرى. إنك لا تعرف الغابة كما يعرفونها، فربما تضل الطريق إذا فعلت.» كانت تتحدث إليه في تحد، ثم شغلت نفسها بالطفلة مرة أخرى وقالت: «أظن أنها كانت ذاهبة في شأن خاص بها. الهنود لهم شئونهم الخاصة التي لا يعرف أحد عنها شيئا، فهم لا يخبروننا عن كل ما يعزمون على القيام به، حتى بيكي. لكن لماذا من المفترض أن تخبرنا؟»
دخلت عاملة النزل ومعها إناء ضخم به ماء، ثم قالت لجيمي: «ماذا بك؟ هل ثمة أطفال غرباء بالخارج أنت خائف منهم؟ إنهم أولادي فقط ولن يؤذوك.»
كلامها جعل جيمي ومن بعده جوني يهرولان إلى أسفل، ثم تبعهما الطفلان الصغيران إلى الخارج أيضا.
نادت ماري وقالت: «تومي! روبي!» غير أن السيدة قالت: «إن زوجك موجود بالخارج، وسوف يعتني بهما.»
لم تكترث ماري بأن تقول أي شيء؛ إذ ليس من شأن أي شخص غريب أن يعرف أنها ليس لديها زوج. •••
نامت الطفلة وهي على صدرها، فوضعتها ماري في الفراش، ووضعت وسادتين كمسند على جانبيها حتى إذا تقلبت لا تقع. ونزلت ماري إلى الطابق السفلي حتى تتناول العشاء وأحد ذراعيها الذي كان يؤلمها أخذ يتدلى خاليا ومستريحا بعد عناء حمل الطفلة طوال اليوم. كان طعام العشاء يتكون من لحم خنزير ومعه كرنب وبطاطس مسلوقة، وكانت هذه البطاطس آخر الموجود من بطاطس العام الماضي، وكان اللحم مكسيا بطبقة سميكة من الدهن. ملأت بطنها بالفجل والخضراوات الورقية الطازجة والخبز الطازج اللذيذ، ثم أتبعت ذلك ببعض الشاي الثقيل. وأكل الأولاد على منضدة أخرى بمفردهم، وكانوا سعداء، حتى إنهم لم ينظروا إليها ولو نظرة واحدة، حتى تومي لم ينظر إليها أيضا. ومن شدة الإعياء والتعب كانت تنام وهي جالسة، وأخذت تتساءل إلى متى ستبقى مستيقظة قبل أن يناموا.
كانت توجد امرأة أخرى فقط بالغرفة بالإضافة إلى السيدة المسئولة عن النزل التي كانت تحضر الطعام إليهم. لم ترفع هذه المرأة رأسها أبدا والتهمت العشاء التهاما وكأنها كانت تتضور جوعا. لم تخلع قلنسوتها، وبدت وكأنها أجنبية. كان زوجها الأجنبي يتحدث إليها بهمهمات جدية بين الحين والحين. أما الرجال الآخرون، فكانوا يتحدثون حديثا لا ينقطع باللهجة الأمريكية المرهقة والصعبة، التي بدأ يقلدها أولاد ماري. وكان هؤلاء الرجال لديهم الكثير من المعلومات، غير أنهم كانون متناقضين مع أنفسهم كثيرا، ولوحوا بسكاكين وشوكات الأكل في الهواء. دخل هؤلاء في نقاش حول أمرين أو ثلاثة؛ الأول: عن الاضطراب الحادث في المكسيك، والثاني: عن وجهة خط السكة الحديد، وتداخل هذا الحديث مع حديث آخر عن إضراب عمال مناجم الذهب. كان من بينهم من يدخن السيجار وهو جالس إلى المنضدة، وكانوا يستديرون ويبصقون على أرضية المكان إذا كانت المبصقة بعيدة عنهم. حاول الرجل الذي كان يجلس بجوار ماري أن يبدأ حوارا يلائم سيدة، وسألها إن كانت قد ذهبت من قبل إلى اجتماع الخيمة. لم تفهم في بادئ الأمر أنه كان يتحدث عن ملتقى لإحياء الروح الدينية، لكن عندما فهمت ما كان يرمي إليه قالت له إنها لا تجد أي جدوى في مثل هذه الأمور، فما كان منه إلا أن تأسف لها ولم يقل المزيد.
ظنت أنه ما كان عليها أن تتحدث حديثا قصيرا مع الرجل، لا سيما أنها كانت تعتمد عليه في تمرير الخبز لها. لكن على الجانب الآخر، كانت تدرك أن أندرو الذي كان يجلس إلى الجانب الآخر منها لم يكن ليروق له أن يراها تتحدث، ليس فقط مع هذا الرجل، بل مع أي شخص آخر. كان أندرو مطأطئ الرأس طوال الوقت، وكانت إجاباته عن الأسئلة التي توجه إليه قصيرة ومقتضبة، مثلما كان يفعل بالضبط عندما كان صبيا في المدرسة. ولطالما كان من الصعب أن يعرف المرء إن كان الكلام لا يروق له أم أن الأمر لا يتعدى كونه خجلا.
أما ويل، فكان أكثر تحررا منه. وربما كان يريد أن يسمع من الرجال عن المكسيك طالما أنهم يعرفون عما يتحدثون، وكثيرا ما كان يظن أن الناس ليسوا كذلك. وعندما ينظر المرء إلى هذه السمة في ويل، يعرف أن ويل لا يختلف كثيرا عن أندرو ولا أسرته، وهذا ما كان يظنه هو نفسه.
لم يكن للدين أي ذكر بين الناس ها هنا، اللهم إلا إذا كنت تريد أن تعتبر أن ملتقى إحياء الروح الدينية من أمور الدين، وهذا ما لم تظنه ماري كذلك. فلم يكن ثمة أي جدال عنيف حول العقيدة ولا ذكر للأشباح أو الزوار الغرباء، كما كان يحدث فيما مضى في إتريك. الأمر كله ها هنا يدور حول الواقع وحسب؛ عما تستطيع أن تجده وتفعله وتفهمه فيما يتعلق بهذا العالم الذي بين يديك، وظنت ماري أن ويل كان سيستحسن الأمر على هذا النحو؛ فقد كان هذا هو العالم الذي ظن أنه كان متوجها إليه.
شقت طريقها إلى خارج المكان بصعوبة، وأخبرت أندرو أنها منهكة بشدة حتى إنها لا تستطيع أن تأكل لقمة واحدة أخرى، ثم توجهت إلى الصالة في الباحة الأمامية.
وبينما هي عند الباب السلكي، لفحت آخر نسمة من الرياح الخفيفة بشرتها وملابسها المتربة المبللة بالعرق، واشتاقت إلى الليل بسكونه العميق، وإن كان لا يوجد مثل هذا الليل - على الأرجح - في الأنزال. وإلى جانب الصخب الموجود في غرفة الأكل، استطاعت أن تسمع قرقعة في المطبخ وصوت تطاير فضلات الطعام خارج الباب الخلفي، التي كانت تلقى بكميات كبيرة في المكان المخصص لأكل الخنازير، هذا إلى جانب صوت الخنازير وهي تتلقفها. وكانت تسمع في الفناء أصوات الأطفال العالية ومن بينهم أطفالها. كانت تسمعهم يقولون: «سوف أمسك بك بكل تأكيد سواء أكنت مستعدا أم لا.»
صفقت صائحة: «روبي، تومي! جوني أحضر الأولاد الصغار إلى الداخل.»
عندما رأت أن جوني قد سمعها، لم تنتظر، بل استدارت وصعدت السلم. •••
نظر جوني إلى أعلى وهو يجر إخوته إلى الداخل ليرى أمه وقد صعدت إلى أعلى السلم، وقد كانت تنظر إليه نظرة فيها فزع وبرود، كما لو كانت لا تعرفه أصلا. نزلت درجة من درجات السلم ثم تعثرت ثم عدلت وضعها على الفور وأمسكت بالدرابزين. رفعت رأسها ونظرت إليه في عينيه، لكنها لم تستطع أن تتحدث. صرخ وصعد السلم مهرولا وسمعها تقول بصوت لاهث تقريبا: «الطفلة ...»
قصدت أن الطفلة اختفت. لم تتبعثر الوسادتان ولا الغطاء الذي وضع بينهما فوق اللحاف. التقطت الطفلة بعناية وخطفت.
أدى صراخ جوني إلى تجمع الناس على الفور. وانتقل الخبر من شخص لآخر. وصل أندرو إلى ماري وقال لها: «هل أنت متأكدة ؟» ثم واصل طريقه متجاوزا إياها إلى الغرفة. صرخ توماس بصوت الطفل الصغير الحاد قائلا إن الكلاب قد أكلت طفلته.
صرخت المرأة المسئولة عن النزل، كما لو أنها تتعامل مع رجل كبير قائلة: «هذا كذب، هذه الكلاب لم تؤذ أحدا في حياتها من قبل، فهي لم تكن لتقتل حتى جرذ الأرض.»
قالت ماري: «لا، لا.» جرى توماس إليها، ووضع رأسه بين رجليها، ثم جلست منهارة على درجات السلم.
قالت إنها تعرف ما حدث. حاولت أن تلتقط أنفاسها، ثم قالت إنها بيكي جونسون.
رجع أندرو بعد أن نظر في غرفة النوم وتأكد من صحة ما تقول، ثم سألها ماذا قصدت.
قالت ماري إن بيكي جونسون كانت تتعامل مع هذه الطفلة تقريبا كما لو كانت ابنتها، وكانت تريد بشدة أن تحتفظ بهذه الطفلة معها؛ مما دفعها لأن تأتي إلى هنا وتسرقها.
قال جيمي شارحا لمن حوله من الناس في أسفل السلم: «إنها أمريكية من الهنود الحمر. وقد كانت تتبعنا اليوم، لقد رأيتها بنفسي.»
أراد كثير من الحاضرين، وأشدهم أندرو، أن يعرفوا أين رآها وهل كان متأكدا أنها هي، ولماذا لم يقل شيئا عن هذا الأمر. قال جيمي إنه أخبر أمه. ثم كرر ما قاله تقريبا لماري.
قالت ماري: «لم أكترث كثيرا عندما أخبرني.»
قال أحد الأشخاص إن الأمريكيات من الهنود الحمر مشهورات بسرقة البنات البيض الرضع.
وأضاف: «إنهن يربينهن كهنود ثم يذهبن ويبعنهن إلى زعيم قبيلة أو غيره من أجل قدر وافر من المال.»
قالت ماري التي ربما لم تسمع حتى عن هذا من قبل: «ليس مثلها من لا يعتني بالطفلة. إن بيكي هندية طيبة.»
سأل أندرو عن أي الأماكن التي يحتمل أن تذهب إليها بيكي الآن، وقالت ماري إنها ربما عادت إلى بلدها.
قالت: «أعني إلى جوليت.»
قال صاحب النزل إنهم لن يستطيعوا أن يسلكوا هذا الطريق ليلا، وإن أحدا لا يستطيع أن يسلكه، إلا الهنود. اتفقت معه زوجته في هذا الكلام. أحضرت لماري كوبا من الشاي، ثم ربتت على رأس تومي بلطف. قال أندرو إنهم سيبدءون في الرجوع مرة أخرى بمجرد أن يظهر ضوء الصباح.
قالت ماري: «أنا آسفة.»
قال إن الأمر خارج عن سيطرة الجميع، مضيفا بينه وبين نفسه أن ذلك شأنه شأن الكثير من الأمور. •••
كان الرجل الذي أسس ورشة نشر الخشب في هذه المستوطنة يمتلك بقرة، وتركها تتجول في أنحاء تلك المستوطنة، وكان يرسل ابنته سوزي في المساء لإحضارها وحلبها. وكانت سوزي دائما في صحبة صديقتها ميجي، ابنة مدرس المدرسة المحلية. وكانت إحداهما تبلغ من العمر ثلاثة عشر عاما والأخرى اثني عشر عاما، وكانت تربطهما علاقة وطيدة، تحفل بطقوس سرية ونكات خاصة ووفاء شديد. صحيح أنه لا توجد أي فتاة أخرى في مثل عمرهما يمكن أن يصادقاها، ولكن هذا الأمر لم يمنعهما من الشعور كما لو كانت كل منهما قد اختارت الأخرى دون سواها من بقية هذا العالم.
كان من بين الأمور التي تحبان فعلها هي تسمية الأشخاص بغير أسمائهم الصحيحة. فكان ذلك يتم أحيانا في صورة عملية إبدال بسيطة، مثل أن تطلقا على شخص ما اسمه جورج «توم»، أو بنتا اسمها ريتشيل «إيديث». وكانتا تركزان في بعض الأحيان على صفة معينة مميزة في الشخص، مثلما كانتا تسميان صاحب النزل «أبا ناب»؛ بسبب ناب الفك العلوي الطويل القابض على شفته، أو أحيانا تختاران الاسم المضاد تماما للاسم الذي قد يريده الشخص لنفسه؛ مثلما حدث مع زوجة صاحب النزل، التي كانت تعتني جدا بنظافة مرايلها، فكانتا تطلقان عليها «المزيتة المشحمة».
وكان الولد الذي يعتني بالخيل يسمى فيرجي، لكنهما كانتا تسميانه بيردي. وهذا الأمر كان يضايقه كثيرا. كان بيردي قصيرا وبدينا، له شعر أسود مجعد وعينان بريئتان متباعدتان، وقد أتى من أيرلندا منذ عام أو نحو ذلك. كان يجري وراءهما عندما تقلدان طريقته في التحدث. ولكن أفضل شيء دبروه له، كان عندما كتبوا خطاب حب له ووقعتا عليه باسم روز - الاسم الحقيقي لابنة صاحب النزل، كما تصادف - وتركوه على غطاء الحصان الذي كان ينام تحته في الإسطبل، ولكنهما لم تكونا تعرفان أنه لا يعرف القراءة. عرض بيردي الخطاب على بعض الرجال الذين أتوا إلى الإسطبل، فكان الأمر بمنزلة أضحوكة وفضيحة كبيرة. أرسلت روز بعد فترة وجيزة إلى خارج المستوطنة لتتعلم تصميم القبعات النسائية، على الرغم من أنها لم تكن محل شك بالفعل في أن تكون قد كتبت هذا الخطاب.
ولم تطل الشكوك كلا من سوزي وميجي.
وكانت النتيجة أن ذهب فتى الإسطبل إلى والد ميجي وطلب منه أن يتعلم القراءة.
جلست سوزي، وهي الأكبر سنا، على كرسي بلا ظهر أو ذراعين تنتظر لتحلب البقرة، بينما كانت ميجي تتجول وتلتقط آخر حبات الفراولة البرية المزروعة وتأكلها. كان المكان الذي اختارته البقرة لترعى فيه في نهاية ذلك اليوم قريبا من الغابة، على مسافة قريبة من النزل. كان بين الباب الجانبي للنزل والغابة الفعلية مجموعة من شجر التفاح، وبين آخر شجر التفاح هذا وشجر الغابة كوخ صغير بابه لا يغلق. كان هذا المنزل يطلق عليه معمل التدخين، على الرغم من أنه لم يستعمل لهذا الغرض أو لأي غرض آخر في ذلك الوقت.
ما الذي جعل ميجي تتفقد الكوخ في ذلك الوقت؟ لم تعرف أبدا. ربما لأن الباب كان مغلقا، أو مسحوبا للأمام ليبدو وكأنه شبه مغلق. وما أن بدأت في تحريك الباب لتفتحه حتى سمعت بكاء رضيع.
حملته وعادت به إلى سوزي، وما إن غمست أصابعها في اللبن المحلوب الطازج وقدمت إحداها للرضيع، حتى توقف عن البكاء وبدأ في مص اللبن بقوة.
قالت: «هل هذا الطفل ولد لأحد ثم خبأه هنا؟» هزأت بسوزي - كما كانت بإمكانها أن تفعل بين الحين والآخر، بمعلوماتها الأكيدة التي تفوقها كما - وقالت لها إن هذا ليس طفلا ولد لتوه، إنه أكبر سنا من ذلك. كما أن ملابسه لا تشي بأنها ملابس لرضيع أراد أحد الأشخاص التخلص منه.
قالت ميجي: «حسنا. ماذا سنفعل معه؟»
هل كانت تقصد ما هو الإجراء الصحيح الذي سنتخذه معه؟ وهو السؤال الذي ستكون الإجابة عنه أن يأخذوه إلى منزل أي منهما، أو إلى النزل الذي هو أقرب مكان لهما.
لم يكن هذا هو ما قصدته تماما.
لا، بل كان ما تقصده هو كيف نستطيع أن نستغل هذا الأمر؟ كيف يمكننا أن نستخدمه بأفضل ما يكون لعمل مزحة، أو لخداع أحد الأشخاص به؟ •••
لم تكتمل خطط جيمي أبدا. أدرك عندما تركوا المنزل أن والده - الذي لم يكن تحت شاهد ذلك القبر، بل كان في الهواء أو يتمشى بطول الطريق على نحو غير مرئي وينقل له وجهات نظره كما لو أنهما كانا يتكلمان معا - لا يؤيد ذهابهم. كان على والدته أن تعرف هذا الأمر أيضا، لكنها كانت مستعدة للاستسلام لما يريده هذا الشخص الوافد الذي يشبه والده بل ويتكلم مثله، ولكنه كان نسخة زائفة تماما. قد يكون بالفعل أخا والده ولكنه في نفس الوقت نسخة زائفة منه.
حتى عندما بدأت في حزم الأمتعة، اعتقد أن شيئا ما كان سيوقفها، وما إن وصل «العم أندرو» حتى أدرك أنه ما من شيء سيمنعهم من الرحيل، وأنه يجب أن يفعل شيئا.
ثم عندما تعب وهو يحاول أن يسبقهم بمسافة كبيرة ونزل إلى الغابة، بدأ يتخيل أنه كان هنديا، كما كان يفعل غالبا من قبل. إنها كانت فكرة تتبادر إلى ذهن المرء على نحو طبيعي من الطرق التي يجدها، أو إيحاءات الطرق التي توجد بجانب الطريق أو بعيدا عنه. وأثناء محاولته بذل ما في وسعه كي يتسلل دون أن يسمعه أو يراه أحد، تخيل صحبة من الهنود، ووصل به الأمر حتى ظن تقريبا أنه رآهم، وفكر في بيكي جونسون، وكيف يمكن أن تكون قد تتبعتهم لوقت طويل، محاولة أن تجد فرصة لتخطف الطفلة التي تحبها حبا جنونيا. ظل في الغابة حتى توقف الآخرون أمام النزل، ورأى هذا الكوخ، وتفقده قبل أن يواصل طريقه بين شجر التفاح. حمته هذه الأشجار نفسها عندما خرج من الباب الجانبي بالطفلة النائمة الخفيفة جدا على ذراعيه، التي تتنفس بضعف شديد، والتي يصعب تخيل أنها إنسان. كانت عيناها مفتوحتين قليلا وهي نائمة. كان يوجد في الكوخ رفان ظلا كما هما ولم يسقطا، فوضعها على الرف العلوي، حتى لا يدركها الذئاب أو القطط البرية إذا تصادف وجود أي منهما.
أتي متأخرا للعشاء ولكن لم يلاحظ أحد ذلك. كان قد رتب أن يقول إنه كان في دورة المياه، لكن لم يسأله أحد. كان كل شيء يسير بسلاسة تامة، كما لو كان ما زال في خياله.
وبعد الصخب عندما اكتشف أن الطفلة فقدت، لم يرد أن يختفي بسرعة شديدة؛ لذلك انتظر حتى دخل الليل تقريبا كي ينصرف تحت الأشجار ليلقي نظرة على الطفلة في الكوخ. تمنى ألا تكون جائعة، ولكنه قال في نفسه إنها إذا كانت كذلك، فسيبصق على إصبعه ويدعها تمصها، وربما لن تعرف الفرق بين ذلك وبين اللبن.
جرى التخطيط للعودة، تماما كما توقع، وما كان يعتمد عليه هو أنه بمجرد عودتهم، ستفهم والدته بطريقة ما أن محاولاتهم للمغادرة محكوم عليها بالفشل، وأنه سيخبر «العم أندرو» أن يدعهم وشأنهم.
ولأنه الآن قد أرجع الفضل إلى والده في وضع الخطة كاملة في رأسه، افترض أن والده يجب أن يكون قد توقع أن هذا تماما ما سيحدث.
لكن كان ثمة خلل ما؛ لم يضع والده في رأسه أي فكرة عن كيفية إعادة الطفلة إلى هناك، غير حملها طوال الطريق، والسفر عبر الغابة كما فعل جزءا من الطريق اليوم. وماذا سيحدث بعد ذلك؟ عندما يتضح أنها ليست عند بيكي جونسون، عندما يظهر في الواقع أن بيكي جونسون لم تغادر منزلها على الإطلاق؟
عليه أن يجد حلا لذلك. يجب أن يجد حلا. يمكنه بالتأكيد حمل الطفلة، فلا يوجد خيار أمامه الآن، والابتعاد عنهم بقدر كاف حتى لا يسمعوا البكاء، لكنها ستكون جائعة حينها.
هل يستطيع إيجاد طريقة لسرقة بعض اللبن من النزل؟
لم يستطع مواصلة التفكير في هذه المشكلة؛ لأنه لاحظ شيئا ما.
كان باب الكوخ مفتوحا، وقد اعتقد أنه قد أغلقه.
ليس ثمة بكاء، ولا أي صوت.
وليس ثمة طفلة. •••
أخذ أغلب الرجال الموجودين في النزل غرفا ليناموا فيها، ولكن القليل، مثل أندرو مع ابني أخيه جيمس وجون، كانوا يرقدون على الحصر على الأرضية الخشبية للرواق الطويل.
استيقظ أندرو قبل منتصف الليل بقليل لرغبته في التبول. قام ومشى بطول الرواق، وألقى نظرة خاطفة على الولدين ليتأكد من أنهما نائمان، ثم تراجع، وقرر، من باب اللياقة، أن يخرج ويمشي خلف المبنى، حتى الحقل حيث استطاع أن يرى في ضوء القمر أن الخيول نائمة على أقدامها وهي تمضغ الأكل في أحلامها. •••
سمع جيمس وقع أقدام عمه وأغلق عينيه، لكنه لم ينم.
إما أن تكون الطفلة قد سرقت بالفعل هذه المرة، وإما سحبت وجرحت، ويحتمل أن حيوانا ما قد التهم جزءا منها. لم يكن يوجد أي دليل على تورطه في الأمر، ولم يكن من الممكن أن يلام بأي طريقة. قد تلام بيكي جونسون بطريقة ما إذا أقسم أنه قد رآها في الغابة. ستقسم أنها لم تكن هناك، لكنه سيقسم أنها كانت هناك.
لأنهم سيعودون، بالتأكيد. سيضطرون إلى دفن الطفلة إذا وجدوا شيئا منها موجودا، أو حتى إذا لم يجدوا، فسيقومون بعمل مراسم جنازة لها، أليس كذلك؟ وهكذا، فإن ما أراده سيحدث. لكن أمه ستكون في حالة سيئة.
ربما يبيض شعرها فجأة.
وإذا كانت هذه الطريقة هي طريقة والده الحالية في ترتيب الأمور وتنظيمها، فهي أشد قسوة من أي شيء كان يفكر فيه عندما كان لا يزال حيا.
وهل كان أبوه، وهو يرتب له الأمور بهذا الأسلوب العشوائي الذي لا رحمة فيه، سيكترث حتى بأن اللائمة ستلقى على جيمي؟
كذلك، قد ترى والدته أنه متورط بطريقة ما في الأمر، وأن لديه شيئا لم يخبر عنه. يمكن أن تفعل ذلك أحيانا، بالرغم من أنها قد صدقت الكذبة عن بيكي جونسون بسهولة. إذا عرفت، أو حتى شكت في أي شيء قريب من الحقيقة، فستكرهه للأبد.
يمكنه أن يصلي، إذا كانت صلاة الكاذب لها أي قيمة. يمكنه أن يدعو أن يكون قد أخذ الطفلة أحد الهنود، ولو لم تكن بيكي جونسون، وأنها ستربى في معسكر هندي، وتأتي في أحد الأيام إلى باب بيتهم تحاول بيع بعض الحلي الهندية الصغيرة، وستكون جميلة جدا، وستعرفها أمه في الحال وتصرخ فرحة وتبدو بالطريقة التي اعتادت أن تبدو بها قبل وفاة والده.
كفى! كيف له أن يفكر في شيء بهذا الغباء الشديد؟ •••
تجول أندرو في ظل الإسطبل، ووقف هناك يتبول. وبينما كان يفعل ذلك، إذا به يسمع صوتا حزينا ضعيفا غريبا. اعتقد أنه لأحد حيوانات الليل، قد يكون فأرا في مصيدة. وعندما زرر ثيابه، سمع هذا الصوت مرة أخرى، وهو الآن واضح بقدر كاف بحيث يستطيع أن يتتبعه. حول الإسطبل، عبر الفناء إلى أحد المباني الملحقة الذي له باب عادي وليس باب للخيل. ارتفع الصوت أكثر الآن، واستطاع أندرو، الوالد لعدة أطفال، أن يميز حقيقة الصوت.
قرع الباب مرتين، وعندما لم يجبه أحد حاول تحريك المزلاج. لم يكن بالمزلاج لسان، وتمايل الباب للداخل منفتحا. تسلل ضوء القمر إلى الداخل من خلال إحدى النوافذ، فكشف عن وجود طفل. إنه طفل، بلا شك، يرقد هناك على سرير صغير مكون من بطانية خشنة ووسادة مسطحة، لا بد أنه سرير أحد الأشخاص. الخطاطيف معلقة على الحائط وعليها قليل من قطع الملابس ومصباح. لا بد أن يكون هذا هو المكان الذي ينام فيه الفتى المسئول عن الإسطبل. لكنه لم يكن في غرفته، إنه ما زال بالخارج؛ ربما كان في الفندق الآخر الأكثر سوءا، الذي كان يبيع الجعة والويسكي، أو كان يتسكع مع إحدى الفتيات.
في غرفته وعلى سريره، يوجد هذا الطفل الجائع.
التقط أندرو الطفل، ولم يلاحظ الورقة الصغيرة التي سقطت من ملابسه. إنه ما كان لينتبه كثيرا لشكل طفلة ماري ولم يسعه الانتباه الآن. لم يكن فقدان طفلين في نفس الليلة بالمصادفة الكبيرة. لم يهتم كثيرا بهذا، ولكنه حمل الطفل بكل ثقة وذهب به إلى النزل. كان قد توقف عن البكاء تماما، عندما حمله.
لم يكن أحد موجودا في الرواق أثناء صعوده درجات السلم، وقد واصل الصعود حتى غرفة ماري. فتحت الباب قبل أن يطرقه ، كما لو أنها سمعت خنة نفس الطفل، وتكلم في الحال، بهدوء، ليوقفها عن الصراخ. «هل هذا هو الطفل الذي فقدته؟» •••
وجد فتى الإسطبل الورقة على الأرض عندما عاد. واستطاع أن يقرأها:
هدية من إحدى حبيباتك.
لكنه لا يرى أي هدية، ولا حتى على سبيل الدعابة، في أي مكان حوله. •••
سمع جيمي عمه قد صعد الرواق، ثم دخل النزل. سمعه الآن يخرج، سمع آثار أقدامه المتأنية والمخيفة تأتي من هذا الطريق، بدلا من الطريق الآخر. دق قلبه بشدة مع الدرجات. علم أن عمه كان واقفا هناك ينظر إليه. حرك رأسه يمينا ويسارا وفتح عينيه بتردد، كما لو أنه قد استيقظ.
قال عمه ببساطة: «لقد أخذت لتوي أختك لأعلى إلى والدتك. ظننت أن هذا سيريح بالك.» ثم استدار ليذهب إلى مكان نومه. •••
وهكذا، لم تكن ثمة حاجة للعودة، وقرروا استئناف رحلتهم في الصباح. ظن أندرو أنه من الأفضل ألا يتدخل في قصة المرأة الهندية، وألا يقول إن رأيه هو أنها قد خافت وتركت الطفلة في سرير فتى الإسطبل. لم يكن يعتقد أن فتى الإسطبل كان بأي حال متورطا في الأمر، وظن أن جيمس متورط، ولكنه ترك الأمر دون تحقيق. كان الصبي ماكرا ومثيرا للمشاكل، ولكن بالشكل الذي كان عليه ليلا ربما يكون قد تعلم درسا.
لقد كانت ماري سعيدة جدا برجوع الطفلة مما جعلها لا تهتم كثيرا بما قد حدث. هل كانت ما تزال تلقي باللائمة في هذا الأمر على بيكي؟ أو أن لديها أكثر من مجرد شك حول ميول ابنها الأكبر؟ •••
الثيران هي الحيوانات الأكثر تحملا والأكثر اعتمادية. والمشكلة الحقيقية الوحيدة معها هي أنها بمجرد أن تأتي إليها خاطرة بالمكان الذي تريد أن تذهب إليه، فإنه من الصعب جدا أن تغير ما في رأسها. إذا اكتشفت بركة مياه تذكرها بمدى العطش الذي هي فيه وكيف أن المياه سائغة، فربما تدعها تذهب إليها. وهذا ما حدث في منتصف النهار تقريبا بعدما تركوا النزل. كانت البركة هي إحدى البرك الكبيرة القريبة من الطريق ، وخلع الولدان الكبيران ملابسهما وتسلقا شجرة ذات فرع متدل ثم قفزا منها في المياه، المرة تلو الأخرى. أما الولدان الصغيران، فأخذا يحركان أيديهما وأرجلهما على حافة الماء، في حين نامت الطفلة على الحشيش الطويل في الظل وأخذت ماري تبحث عن حبات الفراولة.
راقبهم لبعض الوقت ثعلب أحمر حاد الوجه من طرف الغابة. رآه أندرو، لكنه لم يقل لأحد شيئا عنه، شاعرا بأنه قد كان هناك ما يكفي من الإثارة في هذه الرحلة بالفعل.
كان يعرف، أكثر منهم، ما كان بانتظارهم: الطرق الأكثر سوءا، والنزل الأقل جودة من أي شيء رأوه من قبل، والغبار المتصاعد دائما، والأيام التي يزداد حرها، والانتعاش المصاحب لرذاذ المطر الأول ثم المأساة الناتجة عنه، والطين الموحل الذي يملأ الطريق واتساخ كل ملابسهم به.
رأى كثيرا من اليانكيز ليعرف ماذا أغرى ويل بالعيش معهم: عنفهم وصخبهم وغلظتهم والحاجة لاتباع التيار السائد. رغم أن بعضهم كانوا مهذبين بالقدر الكافي، والبعض الآخر، الذين ربما يكونون من أسوئهم، كانوا اسكتلنديين. كان داخل ويل شيء ما يجذبه لمثل هذه الحياة.
قد ثبت خطأ هذا.
عرف أندرو بالطبع أن المرء يمكن أن يموت بسبب مرض الكوليرا في كندا العليا تماما كما في ولاية إلينوي، وأنه من الحماقة إرجاع موت ويل إلى الجنسية التي اختارها. لم يفعل ويل ذلك، ولكن كان ثمة شيء ما وراء كل هذا الاندفاع؛ محاولة التحرر الكامل من الأسرة ومن الماضي. كان الأمر ينطوي على شيء من التهور والثقة بالنفس، وهو ما قد لا يساعد المرء على الإطلاق، بل يعرضه كثيرا لمثل هذه الحادثة، لمثل هذا القدر. ويل للمسكين! •••
وأصبحت هذه هي الطريقة التي يذكره بها إخوته الأحياء حتى يوم وفاتهم، والصورة التي أخذها أولادهم عنه. ويل المسكين! لم يذكره أبناؤه، بطبيعة الحال، بأي شيء غير لقب «أبي»، بالرغم من أنهم أيضا بمرور الوقت ربما كانوا يشعرون بأن غمامة حزن ويأس تغطيهم عند أي ذكر لاسمه. لم تكن ماري تذكره تقريبا، وكان ما تحس به نحوه أمرا لا يخص أحدا غيرها .
براري بلدة موريس
نشأ ولدا ويليام في بلدة إسكوسنج بين أبناء عمومتهما، وكانا يلقيان معاملة حسنة. ولكن لم يكن ثمة ما يكفي من المال لإرسالهما إلى المدرسة الثانوية أو الجامعة إذا أراد أي منهما ذلك أو إذا قيم بأنه مؤهل للذهاب إلى هناك. ولم يكن ثمة أرض لتورث لهما؛ ومن ثم، بمجرد أن كبرا بما يكفي انطلقا لاستيطان أرض جديدة في البراري، وصاحبهما أحد أبناء عمومتهما، وهو أحد أبناء أندرو، وكان يدعى روب الكبير؛ لكونه يحمل نفس اسم الابن الثالث لويل وماري، الذي كان يسمى آنذاك روب الصغير. وقد تبنى روب الكبير العادة أو الواجب العائلي المتوارث الخاص بكتابة مذكراته حين بلغ المشيب، حتى تعرف الأجيال التالية في العائلة كيف كانت تبدو الأمور.
في يوم الثالث من نوفمبر عام 1851، وضعت أنا وابنا عمي، توماس ليدلو المقيم الآن في بليث، وشقيقه جون، الذي ذهب إلى كولومبيا البريطانية منذ عدة أعوام، صندوقا يحوي أغطية أسرة وبعض أواني الطهي في عربة تجرها الخيول، وانطلقنا من مقاطعة هالتون لنجرب حظوظنا في براري بلدة موريس.
لم نتجاوز برستون في اليوم الأول؛ نظرا لشدة وعورة الطرق وسوئها عبر بلدتي ناساجاوايا وباسلينتش. وفي اليوم التالي وصلنا إلى قرية شكسبير، وبعد ظهيرة اليوم الثالث وصلنا إلى ستراتفورد. كانت الطرق دائما ما تزداد سوءا كلما اتجهنا غربا؛ لذا اعتقدنا أنه من الأفضل أن نرسل حقائبنا ومقتنياتنا الصغيرة إلى كلينتون بواسطة عربة السفر النظامية. ولكن تلك العربة توقفت عن السير، حتى تجمدت الطرق؛ لذا تركنا الخيول والعربة تعود، حيث جاء معنا ابن عم آخر لنا ليعيدها. حملت أنا وجون ليدلو وتوماس فئوسنا على أكتافنا وذهبنا إلى موريس سيرا على الأقدام. حصلنا على مكان لنسكن فيه، وإن كنا قد اضطررنا للنوم على الأرض متدثرين بلحاف. كان الطقس باردا بعض الشيء لقرب حلول الشتاء، ولكننا توقعنا أننا سنضطر لمواجهة بعض الصعاب وقد واجهناها على نحو أفضل، قدر استطاعتنا.
بدأنا في نشر شجيرات ونباتات دغلية صغيرة عبر طريق مؤد إلى منزل جون، لما كان المكان الأقرب إلى حيث أوينا، ثم قطعنا أخشابا من أجل بناء كوخ وتعريشات كبيرة لتسقيفه. كان الرجل الذي نقيم عنده يملك ثورين يقرن بينهما بنير، وقد سمح لنا باستخدامهما لجر ألواح الخشب والتعريشات. بعدها استعنا ببعض الرجال للمساعدة في إقامة الكوخ، ولكن كان عددهم قليلا جدا؛ إذ لم يكن يوجد سوى خمسة مستوطنين فقط في البلدة. غير أننا نصبنا أعمدة الكوخ جيدا، ووضعنا فوقه التعريشات. وفي اليوم التالي، شرعنا في ملء الفراغات بين ألواح الأخشاب بالطين، حيث لم تكن الألواح متراصة على مقربة شديدة بعضها من بعض، كما ملأنا الفراغات بين التعريشات بالطحالب. وفرنا للكوخ ما جعله يبدو مريحا إلى حد ما، ولما أصابنا الإرهاق من السير عبر الجليد كل يوم وكان الفراش صلبا وباردا، توجهنا إلى بلدة جودريتش لمحاولة الحصول على عمل لبضعة أيام، ولنرى إن كانت صناديقنا وأواني الطهي قد وصلت أم لا.
لم نلتق أحدا يرغب في مساعدة منا، على الرغم من أن ثلاثتنا كنا نتسم بحسن الطلعة. صادفنا رجلا أراد منا تقطيع بعض الحطب له ولكنه لم يكن سيتولى إيواءنا، مما جعلنا نقرر العودة إلى موريس؛ إذ كان هناك الكثير من أعمال تقطيع الحطب التي يمكننا ممارستها هناك. وقررنا تجميع الأعمال والقيام بها دفعة واحدة بطريقة ما.
ابتعنا برميلا من السمك في جودريتش وحملنا جزءا من محتوياته على ظهورنا. وبينما كنا نمر ببلدة كولبورن، تحصلنا على بعض الدقيق من أحد الرجال، ولما كان في طريقه إلى جودريتش قال إنه سيوصل لنا بقية السمك وبرميلا من الدقيق حتى مانشستر (أوبرن الآن). والتقينا به هناك، ونقل السيد إلكينز العجوز السمك والدقيق عبر النهر وكان علينا أن نحملهما من هناك. ولم أكن أحب حمل مؤننا.
توجهنا نحو كوخنا، وأحضرنا بعض أفرع الشوكران لنصنع منها سريرا، ولوحا كبيرا من خشب شجرة دردار لنصنع منه بابا. ذات مرة، قال رجل فرنسي من كيبك لجون إن المدفأة في الأكواخ المشيدة من خشب الأشجار يجب أن تكون في منتصفها؛ لذا قال جون إنه سيجعلها في منتصف الكوخ. أقمنا أربعة أعمدة وأخذنا نبني المدخنة فوقها. وضعنا شرائح خشبية فوق الأعمدة، على شكل منزل، معتزمين لحامها معا بالطين من الداخل ومن الخارج. وحين خلدنا إلى سريرنا المصنوع من خشب الشوكران، أشعلنا نارا ضخمة، وحين استيقظ بعضنا خلال الليل كانت النار قد اشتعلت في الألواح الخشبية للكوخ بأكملها وكانت بعض التعريشات تشتعل بسرعة رهيبة أيضا. ومن ثم، فككنا المدخنة، ولم تكن التعريشات صلبة لكي يتم تفكيكها، حيث كانت من خشب شجر الزيزفون الأخضر. وكانت تلك هي آخر مرة نسمع فيها عن بناء مدفأة في وسط المنزل. وبمجرد أن بزغ ضوء النهار شرعنا في بناء المدخنة في نهاية المنزل، إلا أن توماس كثيرا ما كان يسخر من جون ويتهكم عليه بشأن مسألة بناء المدفأة في منتصف الكوخ. غير أننا أقمنا المدخنة، وأنجزت مهمتها على نحو جيد. وحققنا تقدما أكبر بكثير في تقطيع الأخشاب، بعد أن أزيحت الأشجار الصغيرة والأفرع من الطريق.
وهكذا كنا نتقدم بخطى بطيئة، حيث كان توماس يتولى الخبز والطهي؛ لأنه كان أفضل ثلاثتنا في ذلك. ولم نكن نغسل أي صحون على الإطلاق، وكان لدينا طبق جديد لكل وجبة.
أرسل لنا رجل يدعى فالنتاين هاريسون، كان يعيش على الطرف الجنوبي لقطعة الأرض رقم 3، منطقة الامتياز رقم 8؛ جلد جاموس كبيرا جدا، لنبسطه فوقنا على السرير. كنا قد صنعنا هيكلا خشنا للسرير وربطنا أجزاءه معا باستخدام أغصان الأشجار الرفيعة بدلا من الحبل، إلا أن الأغصان تدلت على نحو سيئ في منتصف السرير، ومن ثم أحضرنا عمودين ووضعناهما على نحو طولي أسفل أفرع الشوكران، بحيث أصبح لكل منا نصيبه من السرير، ولم نكن نتقلب على الجزء الذي في المنتصف؛ مما أدخل تحسنا على سرير العزاب هذا.
أخذنا نتقدم ببطء على هذا النحو، إلى أن وصلت صناديقنا وأواني الطهي خاصتنا إلى كلينتون، واستعنا برجل بثوريه وزلاجته لإحضارها من هناك. وعندما حصلنا على أغطية الأسرة خاصتنا، خطر لنا أننا كنا نرقد وسط البرسيم؛ حيث إننا قد نمنا على أفرع الشوكران لخمسة أو ستة أسابيع.
قطعنا شجرة دردار ضخمة وقطعناها إلى شرائح، وصنعنا منها أرضية لكوخنا، وهكذا كنا نضفي على الأشياء شكلا أفضل.
كنا في أوائل فبراير تقريبا حين أحضر أبي والدة وشقيقة جون وتوماس للإقامة معنا. وقد عانوا بشدة للمجيء عبر هوليت؛ إذ لم يكن هناك أي جسور تعلو الجداول المائية الكثيرة المنتشرة، ولم تكن تلك الجداول المائية متجمدة. ثم وصلوا إلى كينيث بينز، حيث توجد بليث الآن، وترك أبي الخيول وزوجة عمي وابنة عمي هناك وجاء ليصطحب ثلاثتنا كي نقودهم لبقية الطريق. استطعنا التحرك من هناك بصعوبة ولم نواجه سوى مشكلة واحدة، وهي أن الخيول كانت في قمة الإرهاق؛ إذ كان الجليد عميقا جدا حتى إنها كانت تتوقف كثيرا في الطريق. وأخيرا وصلنا إلى الكوخ، وأدخلنا الخيول إلى مأوى خاص بها، وشعرنا بالارتياح نوعا ما لما أحضره أبي معه من مؤن.
أراد أبي أن يأخذ معه حمولة من السمك وهو عائد إلى بيته؛ لذا ذهبنا إلى جودريتش في اليوم التالي وأحضرنا السمك. وفي اليوم التالي انطلق عائدا إلى بيته.
عدت إلى موريس حيث كانت زوجة عمي وابنته قد رتبتا الأشياء على نحو رائع. وتحلل توماس من أعباء مهمة الخبز والطهي وشعرنا جميعا بتغيير للأفضل.
واصلنا العمل وقطعنا بعضا من الأشجار الضخمة، لكننا لم نكن معتادين كثيرا على العمل والجليد يزداد عمقا، وكان المشي عليه بطيئا جدا. وفي بداية أبريل 1852، تكونت قشرة شديدة الصلابة على الجليد، بحيث كان بمقدور أي شخص أن يركض عليها في أي مكان.
ولما كنت بصدد البحث عن قطعة أرض من أجل جار مسن، فقد بدأنا في الخامس من أبريل في تفقد بعض الأراضي الخالية المعروضة للبيع. كنا على بعد خمسة أو ستة أميال من كوخنا حين هبت عاصفة ثلجية عنيفة، وتسببت الرياح الشرقية في تغطية العلامات الهادية للطريق على الأشجار بالجليد، وواجهنا صعوبة كبيرة في إيجاد طريقنا إلى المنزل. وسعدت زوجة عمي وابنته كثيرا لرؤيتنا حين وصلنا؛ لأنهما اعتقدتا أننا قد أصبحنا حتما في عداد المفقودين.
لم أفعل أي شيء بمنزلي في ذلك الشتاء، وكذلك توماس، الذي عمل مع جون لبضع سنوات. أما أنا فعدت إلى هالتون في الربيع، وعدت إلى موريس في خريف عام 1852، وبدأت في التجهيز لكوخي الخاص، وقطع جزء من الخشب اللازم له في ذلك الشتاء. تعاونت مع ابني عمي في العمل معا في الأماكن التي كانت في أشد الحاجة إلى عملنا.
وقد ساعداني في قطع بعض الأشجار في خريف عام 1853، ولم أحضر إلى موريس مجددا حتى ربيع عام 1857 حين حظيت بزوجة تشاركني محني وأفراحي وأحزاني.
لقد عشت هنا (ونحن الآن في عام 1907) لستين عاما، وواجهت بعض المحن والصعاب، وشهدت الكثير من التغييرات في كل من السكان والقرية. فخلال الأشهر القليلة الأولى كنا نحمل مؤننا لمسافة سبعين ميلا، أما الآن فقد صار هناك طريق سكك حديدية على بعد أقل من ربع ميل منا.
في الخامس من نوفمبر عام 1852، قطعت أول شجرة على أرضي، ولو كان لدي أشجار عليها الآن، كتلك التي كانت موجودة آنذاك، لصرت أغنى رجل في بلدة موريس.
انتقل جيمس ليدلو، الأخ الأكبر لجون وتوماس، إلى موريس في خريف عام 1852. تولى جون مهمة بناء كوخ لجيمس والدي، الذي أصبح حماه فيما بعد. وذهبت أنا وجيمس لمساعدة جون في البناء، وبينما كنا نسقط إحدى الأشجار، إذا بأحد فروعها ينكسر خلال عملية السقوط، ويسقط في اتجاه عكسي مرتطما برأس جيمس ليرديه قتيلا في الحال.
كان علينا أن نحمل جثمانه لمسافة ميل وربع ميل إلى أقرب منزل، وكان علي إبلاغ زوجته ووالدته وشقيقه وشقيقته بهذا الخبر السيئ. كانت تلك هي المهمة الأكثر حزنا في حياتي. واضطررت للاستعانة بمساعدة لحمل الجثمان إلى الوطن؛ إذ لم يكن يوجد سوى ممر للمشاة عبر الأحراش، وكان الجليد غاية في العمق والنعومة. وكان ذلك في الخامس من أبريل عام 1853.
لقد شهدت الكثير من الأفراح والأتراح منذ قدمت إلى موريس. لا يسكن منطقة الامتياز هذه إلا ثلاثة من أوائل من استوطنوا الأرض هنا، وذرية خمسة آخرين كانوا أيضا من أوائل المستوطنين هنا. بعبارة أخرى، لا توجد هنا سوى ثماني عائلات يعيشون على الأراضي التي شغلها آباؤهم ما بين والتون وبليث، وهي مسافة تصل لسبعة أميال ونصف.
فارق ابن عمي، جون، الذي كان واحدا من الثلاثة الذين جاءوا إلى هنا في عام 1851، الحياة في الحادي عشر من أبريل عام 1907. ورحل جميع عجز آل ليدلو تقريبا، ولم يعد على قيد الحياة الآن (في عام 1907) من هؤلاء الذين كانوا أوائل من جاءوا إلى موريس سواي أنا وابن عمي توماس.
والمكان الذي يعرفنا الآن لن يعرفنا عما قريب، بعد أن أصبحنا جميعا كائنات ضعيفة بلغت من العمر أرذله.
مات جيمس ليدلو، الذي كان في وقت ما يدعى جيمي، مثل والده في مكان لم تكن توجد فيه بعد سجلات دفن موثوق بها. ويعتقد أنه قد دفن في ركن من الأرض التي قام هو وشقيقاه وابن عمه بتسويتها وإخلائها من الأشجار، وفي وقت ما في حوالي عام 1900 نقل جثمانه إلى جبانة بليث.
كان روب الكبير، كاتب هذه القصة عن الاستيطان في موريس، والدا للعديد من الأبناء والبنات؛ سايمون، وجون، ودنكان، وفوريست، وساندي، وسوزان، وماجي، وآني، وليزي. ترك دنكان المنزل مبكرا (هذا الاسم صحيح، ولكنني لست واثقة تماما من الأسماء الأخرى)؛ فقد ذهب إلى جويلف، وقلما كانوا يرونه. أما الآخرون، فقد ظلوا بالمنزل؛ فقد كان المنزل كبيرا ويتسع لهم جميعا. في البداية كان والدهم ووالدتهم يعيشان معهم، بعدها ولعدة سنوات لم يعش معهم سوى الأب، وفي النهاية أصبحوا يعيشون بمفردهم، ولم يكن الناس يذكرون أنهم كانوا صغارا قط.
لقد أداروا ظهورهم للعالم؛ فالتزمت النساء الشعر المفروق من المنتصف الملتصق بشدة برءوسهن، رغم أن الموضة الشائعة حينها كانت تتجه إلى الشعر الملفوف والمهدب. وكن يرتدين ثيابا داكنة اللون منزلية الصنع ذات تنانير ضيقة. وكانت أياديهن حمراء؛ إذ كن يدعكن أرضية مطبخهن المصنوعة من خشب الصنوبر بالبوتاس كل يوم، ما جعلها لامعة كلمعان المخمل.
كان بمقدورهن الذهاب إلى الكنيسة - وهو ما كن يفعلنه كل يوم أحد - والعودة إلى المنزل دون التحدث مع أي شخص.
كانت ممارساتهن الدينية نابعة من إحساس بالواجب، ولكن لم يكن للعاطفة دور فيها على الإطلاق.
كان الرجال مضطرين للتحدث أكثر من النساء عند ممارسة أعمالهم في الطاحونة أو مصنع الجبن، ولكنهم كانوا لا يهدرون كلمات ولا وقتا. كانوا أمناء ولكن صارمين في كل معاملاتهم. وإذا ما اكتسبوا مالا، فلم يكونوا أبدا يهدفون إلى شراء آلات حديثة أو تقليل تعبهم أو إضافة رفاهيات لأسلوب معيشتهم. وكانوا لا يقسون على حيواناتهم، ولكن لم يكونوا يكنون أي مشاعر عاطفية نحوها.
كان الطعام المقدم في المنزل بسيطا جدا، وكان الماء هو شرابهم في الوجبات بدلا من الشاي.
وهكذا ودون ضغط من المجتمع أو من عقيدتهم الدينية (كانت العقيدة المشيخية لا تزال جدلية ومتشددة، ولكنها لم تكن تفرض حصارا على الروح بالعنف والشراسة التي كانت عليهما في أيام القس بوستون)، خلقوا لأنفسهم حياة تشبه حياة الرهبنة دون أي ثواب إلهي أو لحظات من التسامي. •••
في عصر يوم أحد في الخريف طلت سوزان من إحدى النوافذ لترى فوريست يسير جيئة وذهابا في الحقل الأمامي الكبير، حيث لم يكن هناك سوى بقايا حصاد القمح. كان يمشي بتثاقل، ثم يتوقف وينظر فيما كان يفعله.
ولكن ماذا كان ذلك الشيء الذي يفعله؟ لم تكن لتمنحه نشوة السؤال.
وتبين لها أنه قبل هطول الصقيع كان قد شرع في حفر حفرة كبيرة. كان يحفر بالنهار، ويحفر في الليل على ضوء المصباح، إلى أن حفر لعمق ستة أقدام، ولكن الحفرة كانت أكبر من أن تكون قبرا. لقد كانت معدة في الحقيقة لكي تكون قبوا لمنزل. كان ينقل التراب في عربة صغيرة تجر باليد، مستفيدا من ممر منحدر كان قد بناه.
سحب بعض الأحجار الكبيرة من كومة الأحجار الموجودة في الحظيرة، وهناك، وبعد أن انتهى فصل الشتاء، عكف على تشذيب تلك الأحجار بواسطة أزميل الحجارة لكي يصنع بها جدران قبوه. لم يتوقف عن أداء نصيبه من أعمال الحقل، ولكنه كان يعمل على هذا المشروع المنفرد في جوف الليل.
في الربيع التالي، وما إن جفت الحفرة حتى قام بتمليط الحجارة وتثبيتها ليصنع جدران القبو. وركب الماسورة من أجل الصرف، وبنى الخزان، ثم وضع على نحو واضح للعيان الأساس الحجري لمنزله. كان من الممكن إدراك أن ما يخطط له ليس كوخا من غرفتين، بل كان منزلا حقيقيا وفسيحا، وكان سيحتاج إلى طريق للدخول، وقناة للصرف، إلى جانب أنه كان سيشغل أرضا زراعية.
وأخيرا تحدث إليه أشقاؤه، فقال إنه لم يكن سيحفر قناة الصرف حتى مجيء الخريف، حين يتم حصاد المحصول. أما بالنسبة إلى الطريق، فلم يفكر قط في إنشاء طريق، وكان يعتقد أن بإمكانه السير من المنزل الأساسي على طريق ضيق، بحيث لا يحرمهم من أي قدر من الحبوب أكثر من اللازم.
قالوا إنه لا يزال من الضروري التحدث جديا بشأن المنزل؛ أي بشأن الأرض التي سيقتطعها المنزل منهم، فكان قوله إن هذا صحيح، وإنه سيدفع مبلغا لا بأس به في مقابلها.
من أين كان سيأتي بالمال؟
كان المقابل الذي سيقدمه هو قيمة العمل الذي قام به بالفعل في المزرعة، مع خصم نفقات المعيشة، إلى جانب تنازله عن نصيبه في الميراث، وهما معا كانا من المفترض أن يمثلا مقابلا لحفرة في الحقل.
وعرض أن يتوقف عن العمل في المزرعة على أن يحصل على وظيفة في مشغل سجح الألواح الخشبية.
لم يستطيعوا أن يصدقوا آذانهم، مثلما لم يستطيعوا أن يصدقوا أعينهم، إلى أن نسق تلك الأحجار الضخمة والمشذبة معا، فما كان منهم إلا أن قالوا: حسنا إذن، إذا أردت أن تجعل من نفسك أضحوكة، فعليك إذن أن تفعل ما تريد.
ذهب للعمل في مشغل سجح الألواح الخشبية، وفي الأمسيات الطويلة كان يباشر نصب هيكل منزله. كان يفترض أن يكون المنزل بارتفاع طابقين، ويضم أربع غرف للنوم، ومطبخا أماميا وخلفيا، وحجرة للمؤن، وأدوات المائدة، وغرفتي معيشة. كان من المزمع أن تكسى الجدران بألواح من الخشب مطعمة بطبقة خارجية من الطوب. بالطبع كان سيضطر لشراء الطوب، أما الخشب الذي كان يخطط لاستخدامه في الجدران أسفل الطوب، فكان من تلك الأخشاب المكدسة في الحظيرة، المتبقية من السقيفة الخارجية القديمة التي هدمها هو وأشقاؤه حين بنوا الحظيرة الجديدة ذات الطابقين. هل كانت هذه الأخشاب ملكا له كي يستغلها؟ قطعا لم تكن ملكا له، ولكن لم يكن من المزمع استخدامها بأي نحو آخر. وكان ثمة بعض القلق داخل العائلة من نظرة الناس لهم إذا ما دب بينهم الشجار والتشاحن حول تلك الأشياء. فقد كان فوريست بالفعل يتناول عشاءه في أحد الفنادق ببليث بسبب ملاحظات أبدتها ساندي حول تناوله للطعام على مائدة الأسرة قائلة إنه يأكل من عمل الآخرين وكدحهم. لقد تركوه يأخذ الأرض اللازمة لبناء المنزل حين طالب بها باعتبارها حقه؛ لأنهم لم يشاءوا أن يدينهم الناس لرفضهم إعطاءه إياها، ومن نفس المنطلق تركوه الآن يأخذ الأخشاب.
في خريف ذلك العام، بنى السقف على الرغم من أنه لم يكسه بالخشب، وركب موقدا. وقد استعان في كلتا المهمتين بمساعدة رجل يعمل معه في المشغل. وكانت تلك هي المرة الأولى التي يؤدي فيها أي شخص من خارج العائلة أي عمل في الأماكن التابعة لها، فيما عدا عند تشييد الحظيرة في حياة الأب. فقد غضب والدهم من بناته في ذلك اليوم؛ لأنهن وضعن كل الطعام على الطاولات ذات الحاملين في الفناء ثم اختفين، بدلا من مواجهة خدمة الغرباء.
لم ينجح الزمن في أن يجعلهن أكثر سلاسة في التعامل، فبينما كان الرجل الذي يعاونه في البناء هناك - ولم يكن غريبا بحق، بل كان مجرد رجل من البلدة لم يسبق له أن ذهب إلى كنيستهم - لم تخرج ليزي وماجي إلى الحظيرة قط، على الرغم من أنه كان دورهما في حلب الأبقار، واضطرت سوزان للذهاب. كانت دائما من تتولى الحديث حين يضطررن لدخول متجر وشراء شيء ما. وكانت هي من تقود أشقاءها حين يكونون بالمنزل. وكانت هي من سن قاعدة ضرورة عدم مساءلة فوريست خلال المراحل الأولى من مشروعه. واتضح أنها كانت تعتقد أنه سيتخلى عنه لو لم يلق اهتماما أو محاولة لرده. كانت تقول إنه يفعل ذلك فقط من أجل لفت الأنظار إليه.
وبالتأكيد كان كذلك، لم يلفت أنظار أشقائه وشقيقاته - الذين كانوا يتجنبون النظر من النوافذ على ذلك الجانب من منزلهم - بقدر ما لفت أنظار الجيران، بل وأهل البلدة الذين كانوا يمرون بعرباتهم خصوصا لمشاهدته في أيام الأحد. لقد كانت حقيقة أنه قد حصل على وظيفة بعيدا عن نطاق المنزل، وأنه كان يتناول طعامه في الفندق على الرغم من أنه لم يقدم قط على تناول شراب هناك، وأنه قد انفصل فعليا عن عائلته؛ مثار حديث واسع النطاق؛ فقد كان مثل هذا الانفصال عن كل ما كان معروفا عن بقية العائلة بمنزلة فضيحة (كان رحيل دنكان عن المنزل حينئذ قد طواه النسيان بطريقة أو بأخرى). كان الناس يتساءلون عما حدث، من وراء ظهر فوريست في البداية، ثم صاروا يسألونه مباشرة.
هل تشاجرتم؟ كلا.
حسنا، حسنا. إذن، هل يخطط للزواج؟
لو كانت هذه دعابة، فإنه لم يكن يعتبرها كذلك. لم يقل لا أو نعم أو ربما.
لم تكن ثمة مرآة في منزل العائلة، عدا تلك المرآة الصغيرة المموجة التي كان الرجال يحلقون أمامها؛ فقد كان بإمكان الشقيقات أن تسأل كل منهن الأخرى عن مظهرها. أما في الفندق، فكانت توجد مرآة ضخمة خلف طاولة الدفع، وكان بإمكان فوريست أن يرى فيها أنه شاب على قدر كاف من الوسامة في أواخر العقد الثالث من عمره، أسود الشعر، عريض المنكبين، طويل القامة. (في الواقع كانت الشقيقات أبهى وأكثر حسنا من الأشقاء، ولكن لا أحد كان ينظر إليهن عن كثب بما يكفي لكي يدرك ذلك؛ وكان هذا نتاج سلوكهن وأسلوبهن في الحياة.)
فلماذا إذن يفترض ألا يفكر في الزواج، إن لم يكن قد فكر في ذلك بالفعل؟
في ذلك الشتاء كان يعيش وحيدا مع الجدران الخشبية التي تفصله عن الطقس بالخارج، ومع الألواح الخشبية المؤقتة التي كانت تغلق المساحات المخصصة للنوافذ. وبنى الفواصل الداخلية والسلالم والخزانات ووضع ألواح الأرضيات النهائية المصنوعة من خشب البلوط والصنوبر.
في الصيف التالي، قام ببناء المدخنة الطوبية لتحل محل أنبوب الموقد البارز من السقف. وغطى البناء بأكمله بطوب أحمر جديد منسقا إياه معا بإتقان كأي عامل متخصص في هذا. وركبت النوافذ، وأزيلت الأبواب الخشبية وحلت محلها أبواب جاهزة في الأمام والخلف. وركب موقد حديث، له فرن للخبز وفرن للتسخين وخزان لتسخين الماء، وركبت الأنابيب في المدخنة الجديدة. وكانت المهمة الكبيرة المتبقية هي تغطية الجدران الداخلية بالجص، وكان مستعدا للقيام بذلك حين يزداد الطقس برودة. في البداية وضع طبقة من الجص الخشن، ثم وضع الجص الأملس فوقها بدقة. كان يدرك أن ورق الحائط يجب أن يغطي كل ذلك، ولكنه لم يفكر في كيفية اختياره. في غضون ذلك، كانت كل الغرف تبدو زاهية على نحو رائع، حيث كان الجص يلمع بالداخل بينما الثلج بالخارج بلا لمعان.
كانت الحاجة إلى مفروشات بمنزلة مفاجأة صادمة له. ففي المنزل حيث كان يعيش مع أشقائه وشقيقاته كان الطراز الأسبرطي هو السائد. فلا وجود لستائر، فقط ستائر خشبية ذات لون أخضر داكن، وأرضيات دون سجاجيد، وكراسي صلبة، ولا وجود لأي أرائك، مع وجود أرفف بدلا من الخزانات. كانت الثياب تتدلى من خطافات مثبتة خلف الأبواب بدلا من وضعها داخل خزانات الملابس، وكانوا يعتبرون الملابس التي تزيد عن سعة الخطافات نوعا من الإسراف. لم يكن يرغب بالضرورة في استنساخ هذا النمط، ولكن خبرته بالبيوت الأخرى كانت محدودة، حتى إنه لم يعرف كيف يمكنه التعامل مع الأمر بطريقة أخرى. ولم يكن في متناوله أن يجعل المكان يبدو كالفندق، ولم تكن تلك رغبته.
واكتفى في الوقت الراهن بالأشياء القديمة الموجودة بالحظيرة؛ كرسي فقدت منه عارضتان، بعض الأرفف القديمة، طاولة كان الدجاج ينتف ريشه عليها، سرير صغير وضعت عليه أغطية الخيول كمرتبة. وقد وضع كل ذلك في نفس الغرفة التي يوجد بها الموقد، فيما تركت الغرف الأخرى جرداء خاوية على عروشها. •••
أصدرت سوزان، حين كانوا جميعا يعيشون معا، أوامرها بأن على ماجي أن تهتم بثياب ساندي، فيما تهتم ليزي بملابس فوريست، وآني بملابس سايمون، فيما عليها هي الاهتمام بثياب جون. وكان هذا يعني كيها وإصلاحها ورفو الجوارب، وغزل الأوشحة والصديريات، وحياكة قمصان جديدة حسبما تقتضي الحاجة. لم يكن منوطا بليزي أن تستمر في الاعتناء بملابس فوريست - أو أن تكون لها أي صلة به على الإطلاق - بعد رحيله. ولكن، حان وقت - بعد خمس أو ست سنوات من اكتمال منزله - قررت فيه أن تعرف كيف يدبر أموره. كانت سوزان مريضة في ذلك الوقت، وأصابها وهن شديد جراء إصابتها بأنيميا خبيثة، ومن ثم لم تكن قواعدها تطبق دائما.
ترك فوريست عمله بمشغل سجح الألواح الخشبية، وكان السبب في ذلك، حسبما قال الناس، أنه لم يستطع تحمل سهام السخرية التي كانت توجه إليه بشأن مسألة الزواج. فقد راجت على الألسنة القصص والأقاويل حول ذهابه إلى تورونتو بالقطار، وجلوسه في محطة يونيون ستيشن طوال يوم كامل باحثا عن امرأة تنال قبوله دون جدوى. وتناقلت كذلك قصة عن مراسلته لإحدى وكالات الزواج في الولايات المتحدة، واختبائه في قبوه حين جاءت إحدى السيدات البدينات تطرق بابه. وكان زملاؤه الأصغر منه سنا في المشغل يؤذون مشاعره بصفة خاصة بنصائحهم المستحيلة.
حصل على وظيفة حارس بالكنيسة المشيخية، حيث لم يكن مضطرا لرؤية أي شخص سوى القس أو أحد الأعضاء الفضوليين للمجلس القائم على شئونه من آن لآخر؛ ولم يكن أي من هؤلاء من النوعية التي تبدي ملاحظات وقحة أو شخصية. •••
اجتازت ليزي الحقل في عصر أحد أيام الربيع، وطرقت باب منزله دون مجيب، غير أنه لم يكن مغلقا؛ ما دفعها للدخول.
لم يكن فوريست نائما، كان مستلقيا بكامل ثيابه على السرير واضعا ذراعيه خلف رأسه.
قالت ليزي: «هل أنت مريض؟» إذ لم يكن أي منهم يستلقي خلال النهار هكذا ما لم يكن مريضا.
كان جوابه بالنفي. لم يعنفها لدخولها بلا استئذان، ولكنها لم تكن كذلك موضع ترحيب منه.
كانت الرائحة المنبعثة من المنزل كريهة. لم يوضع أي ورق حائط على الجدران قط، وكان لا يزال هناك أثر لرائحة جص خام، إلى جانب رائحة أغطية الخيول ورائحة ملابس لم تغسل لفترة طويلة، إن كانت قد غسلت من الأساس. وكذا رائحة دهن قديم في المقلاة وأوراق شاي مرة في القدر (فقد كان فوريست قد اتخذ تلك العادة المرفهة لشرب الشاي بدلا من مجرد الاكتفاء بالماء الساخن). كانت النوافذ غائمة في شمس الربيع والذباب الميت يرقد على حوافها.
قال فوريست: «هل أرسلتك سوزان؟»
قالت ليزي: «كلا، إنها ليست على ما يرام.»
لم يكن لديه أي شيء ليقوله في هذا الشأن: «هل أرسلك سايمون؟» «لقد جئت من تلقاء نفسي.» وضعت ليزي الصرة التي كانت تحملها، وراحت تبحث عن مكنسة، ثم قالت وكأنه قد سأل: «نحن جميعا بخير في المنزل، فيما عدا سوزان.»
كانت الصرة تحوي قميصا جديدا من القطن الأزرق، ونصف رغيف من الخبز وقطعة من الزبد الطازج. كان كل الخبز الذي تصنعه الشقيقات رائعا، وكان الزبد طيب المذاق؛ لكونه مصنوعا من حليب أبقار جيرزي. وكانت ليزي قد أخذت تلك الأشياء دون استئذان.
كانت هذه بداية نزعة جديدة تتكون لدى العائلة. استجمعت سوزان عافيتها حين عادت ليزي إلى المنزل بما يكفي لكي تخبرها بأن عليها الاختيار بين الرحيل أو البقاء. فقالت ليزي إنها سترحل، ولكن لدهشة سوزان والجميع، طلبت نصيبها من المقتنيات الموجودة بالمنزل. فصل سايمون ما تعين أن تحصل عليه، بعدالة بالغة، وكانت تلك هي الطريقة التي أثث بها منزل فوريست أخيرا ولو على نحو ضئيل. لم يلصق ورق حائط أو تعلق ستائر، ولكن أصبح كل شيء يشع نظافة وبريقا. طلبت ليزي بقرة وستا من الدجاج وخنزيرا لتربيتها، وشرع فوريست في العمل بالنجارة مرة أخرى، وبنى حظيرة بمربطين ومخزنا للتبن. وعند وفاة سوزان، اكتشفوا أنها مدخرة مبلغا كبيرا من المال، وخصص لهما نصيب من ذلك المبلغ أيضا. وتم شراء حصان وعربة، وتزامن ذلك تقريبا مع المرة الأولى التي أصبحت فيها السيارات أمرا معتادا على هذه الطرق. ولم يعد فوريست يذهب إلى عمله سيرا على الأقدام. وفي ليالي السبت كان هو وليزي يستقلان العربة معا إلى البلدة للتسوق. وأصبح لليزي السيطرة والهيمنة في منزلها كأي امرأة متزوجة.
في إحدى ليالي عيد القديسين - وكان عيد القديسين في تلك الأيام وقتا لتدبير الحيل والمكائد الخطيرة أكثر من كونه مناسبة لإغداق الصدقات - تركت صرة على باب منزل ليزي وفوريست. كانت ليزي أول من فتحت الباب في الصباح. كانت قد نسيت عيد القديسين الذي لم يكن أي من أفراد العائلة يعيره أي انتباه، وحين رأت شكل الصرة صرخت بصوت أقرب إلى الدهشة منه إلى الاستياء والضيق. في لفافاتها الصوفية المتهرئة رأت ما أشبه بطفل رضيع، وكانت قد سمعت من قبل عن رضع يتركون أمام عتبات أبواب الأشخاص الذين قد يعتنون بهم. وخطر لها للحظة أن هذا هو حتما ما حدث معها، وأنها قد اصطفيت من دون الآخرين لهذه الهدية وهذا الواجب الإنساني. حينئذ أقبل فوريست من خلف المنزل ليراها تنحني وتلتقط الصرة، وعلى الفور عرف ما بها، مثلما عرفت هي أيضا بمجرد أن تحسستها. كانت عبارة عن كومة من القش ملفوفة في خيش مربوط بحبال بحيث تشبه طفلا رضيعا، وكان الوجه مرسوما بأحد ألوان الشمع في الموضع المناسب على الخيش لإظهار وجه طفل رضيع.
أدرك فوريست المعنى الضمني لذلك، لكونه أقل براءة وسذاجة من ليزي، فانتزع الصرة منها ومزقها إربا وألقى بقطعها الممزقة داخل الموقد.
ارتأى أن هذا كان شيئا من الأفضل ألا تسأل عنه ليزي أو حتى تورد له ذكرا في المستقبل، ولم تفعل مطلقا. ولم يذكره هو أيضا، وبقيت القصة مجرد شائعة ومثارا للتساؤل والتدبر من قبل من تناقلوها. ••• «لقد كرس كل منهما حياته للآخر»، هكذا قالت أمي التي لم يسبق لها أن قابلتهما مطلقا، ولكنها بصفة عامة كانت تشجع العلاقات الأخوية بين الشقيقات والأشقاء غير المدنسة بالجنس.
كان أبي قد رآهما في الكنيسة حين كان طفلا، وربما يكون قد زارهما بضع مرات مع والدته. فقد كانا أبناء عمومة من الدرجة الثانية لوالده، ولم يكن يعتقد أنهما قد سبق لهما أن زارا منزل والديه.
لم يكن معجبا بهما، ولم يعتب أيضا عليهما، بل كان مندهشا بشأنهما.
كان يقول: «إذا تأمل المرء ما فعله أسلافهما والشجاعة التي احتاجوها لكي يبادروا ويعبروا المحيط، فسيتساءل ما الذي حطم معنوياتهما بهذه السرعة الشديدة.»
العمل من أجل كسب العيش
حين كان أبي في الثانية عشرة من عمره وقد اجتاز ما استطاع اجتيازه من سنوات دراسة في المدرسة الريفية، اتجه إلى البلدة لخوض مجموعة من الاختبارات، كانت تسمى اختبارات القبول، ولكنها كانت تعرف عموما باسم «القبول». كانت كلمة «القبول» تعني حرفيا القبول بالمدرسة الثانوية، ولكنها كانت تعني أيضا، على نحو غير محدد، الدخول إلى العالم، عالم الحياة المهنية مثل مجال الطب أو المحاماة أو الهندسة أو التدريس. كان الصبية القرويون يدخلون ذلك العالم في السنوات السابقة للحرب العالمية الأولى على نحو أسهل من الجيل التالي لهم. فقد كانت تلك الفترة فترة ازدهار ورخاء في مقاطعة هورون وفترة توسع في البلاد. كان ذلك في عام 1913، ولم يكن عمر البلاد قد تجاوز خمسين عاما بعد.
اجتاز أبي اختبارات القبول بتقديرات مرتفعة والتحق بالمدرسة التكميلية في بلدة بليث. كانت المدارس التكميلية تمنح أربع سنوات من الدراسة الثانوية دون السنة النهائية التي كانت تسمى المدرسة العليا أو السنة الخامسة؛ إذ كان عليك أن تذهب إلى بلدة أكبر من أجل ذلك. كان يبدو وكأنه في طريقه لتحقيق ذلك.
خلال الأسبوع الأول لأبي في المدرسة التكميلية، سمع المعلم يقرأ المقطع الشعري التالي:
Liza Grayman Ollie Minus,
We can make Eliza blind.
Andy Parting, Lee Beehinus.
Foo Prince in the Sansa Time.
اعتاد أن يقرأ هذا المقطع علينا كدعابة، ولكن الحقيقة أنه لم يسمعه كدعابة. ففي نفس الوقت تقريبا، دخل إلى المكتب وطلب دفتر ملاحظات لمادة العلوم قائلا:
Signs Snow Paper
والتي كان النطق الصحيح لها
Science notepaper .
وسرعان ما دهش عندما رأى القصيدة مكتوبة على السبورة:
Lives of Great Men all remind us,
We can make our lives sublime.
And, departing, leave behind us
Footprints on the Sands of Time.
وترجمة تلك الأبيات هي:
حياة العظماء تذكرنا جميعا،
أن في وسعنا الارتقاء بحياتنا.
والرحيل، يخلف وراءنا
آثارا على رمال الزمن.
لم يكن يأمل أن يتم مثل هذا التوضيح المنطقي، ولم يكن ليحلم بأن يطلبه؛ فقد كان يرغب بشدة في أن يمنح الطلاب في المدرسة الحق في أن تكون لهم لغة غريبة أو منطق غريب. لم يطلب منهم أن يتحروا المنطق في كلماته؛ فقد كان لديه لمحة من الكبرياء ربما كانت تبدو أقرب إلى الإذعان، وهو ما جعله خائفا وحساسا وعلى استعداد للانسحاب. أعرف ذلك تمام المعرفة؛ فقد صنع هناك لغزا، صنع هيكلا عدائيا من القواعد والأسرار تجاوز حدود ما كان موجودا بالفعل. كان يشعر عن قرب بحس السخرية القاسي، وكان يبالغ في تقدير المنافسة، وحينها خطر له التحفظ العائلي والحكمة الريفية ليقولا له: ابق بعيدا.
في تلك الأيام كان الناس في البلدة بوجه عام يتعالون على القرويين وينظرون إليهم على أنهم أكثر منهم اتصافا ببطء الفهم وانعقاد اللسان والهمجية، وأكثر انصياعا نوعا ما رغم ما لهم من قوة. وكان القرويون يرون أن قاطني البلدات يتمرغون في الحياة السهلة المرفهة، ومن غير المحتمل أن ينجحوا في تجاوز المواقف التي تتطلب الجلد والاعتماد على النفس والكد والاجتهاد. كانوا يؤمنون بذلك على الرغم من حقيقة أن الساعات التي يقضيها الرجال في العمل داخل المصانع أو المتاجر كانت طويلة والأجور متدنية، على الرغم من حقيقة أن العديد من البيوت في البلدة ليس بها ماء جار أو مراحيض دافقة أو كهرباء. ولكن الناس في البلدة كانوا يحظون بإجازة في أمسيات أيام السبت أو الأربعاء وكامل يوم الأحد، وكان هذا كفيلا بألا يكونوا جلدين. أما المزارعون، فلم يحظوا ولو بيوم إجازة واحد في حياتهم، ولا حتى من ينتمون إلى الكنيسة المشيخية الاسكتلندية؛ فحتى الأبقار لا تحصل على راحة يوم الأحد.
حين كان أهل الريف يأتون إلى البلدة بغرض التسوق أو الذهاب إلى الكنيسة، فغالبا ما كان يبدو عليهم الخجل والرسمية الشديدة. ولم يكن أهل البلدة يدركون أن هذا قد ينظر إليه باعتباره سلوكا يدل على السمو والترفع؛ السلوك الذي يسعى صاحبه من ورائه إلى عدم السماح لأحد منهم بأن يجعل منه أضحوكة. ولم يكن المال يحدث فارقا كبيرا. وربما كان المزارعون يحافظون على مخزونهم من الكبرياء والحذر في وجود المواطنين الذين لهم سيطرة عليهم.
قال أبي فيما بعد إنه قد التحق بالمدرسة التكميلية في سن صغيرة جدا، لم تمكنه من معرفة ما كان يفعل، وإنه كان عليه أن يبقى هناك، وكان عليه أن يجعل من نفسه شيئا ذا قيمة. ولكنه قال إن هذا كان أمرا شكليا تقريبا، كما لو أنه لم يكن بالأمر الذي اهتم به كثيرا. ولم يكن الحال وكأنه قد ترك المنزل مع أول إشارة إلى أن ثمة أشياء لم يكن يفهمها. لم يكن واضحا تماما فيما يتعلق بالمدة التي مكثها هناك. ربما ثلاثة أعوام وجزء من الرابع، أو عامان وجزء من الثالث. ولم يترك المدرسة فجأة؛ فلم تكن المسألة مسألة الذهاب إلى المدرسة في أحد الأيام ثم التخلف عن الحضور في اليوم التالي وعدم الذهاب مجددا. بل بدأ في قضاء المزيد والمزيد من الوقت في الأحراش ووقتا أقل في المدرسة، حتى قرر والداه أنه لا جدوى من التفكير في إرساله إلى بلدة أكبر لقضاء عامه الدراسي الخامس، وأنه ليس ثمة أمل كبير في أن يلتحق بالجامعة أو يدخل الحياة المهنية. كان بإمكانهما تحمل نفقات ذلك - وإن لم يكن بسهولة - ولكن كان واضحا أن تلك لم تكن رغبته. ولم يكن بالإمكان اعتبار ذلك خيبة أمل كبيرة؛ فقد كان ابنهما الوحيد، وكانت المزرعة ستئول إليه.
لم يكن يوجد ريف بري في مقاطعة هورون حينذاك أكثر مما يوجد الآن. ربما كانت مساحته أقل؛ فقد قطعت أشجار المزارع تماما في الفترة ما بين عامي 1830 و1860، حين كان يتم افتتاح منطقة هورون. وجرف العديد من الجداول المائية؛ وكان الشيء التالي الذي يجب القيام به هو تعديلها لكي تجري مثل القنوات المحددة المسار فيما بين الحقول. كان المزارعون الأوائل يكرهون رؤية منظر أي شجرة، ويعجبهم منظر الأرض الزراعية المنبسطة. وكان الأسلوب الذكوري في التعامل مع الأرض إداريا وديكتاتوريا. النساء وحدهن هن من كن مسموحا لهن بالاعتناء بالطبيعة وعدم التفكير دوما بشأن ترويضها وإنتاجيتها، فقد كانت جدتي، على سبيل المثال، معروفة بأنها قد أنقذت صفا من أشجار القيقب الفضي بطول الشارع الموجود به منزلنا، كانت هذه الأشجار تنمو بجوار حقل زراعي، وكانت تزداد ضخامة وهرما، حتى إن جذورها كانت تتداخل مع عملية الحرث، وكانت تظلل جزءا أكبر مما ينبغي من المحصول. فخرج جدي وأبي في صباح أحد الأيام وعزما على قطع أولى هذه الأشجار. ولكن جدتي رأت من نافذة المطبخ ما كانا على وشك أن يفعلاه، وأسرعت وهي ترتدي مريلتها وعارضتهما على نحو غاضب، ووبختهما، ومن ثم اضطرا في النهاية لحمل فأسيهما ومنشار القطع المتعارض الخاص بهما ومغادرة المكان. وبقيت تلك الأشجار وأفسدت المحصول على حافة الحقل حتى جاء شتاء عام 1935 الفظيع وأجهز عليها.
ولكن القانون كان يلزم المزارعين بتخصيص قطعة أرض في الجزء الخلفي من مزارعهم لزراعة الأشجار. وكان بإمكانهم تقطيع الأشجار هناك بغرض الاستخدام والبيع على حد سواء. وبالطبع كان الخشب هو محصولهم الأول؛ فاستخدم خشب الدردار التوماسي في صناعة ضلوع السفن الهيكلية، والصنوبر الأبيض في صناعة صواريها، حتى إنه لم يعد متبقيا أي من هذين النوعين من الأخشاب إلا فيما ندر. وفي ذلك الحين، صارت هناك حماية قانونية لما تبقى من أشجار الحور والدردار والقيقب والبلوط والزان والأرز والشوكران.
عبر الأرض المخصصة لزراعة الأشجار - وتسمى الأحراش - في الجزء الخلفي من مزرعة جدي، كان يتدفق جدول بليث، الذي كان قد جرف منذ زمن طويل حين قطعت أشجار المزرعة لأول مرة. جرفت الأرض ثم كونت ضفة عالية نمت عليها أجمات كثيفة من أشجار الأرز. كان هذا حيثما بدأ أبي الصيد بالشراك. فقد ترك المدرسة وبدأ يقتحم عالم صيد حيوانات الفراء. كان يمكنه تتبع جدول بليث لعدة أميال في أي من الاتجاهين حتى منبعه في بلدة جري أو المكان الذي يصب فيه في نهر ميتلاند الذي يصب في بحيرة هورون. في بعض الأماكن - على الأخص في قرية بليث - كان الجدول يصير مرئيا للعيان لبعض الوقت، ولكن معظمه كان يجري عبر الأجزاء الخلفية من المزارع، حيث تصطف الأحراش على كلا جانبيه، ومن ثم كان من الممكن أن تتبعه دون أن يقع ناظريك على المزارع، والأرض المقطوع شجرها، والطرق الممهدة، والأسوار؛ كان من الممكن أن تتخيل أنك وسط الغابة مثلما كانت قبل مائة عام مضت، ولمئات الأعوام قبل ذلك.
كان أبي قد قرأ كثيرا من الكتب في ذلك الوقت، الكتب التي وجدها في المنزل وفي مكتبة بليث وفي مكتبة مدرسة الأحد. كان قد قرأ كتبا لفينيمور كوبر، واستوعب الخرافات وأشباه الخرافات عن البرية التي لم يكن معظم الصبية القرويين من حوله يعرفون عنها شيئا، لما كان قليلون منهم فقط هم من كانوا يمارسون القراءة. كان معظم الصبية الذين أشعلت خيالاتهم نفس الأفكار التي كان يتبناها يعيشون في المدن، وإذا كانوا أثرياء بالقدر الذي يسمح لهم بالسفر شمالا كل صيف مع عائلاتهم، فقد كانوا يذهبون في رحلات بالقوارب وفيما بعد في رحلات لصيد الأسماك والحيوانات. وإذا كانت عائلاتهم أثرياء بحق، فإنهم كانوا يجوبون أنهار الشمال الأقصى بصحبة مرشدين من الهنود. كان الناس الذين يسعون لهذه التجربة في البرية يمرون بسياراتهم على ريفنا دون أن يلاحظوا وجود ولو جزء من البرية هناك.
ولكن الصبية المزارعين من مقاطعة هورون، الذين كانوا يعلمون بالكاد بشأن هذا الريف الكبير العميق الذي يشكل جزءا من منطقة الدرع الكندي الذي يرجع إلى عصر ما قبل الكمبري والأنهار البرية؛ منجذبون إلى الأحراش المنتشرة بطول الجداول المائية، على الأقل البعض منهم لفترة؛ حيث كانوا يصيدون الأسماك والحيوانات ويشيدون الطوافات وينصبون الأشراك. وحتى لو لم يكونوا قد قرءوا كلمة واحدة عن ذلك النوع من الحياة، فقد كانوا على الأرجح لهم مغامراتهم فيها. ولكن سرعان ما كانوا يهجرون تلك الحياة لكي يشرعوا في عمل حياتهم الواقعي الشاق كمزارعين.
وكان من جملة الفروق بين المزارعين آنذاك، والآن، أنه في تلك الأيام لم يكن أحد يتوقع أن يلعب الاستجمام دورا منتظما في الحياة الريفية.
ولم يتخل أبي، بوصفه صبيا قرويا لديه ذلك الإدراك الزائد، سواء الملهم أو الرومانسي (لم يكن أبي ليكترث لتلك الكلمات)، والتعطش الذي غرسه فيه فينيمور كوبر؛ عن تلك المغامرات الشبابية في سن الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة أو العشرين. وبدلا من ترك الذهاب للأحراش، اعتاد الأمر على نحو أكثر مثابرة وجدية. وبدأ الآخرون يتحدثون عنه، وينظرون إليه كصائد بالشراك أكثر منه مزارعا شابا، وكشاب محب للعزلة وغريب الأطوار بعض الشيء، وإن لم يكن شخصا محل خوف أو بغض بأي حال. فقد كان يبتعد تدريجيا عن حياة المزارع، مثلما ابتعد من قبل عن التعليم والدخول إلى الحياة المهنية. كان يقترب نحو حياة ربما لم يستطع بلورتها في خياله بوضوح، حيث إنه كان على دراية أفضل بالأشياء التي لم يكن يريدها عن تلك التي كان يريدها.
كيف كان يمكن تدبير الحياة داخل الأحراش البعيدة عن البلدات، على حافة المزارع؟
حتى هنا، حيث كان الرجال والنساء في أغلب الأحيان يرضون بما يقسم لهم أيا كان، تمكن بعض الرجال من تدبير الحياة وإدارتها. حتى في هذه القرية المستأنسة كان هناك بعض الزاهدين، بعض الرجال الذين ورثوا مزارع ولم يبقوا عليها، أو كانوا مجرد واضعي يد جاءوا من أماكن لا يعلمها إلا الرب. كانوا يصيدون الأسماك والحيوانات ويرتحلون، وكانوا يرحلون ثم يعودون، أو يرحلون بلا عودة؛ على عكس المزارعين الذين كانوا كلما غادروا مواضعهم ذهبوا في عربات ذات خيول أو زلاجات أو بالسيارة كما هو سائد الآن، للقيام بمهام معينة في وجهات محددة.
كان يتكسب من عمليات الصيد بالشراك التي يقوم بها؛ إذ كان من الممكن لبعض جلود الحيوانات التي يصطادها أن تجلب له ما يعادل أجر عمل لمدة أسبوعين في مجموعة لدرس الحنطة. ومن ثم لم يكن بإمكان من في المنزل إبداء أي تذمر مما كان يفعله؛ فقد كان يدفع نفقات إقامته، وكان يساعد والده حين كانت تستدعي الضرورة. لم يكن هو ووالده يتحدثان معا قط؛ فقد كان من الممكن أن يعملا طوال الصباح في قطع الأخشاب في الأحراش دون أن ينبسا بكلمة، إلا حين يضطران للحديث عن العمل. لم يكن لوالده اهتمام بالأحراش إلا بوصفها منطقة للأشجار . كانت بالنسبة إليه أشبه بحقل من الشوفان مع فارق أن المحصول كان حطبا.
كانت والدته أكثر فضولا. كانت تسير نحو الأحراش في عصر أيام الأحد، وكانت امرأة طويلة ذات قامة منتصبة ومهيبة الطلة، ولكن كانت لها مشية ذات خطى واسعة تشبه مشية الصبية؛ حيث كانت تلملم تنورتها وتحرك قدميها بخبرة وتمكن فوق الأسوار. وكانت خبيرة بالأزهار البرية وثمار التوت، كما كان بإمكانها أن تخبرك باسم أي طائر من تغريده.
أطلعها على شراكه حيث كان يصيد الأسماك، وانزعجت لهذا الأمر؛ لأنه كان من الممكن أن يوافق وقوع الأسماك في الشراك يوم الأحد، وهذا أمر مكروه دينيا؛ فقد كانت غاية في الصرامة بشأن جميع القواعد والالتزامات الدينية الخاصة بالكنيسة المشيخية. وقد كان لهذه الصرامة قصة غريبة؛ لم تكن تنشئتها مشيخية على الإطلاق، بل عاشت طفولة وصبا تملؤهما السعادة وعدم التشدد كأحد رعايا الكنيسة الأنجليكانية، والمعروفة أيضا باسم كنيسة إنجلترا. لم يكن ثمة الكثير من الأنجليكانيين في ذلك الجزء من البلاد، وأحيانا ما كانوا يعتبرون أقرب إلى الرومان الكاثوليك، وأقرب أيضا للملحدين. فقد كانت عقيدتهم الدينية غالبا ما تبدو في مجملها للآخرين عبارة عن مجموعة من الانحناءات والردود، تتخللها عظات قصيرة، وتفسيرات سهلة، وقساوسة دنيويين، والكثير من الأبهة والعبث. كانت عقيدة تروق لوالدها، الذي كان أيرلنديا محبا للصحبة، وقاصا، وشاربا للخمر. ولكن حين تزوجت جدتي أغرقت نفسها في عقيدة زوجها المشيخية، وأصبحت أكثر تشددا من الكثيرين ممن نشئوا فيها. لقد كانت أنجليكية المولد، خاضت سباق الاستقامة للعقيدة المشيخية مثلما ولدت متشبهة بالصبية، وخاضت سباق ربة المنزل الريفية، بكل طاقتها. ربما تساءل الناس هل فعلت هذا بدافع الحب؟
لم يكن أبي وهؤلاء الذين كانوا يعرفونها جيدا يعتقدون ذلك. فلم يكن ثمة توافق بينها وبين جدي على الرغم من أنهما لم يكونا يتشاجران. فقد كان هو متأملا صامتا، وكانت هي مفعمة بالحيوية واجتماعية. كلا، لم يكن ما فعلته من أجل الحب، بل من أجل الكبرياء؛ لكيلا تكون في موقف المهزوم أو تنتقد على أي نحو ، ولكيلا تدع أحدا يقول إنها قد ندمت على قرار اتخذته، أو أرادت أي شيء لم تستطع نيله.
بقيت على صداقتها مع ولدها على الرغم من مشكلة أسماك الأحد التي لم تكن تطهوها. كانت مهتمة بجلود الحيوانات التي كان يريها إياها، وكانت تسمع عن قدر ما يحصل عليه من مال مقابلها. كانت تغسل ملابسه ذات الرائحة الكريهة، التي كان مصدرها طعم الأسماك الذي كان يحمله، وأيضا الأحشاء والفراء. من الممكن أن تكون ناقمة على ذلك، ولكنها كانت متسامحة معه كما لو كان ابنا أصغر سنا بكثير مما هو عليه. وربما كان بالفعل يبدو أصغر في عينيها، بأشراكه وجولاته عبر الجدول المائي، وانطوائه؛ فلم يكن أبدا يسعى وراء الفتيات، وفقد تدريجيا الاتصال بأصدقاء الطفولة الذين كانوا يفعلون ذلك. وهي لم تكترث لذلك. ربما يكون سلوكه قد ساعدها على تحمل خيبة الأمل التي شعرت بها بسبب عدم استمراره في المدرسة، وكونه لن يصبح طبيبا أو قسا. ربما كان بمقدورها أن تتظاهر بأنه ما زال يمكنه أن يفعل ذلك، وأن الخطط القديمة - التي وضعتها من أجله - لم تنس، ولكن أرجئت فقط. على الأقل لم يتحول إلى مجرد مزارع صامت، ولم يصبح نسخة من والده.
أما من جهة جدي، فلم يدل بأي رأي، ولم يقل إن كان موافقا أو رافضا. فقد كان له طبع يقوم على الانضباط والصمت. لقد ولد في موريس واستقر فيها ليصبح مزارعا، وكان عضوا في حزب الأحرار الكندي وأحد أتباع الكنيسة المشيخية. ولد معارضا لكنيسة إنجلترا، ومجموعة ميثاق العائلة، والأسقف سترون والحانات، ومؤيدا للحق العام في الانتخاب (ولكن ليس للنساء)، والمدارس المجانية، والحكومة المسئولة، وجماعة تحالف يوم الرب. ولد ليعيش وفقا لنظم قاسية وكيانات رافضة.
انحرف جدي بعض الشيء؛ فقد تعلم العزف على الكمان، وتزوج من الفتاة الطويلة القامة، المتقلبة المزاج، الأيرلندية ذات العينين المختلفتين في اللون. وبعد أن فعل ذلك، انسحب من الحياة، وظل لما تبقى من حياته مخلصا ومنظما وهادئا. وكان هو الآخر محبا للقراءة. فكان في الشتاء ينتهي من أداء جميع أعماله - على النحو الأمثل - ثم يعمد للقراءة. لم يكن يتحدث قط عما كان يقرؤه، ولكن كان كل من حوله يعرفون ذلك. ولقد كانوا يحترمونه ويوقرونه لذلك. وهذا أمر غريب؛ إذ كانت هناك امرأة تحب القراءة أيضا، وكانت تستعير كتبا من المكتبة طوال الوقت، ولم يكن أحد يكن لها أدنى قدر من الاحترام؛ فقد كان الحديث دائما يدور حول كم الغبار المتراكم تحت أسرتها، وعن تناول زوجها للعشاء باردا. ربما كان ذلك لأنها كانت تقرأ الروايات والقصص، فيما كانت الكتب التي يقرؤها جدي كبيرة ورصينة. كانت كذلك، حسبما كان يتذكر الجميع، ولكن لم يكن أحد يتذكر عناوينها. كان يستعير الكتب من المكتبة، التي كانت في ذلك الوقت تضم مؤلفات بلاكستون، وماكولي، وكارلايل، ولوك، وكتاب هيوم «تاريخ إنجلترا». وماذا عن كتاب «بحث في الفهم الإنساني»؟ وماذا عن فولتير؟ كارل ماركس؟ من الممكن أن يكون قد قرأ لهؤلاء.
والآن، ترى لو كانت السيدة التي تتراكم كتل الغبار تحت أسرتها تقرأ تلك الكتب الرصينة، فهل كانت ستنال احترام الناس؟ لا أظن ذلك. لقد كانت النساء هن من قيمنها، وأحكام النساء على النساء كانت أكثر قسوة من أحكام الرجال على النساء. كذلك لا بد من تذكر أن جدي كان ينتهي من أداء عمله أولا؛ فكانت أكداس الخشب لديه منظمة وإسطبله منسقا، فلم تؤثر القراءة على سلوكه على أي نحو.
ثمة شيء آخر كان يقال عن جدي، وهو أنه كان على قدر من الثراء. ولكن الثراء لم يكن شيئا يسعى وراءه، أو يفهم، في تلك الأيام مثلما هو الآن. أذكر جدتي حين قالت لي: «حين كنا نحتاج إلى القيام بشيء - حين ذهب والدك إلى بليث للالتحاق بالمدرسة وكان في حاجة إلى كتب وملابس جديدة وما إلى ذلك - كنت أقول لجدك: حسنا، علينا أن نربي عجلا آخر أو شيئا من هذا القبيل ليدر علينا دخلا إضافيا.» ولكن، يبدو أنهما لو عرفا كيف يأتيان بهذا الدخل الإضافي، لكان في وسعهما أن يتحصلا عليه دوما.
وهذا يعني أنهما دوما في حياتهما العادية لم يكونا يتكسبان من المال ما كان في وسعهما تكسبه فعلا؛ فلم يكونا يستغلان طاقاتهما وجهدهما لأقصى درجة. لم ينظرا إلى الحياة من هذا المنطلق، وكذا لم يرياها من منظور ادخار ولو جزءا من طاقاتهما لأوقات السراء أسوة ببعض جيرانهما الأيرلنديين.
إذن كيف كانا يريان الأمر؟ أظن أنهما في الغالب كانا يريانه كطقس، موسمي وجامد، شبيه جدا بأعمال المنزل. ربما لم تكن تستهويهما الأمور التي من شأنها أن تجعل حياتهما أيسر، مثل محاولة كسب المزيد من المال أو رفع المكانة وتحسين وضعيهما.
هذا تغير في المنظور عن منظور الرجل الذي ذهب إلى إلينوي. لعله كان تأثيرا ممتدا من هذا التراجع على سلالته الأكثر خجلا أو الأكثر تأملا.
لا بد أن هذه هي الحياة التي كان أبي يراها في انتظاره؛ حياة لم تكن جدتي آسفة تماما أن وجدته يتجنبها، على الرغم من خضوعها وإذعانها الشخصي لها.
ثمة تناقض واحد هنا، فحين تكتب عن أناس حقيقيين، فإنك دائما ما تكون في مواجهة تناقضات؛ لقد كان جدي صاحب أول سيارة على طريق موريس الثامن، كانت من طراز جراي-دورت، وامتلك أبي في فترة المراهقة راديو ذا مكشاف بلوري، شيئا كان كل الصبية يريدونه. بالطبع قد يكون قد دفع ثمنه من ماله الخاص.
ربما يكون قد دفع ثمنه من المال الذي كان يتحصل عليه من الصيد.
كانت الحيوانات التي يصيدها أبي بالشراك هي فئران المسك، والمنك، والخر، ومن آن لآخر الوشق الأحمر، إلى جانب ثعلب الماء وابن عرس والثعالب. كان يصيد فئران المسك في الربيع؛ لأن فراءها يكون في ذروة نقائه حتى نهاية أبريل، فيما تكون جميع الحيوانات الأخرى في أفضل حالاتها بدءا من نهاية أكتوبر حتى دخول الشتاء. أما ابن عرس الأبيض، فلا يبلغ فراؤه نقاءه الأقصى حتى العاشر من ديسمبر تقريبا. كان أبي يخرج للصيد مرتديا حذاء الجليد خاصته. وكان ينصب أشراكه الثقيلة بدائرة إطلاق تتخذ شكل الرقم 4، وينصبه بحيث تقع ألواح الخشب وأفرع الشجر على فأر المسك أو المنك. وكان يثبت أشراك ابن عرس في الأشجار. كان يربط ألواح الخشب معا ليصنع شراكا على شكل صندوق مربع تعمل بنفس فكرة الأشراك الثقيلة؛ ولم يكن هذا بالأمر المعتاد لدى الصيادين الآخرين. أما الأشراك الفولاذية المخصصة لفئران المسك، فكانت تثبت بحيث يمسك بالحيوان عادة عند طرف سياج منحدر من خشب الأرز. كان الصبر والبصيرة والمكر عناصر أساسية في هذا الأمر. فكان يضع للحيوانات النباتية قطعا لذيذة من التفاح والجزر الأبيض، أما آكلات اللحوم، مثل المنك، فكان لها طعم أسماك سائغ يمزجه بنفسه ويتركه ليعتق في برطمان في الأرض. وكان هناك مزيج لحوم مماثل للثعالب يدفن في يونيو أو يوليو ويستخرج في الخريف؛ فكانت تنبش لاستخراجه من الأرض للتدحرج عليه، مستمتعة بالرائحة النتنة المنبعثة منه.
كانت الثعالب هي الأكثر إثارة بالنسبة إليه، فكان يتتبعها من الأنهار الصغيرة حتى التلال الرملية الصغيرة الوعرة التي أحيانا ما كانت توجد بين الأحراش والمرعى؛ فقد كانت تحب الإيواء إلى التلال الرملية ليلا. وتعلم أن يغلي مصائده في الماء ولحاء القيقب الأملس للقضاء على رائحة المعدن. وكانت مثل هذه الأشراك تنصب في العراء وتنخل فوقها كمية من الرمال.
كيف يقتل ثعلب أوقع في شرك؟ لا يمكن بالطبع إطلاق النار عليه؛ لأن أثر الجرح في الجلد ورائحة الدم يفسدان الشراك.
يقتل الثعلب بضربه ضربة شديدة من عصا طويلة وقوية، ثم بوضع قدمك على قلبه.
عادة ما تكون الثعالب في البرية حمراء اللون، ولكن من حين لآخر سوف يظهر ثعلب أسود بينها كطفرة وراثية تلقائية. لم يسبق لأبي أن اصطاد واحدا من تلك الثعالب السوداء، إلا أنه كان يعرف أن بعضا منها قد سبق اصطياده في أماكن أخرى، وتربيته على نحو انتقائي لزيادة ظهور الشعيرات البيضاء عبر منطقتي الظهر والذيل، وحينئذ كانت تسمى الثعالب الفضية. وكانت تربية الثعالب الفضية قد بدأت لتوها في كندا آنذاك.
في عام 1925 ابتاع أبي زوجا من الثعالب الفضية، ذكرا وأنثى، وبنى حظيرة لهما بجوار الإسطبل. لا بد أنهما قد بديا في البداية مجرد نوع آخر من الحيوانات يربى في المزرعة، مجرد شيء أكثر غرابة من الدجاج أو الخنازير أو حتى ديوك البانتام؛ شيء نادر ومبهرج مثل الطاوس، يثير فضول الزائرين. لعل أبي حين اشتراهما وأقام لهما الحظيرة اعتبر هذا دلالة على أنه كان يعتزم أن يظل كما هو، أن يكون مزارعا مختلفا قليلا عن غالبية المزارعين الآخرين، ولكن يظل مزارعا.
ولدت أول مجموعة من الثعالب الصغيرة وكان عددها ثلاثة. بنى أبي مزيدا من الحظائر، والتقط صورة لوالدته وهي تحمل الثعالب الصغيرة، كانت تبدو خائفة ولكن جريئة. كان اثنان من تلك الثعالب ذكورا والثالث أنثى، وقد قتل أبي الذكرين في الخريف حين أينع فراؤهما وباع الجلود بسعر خيالي. وبدأت عملية الصيد تبدو أقل أهمية من عملية التربية هذه.
ثم جاءت امرأة شابة في زيارة لهم، كانت ابنة عم من الجانب الأيرلندي؛ مدرسة مفعمة بالحيوية ومثابرة وجميلة، كانت تكبره ببضع سنوات. وسرعان ما أبدت اهتماما بالثعالب، وليس كما اعتقدت والدته أنها كانت تتصنع الاهتمام بغرض جذبه للزواج منها. (فقد تولدت كراهية شبه فورية بين والدته والزائرة، على الرغم من كونهما ابنتي عم!) كانت قادمة من منزل أكثر فقرا، ومزرعة أكثر فقرا بكثير من هذه التي يعيشون فيها، وقد صارت مدرسة بفضل جهودها الذاتية المستميتة. كان السبب الوحيد وراء امتهانها هذه المهنة هو أن التدريس كان أفضل شيء للنساء صادفته حتى الآن. كانت مدرسة حكومية مجتهدة في عملها، ولكن بعض الملكات التي كانت لديها، وتعلم أنها لديها، لم تكن مستغلة. كان من بين هذه الملكات انتهاز الفرص وكسب المال، وهما ملكتان لم يكن لهما مكان في منزل أبي مثلما لم يكن لهما مكان في منزلها، وكان يبدو أنهما ينظر إليهما بازدراء واستنكار في كلا المنزلين، على الرغم من كونهما الملكتين الأساسيتين اللتين تأسست عليهما البلاد (واللتين غالبا ما لم يكن يؤتى على ذكرهما كثيرا كذكر الاجتهاد والمثابرة). أخذت تتطلع إلى الثعالب، ولم تر فيها أي صلة رومانسية بالحياة البرية؛ بل رأت صناعة جديدة وفرصة لتحقيق الثراء . لم تكن تدخر سوى القليل من المال كي تشتري مكانا يمكن أن تبدأ فيه هذا المشروع على نحو جاد. لقد أصبحت هذه السيدة أمي. •••
حين أفكر في والدي في الفترة التي سبقت مولدي، بعد أن اتخذا قرارهما بالزواج، ولكن قبل أن يجعلا زواجهما - في تلك الأيام - قرارا لا رجعة فيه، لا يبدوان فقط عاطفيين وقليلي الحيلة ومغررا بهما إلى حد مذهل، ولكنهما أيضا أكثر جاذبية مما كانا عليه في أي وقت لاحق، وكأنه لا شيء في الحياة آنذاك كان محبطا ومعجزا، وكأن الحياة كانت لا تزال تتكشف عن فرص، وكأنهما كانا يستمتعان بكل أنواع النفوذ والقوة قبل أن يميل أحدهما نحو الآخر. لا يمكن أن يكون هذا حقيقيا بالطبع - لا بد أنهما كانا قلقين بالفعل - فقد كانت أمي قلقة بشأن كونها في أواخر العشرينيات من عمرها ولم تتزوج بعد. لا بد أنهما قد صادفا الفشل بالفعل، وربما اتجه كل منهما نحو الآخر بتحفظات وليس بالتفاؤل الوافر الذي أتخيله، ولكنني أتخيله بالفعل، مثلما نحب جميعا أن نفعل بلا شك، ومن ثم لن نفكر أننا قد ولدنا من نتاج عاطفة دائما ما كانت شحيحة، أو مشروع دائما ما كان يفتقر إلى الحماس. أظن أنهما عندما جاءا واختارا المكان الذي سيعيشان فيه لما تبقى من حياتهما، على نهر ميتلاند غرب وينجهام في بلدة تيرنبيري في مقاطعة هورون، كانا يرتحلان في سيارة تسير على نحو جيد على طرق جافة في يوم ربيعي ساطع، وكانا رقيقين ووسيمين وبصحة جيدة وواثقين من حظهما. •••
منذ فترة ليست ببعيدة، كنت أستقل السيارة مع زوجي عبر الطرق الخلفية لمقاطعة جراي، التي تقع إلى الشمال والشرق من مقاطعة هورون، مررنا بمتجر ريفي خاو عند مفترق طرق، كانت له واجهات قديمة الطراز ذات ألواح زجاجية طويلة وضيقة. في الناحية الأمامية بالخارج، كان ثمة منفذ لمضخات وقود لم تعد موجودة. وبالقرب منه، كانت توجد رابية من أشجار السماق والكرمات المتشابكة وقد ألقيت بها كل أنواع النفايات. كانت أشجار السماق بمنزلة المحفز لذاكرتي ، فنظرت مرة ثانية إلى المتجر. بدا لي أنني كنت هنا يوما ما، وأن المشهد كان مرتبطا بشيء من خيبة الأمل أو الهلع. كنت أعلم أنني لم أقد السيارة على هذا الطريق من قبل في حياتي الراشدة، ولم أكن أظن أنني من الممكن أن أكون قد جئت هنا في طفولتي؛ فقد كان المكان بعيدا جدا عن المنزل. وقد كانت معظم رحلاتنا بالسيارة خارج البلدة إلى منزل جدي في بليث؛ إذ كانا قد استقرا هناك بعد أن باعا المزرعة. وكنا نذهب بالسيارة إلى البحيرة في جودريتش مرة في كل صيف. ولكن بينما كنت أحدث زوجي بذلك تذكرت خيبة الأمل؛ الآيس كريم. حينها تذكرت كل شيء؛ الرحلة التي قمت بها أنا وأبي إلى ماسكوكا في عام 1941، حين كانت أمي هناك بالفعل تبيع الفراء في فندق باين تري الكائن شمال جرفينهيرست.
كان أبي قد توقف هناك للتزود بالوقود عند أحد المتاجر الريفية، واشترى لي آيس كريم. كان المكان منعزلا، ولا بد أن الآيس كريم كان موجودا في الحاوية الخاصة به لفترة طويلة، وربما يكون قد ذاب في مرحلة ما ثم أعيد تجميده؛ فقد كان به كسرات صغيرة من الثلج، الثلج النقي، وكان مذاقه متغيرا على نحو يدعو للكآبة، حتى البسكويت المغلف له كان ناعما وقديما.
قال زوجي: «ولكن لماذا كان عليه أن يسلك هذا الطريق إلى ماسكوكا؟ ألم يكن عليه أن يسلك الطريق رقم 9 ثم يسلك الطريق السريع رقم 11؟»
كان محقا، تساءلت إن كان من الممكن أن أكون مخطئة، من الممكن أن يكون متجرا آخر في مفترق طرق آخر حيث اشترينا الوقود والآيس كريم.
بينما كنا نقود السيارة غربا، متجهين صوب التلال الطويلة لمقاطعة بروس والطريق السريع رقم 21، بعد الغروب وقبل حلول الظلام، تحدثت عن الشكل الذي ربما تبدو عليه أي رحلة طويلة بالسيارة - تمتد لأكثر من عشرة أميال - بالنسبة إلى أسرتنا، وإلى أي مدى كانت مرهقة ومربكة. أخذت أصف لزوجي - الذي كانت أسرته ذات النظرة الأكثر واقعية من أسرتي يعتبرون أنفسهم من الفقراء الذين لا يمكنهم امتلاك سيارة - كيف جعل ضجيج السيارة وحركاتها والاهتزاز والقعقعة وتقطع صوت المحرك وصوت التروس صعود التلال وقطع الأميال الطويلة جهدا بدا أن الجميع يتقاسمونه. هل كان سيفرغ أحد الإطارات، وهل سيغلي الماء في الرادياتور، وهل ستتعرض السيارة لعطل وتتوقف عن السير؟ بدا الأمر مع استخدام كلمة «عطل» كما لو أن السيارة كانت ضعيفة وغير متزنة، مع إشارة إلى ضعف بشري غامض.
قلت له إن الأمر لم يكن بالطبع ليبدو كذلك لو كان لديك سيارة أحدث، أو لو كان بإمكانك تحمل نفقات إصلاح سيارتك والحفاظ عليها في حالة جيدة.
وتذكرت لما كنا متجهين إلى ماسكوكا عبر الطرق الخلفية. لم أكن مخطئة على الإطلاق، لا بد أن أبي كان قلقا من قيادة السيارة عبر أي بلدة كبيرة أو على طريق رئيسي؛ كانت بها مشكلات كثيرة جدا حتى إنها لم يكن ينبغي أن تسير على الطريق مطلقا. وكانت ثمة أوقات لم يكن يستطيع فيها تحمل نفقات إصلاحها، ولا بد أن هذا كان واحدا من تلك الأوقات. كان يفعل كل ما في وسعه لإصلاحها وجعلها تستمر في الحركة، وكان أحد الجيران يساعده أحيانا في ذلك. أذكر أبي وهو يقول: «هذا الرجل عبقرية ميكانيكية»، ما جعلني أرتاب في أنه نفسه لم يكن عبقريا في الميكانيكا.
عرفت الآن لماذا كان مثل هذا الشعور بالخطر والذعر مختلطا بذكرياتي عن الطرق غير الممهدة، وأحيانا غير المحصبة - والبعض منها كان محززا لدرجة أن أبي كان يطلق عليها الطرق المتعرجة - والجسور الخشبية ذات الحارة الواحدة. وبينما توالت الذكريات على ذهني، استطعت أن أذكر والدي وهو يخبرني أنه ليس معه من المال إلا ما يكفي للوصول إلى الفندق الذي كانت تقيم فيه أمي، وأنه لا يدري ماذا سيفعل إن لم يكن معها نقود. بالطبع لم يخبرني بذلك في حينها، فقد اشترى لي الآيس الكريم، وأخبرني أن أضغط على لوحة القيادة حين كنا نصعد التلال، وهو ما فعلته على الرغم من أنه كان آنذاك شيئا تقليديا ، مزحة، اعتقادا عفاه الزمن. كان يبدو لي وكأنه يسري عن نفسه.
لقد أخبرني عن ظروف الرحلة بعدها بسنوات، بعد وفاة أمي، حين كان يتذكر بعض الأوقات التي مرا بها معا. •••
لم يكن الفراء الذي تبيعه أمي للسائحين الأمريكيين (كنا دائما ما نتحدث عن السائحين الأمريكيين وكأننا نعترف بأنهم الوحيدون من السائحين الذين كان من الممكن أن يكونوا ذوي نفع لنا) فراء خاما، بل كان مدبوغا ومحاكا؛ فكانت بعض الجلود تقطع، وتحاك معا في شكل قطع طولية لصنع قبعات؛ وأخرى كانت تترك كاملة ويفصل منها ما كنا نطلق عليه أوشحة. كان وشاح فراء الثعلب يفصل من قطعة كاملة من الجلد، فيما كان وشاح فراء المنك مؤلفا من قطعتين من الجلد أو ثلاث. كان رأس الحيوان يترك ويوضع له عينان زجاجيتان زاهيتان بنيتان مائلتان إلى اللون الذهبي، وكذا فك صناعي، وكانت العروات المعدنية تحاك على كفي الحيوان. أظن أنه في حالة المنك كان الفراء يربط من الذيل إلى الفم، بينما كان وشاح فراء الثعلب يربط من الكف إلى الكف، وكانت قبعات فراء الثعلب أحيانا ما تحاك بها رأس الثعلب في غير موضعها تماما، في منتصف الظهر، كنوع من الزينة.
وبعد ثلاثين عاما وجدت هذه الأنواع من الفراء طريقها إلى محال الملابس المستعملة، وربما كانت تشترى وترتدى على سبيل المزاح والدعابة. فمن بين كل موضات الماضي الغريبة والباطلة، كان هذا الارتداء لجلود الحيوانات - التي لم تكن جلودا لحيوانات واضحة المعالم - يبدو الموضة الأغرب والأكثر همجية.
كانت أمي تبيع أوشحة فراء الثعلب في مقابل خمسة وعشرين أو خمسة وثلاثين، أو أربعين أو خمسين دولارا حسب عدد الشعيرات البيضاء، أو «الفضية»، في الفراء. كان سعر القبعات يتراوح بين خمسين دولارا وخمسة وسبعين دولارا، وربما يصل إلى مائة دولار. بدأ أبي في تربية حيوانات المنك وكذلك الثعالب في أواخر الثلاثينيات من القرن العشرين، ولكن أمي لم يكن لديها الكثير من أوشحة فراء المنك لبيعها، ولا أذكر السعر الذي حددته لها. لعلنا كنا قادرين على التخلص منها بتوريدها لتجار الفراء في مونتريال دون تحمل أي خسارة. •••
احتلت مستعمرة حظائر الثعالب جزءا كبيرا من الأرض في مزرعتنا؛ إذ امتدت من خلف الإسطبل حتى الضفة العالية المطلة على السهول الرسوبية المجاورة للنهر. كانت للحظائر الأولى التي أقامها أبي أسقف وجدران من السلك الدقيق على هيكل من الأعمدة من خشب الأرز، وكانت لها أرضيات ترابية. أما الحظائر التي بنيت فيما بعد، فكانت لها أرضيات سلكية عالية. كانت جميع الحظائر متراصة بعضها بجوار بعض في «شوارع» متقاطعة، بحيث تشكل بلدة منفصلة، وكان يحيط بتلك البلدة سياج واق عال. وبداخل كل حظيرة كان هناك مأوى، وهو عبارة عن صندوق خشبي كبير به فتحات تهوية وسقف منحدر أو غطاء يمكن رفعه. وكان هناك ممر خشبي منحدر عبر أحد جوانب الحظيرة لتريض الثعالب. ولما كانت أجزاء المبنى قد أقيمت في أوقات مختلفة ولم يكن جميعها مخططا له من البداية، فقد وجدت كل الاختلافات التي توجد في أي بلدة حقيقية؛ فقد كانت هناك شوارع عريضة وأخرى ضيقة، وكانت هناك بعض الحظائر الفسيحة قديمة الطراز ذات الأرضيات الترابية وبعض الحظائر الحديثة الأصغر ذات الأرضيات السلكية التي كانت تبدو أقل تناسبا، على الرغم من أنها كانت صحية أكثر. وكان هناك اثنتان من البنايات الطويلة المقسمة إلى أقسام تسمى «السقائف». كان للسقائف الجديدة ممشى مغطى بين صفين متقابلين من الحظائر، له أسقف خشبية مائلة وأرضيات سلكية عالية. كانت السقائف القديمة مجرد صف قصير من الحظائر المتصلة الملتصقة معا على نحو بدائي نوعا ما. أما السقائف الجديدة، فكانت مكانا يعج بالضجيج البشع ويكتظ بالثعالب التي حان قتل معظمها لأخذ جلوده قبل أن يكمل سنة من عمره. كانت السقائف القديمة عبارة عن حي فقير كان يضم سلالات سيئة لم تكن ليبقى عليها لعام آخر. والثعلب الكسيح الذي يولد بين حين وآخر، بل - ولفترة ما - أنثى ثعلب أحمر تميل إلى البشر كانت أقرب لأن تربى كحيوان أليف. كان جميع الثعالب الأخرى تعرض عنها إما لهذا السبب، وإما بسبب لونها، وكان اسمها - إذ كان لجميع الثعالب أسماء - السيدة العجوز. لا أعرف كيف جاءت إلى هنا؟ هل كانت طفرة بيولوجية شاذة ضمن إحدى المجموعات؟ أكانت ثعلبا بريا شق الطريق الخطأ أسفل السياج الواقي؟
حين كان التبن يحصد في حقلنا، كان بعضه يوزع فوق الحظائر لحماية الثعالب من حرارة الشمس ولحماية فرائها من التحول إلى اللون البني، كان شكلها يبدو حقيرا خلال فترة الصيف على أي حال؛ إذ كان الفراء القديم يسقط ويحل محله الفراء الجديد. وبحلول شهر نوفمبر كانت تبدو متألقة؛ بأطراف أذنابها ذات اللون الأبيض الثلجي وفرائها الخلفي الغزير الأسود، والطبقة العلوية ذات اللون الفضي. حينها تكون جاهزة للقتل؛ ما لم يبق عليها لاستخدامها بغرض الاستيلاد. فكانت جلودها تفرد وتنظف وترسل لدبغها ثم إلى البيع في المزادات.
حتى ذلك الوقت كان كل شيء تحت سيطرة أبي، إلا في حالة ظهور مرض ما، أو المخاطرة باستيلاد سلالة معينة. كان كل شيء من صنع يده؛ الحظائر، المأوى، حيث كانت الثعالب تستطيع الاختباء وولادة صغارها، وأطباق الماء - المصنوعة من الصفيح - التي كان تمال من الخارج وتملأ مرتين يوميا بالماء النظيف، والخزان الذي كان ينقل عبر الشوارع، حاملا الماء من المضخة، وحوض الطعام في الإسطبل، حيث يمزج الماء والطحين ولحم الخيول المفروم، وصندوق القتل، حيث ترش، يرش على رأس الحيوان كمية كبيرة من الكلوروفورم لقتله. بعد ذلك، وما إن يجفف الفراء ويتم تنظيفه ويقشر من على ألواح الشد، حتى لا يصبح أي شيء داخل نطاق سيطرته. كان الفراء يرص على نحو مستو في صناديق الشحن ويرسل إلى مونتريال، ولا يصبح بوسعه عمل شيء سوى الانتظار ومعرفة كيف سيقيم وبكم سيباع في مزادات الفراء. وكان المال المتحصل من هذا هو المصدر الأساسي للدخل، الذي يقتطع منه المال الذي يجب دفعه لسداد فواتير العلف، والمال الذي يجب دفعه للبنك، والمال الذي عليه دفعه من القرض الذي حصل عليه من والدته بعد ترملها. في بعض السنوات كان ثمن الفراء جيدا إلى حد ما، وفي بعض السنوات لا بأس به ، وفي سنوات أخرى كان مترديا للغاية. وعلى الرغم من أن أحدا لم يتمكن من رؤية ذلك في حينها، فقد كانت الحقيقة هي أنه قد دخل هذا المجال متأخرا قليلا، ودون رأس مال كاف للبدء على نطاق واسع خلال السنوات الأولى حين كانت الأرباح عالية. فقبل أن يبدأ مشروعه بفترة قليلة، جاءت فترة الكساد العظيم. وكان تأثير هذا على مشروعه متقلبا، ولم يكن سيئا على الدوام، كما قد تعتقد. ففي بعض السنوات كانت أحواله ميسورة أكثر قليلا مما كان في المزرعة، ولكن سنوات الفقر كانت تفوق سنوات الرخاء. ولم تتحسن الأمور كثيرا مع بداية الحرب؛ في الواقع كانت الأسعار في عام 1940 تصنف ضمن أسوأ الأسعار على الإطلاق. لم تكن الأسعار السيئة خلال فترة الكساد صعبة التقبل - فقد كان بإمكانه أن ينظر حوله ويرى أن الجميع تقريبا كانوا على نفس الحال - ولكن الآن، مع ظهور وظائف الحرب وعودة الرخاء إلى القرية مرة أخرى، كان من الصعب جدا أن تعمل مثلما كان يعمل دون أن تجني أي شيء.
قال لأمي إنه يفكر في الالتحاق بالجيش. كان يفكر في دبغ كل مخزونه من جلود الثعالب وبيعه، والالتحاق بالجيش كتاجر. لم يكن كبيرا جدا على ذلك، وكان لديه من المهارات ما يجعله نافعا في هذا الشأن؛ فكان بإمكانه أن يكون نجارا، بالنظر إلى جميع أعمال البناء الي قام بها في مزرعته. أو كان بإمكانه أن يكون جزارا، بالنظر إلى كل الخيول العجوزة التي ذبحها وقطعها للثعالب.
واتت أمي فكرة أخرى، اقترحت عليه الاحتفاظ بأفضل الجلود وعدم إرسالها إلى المزادات بل دبغها وحياكتها - أي تحويلها إلى أوشحة وقبعات مزودة بالعيون والمخالب - ثم أخذها وبيعها. وكان الناس حينذاك يملكون بعض المال. وكانت هناك نساء يملكن المال والنزعة التواقة إلى التأنق، وكان هناك سائحون. كنا نعيش بعيدا عن المناطق التي توجد بها الطرق والبلدات الرئيسية، ولكنها سمعت عن السائحين، وكيف أن المنتجعات الفندقية بماسكوكا كانت تكتظ بهم. كانوا يأتون من ديترويت وشيكاجو وبحوزتهم المال لشراء الخزف العظمي القادم من إنجلترا، وكنزات شيتلاند، وبطاطين خليج هدسون. فلم لا ينفقونه في شراء فراء الثعالب الفضية؟
حين يتعلق الأمر بالتغييرات والاجتياحات والاضطرابات، فإنك تجد نوعين من الناس؛ إذا بني طريق سريع عبر الفناء الأمامي لبعض الناس، فستجد أن بعضهم يشعرون بالإهانة والإساءة، وينعون خسارة خصوصيتهم، وجنبات الفاوانيا والليلك، وبعدا من أبعاد شخصيتهم. أما البعض الآخر، فيرى في ذلك فرصة؛ إذ سوف يقيمون منفذا لبيع الهوت دوج، أو يحصلون على امتياز لإقامة مطعم للوجبات السريعة، أو يفتتحون نزلا. وكانت أمي من الصنف الثاني من أولئك الأشخاص؛ فقد ملأتها فكرة توافد السائحين بأموالهم الأمريكية إلى الغابات الشمالية بالحيوية.
في الصيف، وكان آنذاك صيف عام 1941، انطلقت إلى ماسكوكا بحمولة الفراء التي ملأت بها حقيبة السيارة. ووصلت والدة أبي لتتولى شئون منزلنا. كانت لا تزال ممشوقة القوام ووسيمة، ودخلت عرين أمي وهي تحمل نذير سوء؛ فقد كانت تكره ما كانت تفعله أمي بشأن البيع المتجول. كانت تقول إنها عندما كانت تفكر في السائحين الأمريكيين، كان كل ما تتمناه ألا يقترب منها أحد منهم. وعلى مدار يوم مكثت هي وأمي في المنزل معا، وخلال تلك الفترة تقمصت جدتي نسخة قاسية وكتومة من شخصيتها، لكن أمي كانت في حالة من الاضطراب جعلتها لا تلقي بالا لذلك. ولكن بعد أن تحملت جدتي المسئولية وحدها، لان جانبها وتخلت عن صرامتها، وقررت أن تغفر لأبي زواجه، مؤقتا، وكذلك مشروعه الغريب وفشله. وقرر أبي أن يغفر لها الحقيقة المذلة؛ وهي كونه مدينا لها ببعض المال. كانت تصنع الخبز والفطائر، وتستفيد على نحو جيد من خضراوات الحديقة، والبيض الجديد الذي يضعه الدجاج، والحليب والقشدة الدسمين من البقرة الجيرزي (فعلى الرغم من عدم امتلاكنا للمال، لم نكن نعاني مشكلة قط في الطعام). كانت تلمع الخزانات من الداخل وتزيل السواد من قعر القدور، وكنا نظن أنه لن يزول أبدا. وكانت تحدد العديد من الأشياء التي تحتاج إلى إصلاح، وفي المساء كانت تحمل دلاء الماء إلى أحواض الزهور والمكان المزروعة به الطماطم. بعدها كان أبي ينتهي من عمله في الإسطبل وحظائر الثعالب ونجلس جميعا على مقاعد الفناء أسفل الأشجار الكثيفة.
كانت مزرعتنا الممتدة على مساحة تسعة أفدنة - لم تكن مزرعة على الإطلاق من منظور جدتي - تتمتع بموقع رائع؛ فكانت البلدة تحدها من الشرق، وكانت أبراج الكنيسة وبرج مبنى مجلس البلدة يظهران للعيان حين كانت أوراق الأشجار تتساقط، وعلى بعد ميل أو نحو ذلك من الطريق الواقع بيننا وبين الشارع الرئيسي كانت هناك زيادة تدريجية في عدد المنازل، وتحول للممرات الترابية إلى أرصفة، وظهور لمصابيح الشوارع المنفردة، بحيث قد تقول إننا نقطن في أقصى أطراف البلدة، وإن كان وراء حدودها البلدية الرسمية. ولكن إلى الغرب لم تكن ترى سوى منزل ريفي واحد، وكان هذا المنزل نائيا، عند قمة تل يقع تقريبا في المنتصف في الأفق الغربي. كنا دائما ما نشير إلى هذا المنزل بمنزل رولي جرين، ولكن الشيء الذي لم أتساءل عنه أو أتخيله قط هو من قد يكون رولي جرين، أو الطريق الذي يؤدي إلى هذا المنزل. لقد كان بعيدا جدا، عبر حقل فسيح مزروع بالذرة أو الشوفان أولا، ثم الغابات والسهول الرسوبية النهرية المنحدرة نحو المنحنى الكبير الخفي للنهر، ونمط التلال الجرداء أو الدغلية المتداخلة وراءها. كان من النادر جدا أن تتمكن من رؤية قطعة من الريف بهذه الدرجة من الخواء، وبهذه الدرجة من إثارة الخيال، في منطقتنا الزراعية الكثيفة السكان.
حين كنا نجلس للتطلع إلى هذا المشهد، كان أبي يلف سيجارة ويدخنها، ويتحدث هو وجدتي عن الأيام الخوالي في المزرعة، وعن جيرانهم القدامى، والأشياء الطريفة - أي الأشياء الغريبة والكوميدية على حد سواء - التي حدثت. كان غياب أمي قد جلب نوعا من السلام؛ ليس فقط بينهما، بل لنا جميعا، وكأن لمحة ما من التيقظ والكفاح قد زالت؛ وكأن سمة من الطموح وتقدير الذات وربما السخط والتذمر، قد غابت. لم أعرف حينها تحديدا ما هو هذا الشيء المفقود، ولم أعرف أي حرمان، ولا ارتياح، هذا الذي سأعانيه إذا ذهب هذا الشيء للأبد.
كان أخي وأختي الصغيران يضايقان جدتي كي تسمح لهما بالنظر عبر نافذتها. كان لعيني جدتي لون بندقي، ولكن كانت في إحداهما بقعة كبيرة تشغل ما لا يقل عن ثلث القزحية، وكان لون هذه البقعة أزرق. لذا كان الناس يقولون إن عينيها لهما لونان مختلفان، على الرغم من أن تلك لم تكن الحقيقة مطلقا. كنا نطلق على البقعة الزرقاء نافذتها. كانت تتظاهر بالغضب حين يطلب منها إظهارها، فكانت تطأطئ رأسها وتعنف من يحاول النظر فيها، أو كانت تغلق عينيها بإحكام، فاتحة عينها ذات اللون البندقي الخالص فتحة صغيرة لترى إن كانت لا تزال محل مراقبة. وكانت دائما ما تضبط في النهاية وتستسلم للجلوس بلا حراك وعيناها مفتوحتان لينظر بداخلهما. كان اللون الأزرق صافيا لا يعكره شذرة من أي لون آخر بداخله، كان لونا أزرق يزداد لمعانا بفعل اللون الأصفر المائل إلى البني في أطرافه، مثلما تتألق سماء الصيف بنفحات السحب. •••
كنا في المساء حين انعطف أبي إلى الطريق الخاص بالفندق، سرنا بين القوائم الحجرية للبوابة، وكان الفندق أمامنا؛ كان عبارة عن مبنى حجري طويل ذي جملونات وشرفة بيضاء، وله أصص متدلية مليئة بالأزهار. تجاوزنا المنعطف المؤدي إلى ساحة انتظار السيارات، واتبعنا الممر شبه الدائري الذي أدى بنا إلى أمام الشرفة، مارين من أمام الناس الذين كانوا يجلسون هناك على الأراجيح والكراسي الهزازة ولم يفعلوا شيئا سوى النظر إلينا، على حسب قول أبي. «لا يفعلون شيئا سوى التحديق ببلاهة.»
لمحنا اللافتة غير الظاهرة ووجدنا طريقنا نحو ساحة انتظار من الحصى بجوار ملعب التنس، وترجلنا من السيارة. كانت السيارة مغطاة بالتراب، وتبدو أشبه بمتطفل خليع بين السيارات الأخرى المتوقفة هناك.
كنا قد قطعنا الطريق بأكمله والنوافذ مفتوحة، وهبت علينا ريح ساخنة داخل السيارة، وتسببت في تشابك شعري وجفافه. أدرك أبي أن مظهري ليس على ما يرام، وسألني إن كان معي مشط، فعدت إلى داخل السيارة وأخذت أبحث عن واحد ووجدته أخيرا محشورا في ظهر المقعد. كان متسخا وفقدت بعض أسنانه، فأخذت أحاول تمشيط شعري، وأخذ هو الآخر يحاول، وفي النهاية قال: «ربما تنجحين إذا اكتفيت بدفعه خلف أذنيك.» بعدها أخذ يمشط شعره وبدا عابسا بينما كان ينحني للنظر في مرآة السيارة. سرنا عبر ساحة انتظار السيارات بينما أبي يتساءل بصوت عال إن كان علينا أن نجرب الباب الخلفي أم الأمامي. يبدو أنه ظن أنني قد يكون لدي رأي مفيد بهذا الشأن؛ شيء لم يخطر له مطلقا في أي ظروف مرت به من قبل، فقلت إننا ينبغي أن نجرب الباب الأمامي؛ لأنني أردت أن ألقي نظرة أخرى على حوض الزنابق في المسطح الأخضر نصف الدائري الذي يحيط به الممر. كان هناك تمثال لفتاة عارية الكتفين تلبس رداء مربوطا بإحكام عند ثدييها، وتحمل على كتفها إبريقا؛ لقد كان هذا التمثال أحد أروع الأشياء التي رأيتها في حياتي على الإطلاق.
قال أبي بصوت خفيض: «فلتتحملي العواقب»، وصعدنا درجات السلم، وعبرنا الشرفة أمام أناس يتظاهرون بأنهم لا ينظرون إلينا. دخلنا الردهة، حيث الظلام الدامس لدرجة أن مصابيح صغيرة قد أضيئت، في أغطية ناثرة للضوء من زجاج مسنفر، في موضع مرتفع على الخشب اللامع الداكن للجدران. على أحد الجانبين كانت هناك قاعة الطعام، كانت مرئية عبر الأبواب الزجاجية. كان كل شيء قد تم تنظيفه بعد انتهاء العشاء، وكانت كل طاولة مغطاة بمفرش أبيض. وعلى الجانب الآخر، كانت هناك قاعة طويلة على طراز ريفي مفتوحة الأبواب بها مدفأة حجرية ضخمة في نهايتها، وقد افترشت أرضيتها بجلد دب.
قال أبي: «انظري إلى ذلك، لا بد أنها في مكان ما هنا.»
كان ما لاحظه في ركن الردهة هو واجهة عرض زجاجية بارتفاع الخصر، وخلف زجاجها قبعة من فرو ثعلب فضي معروضة بأسلوب جميل على ما بدا كقطعة من المخمل الأبيض، وعلى قمتها وضعت لافتة كتب عليها: «الثعلب الفضي، الرفاهية الكندية»، بخط انسيابي كتب بطلاء أبيض وفضي على لوحة سوداء.
كرر أبي قوله: «في مكان ما هنا.» أخذنا نحدق في القاعة ذات المدفأة، في حين رفعت امرأة رأسها، كانت جالسة على أحد المكاتب تكتب، وقالت بصوت عذب ولكن بعيد نوعا ما: «أظن أن أحدهم سيأتي إذا قرعت الجرس.»
بدا غريبا لي أن يوجهك شخص لم تره من قبل.
تراجعنا للخلف، وعبرنا الردهة في اتجاه بابي قاعة الطعام، وعبرنا المساحة التي شغلتها الموائد البيضاء بأدواتها الموضوعة فوقها وزجاجها المفتوح وطاقات الزهور ومناديل المائدة البارزة كأكواخ بيضاوية، رأينا شخصين؛ امرأتين تجلسان إلى إحدى الطاولات بالقرب من باب المطبخ، تفرغان من عشاء متأخر أو تحتسيان شاي المساء. أدار أبي مقبض الباب ورفعتا رأسيهما، ونهضت إحداهما وأقبلت نحونا بين الطاولات.
لم تكن اللحظة التي مرت دون أن أدرك فيها أن هذه السيدة هي أمي طويلة، ولكن كانت ثمة لحظة على أي حال. رأيت امرأة في ثوب غير مألوف ذي لون كريمي مزدان بنقوش من أزهار حمراء صغيرة، كانت التنورة ذات ثنيات وتصدر صوت حفيف من تطايرها، وكان القماش المصنوعة منه رقيقا، كانت متألقة كتألق مفارش المائدة في القاعة ذات الألواح الخشبية الداكنة. كانت السيدة التي ترتدي الثوب تبدو نشيطة وأنيقة، وكان شعرها الداكن مفروقا في المنتصف ومزينا بإكليل منسق من الجدائل. وحتى عندما أدركت أن هذه السيدة هي أمي، حين وضعت ذراعيها حولي وقبلتني، ناشرة رائحة عطرة غير معتادة وغير مظهرة لأي من علامات العجلة والندم التي تميزها، ولا لأي من علامات عدم الرضا المعتاد عن مظهري أو طباعي، ظل لدي شعور بأنها لا تزال شخصا غريبا نوعا ما. كان يبدو لي أنها قد اقتحمت عالم الفندق بلا أدنى جهد، ذلك العالم الذي بدونا فيه كمتشردين أو فزاعتين؛ بدا وكأنها كانت تعيش هناك دوما. في البداية شعرت بالدهشة، ثم بالخداع، ثم بالإثارة والأمل، مع اتجاه أفكاري صوب المميزات التي سأجنيها لنفسي في هذا الموقف الجديد.
تبين لي أن السيدة التي كانت أمي تتحدث إليها هي مضيفة قاعة الطعام؛ كانت امرأة لها بشرة ذات لون بني ضارب إلى الصفرة، يبدو عليها الإرهاق، تضع طلاء شفاه وطلاء أظافر باللون الأحمر القاني، وتبين فيما بعد أنها تواجه العديد من المشكلات التي أسرت بها لأمي. وسرعان ما نشأ بيني وبينها جو من الود، فأقحمت نفسي في حديث الكبار للحديث عن كسرات الثلج والمذاق السيئ للآيس كريم، وذهبت إلى المطبخ وأحضرت لي طبقا كبيرا من آيس كريم الفانيليا المغطى بصوص الشوكولاتة وتعلو قمته ثمرة كرز.
قلت لها: «أهذا صنداي؟» كان يبدو مثل آيس كريم صنداي الذي شاهدته في الإعلانات، ولكن لما كانت تلك هي المرة الأولى التي أتذوقه فيها، أردت أن أكون واثقة من اسمه.
فقالت: «أظن أنه هو، صنداي.»
لم ينهرني أحد، بل ضحك والداي، ثم قدمت السيدة بعض الشاي الطازج وشطيرة لأبي.
ثم قالت: «سوف أترككم لكي تتحدثوا معا»، وانصرفت وتركت ثلاثتنا بمفردنا في تلك القاعة الفخمة التي يعمها الهدوء. وراح والداي يتحدثان، إلا أنني لم أعر الكثير من الانتباه لحديثهما، ومن حين لآخر كنت أقاطعهما لأخبر أمي شيئا عن الرحلة أو عما كان يدور في المنزل، وأريتها موضعا في ساقي حيث لسعتني إحدى النحلات. لم يطلب مني أي منهما التزام الهدوء؛ بل كانا يجيبانني بمرح وصبر. قالت أمي إننا سننام جميعا الليلة في غرفتها؛ فقد كانت لديها غرفة من الغرف الصغيرة الواقعة خلف الفندق، وقالت إننا سنتناول الإفطار هنا في الصباح.
وقالت إنني عندما أنتهي لا بد أن أهرع إلى الخارج وألقي نظرة على حوض الزنابق.
لا بد أنها كانت محادثة سارة؛ فقد عم أبي الارتياح، وعم أمي الانتصار، كانت قد أبلت بلاء حسنا بعد أن باعت كل ما أحضرته معها تقريبا، وكانت المغامرة ناجحة، وكان ذلك بمنزلة نجاح لها، وإنقاذ لنا جميعا. لا بد أن أبي كان يفكر فيما يجب القيام به أولا؛ إصلاح السيارة في ورشة تصليح هنا، أم المغامرة بقيادتها مرة أخرى على الطرق الخلفية واصطحابها إلى ورشة التصليح في قريتنا التي يعرف أصحابها؛ وأي فواتير يجب سدادها في الحال، وأيها يجب سداده على نحو جزئي. ولا بد أن أمي كانت تتطلع إلى المستقبل، وتفكر كيف يمكنها أن تتوسع، وما الفنادق الأخرى التي يمكنها تجربة هذا بها، وما العدد الإضافي الذي يجب أن يصنعوه من الأوشحة والقبعات في العام القادم، وما إذا كان من الممكن أن يتطور هذا المشروع إلى نشاط تجاري على مدار العام.
لم يكن بإمكانها أن تتنبأ بمدى قرب دخول الأمريكيين معترك الحرب، وكيف أن ذلك سوف يجعلهم يلزمون ديارهم، وإلى أي مدى سيتسبب ترشيد توزيع الوقود في تقليص نشاط المنتجعات الفندقية. ولم يكن بإمكانها التنبؤ بالهجمة التي سيمنى بها جسدها، ذلك الهلاك الذي يتكون بالداخل.
ظلت أمي تتحدث بعد ذلك بسنوات عما حققته في ذلك الصيف، وكيف أنها قد عرفت الطريق الصحيح للمضي فيه، دون إلحاح مبالغ فيه، وإظهار قطع الفراء وكأنها مصدر لمتعة بالغة لها وليس مسألة مادية. ويبدو أن تقديم خصم على سعر المنتجات كان آخر شيء يخطر ببالها، فكان من الضروري أن تظهر للقائمين على إدارة الفندق أنها لن تقلل من قيمة الانطباع الذي كانت ترغب في تركه لديهم، وأنها ليست بائعة متجولة، بل سيدة محترمة أضافت معروضاتها فارقا فريدا من نوعه. كان لا بد أن تصبح صديقة للإدارة والموظفين وكذلك النزلاء.
ولم يكن ذلك بالمهمة الشاقة بالنسبة إليها؛ فقد كانت تملك الغريزة الصحيحة التي تؤهلها لمزج اعتبارات الصداقة باعتبارات العمل؛ تلك الغريزة التي يملكها جميع الباعة البارعين. لم يكن عليها مطلقا أن تحسب مكسبها وتبني عليه بفتور وجمود. فكل شيء كانت تفعله بتلقائية، وكانت تشع بحماس حقيقي في قلبها حيث تكمن مصالحها. ها هي تلك السيدة التي طالما كانت تعاني في حياتها مع والدة زوجها وعائلته، التي كان جيراننا يرونها متعجرفة ومغرورة، وكان نساء البلدة بالكنيسة يظنونها حادة بعض الشيء، ها هي قد وجدت عالما من الغرباء شعرت كأنه عالمها في الحال. •••
لكل هذا، ومع تقدمي في العمر، كان يراودني شعور أقرب إلى الازدراء. كان بداخلي ازدراء للفكرة الكاملة لاستخدام المرء مهاراته بهذه الطريقة، وجعل نفسه معتمدا على استجابة الآخرين، واستخدام التملق والمداهنة بهذه البراعة والتلقائية لدرجة أنك حتى لا تدرك أنه تملق، وكل ذلك من أجل المال. كنت أرى مثل هذا السلوك مشينا، مثلما كانت تراه جدتي بالطبع، وسلمت بأن أبي كان لديه نفس الشعور على الرغم من أنه لم يظهره. كنت أومن - أو ظننت أنني أومن - بالعمل الحثيث والفخر، وعدم الاكتراث بكون المرء فقيرا، بل وامتلاك شعور بالازدراء تجاه هؤلاء الذين يعيشون حياة مترفة.
حينئذ أسفت لفقدان الثعالب، لا أعني النشاط التجاري، ولكن الحيوانات ذاتها بأذنابها الجميلة وعيونها الذهبية الغاضبة. ومع تقدمي في العمر، وازديادي تحفظا وعزلة عن أساليب الريف، وحتميات الريف، بدأت لأول مرة في تفنيد حبسها، والشعور بالأسف لقتلها، وتحويلها إلى أموال. (لم أصل أبدا إلى حد الشعور بأي شيء من هذا القبيل تجاه حيوانات المنك، التي كانت تبدو لي حقيرة وأشبه بالجرذان وتستحق مصيرها.) كنت أعرف أن هذا الشعور نوع من الرفاهية، وحين كنت أذكره لأبي، في السنوات اللاحقة، كنت أتحدث عنه بلا مبالاة، وبنفس الأسلوب كان يقول إنه يعتقد أن ثمة ديانة ما في الهند تقر بأن كل الحيوانات تدخل الجنة. كان يطلب مني أن أتخيل ماذا سيحدث إذا كان ذلك صحيحا؛ أي أعداد من الثعالب الهادرة سوف يلتقيها هناك، ناهيك عن جميع الحيوانات ذات الفراء الأخرى التي اصطادها، وحيوانات المنك، وكذلك الخيول الصاخبة التي كان يذبحها من أجل لحومها.
ثم قال، وإن لم يكن بهذا الحد من اللامبالاة: «أتعرفين، أنت تتعمقين في الأمور، يبدو أنك لا تدركين ما تتعمقين فيه.»
في تلك السنوات الأخيرة، بعد وفاة أمي، كان يتحدث عن اشتغال أمي بالبيع وكيف أنها أنقذت الموقف، كان يتحدث عن كيف أنه لم يكن يعرف ماذا سيفعل، في نهاية هذه الرحلة، لو اتضح أنها لم تجمع أي أموال.
قال: «ولكنها فعلت، لقد نجحت.» وأقنعتني النبرة التي كان يتحدث بها بأنه لم يكن يشاركني أنا وجدتي أبدا تحفظاتنا، أو أنه تخلص بعزم من مثل هذا الشعور بالخزي، إن كان قد أحس به من الأساس.
إنه خزي عاد إلى منبعه، ليصبح في النهاية مخزيا في حد ذاته بالنسبة إلي. •••
في مساء أحد أيام الربيع في عام 1949 - الربيع الأخير ، بل الفصل الأخير الذي عشت فيه في المنزل - استقللت دراجتي إلى المسبك لتسليم رسالة إلى أبي. كنت نادرا ما أركب دراجتي في هذا الحين، فلفترة، ربما طوال فترة الخمسينيات، كان ركوب أي فتاة لدراجة يعتبر أمرا غريبا بعد أن تكبر بما يكفي - لنقل - لارتداء حمالة صدر، ولكن من أجل الوصول إلى المسبك كان بإمكاني التنقل عبر الشوارع الخلفية، ولم أكن مضطرة للمرور بالبلدة.
كان أبي قد بدأ العمل في المسبك في عام 1947، كان قد أصبح واضحا في العام السابق أن مجال تربية الحيوانات ذات الفراء بأسره، وليس فقط مزرعة الثعالب خاصتنا، يتراجع بسرعة رهيبة. ربما كان لحيوانات المنك أن تساعدنا على التغلب على الأزمة لو كنا قد توغلنا أكثر في تربيتها، أو لو لم نكن مدينين بالكثير من المال لشركة الأعلاف، ولجدتي، وللبنك. كان بإمكان حيوانات المنك أن تنقذنا، ولكن أبي ارتكب نفس الخطأ الذي وقع فيه العديد من أصحاب مزارع الثعالب في تلك الفترة؛ فقد كان يعتقد أن نوعا جديدا أكثر شحوبا من الثعالب، يسمى بلاتينيوم، سوف ينقذ الموقف، وبالأموال المقترضة اشترى أبي ذكرين جديدين للتناسل، أحدهما بلاتينيوم نرويجي ذو لون أبيض أشبه بالثلج، والآخر يسمى بلاتينيوم لؤلئي، وهو نوع جميل من الثعالب ذو لون رمادي يميل إلى الزرقة. كان الناس قد سئموا من الثعالب الفضية، ولكن لا شك أنه مع هذه الأنواع الجميلة سوف تنتعش السوق.
في ظل وجود ذكر جديد، كانت توجد بالطبع مجازفة فيما يتعلق بمدى جودة أداء هذا الذكر، وعدد الأبناء الذين سيرثون لون أبيهم. أظن أنه كانت ثمة مشكلة على كلتا الجبهتين، على الرغم من أن أمي لم تكن لتسمح بأسئلة أو أي حديث بالمنزل عن هذه الأمور. أعتقد أن أحد الذكرين كان ذا طبيعة متحفظة، بينما كان الآخر ينجب ثعالب داكنة اللون في أغلب الأحيان. لم يكن ذلك يهم كثيرا؛ لأن الموضة الرائجة كانت ضد الفراء الطويل الشعيرات تماما.
حين ذهب أبي للبحث عن وظيفة، كان من الضروري أن يجد وظيفة مسائية؛ إذ كان مضطرا لقضاء النهار بأكمله في تصفية مشروعه؛ فكان عليه دبغ جلود جميع الحيوانات وبيعها في مقابل أي سعر يستطيع الحصول عليه، وكان عليه أن يفكك السياج الواقي، والسقائف القديمة والجديدة، وجميع الحظائر. أعتقد أنه لم يكن مضطرا للقيام بذلك في الحال، ولكن لا بد أنه كان يرغب في تدمير كل أثر للمشروع.
وحصل على وظيفة حارس في المسبك من الساعة الخامسة عصرا حتى العاشرة مساء. لم يكن يحصل على الكثير من المال من هذه الوظيفة، ولكن كانت ميزتها أنه كان قادرا على القيام بعمل آخر خلال هذه الفترة أيضا، كان هذا العمل الإضافي يسمى غربلة الأرضيات، لم يكن ينتهي منها قط مع انتهاء نوبة عمله كحارس، وفي بعض الأحيان كان يعود إلى المنزل بعد منتصف الليل.
لم تكن الرسالة التي أحملها لأبي رسالة مهمة، ولكنها كانت مهمة في حياتنا الأسرية، كانت مجرد تذكرة له بأن يمر بمنزل جدتي في طريق عودته إلى المنزل، مهما تأخر في العمل. كانت جدتي قد انتقلت إلى بلدتنا، بصحبة شقيقتها، حتى تستطيع أن تكون ذات نفع لنا، فكانت تصنع الفطائر والمافن وتصلح ثيابنا وترفو جوارب أبي وأخي، وكان من المفترض أن يتجه أبي إلى منزلها بالبلدة بعد العمل ليأخذ هذه الأشياء، ويتناول معها كوبا من الشاي، ولكنه كثيرا ما كان ينسى. كانت تجلس تمارس الحياكة، وتغفو تحت الضوء، وتستمع إلى الموسيقى إلى أن يتوقف إرسال محطات الراديو الكندي وتجد نفسها تلتقط تقارير إخبارية لأماكن بعيدة، وموسيقى جاز. كانت تنتظر وتنتظر دون أن يأتي أبي، وكان هذا قد حدث في الليلة الماضية، ما جعلها تتصل في وقت العشاء في تلك الليلة وتسأل بلباقة شديدة: «هل كان من المفترض بأبيك أن يأتي الليلة أم الليلة الماضية؟»
فقلت: «لست أدري.»
دائما ما كان يراودني شعور بأن شيئا ما لا يحدث على النحو الصحيح، أو لا يحدث مطلقا، حين كنت أسمع صوت جدتي، كنت أشعر بأن عائلتنا قد خذلتها، كانت لا تزال في عنفوان نشاطها ، وكانت تقوم على شئون منزلها وفنائه، وكان لا يزال بإمكانها حمل الكراسي ذات المساند إلى الطابق العلوي، وكانت تنعم بصحبة خالتي الكبيرة، ولكنها كانت بحاجة إلى المزيد من شيء ما؛ المزيد من الامتنان، المزيد من الطاعة، مما حظيت به دائما. «حسنا، لقد جلست أنتظره الليلة الماضية لكنه لم يأت.» «لا بد أنه سيأتي الليلة إذن.» لم أرد أن أقضي المزيد من الوقت في الحديث إليها؛ لأنني كنت أستعد لاختبارات الصف الثالث عشر، التي يتوقف عليها مستقبلي بأكمله. (حتى الآن، في ليالي الربيع الساطعة الجميلة، والأوراق لا تزال تشق طريقها على الأشجار للتو، بإمكاني أن أستشعر حماس الترقب المرتبط بهذا الحدث الجلل القديم، فأجد طموحي يتحرك ويرتعش مثل شفرة جديدة للقائه.)
أخبرت أمي بمحتوى المكالمة وقالت: «أوه، من الأفضل أن تستقلي دراجتك إلى أبيك وتذكريه وإلا وقعت مشكلة.»
كانت أسارير أمي تتهلل كلما كانت تضطر للتعامل مع مشكلة حساسية جدتي، وكأنها قد استعادت بعضا من مهاراتها أو أهميتها في أسرتنا، فقد كانت تعاني من داء باركنسون، كان المرض قد باغتها لفترة ما بأعراض غير واضحة، ولكن حالتها شخصت مؤخرا، وصرح الأطباء أنها مستعصية ولا علاج لها، وكان انتباهها يقل شيئا فشيئا، فلم يعد بإمكانها السير أو الأكل أو التحدث بصورة طبيعية؛ إذ كان جسدها يتيبس على نحو يصعب السيطرة عليه. ولكن كان لا يزال متبقيا في حياتها فترة طويلة.
حين كانت تقول شيئا كهذا عن الوضع مع جدتي - حين كانت تقول أي شيء يكشف عن وعي منها بالآخرين، أو حتى بالعمل الدائر في أرجاء المنزل - كنت أشعر بقلبي يرق لها. ولكن حين كانت تنهي الحديث بإشارة إلى نفسها، مثلما فعلت هذه المرة («وهذا سوف يثير ضيقي»)، أعود إلى قسوتي مجددا، وأغضب منها لاستعلائها، وأشمئز من اعتدادها بنفسها الذي بدا غاية في الفظاعة ولا يليق تماما بأن يكون في أم.
لم يسبق لي الذهاب إلى المسبك خلال العامين اللذين عمل أبي خلالهما هناك، ولم أكن أعرف أين أجده. كانت الفتيات في نفس سني لا يحمن حول أماكن عمل الرجال، وإذا فعلن ذلك، أو إذا ذهبن بمفردهن في نزهات طويلة سيرا عبر طريق السكك الحديدية أو النهر، أو قدن الدراجات وحدهن على الطرق الريفية (وكنت أفعل الشيئين الأخيرين)، كن أحيانا ما يقال عنهن إنهن «يبحثن عن المتاعب».
لم يكن لدي الكثير من الاهتمام بعمل أبي في المسبك على أي حال، لم أكن أترقب أبدا أن تجلب لنا مزرعة الثعالب خاصتنا الثراء، ولكنها على الأقل جعلتنا متفردين ومستقلين، وحين كنت أتخيل أبي يعمل في المسبك، كنت أشعر أنه قد عانى الكثير. ونفس الشعور كان يراود أمي، كانت تقول: إن والدك رقيق جدا بحيث لا يتحمل هذا. ولكن بدلا من موافقتها الرأي، كنت أجادلها، ملمحة إلى أنها لا تحب أن تكون زوجة عامل عادي وأنها مغرورة.
كان أكثر ما يثير حنق أمي هو الحصول على سلة الفاكهة والمكسرات والحلوى التي كان المسبك يرسلها لهم في أعياد الكريسماس؛ فلم تكن تطيق أن تكون الطرف المتلقي، وليس المانح، في مثل تلك الأمور، وفي أول مرة حدث فيها ذلك اضطررنا لوضع السلة في السيارة واستقلال السيارة لإعطاء السلة لإحدى الأسر التي نعرف أنها تحتاج إليها بشدة. وبحلول الكريسماس التالي كانت هيمنتها قد وهنت وانتزعت السلة، معلنة أننا بحاجة إلى هدايا ومتع شأننا شأن أي شخص آخر، فكفكفت دموعها بسبب نبرتي القاسية، وأكلت الشوكولاتة التي كانت قديمة وهشة ولونها يميل إلى الرمادي.
لم أر أي مصدر للضوء في مباني المسبك، كانت النوافذ مطلية باللون الأزرق من الداخل؛ ربما لم يكن لأي ضوء أن ينفذ بسبب ذلك، كان المكتب عبارة عن منزل قديم من الطوب يقع في نهاية المبنى الأساسي الطويل، وهناك رأيت ضوءا عبر الستائر الفينيسية، وظننت أن المدير أو أحد أفراد طاقم المكتب لا بد أنه كان يعمل لوقت متأخر، واعتقدت أنني إذا طرقت الباب، فإن هذا الشخص سيخبرني بمكان أبي، ولكن حين نظرت عبر النافذة الصغيرة الموجودة بالباب، رأيت أن من بالداخل هو أبي، كان وحيدا، وكان يدعك الأرضية.
لم أكن أعلم أن دعك أرضية المكتب كل ليلة من مهام الحارس (هذا لا يعني أن أبي قد تعمد إخفاء ذلك؛ ربما لم أسمعه وهو يخبر أمي بذلك). اندهشت لأنني لم أره من قبل يقوم بأي عمل من هذا النوع؛ أعني الأعمال المنزلية. فالآن وبعد أن مرضت أمي صارت مثل هذه الأعمال مسئوليتي، ولم يكن لديه وقت لذلك. إلى جانب ذلك، فقد كان ثمة عمل للرجال وعمل للنساء، وكنت مقتنعة بذلك، وكذلك كل من كنت أعرفهم.
كانت الآلة التي يستخدمها أبي في الدعك مختلفة عن أي شيء يملكه أي شخص بالمنزل للقيام بنفس المهمة؛ فقد كان لديه اثنان من الدلاء على حامل، يتحرك على عجلات، وله ملحقات على كلا الجانبين لحمل المماسح وفرش التنظيف. كان يدعك بقوة وبراعة؛ ولم يكن له إيقاع نسائي مستكين وتقليدي، كان يبدو في حالة مزاجية جيدة.
اضطر للقدوم وفتح الباب كي يدخلني.
وتغير وجهه حين رأى أن الطارق هو أنا. «لا توجد مشكلة في المنزل، أليس كذلك؟»
فقلت: لا. مما جعل أساريره تنفرج: «ظننتك توم.»
كان توم هو مدير المصنع، وكان الجميع ينادونه باسمه الأول. «حسنا إذن، هل جئت لتري إن كنت أفعل هذا على نحو صحيح أم لا؟»
فناولته الرسالة، وهز رأسه. «أعلم، لقد نسيت.» جلست على ركن من المكتب مؤرجحة ساقي بعيدا عن طريقه. قال إنه تقريبا انتهى من عمله هنا، وإنه سوف يأخذني في جولة عبر المسبك إذا أردت أن أنتظر، فقلت إنني سأنتظر.
حين قلت إنه كان في حالة مزاجية جيدة هنا، لم أكن أقصد أن مزاجه كان معكرا في المنزل، وأن التجهم والانفعال يسيطران عليه هناك، ولكنه الآن كان يظهر مرحا ربما لم يكن يبدو لائقا في المنزل. في الواقع، كان يبدو وكأن عبئا قد زال عن كاهله هنا.
حين انتهى من الأرضية بالشكل الذي يرضيه، علق الممسحة إلى الجانب، ودحرج الآلة عبر ممر منحدر يربط المكتب بالمبنى الرئيسي، وفتح بابا عليه لافتة. «غرفة الحارس.» «إنها منطقتي.»
أفرغ الماء من الدلوين داخل حوض حديدي، ثم غسلهما بالماء وأفرغهما من جديد، ونظف الحوض. وعلى أحد الأرفف فوق الحوض بين الأدوات والخرطوم المطاطي والصمامات الكهربية وزجاج النوافذ الاحتياطي كانت توجد العلبة الخاصة بغدائه، التي كنت أضع فيها غداءه كل يوم حين أعود من المدرسة، كنت أملأ الترموس بالشاي الأسود الثقيل، وأضع فطيرة من المافن المصنوع من النخالة، مع الزبد والمربى وقطعة من الفطير إن توافر لدينا، وثلاث شطائر سميكة من اللحم المقلي مع الكاتشب. كان لحم أطراف كتف الخنزير أو نقانق بولونيا، وهما أرخص أنواع اللحوم التي كان يمكن للمرء شراؤها.
قادني إلى داخل المبنى الرئيسي. كانت المصابيح الموقدة هناك مثل مصابيح الإنارة بالشارع؛ أي إنها تلقي بضوئها على تقاطعات الممرات، ولكنها لا تضيء المبنى من الداخل بأكمله، حيث كان ضخما وعاليا لدرجة ولدت بداخلي إحساسا بأنني في غابة ذات أشجار داكنة كثيفة، أو في بلدة ذات مبان طويلة متساوية. أوقد أبي مزيدا من المصابيح، وتقلصت الأشياء قليلا، فصار بإمكانك الآن أن ترى الجدران المشيدة من الطوب، المسودة من الداخل، ولم تكن النوافذ مطلية فحسب، بل كانت مغطاة بشبكة سلكية سوداء. وكان مصطفا على الممرات أكداس من الصناديق، الواحد فوق الآخر في مستوى أعلى من رأسي، وصواني معدنية كبيرة ومتماثلة.
وصلنا إلى مساحة مفتوحة، على أرضيتها كومة كبيرة من الكتل المعدنية، تشوه شكلها كلها بما بدا أشبه بالثآليل أو البرنقيل.
قال أبي: «إنها المسبوكات. إنهم لم ينظفوها بعد، إنهم يضعونها في أداة غريبة تسمى ماكينة العجلات الكاشطة التي تطلق شظايا نحوها، مزيلة كل النتوءات عنها.»
بعدها رأيت كومة من الغبار الأسود، أو الرمل الأسود الناعم. «يبدو ذلك كتراب الفحم، ولكن أتعرفين ماذا يسمونه؟ الرمل الأخضر.» «الرمل «الأخضر»؟!» «إنه يستخدم لتشكيل القوالب المعدنية. إنه رمل يحتوي على عامل التصاق، مثل الصلصال، أو زيت بذر الكتان أحيانا. هل أنت مهتمة على أي نحو بكل هذا؟»
فقلت: نعم، وكان ذلك - في جزء منه - حفظا لكبريائي، فلم أشأ أن أبدو كفتاة غبية، وقد كنت مهتمة بالفعل، ولكن لم أكن مهتمة كثيرا بالإيضاحات الخاصة التي بدأ أبي في تزويدي بها، كما في المؤثرات العامة؛ الظلام، التراب الناعم المنتشر في الهواء، فكرة وجود أماكن مثل هذه في جميع أنحاء البلاد، في كل بلدة وكل مدينة، أماكن ذات نوافذ مطلية، كنت تمر بها في سيارة أو على متن قطار ولا تفكر أدنى تفكير فيما يدور بالداخل، شيء كان يتعلق بحياة أناس بأسرها، إنها عملية متكررة لا تنتهي وتستنفد الانتباه والحياة.
قال أبي: «المكان هنا يبدو كالقبر»، وكأنه التقط بعضا من أفكاري.
ولكنه كان يقصد شيئا آخر. «يبدو كالقبر مقارنة بما يكون عليه أثناء النهار، لا يمكنك تخيل الضجيج الذي يسود المكان أثناء النهار، حتى إنهم يحاولون أن يجعلوهم يرتدون سدادات الأذن، ولكنهم لن يفعلوا ذلك.» «ولم لا؟» «لست أدري، إنهم مستقلون أكثر من اللازم، إنهم لن يرتدوا مآزر النار أيضا. انظري هنا، يوجد هنا ما يسمونه الدست.»
كان ذلك عبارة عن أنبوب أسود ضخم له قبة فوقه. أراني أين يعدون النار، والمغارف التي يستخدمونها لحمل المعدن المصهور وسكبه داخل القوالب. وأراني قطعا من المعدن كانت أشبه بأفرع قصيرة سميكة غريبة الشكل، وأخبرني أن تلك هي أشكال التجاويف الموجودة في المسبوكات؛ ما يعني أن الهواء الذي في التجاويف يتجمد. كان يخبرني بهذه الأشياء وفي صوته نبرة من الرضا والإعجاب، وكأن ما أفشاه لي قد منحه متعة موثوقة.
انزوينا إلى أحد الأركان، ومررنا على عاملين، وكان كل منهما يرتدي فقط قميصه وسرواله السفليين.
قال أبي: «ها هما اثنان من الزملاء المجدين الطيبين. أتعرفين فيرج؟ أتعرفين جوردي؟»
كنت أعرفهما، أو على الأقل أعرف من هما، فقد كان جوردي هول يوزع الخبز، ولكنه اضطر للعمل بالمسبك ليلا من أجل الحصول على مزيد من المال؛ نظرا لكثرة أطفاله. كانت ثمة دعابة منتشرة عن أن زوجته جعلته يعمل لكي تبعده عنها. أما فيرج، فكان رجلا أصغر سنا تراه يجوب البلدة، لم يكن بإمكانه اجتذاب الفتيات لوجود كيس دهني على وجهه.
قال أبي بنبرة من الاعتذار الممزوج بالدعابة: «إنها ترى كيف نعيش نحن العمال.» كان يعتذر لهم نيابة عني، كان يملأ الدنيا اعتذارات طريفة. ذاك كان أسلوبه.
كان العاملان يعملان معا بحرص، وباستخدام خطافات طويلة، رفعا قالبا مصبوبا ثقيلا وأخرجاه من صندوق رمل.
قال أبي: «هذا ساخن للغاية. لقد سبك اليوم، عليهما الآن أن يعدا الرمل ويجهزاه من أجل عملية الصب التالية، ثم تكرار ذلك مرة أخرى. إنه عمل بالقطعة كما تعلمين، ويدفع الأجر لكل عملية صب.»
وانصرفنا.
قال لي: «الاثنان يعملان معا هنا منذ فترة، كانا دائما يعملان معا، إنني أقوم بنفس الوظيفة وحدي، تلك هي أثقل مهمة قاما بها هنا. لقد استغرق مني الأمر فترة لأعتاد تلك الوظيفة، ولكنها لا تؤرقني الآن.»
كان الكثير مما رأيته في تلك الليلة على وشك الاختفاء عما قريب؛ الدست، المغارف التي ترفع باليد، الغبار القاتل. (لقد كان قاتلا بالفعل؛ ففي كل أنحاء البلدة، وفي شرفات المنازل الصغيرة الأنيقة، كان هناك دوما بضعة رجال جلدين ذوي وجوه صفراء يعرف الجميع ويتقبل أنهم يحتضرون بفعل «داء المسبك»، من الغبار الذي يملأ رئاتهم.) الكثير من المهارات والمخاطر الخاصة كانت على وشك التلاشي، الكثير من المخاطر اليومية، إلى جانب قدر كبير من الكبرياء الأهوج، والإبداع والارتجال العشوائيين. لقد كانت الأساليب التي رأيتها أقرب على الأرجح إلى أساليب العصور الوسطى منها إلى أساليب العصر الحالي.
وأتخيل أن الشخصية الخاصة للرجال الذين كانوا يعملون في المسبك كانت على وشك التغير، مثلما تغيرت الأساليب المتبعة في العمل، فلن يختلفوا كثيرا عن العاملين في المصانع، أو في وظائف أخرى. حتى الفترة التي أتحدث عنها كانوا يبدون أقوى وأكثر غلظة من العمال الآخرين؛ فقد كانوا أكثر إباء، وربما كانوا أكثر ميلا للتضخيم من صفاتهم ومميزاتهم من الرجال الذين لم تكن وظائفهم قذرة أو خطيرة لهذه الدرجة. كان لديهم من الكبرياء والإباء ما منعهم من المطالبة بأي حماية من المخاطر التي كان عليهم مواجهتها، بل إنهم في حقيقة الأمر، حسبما كان يقول أبي، كانوا يحتقرون أي حماية تعرض عليهم . وكان يقال إنهم كانوا أكثر إباء من أن يشغلوا أنفسهم بتأسيس نقابة.
كان البديل لذلك هو السرقة من المسبك.
قال أبي بينما كنا نسير معا: «سأقص عليك حكاية عن جوردي.» كان «يقوم بجولة» الآن، وكان عليه وضع بطاقته في ساعات تسجيل وقت العمل في أجزاء متعددة من المبنى، ثم تنظيف أرضياته. ثم أضاف: «يحب جوردي أن يأخذ معه إلى المنزل بعض الخشب والعوارض والقليل من صناديق الشحن أو أي شيء، أي شيء يعتقد أنه قد يفيد في إصلاح المنزل أو بناء سقيفة خلفية؛ لذا في الليلة الماضية أخذ حمولة من الأشياء وخرج بعد حلول الظلام ووضعها في مؤخرة سيارته حتى تكون هناك حين ينصرف من العمل، ولم يكن يعلم أن توم كان في المكتب، وتصادف أنه كان واقفا بجوار النافذة وراح يراقبه. لم يكن توم قد أحضر السيارة؛ إذ كانت السيارة مع زوجته وذهبت بها إلى مكان ما، وجاء توم سيرا لتوه لأداء القليل من العمل أو لأخذ شيء نسيه، ورأى ما كان جوردي يعتزمه، وانتظر حتى رآه يهم بالانصراف من العمل ثم خرج وقال: يا هذا، يا هذا! هل من الممكن أن توصلني إلى البيت؟ وقال له إن زوجته قد أخذت السيارة. ومن ثم ركبا سيارة جوردي وبقية الزملاء الآخرين واقفين عاجزين عن النطق، وجوردي يتصبب عرقا، فيما لم ينبس توم ببنت شفة. جلس توم يصفر بينما يحاول جوردي تشغيل السيارة، وترك جوردي يوصله إلى المنزل دون أن ينطق بكلمة، ولم يلتفت أو ينظر للخلف مطلقا، بل لم ينتو ذلك مطلقا، فقط تركه يغرق في عرقه، وحكى كل ما حدث في كل أرجاء المسبك في اليوم التالي.»
كان من السهل أن تولي الكثير من الاهتمام لهذه القصة وأن تفترض أن يكون بين الإدارة والعمال نوع من الألفة والتسامح، بل وتقدير أحدهم لمحن الآخر. وقد كان هناك قدر من ذلك بالفعل، ولكن ذلك لم يكن يعني أنه لم يكن هناك أيضا الكثير من الضغينة والقسوة وبالطبع الغش . ولكن الدعابات كانت مهمة، فكان الرجال الذين يعملون في نوبات المساء يتجمعون في غرفة أبي الصغيرة؛ غرفة الحارس، في أغلب الأوقات - ولكنهم كانوا يتجمعون خارج الباب الرئيسي حين يكون الطقس حارا في المساء - ويدخنون ويتحدثون بينما يأخذون راحتهم غير المصرح بها. كانوا يحكون عن الدعابات التي ظهرت مؤخرا وفي السنوات الفائتة، كانوا يتحدثون عن الدعابات التي قيلت من وعن أشخاص فارقوا الحياة منذ زمن، وفي بعض الأحيان كانوا ينخرطون في حديث جاد كذلك. كانوا يتجادلون بشأن وجود الأشباح من عدمه، ويتحدثون عمن ادعى رؤيته لأحدها، كانوا يتناقشون بشأن المال؛ من كان يملكه، ومن فقده، ومن كان يترقبه دون أن يأتيه، وأين يحتفظ به الناس. وأخبرني أبي عن تلك الأحاديث بعد سنوات.
ذات ليلة تساءل أحدهم: ما أفضل وقت في حياة الرجل؟
قال البعض إنه حين يكون طفلا ويستطيع التسكع طوال الوقت ويذهب إلى النهر في الصيف ويلعب الهوكي على الطريق في الشتاء وكل ما يفكر فيه هو التسكع وقضاء وقت طيب.
أو حين يكون شابا يخرج ويتنزه دون أن يكون على عاتقه أي مسئوليات.
أو حين يتزوج لأول مرة إذا كان مولعا بزوجته، وبعد ذلك بقليل أيضا حين يكون الأطفال صغارا يلعبون حوله ولم يظهروا أي سمات سيئة بعد.
ثم أدلى أبي برأيه وقال: «هذه المرحلة من العمر، أعتقد أن أفضل وقت قد يكون هذه المرحلة من العمر.»
فسألوه عن السبب.
فقال: لأنك لم تصبح عجوزا بعد، قد تعاني تدهورا في شيء أو شيئين، ولكنك في سن كبيرة تكفي لأن تستطيع أن تدرك أن ثمة أشياء عديدة ربما قد ترغبها في الحياة ولن يتسنى لك الحصول عليها أبدا. كان من الصعب إيضاح كيف يمكن للمرء أن يكون سعيدا في مثل هذا الموقف، ولكن في بعض الأحيان كان أبي يعتقد في سعادة المرء في مثل هذه المواقف.
عندما أخبرني عن هذا الأمر، كان يقول: «أعتقد أن الصحبة هي ما كنت أستمتع به، فحتى ذلك الحين كنت وحيدا، ربما لم يكونوا من الصفوة، ولكن هؤلاء كانوا من أفضل الزملاء الذين قابلتهم على الإطلاق.»
كذلك أخبرني أنه في ليلة ما بعد فترة ليست بالطويلة من تسلمه العمل بالمسبك حدث أن ترك العمل في حوالي منتصف الليل ووجد عاصفة ثلجية كبيرة تجري مجراها، فقد كانت الطرق مغطاة تماما بالثلوج، والثلج يهب بقوة وسرعة شديدتين، لدرجة أن جرافات الثلج لم تكن لتخرج حتى الصباح، فاضطر لترك السيارة حيث هي؛ فإنه حتى لو كان استطاع إخراجها من وسط الجليد، لم يكن ليستطيع التعامل مع الطرق، وبدأ الرحلة إلى المنزل سيرا. كانت مسافة قدرها حوالي ميلين. كان السير شاقا، وسط الثلج المتراكم حديثا، والرياح تهب في اتجاهه من الغرب. كان قد انتهى من تنظيف عدة أرضيات في تلك الليلة، وكان على وشك الاعتياد على العمل، وخرج وهو يرتدي معطفا ثقيلا من معاطف الجيش الضخمة، كان قد أعطاه إياه أحد جيراننا عندما لم يكن يجد له استخداما حين عاد من الحرب. ولم يكن والدي يرتديه كثيرا أيضا، كان عادة ما يرتدي سترة قصيرة ثقيلة. لا بد أنه قد ارتداه في تلك الليلة نظرا لانخفاض درجة الحرارة لما دون برودة الشتاء المعتادة، ولم تكن توجد مدفأة في السيارة.
أخذ يجر قدميه ويتحرك بصعوبة ضد الرياح، وعلى بعد ربع ميل تقريبا من المنزل وجد أنه لم يكن يتحرك. بل كان واقفا في منتصف ركام جليدي ولم يكن بمقدوره أن يحرك ساقيه، كان بالكاد يمكنه الوقوف ضد الرياح. كان منهكا، وظن أن قلبه ربما كان في طريقه للتوقف، وراح يفكر في موته.
سيموت تاركا زوجة مريضة مشلولة لا تستطيع حتى الاعتناء بنفسها، وأما عجوزا مليئة بالإحباط وخيبة الأمل، وابنة صغرى، دائما ما كانت صحتها واهنة، وابنة كبرى لديها ما يكفي من القوة والذكاء، ولكن غالبا ما كانت تبدو أنانية وعاجزة على نحو غامض، وابنا يتوسم فيه المهارة وإمكانية التعويل عليه، ولكنه لا يزال صبيا صغيرا. سوف يموت محاصرا بالديون، وقبل حتى أن ينتهي من هدم الحظائر التي سوف تبقى هناك - أسلاك متدلية على أعمدة من خشب الأرز التي قطعها في مستنقع أوستن في صيف عام 1927 - شاهدة على فشل مشروعه.
قلت حين أخبرني بهذا: «أهذا كل ما كنت تفكر بشأنه؟»
فقال: «ألم يكن ذلك كافيا؟» ومضى يخبرني كيف اقتلع إحدى ساقيه من الثلج ثم الأخرى؛ خرج من هذا الركام ولم يكن هناك أي ركامات ثلجية أخرى شديدة العمق، وقبل أن يمر وقت طويل كان في حماية أشجار الصنوبر الواقية من الرياح التي زرعها بنفسه في نفس العام الذي ولدت فيه. ثم وصل إلى المنزل.
ولكني كنت أقصد: ألم يفكر في نفسه؛ في ذلك الصبي الذي كان يمارس الصيد عبر نهر بليث، ألم يكن يكافح من أجل نفسه؟ أعني هل كانت حياته آنذاك مجرد شيء ينتفع به الآخرون؟ •••
كان أبي دائما ما يقول إنه لم ينضج بحق حتى ذهب للعمل في المسبك. لم يكن يرغب قط في الحديث عن مزرعة الثعالب أو مشروع الفراء، إلى أن صار عجوزا واستطاع بسهولة أن يتحدث عن أي شيء تقريبا. ولكن أمي التي كانت حبيسة شلل متزايد، طالما كانت متلهفة لاسترجاع ذكريات فندق باين تري، والأصدقاء، والأموال التي جمعتها هناك. •••
وكان بانتظار أبي عمل آخر، حسبما تبين. لست أتحدث عن عمله بتربية الديوك الرومي، الذي جاء بعد العمل بالمسبك واستمر حتى بلغ السبعين أو أكثر، والذي ربما قد ألحق ضررا بقلبه؛ إذ كان يجد نفسه يصارع ويحوم حول طيور تزن من خمسين إلى ستين رطلا. جاء اشتغاله بالكتابة بعد أن تخلى عن مثل هذا العمل. فبدأ يكتب مذكراته ويحول بعضا منها إلى قصص نشرت في مجلة محلية ممتازة، وإن كانت لم تستمر طويلا. وقبل وفاته بفترة قصيرة كان قد انتهى من رواية عن حياة الرواد بعنوان «عائلة ماكجريجور».
أخبرني أن كتابة هذه الرواية كانت بمنزلة مفاجأة له؛ فقد اندهش أنه قد تمكن من أداء شيء كهذا، واندهش من أن أداءه استطاع أن يجعله غاية في السعادة، وكأن مستقبلا كان ينتظره.
فيما يلي مقتطف من قسم بعنوان «الأجداد »، الذي كان جزءا مما كتبه أبي عن جده توماس ليدلو، نفس الشخص الذي جاء إلى موريس وهو في سن السابعة عشرة وأوكلت إليه مهمة الطهي في الكوخ.
كان رجلا مسنا واهنا أشيب الشعر، ذا شعر طويل وخفيف وبشرة شاحبة. كان يبدو شاحبا للغاية نظرا لكونه مصابا بالأنيميا. كان يتعاطى فيتا-أور، وهو عقار مسجل حظي بقدر كبير من الدعاية. لا بد أنه قد حسن من حالته؛ لأنه قد عاش حتى بلغ الثمانين من عمره ... حين أصبحت واعيا به لأول مرة كان قد عاد إلى القرية وأجر المزرعة لأبي. كان يزور المزرعة، أو يزورني، كما كنت أعتقد، وكنت أزوره أيضا. كنا نذهب للتمشية معا، كان ثمة إحساس بالأمان. كان يتحدث بانسيابية وسهولة فاقت أبي بكثير، ولكن لا أذكر أننا قد أسهبنا في الحديث معا بأي حال، كان يوضح الأمور وكأنه يكتشفها بنفسه في ذات الوقت. لعله كان ينظر إلى العالم من منظور طفل نوعا ما.
لم يتحدث مطلقا بصرامة، فلم يكن يقول أبدا: «انزل عن هذا السور»، أو «انتبه لتلك البركة الطينية!» كان يفضل أن يدع الطبيعة تأخذ مجراها حتى أتمكن من التعلم بتلك الطريقة، كانت حرية التصرف تثير قدرا معينا من الحذر، ولم يكن ثمة أي تعاطف مبالغ فيه حين أصاب بجرح أو نحوه.
كنا نسير معا بخطى بطيئة رصينة؛ لأنه لم يكن يستطيع السير بسرعة كبيرة. كنا نجمع أحجارا تضم حفريات لمخلوقات غريبة من عصر آخر؛ نظرا لكونها قرية حصوية قد توجد بها مثل هذه الأحجار. وكان لكل منا مجموعته الخاصة في هذا الشأن، وقد ورثت عنه مجموعته عند وفاته واحتفظت بكلتا المجموعتين لسنوات عديدة، كانت بمنزلة رابط يصلني به، كنت لا أرغب على الإطلاق في الانفصال عنه.
كنا نسير عبر خطوط السكك الحديدية القريبة صوب السد الضخم الذي يحمل الخطوط عبر سكة حديدية أخرى وجدول كبير، كانت ثمة قنطرة ضخمة من الحجارة والأسمنت فوق هذه الأشياء. كان بإمكانك أن تنظر إلى أسفل من ارتفاع مئات الأقدام على السكك الحديدية الواقعة أسفلها . كنت قد ذهبت إلى هناك مؤخرا، لقد تقلص السد على نحو غريب؛ فلم تعد السكك الحديدية تمر عبره. لا تزال خطوط السكك الحديدية التابعة لشركة «كانديان باسيفيك» موجودة هناك، ولكنها ليست عميقة، وصار الجدول أصغر كثيرا ...
كنا نذهب إلى مشغل سجح الألواح الخشبية القريب ونشاهد المناشير وهي تدور وتصدر أصواتا عالية. كانت تلك هي أيام كل أنواع الأعمال الخشبية الأنيقة التي تستخدم لتزيين أركان المنازل وحوافها، أو الشرفات، أو أي مكان يمكن زخرفته. كان هناك جميع أنواع المشغولات ذات التصميمات المثيرة التي يمكنك أن تأخذها للمنزل.
في المساء كنا نذهب إلى المحطة، محطة جراند ترانك القديمة، أو محطة الزبد والبيض، كما كانت تعرف في لندن. كان بإمكانك أن تركز سمعك مع السكك الحديدية وتسمع دمدمة القطار وهو قادم من بعيد، بعدها يأتيك صوت صافرة من بعيد ويضطرب الهواء بالترقب والانتظار، وتصبح الصافرات أقرب وأعلى، وفي النهاية يصل القطار مندفعا أمام العيان، فترتج الأرض، وتتفتح السماوات، لينزلق الوحش العملاق وهو يهدر بمكابحه المعذبة ليتوقف في المحطة ...
كنا نشتري الجريدة اليومية المسائية هناك، كانت ثمة جريدتان لندنيتان، «ذا فري بريس» و«ذي أدفرتايزر». كانت الثانية تابعة لحزب الأحرار الكندي فيما كانت الأولى تابعة لحزب المحافظين.
لم يكن هناك حل وسط في هذا الشأن، فإما أن تكون على صواب وإما على خطأ. كان جدي ليبراليا صرفا من مدرسة جورج براون القديمة ويأخذ جريدة «ذي أدفرتايزر»؛ ومن ثم صرت أنا أيضا ليبراليا أنتمي إلى نفس الحزب، وما زلت كذلك حتى الآن ... وهكذا كانت الحكومات تختار في ظل هذا النظام الذي يعد أفضل الأنظمة جميعا وفقا لعدد الليبراليين الصغار أو المحافظين الصغار الذين بلغوا السن الكافية للتصويت ...
كان المحصل يمسك بمسند اليد بجوار السلم، ويصيح قائلا: «بورت»، ويشير بيده. فانطلق البخار عبر المحركات، وصلصلت العجلات وزمجرت وتحركت للأمام، أسرع فأسرع، أمام وحدات الوزن، وأمام الحظائر، وعبر القناطر، وظل يتضاءل ويتضاءل مثل مجرة منحسرة حتى اختفى القطار عن الأنظار متوجها نحو الشمال حيث العالم المجهول ...
ذات مرة كان لدينا ضيف، يحمل نفس اسمي من تورونتو، وهو أحد أبناء عم جدي. كان هذا الرجل العظيم معروفا بكونه مليونيرا، ولكنه كان مثيرا للإحباط، وليس به ما يثير الإعجاب تماما، مجرد نسخة أكثر لطفا قليلا وأكثر تهذيبا من جدي. جلس العجوزان تحت أشجار القيقب أمام منزلنا يتحدثان. ربما كانا يتحدثان عن الماضي مثلما يفعل العجز، فيما بقيت في الخلفية ملتزما الهدوء. لم يقل جدي على نحو صريح، ولكنه ألمح في رقة إلى أن الأطفال يرون ولا يسمعون.
في بعض الأحيان كانا يتحدثان باللهجة الاسكتلندية العامة الدارجة في المنطقة التي جاءا منها. لم تكن اللهجة الاسكتلندية التي تتميز بصوت الراء
R
اللهوي التي نسمعها من المطربين والممثلين الكوميديين، ولكنها كانت لهجة ناعمة وشجية ذات إيقاع خفيف وغنائي مثل اللهجة الويلزية أو السويدية.
هنا أشعر بأنه من الأفضل أن أتركهم؛ فها هو أبي صبي صغير لا يجرؤ على الاقتراب أكثر، والعجوزان يجلسان في عصر يوم صيفي على مقعدين خشبيين وضعا أسفل واحدة من أشجار الدردار السخية الشاهقة التي كانت دائما ما تظلل منزل جدي الريفي. هناك كانا يتحدثان بلهجة سنوات طفولتهما - التي نبذاها عندما صارا رجلين - التي لم يكن بمقدور ذريتهما فهمها.
الجزء
المنزل
الآباء
كان هناك في الربيع صوت يعم كل جنبات الريف الذي سرعان ما كان يتلاشى، لعله كان سيتلاشى تماما لولا الحرب، كانت الحرب تعني أن من يملكون المال لشراء جرارات لا يستطيعون إيجاد أي جرارات لشرائها، والقلة التي تملك جرارات بالفعل لا تستطيع دائما إيجاد الوقود اللازم لتشغيلها؛ ومن ثم كان المزارعون يخرجون إلى أرضهم بخيولهم من أجل حرث الربيع، ومن آن لآخر، في جهات قريبة وبعيدة، كان بإمكانك أن تسمعهم يصدرون أوامرهم التي تتخللها درجات من التشجيع، أو نفاد الصبر، أو التحذير. ليس بوسعك أن تسمع الكلمات على نحو محدد، مثلما لا يمكنك أن تفهم ما تقوله طيور النورس عندما تهبط على الأرض، أو تتابع مشاجرات الغربان. ولكن من نبرة الصوت، كان يمكنك بصفة عامة أن تحدد ألفاظ السباب التي كانت تقال.
كان ثمة رجل يسب طوال الوقت، لم يكن مهما أي كلمات كان يستخدمها. كان من الممكن أن يقول «زبد وبيض»، أو «شاي المساء»، وتكون الروح التي تلفظها واحدة، وكأنه يغلي بنيران سافعة من الغضب والاشمئزاز.
كان اسمه بانت نيوكام، امتلك أول مزرعة على الطريق الريفي المنعطف ناحية الجنوب الغربي من البلدة. كان بانت (وهي كلمة تعني نطحة، على الأرجح هي كنية أطلقت عليه في المدرسة لأنه كان يمشي ورأسه منخفض) على استعداد لنطح أي شخص برأسه ودفعه جانبا. كان اسما صبيانيا احتفظ به منذ الصغر، ولم يكن في الواقع ملائما لسلوكه، أو سمعته، كرجل ناضج.
أحيانا ما كان الناس يتساءلون ما خطبه؟ فلم يكن فقيرا؛ إذ كان يمتلك مائتي فدان من أجود الأراضي، وإسطبلا مبنيا على منحدر له صومعة بارزة، وجراجا خاصا، ومنزلا مربعا متينا مبنيا من الطوب الأحمر. (وإن كان المنزل، مثل صاحبه، ذا مظهر يوحي بحدة الطبع. فكان هناك ستائر حاجبة ذات لون أخضر داكن منسدلة على النوافذ لأغلب الوقت، أو طوال الوقت، ولا توجد ستائر ظاهرة، وأثر واضح على الحائط الأمامي من جراء إزالة الشرفة الأمامية. أما الباب الأمامي الذي كان حتما يفتح على تلك الشرفة، فقد صار الآن يفتح على حشائش وبقايا حجارة ارتفاعها ثلاثة أقدام.) ولم يكن سكيرا ولا مقامرا؛ إذ كان شديد الحرص على أمواله لدرجة يتعذر معها أن يكون أحد الاثنين. وكان بخيلا ودنيء الخلق؛ فقد كان يسيء معاملة خيوله، وبالطبع يسيء معاملة أفراد أسرته.
في الشتاء كان يأخذ علب اللبن خاصته إلى البلدة على زلاجة يجرها عدد من الخيول؛ إذ كان هناك نقص آنذاك في كاسحات الجليد في الطرق الريفية، شأنها شأن الجرارات. كان ذلك يتم خلال فترة الصباح حين يكون الجميع في طريقهم إلى المدارس، ولم يكن يبطئ مطلقا مثلما كان المزارعون الآخرون يفعلون للسماح لأي أحد بالقفز على ظهر الزلاجة من أجل الحصول على توصيلة. بدلا من ذلك، كان يلتقط السوط .
لم تكن السيدة نيوكام ترافقه قط، سواء على الزلاجة أو في السيارة. كانت تذهب إلى البلدة سيرا على الأقدام، مرتدية حذاء فوقيا مطاطيا قديما - حتى عندما يكون الطقس دافئا - ومعطفا طويلا باهت اللون، ووشاحا فوق شعرها. كانت تتمتم بالتحية دون حتى أن ترفع عينيها وتنظر إلى الشخص الذي تحييه، أو أحيانا كانت تشيح بوجهها بعيدا، دون أن تنطق ببنت شفة. أظنها قد فقدت بعض أسنانها، فقد كان هذا شائعا آنذاك أكثر من الآن. وكان شائعا كذلك أن يظهر الناس حقيقة طباعهم دون أي تكلف، في حديثهم، وملبسهم، وإشاراتهم، بحيث يبدو كل شيء متعلق بهم وكأن لسان حاله يقول: «أعلم كيف ينبغي أن يكون مظهري وسلوكي، وإذا لم أفعل، فهذا شأني»، أو «لا أهتم إن كانت الأمور قد بلغت مداها معي؛ فلتظن ما شئت!» •••
ربما تعتبر السيدة نيوكام اليوم حالة خطيرة، كشخص مصاب باكتئاب مزمن، فيما قد تنظر بعين القلق والشفقة إلى زوجها بأساليبه الفظة الوحشية، ولسان حالك يقول: «هذان الشخصان بحاجة إلى المساعدة.» أما في تلك الأيام، فكان ينظر إليهما كما هما، وكان يترك لهما عيش حياتهما كما يحلو لهما دون أدنى تفكير في التدخل من قبل أي شخص، بل كانا في الواقع يعتبران مصدرا للإثارة والتسلية. ربما كان يقال - وقد قيل بالفعل - إنه ليس لديه عزيز وإن عليك أن تشعر بالأسف تجاهها. ولكن كان ثمة شعور بأن بعض الناس خلقوا لإتعاس الآخرين والبعض الآخر مخلوق بحيث يسمح للآخرين بإتعاسه. لقد كان هذا ببساطة قدرا، ولا شيء كان يمكن فعله تجاهه.
أنجب الزوجان نيوكام خمس بنات، ثم ولدا. كانت أسماء الفتيات هي أبريل، وكورين، وجلوريا، وسوزانا، وداليا. كنت أراها أسماء جميلة ورائعة، وتمنيت لو كان شكلهن متماشيا معها، وكأنهن بنات غول في إحدى القصص الخيالية.
تركت أبريل وكورين المنزل منذ فترة، ولذا لم يتسن لي معرفة شكلهما. أما جلوريا وسوزانا، فكانتا تعيشان في البلدة. كانت جلوريا متزوجة، وخرجت من المشهد مثلما تفعل الفتيات المتزوجات، أما سوزانا، فكانت تعمل في متجر للأدوات المعدنية، وكانت فتاة ممتلئة مصابة بحول بسيط في عينيها، وخلت من أي مسحة من الجمال، ولكن كان شكلها طبيعيا للغاية (إذ كان الحول شكلا من الأشكال الطبيعية للعيون، ولم يكن يمثل فاجعة في ذلك الوقت، ومن ثم لم يكن بالشيء الذي يجب علاجه، شأنه شأن الطباع). لم تكن بأي حال تبدو خاضعة مثل والدتها أو فظة قاسية مثل أبيها. أما داليا، فكانت تكبرني بعامين، وكانت أول من التحق بالمدرسة الثانوية من بين أفراد عائلتها، لم تكن هي أيضا بجمال ابنة الغول ذات العينين الواسعتين والشعر المموج، ولكنها كانت حسنة الطلعة وقوية البنية، وذات شعر كثيف وأشقر، ومنكبين قويين، ونهدين قويين وبارزين، كانت تحصل على درجات رائعة للغاية، وكانت بارعة في الرياضة، لا سيما كرة السلة.
خلال أشهري القليلة الأولى في المدرسة الثانوية، وجدت نفسي أسير معها لجزء من المسافة إلى المدرسة. كانت تسير بطول الطريق الريفي وتعبر الجسر لتصل إلى البلدة. وكنت أعيش في نهاية الطريق الذي طوله نصف ميل والموازي لهذا الطريق، على الجانب الشمالي للنهر. حتى ذلك الحين، يمكن أن تقول إننا كنا نعيش على مسافة قريبة إحدانا من الأخرى، ولكن المناطق التعليمية كانت مقسمة بطريقة معينة جعلتني دائما ألتحق بمدرسة البلدة، بينما بنات عائلة نيوكام كن يلتحقن بمدرسة ريفية أبعد على الطريق الريفي. خلال العامين الأولين لداليا في المدرسة الثانوية، بينما كنت أنا لا أزال في المدرسة الإعدادية، كان لا بد أن تتخذ كلتانا نفس الطريق، وإن لم نكن لنسير معا؛ فلم يجر العرف أن يسير طلاب المدرسة الثانوية والمدرسة الإعدادية معا. ولكن الآن وقد صرنا نذهب إلى المدرسة الثانوية، كنا عادة ما نلتقي حيثما يلتقي الطريقان، وإذا حدث ورأت إحدانا الأخرى قادمة، كانت تنتظرها.
هكذا كان الحال بالنسبة لي في خريفي الأول في المدرسة الثانوية. لم يكن السير معا يعني أننا قد أصبحنا صديقتين، كل ما في الأمر أنه كان من الغرابة أن تسير كل منا بمفردها بعد أن أصبحت كلتانا في المدرسة الثانوية ونسلك نفس الطريق. لست أدري عما كنا نتحدث، أعتقد أنه كانت ثمة فترات طويلة من الصمت تعمنا، نظرا لترفع داليا النابع من أنها أكبر مني سنا، ولجفاف في طبعها جعل من المستبعد إمكانية إجراء أي حوار سخيف بيننا. لكن لا أذكر أنني كنت أجد تلك الفترات الصامتة غير مريحة. •••
في صباح أحد الأيام لم أرها، فمضيت في طريقي، ووجدتها تقول لي في حجرة إيداع المعاطف والقبعات: «لن أسلك هذا الطريق بعد ذلك؛ لأنني أقيم الآن في البلدة لدى جلوريا.»
ولم نتحدث معا مرة أخرى إلا بالكاد إلى أن جاء يوم في بداية الربيع؛ ذلك الوقت الذي أنا بصدد الحديث عنه، حين كانت الأشجار عارية من الأوراق ولكنها ضاربة إلى الحمرة، والغربان وطيور النورس مشغولة، والمزارعون يصيحون في خيولهم. وجدتها تتجه نحوي، حيث كنا نهم بمغادرة المدرسة، وقالت: «هل ستتجهين إلى المنزل مباشرة؟» فأجبت بنعم، وما لبثت أن سارت بجواري.
سألتها إن كانت قد عادت للإقامة في منزلها مجددا، فأجابت قائلة: «كلا، ما زلت أقيم لدى جلوريا.»
وعندما مضينا في المسير قليلا، قالت: «أنا ذاهبة إلى هناك فقط لأرى ما يحدث.»
كان أسلوبها وهي تقول ذلك واضحا ومباشرا، وليس به أي أسرار أو خصوصية. ولكنني أدركت أن كلمة «هناك» لا بد أنها تعني منزلها، وأن عبارة «ما يحدث»، وإن كانت غير محددة، كانت تعني شيئا سيئا.
خلال الشتاء الماضي كانت قد ارتفعت مكانة داليا في المدرسة؛ لكونها أفضل لاعبة في فريق كرة السلة، وكان الفريق قاب قوسين أو أدنى من الفوز ببطولة المقاطعة. وكان السير معها والحصول منها على أي معلومات كانت ترغب في إعطائها لي يمنحني شعورا بالتميز. لا أستطيع أن أتذكر بالضبط، ولكنني أظن أنها لا بد قد بدأت دراستها في المدرسة الثانوية وكل شئون عائلتها تطاردها. كانت البلدة صغيرة بما يكفي بحيث بدأن جميعا نفس البداية، بعوامل إيجابية نعيش وفقا لها، أو ظل ما نعيش في كنفه. ولكن الآن صار متاحا لها، إلى حد كبير، أن تتحرر. كان استقلال الروح، تلك الثقة التي يجب أن تكون لدى أي أحد في جسده لكي يصبح بطلا رياضيا، هو ما جعلها تنال احترام الآخرين وأثنى أي شخص يفكر في إيقافها. كانت أنيقة أيضا؛ لم يكن لديها سوى القليل جدا من الملابس ولكنها كانت رائعة للغاية، لم تكن كتلك الملابس الوقورة التي تتداولها الشقيقات فيما بينهن، والتي غالبا ما كانت فتيات الريف ترتدينها، أو أطقم الملابس المصنوعة منزليا التي كانت أمي تكدح من أجل حياكتها لي. أتذكر كنزة حمراء ذات فتحة عنق مثلثة غالبا ما كانت ترتديها، وتنورة رويال ستيوارت ذات ثنيات. ربما كانت جلوريا وسوزانا تنظران إليها بوصفها ممثلة العائلة ومصدر فخرها، فخصصتا جزءا من مواردهما لشراء ملابس لها.
كنا خارج البلدة قبل أن تتحدث إلي مجددا.
قالت: «لا بد أن أتابع ما يفعله والدي العجوز، أتمنى ألا يعتدي بالضرب على رايموند.»
كان رايموند أخاها.
قلت: «أتعتقدين أنه قد يفعل ذلك؟» شعرت وكأن علي أن أتظاهر بأنني أعرف أقل مما كنت أعرفه - وكان الجميع يعرفونه - بالفعل عن عائلتها.
فقالت في تأمل: «أجل، أجل. قد يفعل، لقد كان رايموند يجيد الإفلات من عقابه أكثر منا، ولكن الآن لم يبق في المنزل غيره وأخاف عليه بشدة.» «أكان يضربك؟»
قلت ذلك على نحو شبه عارض، محاولة ألا يبدو في صوتي سوى قدر معقول من الاهتمام، وألا أبدي أي هلع بأي حال.
فنخرت قائلة: «أتمزحين؟ قبل أن أرحل آخر مرة، حاول أن يسحق رأسي بالمجرفة.»
وبعد أن تقدمنا قليلا في المسير، قالت: «أجل، وطلبت منه أن يتقدم ليقتلني، تعال لتقتلني، فلتقتلني وبعدها سوف تعدم. ولكنني حينئذ أفلت منه؛ لأنني فكرت أنه لو قتلني، فلسوف أحرم من متعة مشاهدته معدوما.»
وأخذت تضحك. فقلت بنبرة تشجيعية: «أتكرهينه؟»
قالت دون أن يرتسم على وجهها أي تعبير أكثر من ذلك الذي كانت ستبديه لو قالت إنها تكره النقانق: «بالطبع أكرهه، لو أخبرني أحدهم أنه يغرق في النهر، لذهبت ووقفت على ضفة النهر وأخذت أهلل.»
لم يكن من الممكن أن أعلق على ما قالت ، ولكنني قلت: «ماذا لو أمسك بك الآن؟» «لن يراني، سوف أتلصص على ما يفعله فقط.»
وحين وصلنا إلى مفترق طريقينا، قالت بشبه ابتهاج: «أتودين أن تأتي معي؟ أتريدين أن تري كيف أتلصص عليه؟»
سرنا معا عبر الجسر ورأسانا منخفضان في هدوء واتزان، ننظر عبر الشقوق الفاصلة بين الألواح الخشبية للجسر على النهر ذي الفيض المرتفع، ويملؤني الانزعاج والإعجاب في آن واحد.
قالت: «اعتدت أن آتي هنا في الشتاء، كنت معتادة أن أقف أمام نوافذ المطبخ تماما حين يعم الظلام بالخارج. أما الآن فالأجواء تظل مضيئة لوقت متأخر للغاية. واعتدت أن أفكر أنه سيرى آثار حذائي في الثلج ويعرف أن أحدهم كان يتلصص عليه وأن ذلك سوف يدفعه إلى الجنون.»
سألتها إن كان والدها يمتلك بندقية.
قالت: «بالتأكيد. إذن ماذا لو خرج وأطلق علي النار؟ سوف يطلق علي النار ويعدم ويذهب إلى الجحيم. لا تقلقي؛ إنه لن يرانا.»
قبل أن يصبح منزل آل نيوكام على مرأى منا، تسلقنا منحدرا يقع على الجانب الآخر من الطريق، حيث كان هناك نمو كثيف من أشجار السماق متاخمة لمجموعة من أشجار التنوب المزروعة لصد الرياح. عندما كانت داليا تبدأ في السير رابضة أمامي كنت أفعل المثل، وعندما كانت تتوقف كنت أتوقف أنا أيضا.
كان الإسطبل وفناؤه ممتلئين بالأبقار، وأدركت أننا نسمع صوت وطء الأبقار وصياحهم فور توقفنا عن عمل أي ضجيج ونحن نسير بين فروع الأشجار. وعلى عكس معظم المزارع الريفية، لم يكن لمزرعة آل نيوكام ممر خاص بها؛ فكان المنزل والإسطبل وفناؤه تقع جميعا على الطريق مباشرة.
لم يكن ثمة ما يكفي من الحشائش الناضرة للأبقار لكي ترعى خارج الإسطبل بعد - فقد كانت المناطق المنخفضة في المروج لا تزال معظمها غارقة في الماء - ولكنها كانت تترك للخروج من الإسطبل للتريض قبل الحلب المسائي. ومن خلف حاجز أشجار السماق الذي كنا نختبئ وراءه، كان بإمكاننا النظر عبر الطريق والنظر كذلك إلى أسفل إلى الأبقار وهي تصطدم بعضها ببعض وتتخبط وسط الروث، في حالة من الاضطراب والتذمر بسبب ضروعها الممتلئة، حتى إذا قصفنا فرعا من الفروع، أو تحدثنا بأصواتنا الطبيعية، فقد كان ثمة الكثير مما يدور هناك لدرجة لا يستطيع معها أي شخص سماعنا.
جاء رايموند، وهو صبي في حوالي العاشرة من عمره، بالقرب من الإسطبل. وكان معه عصا، ولكنه كان ينقر بها فقط على مؤخرة الأبقار دافعا إياها وهو يقول: «شي، شي» بإيقاع هادئ ويحثها على التحرك نحو باب الإسطبل. لم تكن تلك الأبقار من نفس النوع أو لها نفس اللون، وهو الأمر الذي كان موجودا في معظم المزارع في ذلك الوقت، كانت ثمة بقرة سوداء، وبقرة حمراء ضاربة إلى البرتقالي، وبقرة ذهبية اللون إلى حد ما، لا بد أنها تنتمي على نحو ما لسلالة الجيرزية، إلى جانب أبقار أخرى ذات بقع بنية وبيضاء، وسوداء وبيضاء، وذلك بجميع أنواع التوليفات. كانت لا تزال محتفظة بقرونها، وهو ما منحها مظهرا مهيبا وشرسا افتقدته الأبقار الآن.
جاء صوت رجل، وكان صوت بانت نيوكامب، ينادي من الإسطبل. «أسرع. لم التأخير؟ أتظن أن أمامك الليل بأكمله؟»
فرد رايموند صائحا: «حسنا، حسنا!» لم تكن نبرة صوته تشير لشيء بالنسبة إلي، فيما عدا أنه لم يكن يبدو خائفا. ولكن داليا قالت بصوت خافت: «رائع، إنه يحدثه بوقاحة! عظيم.»
خرج بانت نيوكام من باب آخر للإسطبل، كان يرتدي بدلة العمل وسمقا مشحما، بدلا من المعطف الثقيل الذي ظننته كان يلبسه دائما، وكان يتحرك بأرجحة غريبة لإحدى ساقيه.
قالت داليا بنفس الصوت الخافت ولكن طرأ عليه رضا بالغ: «إن لديه ساقا عرجاء. سمعت أن بيل قد رفسته، ولكن أظنه أمرا جيدا لدرجة يصعب تصديقها. من المؤسف أنها لم تكن رأسه.»
كان يحمل مذراة، ولكن بدا أنه لم يعتزم إلحاق أي أذى برايموند. كان كل استخدامه للمذراة مقتصرا على إخراج روث الأبقار من ذلك الباب، بينما كانت تساق الأبقار إلى الداخل من الباب الآخر.
ربما كان مقته للابن أقل من مقته لبناته.
قالت داليا: «لو كان معي بندقية، لاستطعت النيل منه الآن. كان يجب أن أفعلها بينما كنت لا أزال صغيرة بما يكفي حتى لا يئول بي المآل بأن أعدم.»
قلت: «كان سيزج بك في السجن.» «وماذا بعد؟ إنه يدير سجنه الخاص به. ربما لم يكونوا ليستطيعوا الإمساك بي مطلقا، وربما ما كانوا ليعرفوا أنه أنا من فعلها.»
لم يكن من الممكن تصديق أنها كانت تعني ما تقول؛ فلو كانت لديها مثل هذه النية، ألم يكن من الجنون أن تبوح بها لي؟ إذ من الممكن أن أشي بها، لم أكن أعتزم ذلك بالطبع، ولكن قد يستدرجني أحدهم ويعرف هذا مني. غالبا ما كنت أفكر، بسبب الحرب، كيف يكون شكل التعذيب، ما القدر الذي يمكنني تحمله منه؟ وذهبت بفكري إلى عيادة الطبيب حينما يضرب عصبا، فكرت في نفسي قائلة: لو استمر ألم كهذا بلا نهاية ما لم أشي بمكان اختباء أبي مع المقاومة، فماذا كنت سأفعل؟
حين استقرت جميع الأبقار بالداخل وأغلق رايموند وأبوه بابي الإسطبل، عدنا عبر أشجار السماق، وكنا لا نزال رابضين، وما إن توارينا عن الأنظار، حتى نزلنا إلى الطريق. ظننت أن داليا قد تقول الآن إن الجزء الخاص بإطلاق النار كان مجرد مزاح، ولكنها لم تفعل. وتساءلت لماذا لم تقل أي شيء عن والدتها، عن قلقها عليها مثلما كانت قلقة على رايموند. حينئذ خطر لي أنها ربما كانت تحتقر والدتها لما تحملته ولما آل إليه مصيرها. كان عليك أن تبدي بعض الجرأة لتجاري داليا في شجاعتها، ولم أكن لأرغب في أن تعرف أنني كنت خائفة من الأبقار ذات القرون.
كان على إحدانا أن تودع الأخرى حين اتخذت هي طريقها عائدة إلى البلدة إلى منزل جلوريا، فيما اتخذت أنا طريقنا المسدود، ولكن ربما تكون قد واصلت السير وتركتني. ظللت أفكر فيما لو كان من الممكن حقا أن تقتل أباها، وراودتني فكرة غريبة بأنها صغيرة للغاية بحيث لا يمكن أن تقدم على فعلة كهذه؛ وكأن قتل نفس مثل قيادة سيارة أو التصويت أو الزواج، لا بد أن تصل إلى سن معينة لكي تتمكن من القيام به. وراودتني فكرة أخرى كذلك - وإن لم أكن لأعرف كيف لي أن أعبر عنها - وهي أن القتل لن يكون سببا في أي راحة لها؛ إذ كانت كراهيتها له قد وصلت لحد أن أصبحت عادة. كنت أتفهم أنها قد اصطحبتني معها، لا لكي تأتمني على سرها أو لكوني بأي نحو صديقة حميمة لها؛ لقد أرادت فقط أن يراها شخص ما وهي تمارس كراهيتها له. •••
ربما كان يقع على طريقنا فيما مضى اثنا عشر منزلا، كان معظمها منازل صغيرة ورخيصة للإيجار، حتى تصل إلى منزلنا الذي كان أقرب إلى منزل ريفي عادي في مزرعة صغيرة. كان بعض هذه المنازل يطل على السهل الفيضي للنهر، ولكن قبل بضعة أعوام، إبان فترة الكساد العظيم، كانت جميعها مأهولة. ثم جاءت وظائف الحرب، جميع أنواع الوظائف، لتأخذ تلك الأسر بعيدا، ونقلت بعض المنازل إلى مكان آخر لتكون بمنزلة جراجات أو حظائر للدجاج. أما تلك التي تركت مكانها، فكان منها اثنان خاويين، فيما كانت البقية يسكنها في الغالب أشخاص مسنون؛ الأعزب العجوز الذي يسير إلى البلدة كل يوم لمتجر الحدادة خاصته، والزوجان المسنان اللذان كان لديهما متجر للبقالة ولا يزال على نافذتهما الأمامية ملصق مشروب البرتقال كراش، والزوجان المسنان الآخران اللذان يتاجران في بضائع محظورة قانونا، وكان يقال إنهما يخفيان أموالهما في علب الطلاء في الفناء الخلفي لمنزلهما. هذا إلى جانب العجز اللاتي تركن بمفردهن: السيدة كوري، والسيدة هورن، وبيسي ستيوارت.
كانت السيدة كوري تربي كلابا كانت تتسابق في النباح على نحو جنوني طوال اليوم في حظيرة سلكية، وفي الليل كانت تساق إلى داخل منزلها الذي كان مبنيا جزئيا في منحدر أحد التلال، والذي لا بد أنه كان مظلما وذا رائحة كريهة جدا. أما السيدة هورن، فكانت تربي زهورا، وكان منزلها وفناؤها الصغيران يبدوان في الصيف كقطعة قماش مطرزة؛ فترى فيها كرمات الياسمين البري، وزهرة شارون، وكل أنواع الورود والفلوكس والدلفينيون. أما بيسي ستيوارت، فكانت ترتدي ثيابها الأنيقة وتتجه إلى أعلى البلدة فيما بعد الظهيرة لتدخين السجائر وتناول القهوة في مطعم باراجون. ورغم أنها لم تكن متزوجة، فقد كان يقال إن لها صديقا.
كان أحد المنازل الخاوية تسكنه، ولا تزال تملكه، السيدة إدي. كانت تسكن هذا المنزل منذ فترة قصيرة - منذ أعوام؛ أي أربعة أو خمسة أعوام قبل أن ألتقي داليا، وكانت فترة طويلة في حياتي - عائلة تسمى وينرايت، وكانت تربطهم صلة قرابة بالسيدة إدي وتركتهم يعيشون هناك، ولكنها لم تكن تعيش معهم، فقد نقلت إلى المكان الذي نقلت إليه، وكان يدعى كير.
قدم السيد والسيدة وينرايت من شيكاجو، حيث كانا يعملان في تزيين المعروضات وتنسيقها في الواجهات لدى أحد المتاجر الكبيرة المتعددة الأقسام. أغلق هذا المتجر أبوابه، أو تقرر أنه لا يحتاج إلى تزيين الكثير من واجهاته؛ أيا كان ما حدث، فقد فقدا وظيفتيهما وجاءا إلى هنا للإقامة في منزل السيدة إدي وحاولا تأسيس شركة للصق ورق الحائط.
كان لديهما ابنة تدعى فرانسيس، كانت تصغرني بعام واحد، وكانت ضئيلة الجسم ونحيفة سرعان ما تلهث بسبب إصابتها بالربو. في أول يوم لي في الصف الخامس، خرجت السيدة وينرايت واستوقفتني في الطريق، بينما فرانسيس كانت تسير خلفها ببطء، طلبت مني أن أصطحب فرانسيس إلى المدرسة وأريها مكان قاعة الدراسة الخاصة بالصف الرابع، وأن أكون صديقة لها؛ لأنها لم تكن تعرف أي شخص بعد، أو مكان أي شيء.
وقفت السيدة وينرايت تتحدث إلي على قارعة الطريق مرتدية لباس بيت حريريا ذا لون أزرق فاتح. وكانت فرانسيس متأنقة في ثوب قطني ذي نقوش مربعة وقصير للغاية ومكشكش عند الجزء السفلي وشريط شعر ذي نقوش مربعة يتماشى معه. •••
وسرعان ما أصبح مفهوما أنه يتوجب علي السير إلى المدرسة مع فرانسيس ثم العودة إلى المنزل معها بعد ذلك، كانت كلتانا تحمل غداءها إلى المدرسة، ولكن لم يطلب مني صراحة أن أتناول الغداء معها، ومن ثم لم أفعل هذا قط.
كانت ثمة فتاة أخرى في المدرسة تعيش على مسافة بعيدة جدا من المدرسة مما جعلها مضطرة لإحضار غدائها معها، كان اسمها واندا لويز بالمر، وكان والداها يملكان قاعة الرقص التي تقع في جنوب البلدة ويعيشان فيها هما والبنت أيضا، كنت أنا وهي دائما ما نأكل معا، ولكن لم نعتبر أنفسنا مطلقا أصدقاء، ولكن الآن نشأ بيننا نوع من الصداقة، كان قائما بالكامل على تجنب فرانسيس. كنت أنا وواندا نتناول الطعام في البدروم المخصص للفتيات، خلف ساتر من المقاعد المدرسية القديمة المحطمة التي كانت مكدسة في أحد الأركان. وما إن نفرغ من طعامنا، حتى ننسل إلى الخارج تاركين المدرسة كي نجوب الشوارع القريبة أو نذهب إلى وسط البلدة ونشاهد واجهات المتاجر. كان من المفترض أن تكون واندا رفيقة مسلية لكونها تعيش في قاعة الرقص، ولكنها كانت تميل للغاية إلى نسيان ما كانت تقوله لي (رغم أنها لم تكن تتوقف عن الحديث) لدرجة جعلتها مملة جدا. كان كل ما يجمعنا حقا هو اتحادنا ضد فرانسيس، وضحكاتنا البائسة التي نستميت في كبحها حين ننظر عبر المقاعد المحطمة ونراها وهي تبحث عنا.
بعد فترة لم تعد تفعل ذلك، وصارت تتناول غداءها بمفردها في الطابق العلوي في غرفة إيداع المعاطف والقبعات.
أود الاعتقاد بأن واندا هي من جعلت فرانسيس، حين كنا نقف في صف استعدادا للتوجه إلى الفصل، تلاحظ أنها الفتاة التي نحاول دائما تجنبها، ولكن من الممكن أن أكون أنا من فعل ذلك، وبالطبع استمررت في ذلك، وكنت سعيدة لكوني أحد هؤلاء الذين يقومون بأمور من قبيل رفع الحواجب والعض على الشفاه وكتم الضحكات العالية؛ وإن كنت لا أكتمها بالدرجة الكافية. كان العيش في نهاية ذلك الطريق، مثلما كان حالي، وسهولة التعرض للحرج ولكن مع حب الظهور، مثلما كان مستبعدا أن أكون، كل ذلك جعلني لا أستطيع الدفاع عن أي شخص يهان، لم يكن بوسعي التسامي فوق الشعور بالارتياح لكوني لست من يهان.
أصبحت شرائط الشعر جزءا من هذا، فكان مجرد الصعود إلى فصل فرانسيس وقول: «يعجبني الشريط الذي تضعينه في شعرك، من أين جئت به؟» واضطرارها للرد في ارتباك بريء قائلة : «من شيكاجو»، مصدرا دائما للسعادة. ولفترة أصبحت عبارة «من شيكاجو» أو كلمة «شيكاجو» فقط هي الإجابة لكل شيء. «أين ذهبت بعد المدرسة أمس؟» «شيكاجو.» «أين لجأت شقيقتك لتمويج شعرها؟» «أوه، إلى شيكاجو.»
كانت بعض الفتيات يزممن أفواههن لدى سماع الكلمة، وكانت صدورهن تهتاج، أو يدعين إصابتهن بالفواق حتى يملن.
لم أكن أتجنب السير إلى المنزل مع فرانسيس، وإن كنت بالتأكيد قد أذعت أن الأمر لم يكن باختياري، بل كنت أفعل ذلك بناء على طلب من والدتها. لم أكن أعلم قدر ما كانت تدركه من هذا الاضطهاد الخاص الأنثوي للغاية، ربما ظنت أن ثمة مكانا ما تذهب إليه فتيات فصلي دوما لتناول الغداء، وأنني أفعل ذلك مثلهن. ربما لم تدرك مطلقا السبب وراء تلك الضحكات العالية، ولم تكن تسأل عن ذلك مطلقا. حاولت أن تمسك يدي ونحن نعبر الشارع، ولكنني انتزعت يدي وأخبرتها ألا تفعل.
قالت إنها دائما ما كانت تمسك يد سادي حين كانت سادي توصلها سيرا على الأقدام إلى المدرسة في شيكاجو.
وأضافت: «ولكن هنا الأمر مختلف؛ فلا يوجد ترام.»
في أحد الأيام قدمت لي كعكة محلاة بقيت من غدائها، فرفضت حتى لا أشعر بأي التزام مزعج تجاهها.
قالت: «فلتأخذيها، لقد وضعتها أمي من أجلك.»
حينها فهمت؛ لقد وضعت والدتها تلك الكعكة الإضافية من أجلي لكي أتناولها حين نتناول غداءنا أنا وابنتها معا. إنها لم تخبر والدتها قط بأنني أختفي في وقت الغداء، وأنها لا تستطيع معرفة مكاني، لا بد أنها كانت تتناول الكعكة الإضافية، ولكن عدم الأمانة تؤرقها الآن. ومن ثم صارت منذ ذلك الحين تقدمها لي كل يوم في اللحظة الأخيرة تقريبا وكأنها تشعر بالحرج، وفي كل يوم كنت أقبلها.
بدأنا نتجاذب أطراف الحديث على نحو محدود، ويبدأ ذلك عندما نبتعد تقريبا عن البلدة، كان لدينا اهتمام مشترك وهو نجوم السينما، كانت قد شاهدت أفلاما أكثر بكثير مما شاهدت؛ ففي شيكاجو كان يمكنك أن تشاهد أفلاما بعد ظهيرة كل يوم، واعتادت سادي أن تصطحبها إلى السينما، أما أنا فكنت أمر من أمام السينما وأنظر إلى «أفيشات» الأفلام في كل مرة تتغير فيها، ومن ثم كنت أعرف عنها شيئا. كان لدي في المنزل مجلة سينمائية واحدة تركتها إحدى قريباتنا حين كانت في زيارة لنا، وكانت تحوي صورا لزفاف ديانا دوربين. ومن ثم أخذنا نتحدث عن ذلك، وعن الشكل الذي نرغبه لحفل زفافنا؛ فستان الزفاف، وفساتين الوصيفات، والزهور، وملابس شهر العسل. كانت نفس القريبة قد أعطتني هدية؛ دفتر صور مقصوصة لفتيات زيجفيلد. كانت فرانسيس قد شاهدت فيلم «فتاة زيجفيلد» وتحدثنا عن أي فتاة من فتيات زيجفيلد تود كل منا أن تكون، واختارت جودي جارلاند لأنها تستطيع الغناء، فيما اخترت أنا هيدي لامار لكونها الأجمل. «كان أبي وأمي يغنيان في جمعية الأوبرا الكوميدية. كانا يغنيان في أوبرا «قراصنة بنزانس».»
لم يكن نطقها لكلمتي الأوبرا الكوميدية وقراصنة بنزانس صحيحا؛ لذا احتفظت بالكلمتين في ذاكرتي ولكن لم أكن لأسألها عن معنيهما. لو كانت قد قالتهما في المدرسة، أمام الآخرين، لكانتا بمنزلة ذخيرة لا تقاوم للهجوم عليها.
حين كانت والدتها تخرج لتحيتنا - طابعة على وجه فرانسيس قبلة العودة مثلما كانت تقبلها عند وداعها صباحا - كان من الممكن أن تسأل إن كان بإمكاني الدخول واللعب معها، ودائما ما كنت أقول إن علي التوجه مباشرة إلى المنزل. •••
قبيل احتفالات الكريسماس، سألتني السيدة وينرايت إن كان بإمكاني القدوم لتناول العشاء معهم يوم الأحد القادم. قالت إنه سيكون حفل شكر صغير وحفل وداع استعدادا للرحيل عن المنطقة. كنت على وشك أن أقول إنني لا أعتقد أن والدتي سوف تسمح لي بالذهاب، ولكن عندما سمعت كلمة «وداع»، تغير منظوري للدعوة؛ فعبء فرانسيس سوف يرفع عن كاهلي، ولن يكون ثمة أي التزام بعد الآن، ولا ألفة مفروضة علي. قالت السيدة وينرايت إنها كتبت رسالة صغيرة لوالدتي؛ إذ لم يكن لديهم هاتف.
كانت والدتي ستحبذ الأمر أكثر لو كانت الدعوة لمنزل إحدى فتيات البلدة، ولكنها وافقت، وقد وضعت في الاعتبار أيضا مسألة رحيل آل وينرايت.
قالت لي: «لا أعرف فيما كانوا يفكرون بمجيئهم هنا؛ فأي شخص يمكنه تحمل تكاليف شراء ورق الحائط سوف يلصقه بنفسه.»
سألت فرانسيس: «إلى أين ستذهبون؟» «برلينجتون.» «أين يقع هذا المكان؟» «في كندا أيضا، سوف نقيم مع عمتي وعمي، ولكن سيكون لنا مرحاضنا الخاص بالطابق العلوي وحوض خاص ولوح تسخين. سوف يحصل أبي على وظيفة أفضل.» «ماذا سيعمل؟» «لست أدري.» •••
كانت شجرة عيد الميلاد خاصتهم تقف في أحد الأركان؛ فقد كانت للغرفة الأمامية نافذة واحدة فقط، ولو أنهم وضعوا الشجرة هناك لحجبت كل الضوء. لم تكن شجرة كبيرة أو حسنة الشكل، ولكنها كانت مغطاة بكثافة بخيوط الزينة اللامعة والخرز الذهبي والفضي وزخارف متشابكة جميلة. وفي ركن آخر من الغرفة كان ثمة مدفأة تستخدم الخشب كوقود لها، وبدا أن النار قد أوقدت فيها توا. وكان الهواء لا يزال باردا وشديدا يحمل رائحة أشجار الغابة.
لم يكن السيد أو السيدة وينرايت واثقين بشأن نار المدفأة، وأخذ الرجل في البداية وتبعته زوجته بعد ذلك في العبث بالصمام الخامد، ومدا أيديهما بجرأة نحو القضيب المعدني الخاص بتزكية النار، وأخذا يضربان الأنبوب ضربا خفيفا لمعرفة ما إذا كان يسخن أم لا، أو ما إذا كان ساخنا أكثر من اللازم بأي حال. كانت الرياح عاتية في ذلك اليوم، حتى إنها أحيانا ما كانت تنفخ الدخان عبر المدخنة.
لم يكن لذلك أي أهمية لدي أنا وفرانسيس؛ فعلى طاولة للعب الورق نصبت في منتصف الغرفة كانت ثمة لعبة دامة صينية جاهزة لكي يلعبها شخصان، ومجموعة من المجلات السينمائية، وفي الحال انقضضت على المجلات، لم يمر بخيالي قط أن أجد مثل هذه الوليمة من المجلات. لم يكن مهما بالنسبة إلي أنها لم تكن جديدة ولا أن بعضها كان شبه ممزق من كثرة تصفحه. وقفت فرانسيس بجوار مقعدي، مفسدة علي متعتي قليلا بإخباري بما سأجده بعد ذلك في المجلة التي بين يدي وما تحويه أخرى لم أفتحها بعد. كانت المجلات فكرتها بالطبع، وكان علي التحلي بالصبر معها؛ فقد كانت ملكا لها، ولو قررت انتزاعها لعصف بي الحزن أكثر مما حدث لي عندما أغرق أبي قططي الصغيرة.
كانت ترتدي ثوبا ربما يكون قد خرج من واحدة من تلك المجلات؛ كان رداء حفلات لإحدى النجمات السينمائيات من الأطفال، وكان من القماش المخملي ذي اللون الأحمر القاني وله ياقة من الدانتيل الأبيض وشريط أسود متدل عبر الدانتيل. كان رداء والدتها مماثلا لردائها تماما، وكانت تسريحة شعرهما واحدة؛ الشعر متموج من الأمام ومنسدل من الخلف. كان شعر فرانسيس خفيفا وناعما، وفي غمرة حماسها وقفزها هنا وهناك لتريني الأشياء كان تموجه قد انحل بالفعل.
كانت الغرفة تزداد ظلاما، وكانت ثمة أسلاك بارزة من السقف ولكن دون مصابيح، فأحضرت السيدة وينرايت مصباحا ذا سلك طويل ووضعت قابسه في مقبس بالحائط، فتألق ضوء المصباح عبر الإطار الزجاجي الأخضر الفاتح لتنورة نسائية طويلة. «إنها تنورة سكارليت أوهارا. أهديتها أنا وأبي إلى أمي في عيد ميلادها.»
لم نجد وقتا للعب الدامة الصينية، وبعد فترة أزيلت لوحة اللعب الخاصة بها، ونقلنا المجلات إلى الأرض، وبسطت قطعة من القماش المطرز - لم تكن مفرش مائدة بالمعنى المفهوم - عبر الطاولة، ثم تبع ذلك وضع الأطباق عليها. كان من الواضح أني أنا وفرانسيس سوف نتناول طعامنا هنا بمفردنا. انشغل كلا الأبوين في تجهيز الطاولة؛ وكانت السيدة وينرايت ترتدي مريلة رائعة فوق ردائها المخملي الأحمر بينما ارتدى السيد وينرايت قميصا وصدرية الجزء الخلفي منها مصنوع من الحرير.
حين انتهى إعداد كل شيء دعينا إلى الطاولة. توقعت أن يترك السيد وينرايت تقديم الطعام لزوجته؛ والحق أنني قد اندهشت جدا حين رأيته يتحرك حول المائدة بالسكاكين والشوك، ولكنه حينئذ كان يجذب لنا مقاعدنا لنجلس، وأعلن أنه سيلعب دور النادل. حين اقترب مني لتلك الدرجة، استطعت أن أشم رائحته وأسمع صوت أنفاسه. كانت أنفاسه تبدو متلهفة، مثل أنفاس كلب، وكانت تفوح منه رائحة بودرة التلك واللوسيون التجميلي، ذكرتني برائحة الحفاضات النظيفة وأوحت بحميمية مثيرة للاشمئزاز.
قال: «والآن آنساتي الجميلات، سوف أحضر لكما بعض الشامبانيا!»
وإذا به يحضر إبريقا به عصير ليمون ويملأ كئوسنا منه . راودني شعور بالقلق إلى أن تذوقته؛ فقد كنت أعرف أن الشامبانيا مشروب كحولي، ولم يكن لمثل تلك المشروبات مكان في منزلنا ولا في منزل أحد ممن نعرفهم. وراح السيد وينرايت يرقبني وأنا أتذوقه وبدا أنه كان يخمن ما أشعر به.
قال: «هل ثمة مشكلة؟ ألست قلقة الآن؟ هل كل شيء ينال رضا سيادتك؟»
ثم انحنى لي.
وأردف قائلا: «والآن، ماذا تحبين أن تتناولي من صنوف الطعام؟» وراح يسرد قائمة من الأصناف غير المألوفة؛ كان كل ما فهمته منها هو لحم الغزال، الذي لم يسبق لي أن تذوقته بالتأكيد، وانتهت القائمة بالحلويات، فضحكت فرانسيس وقالت: «سوف نتناول حلويات من فضلك، مع البطاطس.»
توقعت أن تكون الحلويات مثل اسمها؛ نوعا من الكعك المزين بالمربى أو السكر البني، ولكن لم يتسن لي أن أعرف لم سيكون معها بطاطس. ولكن ما وصلنا كان عبارة عن قطع صغيرة من اللحم محوطة بلحم خنزير مقدد مقلي وحبات بطاطس صغيرة بقشرها، قلبت في الزبد الساخن وقليت في المقلاة. وكان يوجد أيضا جزر مقطع إلى أعواد رفيعة وله نكهة مسكرة قليلا. لم أكن أحب الجزر، ولكنني لم أتذوق في حياتي بطاطس بهذا الطعم اللذيذ ولا لحما بتلك الطراوة. كان كل ما أتمناه هو أن يبقى السيد وينرايت في المطبخ بدلا من أن يحوم حولنا ليصب لنا عصير الليمون، ويسألنا إن كان كل شيء ينال إعجابنا.
أما الحلوى، فتلك أعجوبة أخرى؛ كانت عبارة عن بودنج أملس من الفانيليا عليه شيء أقرب إلى الغطاء من السكر المخبوز حتى اكتسب لونا بنيا ضاربا إلى الذهبي، ومعه كعكات صغيرة مغطاة من جميع الجوانب بشوكولاتة غنية شديدة الدكانة.
جلست في حالة من الامتلاء فيما لم يتبق لعقة أو فتات. أخذت أتأمل الشجرة المستوحاة من إحدى القصص الخيالية بزيناتها التي ربما كانت على شكل قلاع مصغرة أو ملائكة. كانت تيارات الهواء تأتي عبر النافذة وتحرك الفروع قليلا، جاعلة شرائط الزينة الكثيفة تتموج والزينات تميل قليلا لتظهر نقاطا جديدة من الضوء. بدا لي حين امتلأت معدتي بذلك الطعام الغني الشهي وكأنني في حلم رأيت فيه كل شيء قويا ومأمونا.
كان من الأشياء التي رأيتها ضوء النار؛ وهجا متثاقلا بلون الصدأ يتصاعد من الأنبوب، فقلت لفرانسيس بلا أدنى انزعاج: «أعتقد أن أنبوب مدفأتكم يحترق.»
فأخذت تصيح بروح من الإثارة التي غمرتها على إثر الحفل: «الأنبوب يحترق!» ليدخل السيد وينرايت، الذي كان قد ذهب أخيرا إلى المطبخ، وخلفه السيدة وينرايت على مسافة قريبة.
قالت السيدة وينرايت: «يا إلهي، بيلي! ماذا سنفعل؟»
فقال السيد وينرايت: «أعتقد أن علينا غلق وحدة تنظيم تدفق الهواء.» كان صوته رفيعا حادا ويبدو فيه الخوف، بما لا يليق بأب.
فعل ذلك، ثم أخذ يصرخ وينفض يده التي كانت قد احترقت لا محالة، ووقف الاثنان وجعلا ينظران إلى الأنبوب الذي تلون بحمرة النار، ثم قالت بصوت مرتجف: «ثمة شيء من المفترض أن تضعه عليه. ما هو؟ بيكربونات الصوديوم!» فهرعت إلى المطبخ وعادت ومعها علبة بيكربونات الصوديوم وهي شبه باكية. صاحت قائلة: «ضعها على ألسنة اللهب مباشرة.» كان السيد وينرايت لا يزال يفرك يده ببنطاله؛ لذا لفت مريلتها حول يدها واستخدمت رافع المدفأة وراحت تنثر المسحوق على النيران. كان ثمة صوت أشبه بصوت البصق عندما بدأت النيران تخمد ويتصاعد الدخان داخل الغرفة.
فقالت: «يا فتيات، يا فتيات! من الأفضل أن تسرعا بالخروج من هنا.» وكانت تبكي بالفعل في تلك اللحظة.
وتذكرت شيئا من أزمة مماثلة حدثت في منزلنا.
فقلت: «يمكن أن تلفي مناشف مبللة حول الأنبوب.»
قالت: «مناشف مبللة! تبدو فكرة جيدة، نعم.»
فهرعت إلى المطبخ حيث سمعناها وهي تضخ المياه، وتبعها السيد وينرايت وهو ينفض يده المحترقة أمامه، وعاد الاثنان وقطرات الماء تتساقط من المناشف. ربطت المناشف حول الأنبوب، وما إن كانت تبدأ في السخونة والجفاف حتى كانت توضع أخرى في مكانها. وبدأت الغرفة تمتلئ أكثر وأكثر بالدخان، وشرعت فرانسيس في السعال.
قال السيد وينرايت: «فلتحصلي على بعض الهواء النقي!» واستغرق منه الأمر بعض الوقت ليفتح الباب الأمامي غير المستخدم بقوة بيده السليمة، تاركا بقايا الجرائد القديمة والممسحات المتعفنة التي كانت متراكمة حوله لتتطاير بالداخل. وكانت ثمة كومة ثلج بالخارج، فدخلت موجة بيضاء الغرفة.
قالت فرانسيس بينما لا يزال صوتها يبدو مبتهجا بين نوبات السعال: «فلنقذف الثلج على النار!» وأخذنا معا في التقاط حفنات من الثلج وقذفها نحو المدفأة. كان بعضها يصيب ما تبقى من النيران، والبعض يخطئ الهدف وينصهر وينسكب في البرك الصغيرة التي خلفتها قطرات الماء المتساقطة من المناشف على الأرض. لم يكن ليسمح لي بإحداث مثل هذه الفوضى في المنزل.
في وسط هذه البرك، وبعد أن انتهى الخطر، وأخذت البرودة تلف الغرفة أكثر فأكثر، وقف السيد والسيدة وينرايت وكل منهما يلف الآخر بذراعه، يضحكان ويواسي كل منهما الآخر.
قالت السيدة وينرايت: «يا ليدك المسكينة! وأنا التي لم أشعر بذرة تعاطف نحوها! لقد كنت في أشد الخوف من أن يحترق المنزل.» وحاولت تقبيل يده، فقال: «آه، آه!» كانت الدموع في عينيه هو أيضا من الدخان أو من الألم.
ربتت على ذراعيه وكتفيه وحتى على ردفيه قائلة: «يا لحبيبي المسكين!» وأشياء من هذا القبيل، بينما ضم هو شفتيه وقبلها قبلة قوية، ثم ضمها من الخلف بيده السليمة.
بدا وكأن حلقة الملاطفة تلك قد تستمر لبعض الوقت.
قالت فرانسيس وقد عم الاحمرار جسدها من أثر السعال والإثارة الممزوجة بالسعادة: «أغلقوا الباب، الجو متجمد.» لو كانت تقصد أن يقوم والداها بذلك، فهما لم يلقيا بالا لشيء سوى الاستمرار في ذلك السلوك المريع الذي لم يبد أنه يسبب لها أي حرج أو حتى يستحق اهتمامها. فأمسكت كلتانا الباب ودفعناه في عكس اتجاه الرياح التي كانت تثير تيار الهواء وتقذف مزيدا من الثلج إلى داخل المنزل. •••
لم أتحدث عن أي من هذا لأهلي عندما عدت إلى المنزل، على الرغم من أن الطعام والزينات والنيران كانت غاية في الإثارة والتشويق. كانت هناك الأشياء الأخرى التي لم يكن بوسعي وصفها مما جعلني أشعر باختلال التوازن، والغثيان قليلا؛ ومن ثم لم أشأ على نحو ما أن أذكر أيا منها؛ الطريقة الرائعة التي يعامل بها الوالدان الطفلتين. لعبة النادل التي مارسها السيد وينرايت، ويداه السميكتان البيضاوان كقطعة صابون، ووجهه الشاحب، وشعره الناعم اللامع ذو اللون البني الفاتح. الثبات - القرب المبالغ فيه - في خطواته الناعمة وهو يرتدي شبشبا منتفخا ذا نقوش مربعة، ثم تأتي تلك الضحكات التي لا تليق تماما بالكبار، عقب كارثة كانت وشيكة، والأيدي الوقحة والقبلة المدوية. كان ثمة تهديد زاحف بشأن كل هذا، بداية من أكذوبة دفعي إلى لعب دور الصديقة الصغيرة - كانت كلتاهما تصفانني بهذا - في حين لم أكن أي شيء من هذا القبيل، ومعاملتي كفتاة طيبة وبريئة، في حين لم أكن كذلك أيضا.
ماذا كان هذا التهديد؟ هل كان مجرد تهديد الحب أو المودة؟ لو كان الأمر كذلك، لكان عليك أن تقول إنني قد أدركته بعد فوات الأوان. وقد جعلني هذا الشرود الذهني أشعر بالحرج والمهانة، كما لو كان أحدهم قد نظر داخل سروالي، حتى الطعام الرائع غير التقليدي شابته الشكوك في ذاكرتي. وحدها المجلات السينمائية هي ما أفلتت من وصمة الشك.
بنهاية إجازات الكريسماس، كان منزل آل وينرايت قد خوى من سكانه. كان الثلج شديدا للغاية في ذلك العام حتى إن سقف المطبخ قد انهار. وحتى بعد حدوث ذلك لم يشغل أحد نفسه بهدم المنزل أو وضع لافتة «ملكية خاصة، ممنوع التعدي». ولسنوات كان الأطفال - وكنت أنا من بينهم - يتسكعون حول الأنقاض المحفوفة بالخطر لمجرد أن يروا ما يمكنهم أن يجدوه هناك. كان يبدو أن لا أحد يخشى بشأن الإصابات أو المساءلة.
ولم تظهر أي مجلات سينمائية. •••
حكيت لأسرتي عن داليا. في ذلك الوقت كنت قد أصبحت شخصا مختلفا تماما، من وجهة نظري، عن تلك الفتاة التي كانت في منزل آل وينرايت. ففي بداية سنوات المراهقة كنت قد أصبحت مصدر التسلية في المنزل، لا أقصد بذلك أنني كنت دائما ما أحاول إضحاك أفراد عائلتي - رغم أنني كنت أفعل ذلك أيضا - بل أقصد أنني كنت أنقل الأخبار والنمائم، كنت أخبرهم بأشياء حدثت في المدرسة، ولكن أيضا بأشياء حدثت في البلدة ، أو كنت أكتفي فقط بوصف شكل الأشخاص الذين رأيتهم في الشارع أو حديثهم. وقد تعلمت القيام بذلك بأسلوب تهكمي أو ساخر، لم يكن ليعرضني للتوبيخ، أو لأن يقال لي إنني شديدة الذكاء لدرجة تضر بي. فقد أتقنت تصنع الوجه الجامد، بل والأسلوب الوقور الرزين الذي كان يمكن أن يضحك الآخرين حتى عندما يظنون أنهم ينبغي ألا يضحكوا والذي يجعل من الصعب تحديد ما إذا كانت نياتي بريئة أم خبيثة.
تلك كانت الطريقة التي تحدثت بها عن زحف داليا بين أشجار السماق للتلصص على والدها، وعن كراهيتها له، وحديثها عن قتله. وكانت هي الطريقة التي كان يجب أن تروى بها أي قصة عن عائلة نيوكام، وليس فقط الطريقة التي كان يجب أن أرويها بها؛ فأي قصة عنهم كان ينبغي أن تؤكد، بما يرضي الجميع، كيف كانوا يؤدون أدوارهم بإتقان وصدق، وها هي داليا الآن هي الأخرى صار ينظر إليها على أنها تنتمي إلى هذه الصورة. التلصص، التهديدات، الميلودراما، مطاردته لها بالمجرفة، أفكارها عن كونه سيعدم حال قتلها، وعدم إمكانية إعدامها، لو قتلته بينما كانت لا تزال حدثا.
واتفق والدي مع هذا. «من الصعب أن تجعلي أي محكمة هنا تصدر حكما بإدانتها.»
وقالت أمي إن ما فعله مثل هذا الرجل بابنته لهو عار.
يبدو لي غريبا الآن أننا قد استطعنا خوض هذا الحديث بتلك السهولة، دون أن يخطر لنا أن أبي كان يضربني، في بعض الأحيان، وأنني كنت أصرخ معلنة رغبتي لا في قتله، ولكن في الموت، وأن هذا لم يحدث منذ فترة بعيدة - فقد حدث ثلاث أو أربع مرات، حسبما أعتقد، حين كنت تقريبا في الحادية عشرة أو الثانية عشرة. وقد حدث ذلك في الفترة ما بين معرفتي بفرانسيس ومعرفتي بداليا. كنت أعاقب في تلك المرات لخلاف نشب بيني وبين أمي، أو لرد وقح، أو للغو كي أبدو ذكية، أو لعناد مني. فكانت أمي تأتي بأبي من عمله للتعامل معي، وكنت أنا أنتظر وصوله، بغضب مثبط في البداية ، ثم بيأس مثير للاشمئزاز، كنت أشعر وكأن نفسي ذاتها هي التي كانا يسعيان وراءها، وأعتقد أن الأمر كان كذلك على نحو ما. لقد كان الجزء المعتد بذاته المولع بالجدل من نفسي هو ما كان يجب أن يضرب ضربا مبرحا، حين كان أبي يشرع في نزع حزامه - كانت تلك هي وسيلته في ضربي - كنت أبدأ في الصراخ: «لا، لا»، وأدافع عن نفسي بأسلوب يفتقر إلى التماسك، بطريقة بدت تدفعه لازدرائي. والحق أن سلوكي حينها كان مثيرا للازدراء؛ إذ كان لا يظهر طبيعة من الإباء أو حتى احترام النفس، ولم أكن أعبأ بذلك. وحين كان الحزام يرفع - في اللحظة السابقة لنزوله علي - كانت هناك لحظة من المكاشفة العصيبة، وكان الظلم هو ما يسود. لم يكن بإمكاني مطلقا أن أروي الجانب الخاص بي من الأمور؛ إذ كان لاشمئزاز أبي مني اليد العليا. كيف كان يمكن ألا أجد نفسي أنوح في وجه مثل هذا الانحراف في الطباع؟
أنا على يقين من أن أبي لو كان حيا الآن، لقال إنني أبالغ، وإن الإهانة التي كان يقصد إنزالها بي لم تكن شديدة لتلك الدرجة، وإن أخطائي كانت مربكة، وإنه لا توجد طريقة أخرى غير ذلك للتعامل مع الأطفال. لقد كنت أسبب له متاعب وأسبب حزنا لأمي، وكان يجب أن أقتنع بضرورة تغيير طريقتي.
وقد فعلت؛ فقد كبرت، وأصبحت مصدر نفع في المنزل؛ تعلمت ألا أتكلم بوقاحة، ووجدت طرقا لأجعل نفسي مقبولة ومستحسنة من قبل الآخرين.
وحين كنت مع داليا أنصت لما تقول، وحين كنت أسير إلى المنزل بمفردي، وحين كنت أروي القصة لأسرتي، لم أفكر ولو لمرة أن أقارن موقفي بموقفها. بالطبع لا! لقد كنا أسرة محترمة؛ فلم تكن أمي، رغم ما كان يصيبها من كدر في بعض الأحيان من سلوك أسرتها، تذهب إلى البلدة بشعر أشعث، أو ترتدي حذاء فوقيا مطاطيا مترهلا. ولم يكن أبي سبابا؛ فقد كان رجلا ذا احترام وكفاءة وروح دعابة، وكانت لدي رغبة شديدة في إرضائه أكثر من أمي. لم أكن أكرهه، لم أكن أستطيع حتى التفكير في كراهيته. بل كنت أرى ما كان يكرهه في؛ فقد كان في طبيعتي غطرسة مرتعشة، شيء وقح ولكنه جبان، كانت توقظ بداخله ذلك الغضب العارم.
إنه الخزي؛ الخزي من تعرضي للضرب، والخزي من الانكماش خوفا من الضرب. إنه الخزي الدائم، الفضح. وثمة شيء يربط هذا، كما أستشعره الآن، بالخزي، إنه الاضطراب الذي تسلل إلي حين سمعت وقع قدمي السيد وينرايت المكتسيتين بالشبشب المنتفخ، وصوت أنفاسه. كانت ثمة متطلبات بدت غير لائقة، كانت ثمة انتهاكات مريعة، منها ما كان مسترقا ومنها ما كان صريحا؛ البعض منها كان يمكن أن يثير حفيظتي، والبعض الآخر يجعلني أنكمش خجلا. كل ذلك كان من مخاطر الحياة التي لاقيتها في الطفولة.
وكما يقول المثل الدارج، عن هذه المسألة المتعلقة بما يشكلنا أو يغلفنا: إن لم يكن هذا الأمر، فسوف يكون غيره. على الأقل كان هذا من أقوال الكبار في تلك الأيام، بما اكتنفه من غموض، وإزعاج، وعدم توجيه أي اتهام.
في صباح يوم الجمعة الماضي، لقي هارفي رايان نيوكام، وهو أحد المزارعين المعروفين في بلدة شيلبي، مصرعه صعقا بالكهرباء. والفقيد كان الزوج المحب للسيدة دورثي (موريس) نيوكام، وأبناؤه هم: السيدة جوزيف (أبريل) ماكوناهاي من مدينة سارنيا، والسيدة إيفان (كورين) ويلسون من قرية كاسلو، كولومبيا البريطانية، والسيدة هيو (جلوريا) وايتهيد من البلدة، والآنستان سوزانا وداليا، من البلدة أيضا، ورايموند، الذي يعيش بمنزل العائلة. كما أن له سبعة من الأحفاد. وقد شيعت الجنازة بعد ظهر الإثنين من مركز ريفي براذرز للمراسم الجنائزية وتمت مراسم الدفن في جبانة بيثل.
تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وسوف أريحكم.
لم يكن من الممكن أن يكون لداليا نيوكام أي صلة بالحادث الذي تعرض له والدها، فقد وقع حين مد يده ليضيء مصباحا في مقبس معدني متدل، بينما كان يقف على أرضية مبتلة في إسطبل أحد الجيران، حيث أخذ إحدى بقراته إلى هناك ليلقحها الثور، وكان يتشاجر بشأن ما سيدفعه مقابل ذلك. ولسبب ما لم يتسن لأحد فهمه، لم يكن يرتدي حذاءه المطاطي الطويل، الذي قال الجميع إنه ربما كان سينقذ حياته.
الاستلقاء أسفل شجرة التفاح
على الجانب الآخر من البلدة كانت تعيش سيدة تدعى ميريام ماكالبن، كانت تربي خيولا. لم تكن هذه الخيول ملكا لها، بل كانت ترعاها وتدربها من أجل أصحابها، الذين كانوا من هواة سباق عربات الخيول الخفيفة ذات العجلتين المسماة بالصلكية. كانت تعيش في منزل كان المنزل الريفي الأصلي، بالقرب من حظائر الخيول، مع والديها المسنين اللذين نادرا ما كانا يخطوان خارج باب المنزل. ووراء المنزل والحظائر كان ثمة مضمار بيضاوي الشكل كان من الممكن أن تشاهد فيه ميريام، أو عامل الإسطبل، أو أحيانا أصحاب الخيول أنفسهم، من آن لآخر على المقعد المنخفض لصلكية رديئة الشكل، التي كانت خيولها تنطلق بقوة مثيرة الغبار من حولها.
في أحد حقول المرعى الخاصة بالخيول، بجوار شارع البلدة، كانت توجد ثلاث من أشجار التفاح، كانت مما تبقى من بستان قديم، كانت اثنتان منهما صغيرتين ومنحنيتين، والثالثة كبيرة جدا مثل شجرة قيقب شبه بالغة. لم تكن تلك الأشجار تقلم أو تسقى، وكانت ثمار التفاح جربة لا تستحق السرقة، ولكن في معظم السنين كان ثمة إزهار وفير، وكانت أزهار التفاح المتفتحة تتدلى في كل مكان، ومن ثم كانت الأفرع تبدو من مسافة قريبة متجمدة تماما بالثلج. •••
كنت قد ورثت دراجة، أو على الأقل كان لدي حق الانتفاع بواحدة، تركها عاملنا الذي كان يعمل لدينا بدوام جزئي حين رحل من أجل العمل في أحد مصانع الطائرات. كانت دراجة رجالية، بالطبع؛ إذ كان مقعدها مرتفع، وكانت خفيفة الوزن، وكان تصميمها ذا شكل غريب توقف إنتاجه منذ فترة طويلة.
قالت لي شقيقتي حين بدأت في التدرب على قيادة الدراجة عبر ممرنا: «إنك لن تذهبي بها إلى المدرسة، أليس كذلك؟» كانت شقيقتي تصغرني سنا، ولكن أحيانا ما كانت تعاني القلق نيابة عني، لإدراكها - ربما قبلي - للطرق المتعددة التي يمكن أن أجازف بها بجعل نفسي أضحوكة للآخرين. لم تكن تفكر في شكل الدراجة فحسب، ولكن أيضا في حقيقة أنني في الثالثة عشرة وفي عامي الأول في المدرسة الثانوية، وأن هذا العام يعد عاما حاسما فيما يتعلق بقيادة الفتيات للدراجات إلى المدرسة؛ فقد كان لزاما على جميع الفتيات اللاتي يردن إثبات أنوثتهن التخلي عن ركوبها. وكانت الفتيات اللاتي يستمررن في ركوبها إما يسكن في مكان ناء للغاية في الريف بما يتعذر معه السير - ولهن آباء لا يستطيعون تحمل تكاليف إقامتهن في البلدة - وإما كن ببساطة غريبات الأطوار ولا يستطعن أن يأخذن في اعتبارهن قواعد معينة غير معلنة ولكنها أساسية. وقد كنا نعيش فيما وراء حدود البلدة تماما، ولو ظهرت وأنا أركب دراجة - وخاصة تلك الدراجة - لكنت سأضع نفسي في فئة أولئك الفتيات اللاتي كن يرتدين أحذية أكسفورد النسائية والجوارب القطنية المغزولة ويموجن شعورهن.
فقلت: «لن أذهب بها إلى المدرسة.» ولكنني بدأت بالفعل في الانتفاع بالدراجة بركوبها إلى الريف عبر الطرق الخلفية فيما بعد ظهيرة أيام الأحد. كانت الفرصة آنذاك لمقابلة أي شخص أعرفه تكاد تكون معدومة، وأحيانا ما كنت لا ألتقي أي أحد.
كنت أهوى القيام بذلك؛ إذ كان لدي شغف داخلي بالطبيعة، وقد أتى لي هذا الشعور من الكتب في البداية؛ جاء من قصص الفتيات التي كتبها الكاتب إل إم مونتجمري، الذي كان غالبا ما يقحم بعض العبارات التي تصف حقلا مغطى بالثلوج تحت سنا القمر أو غابة صنوبرية أو بركة ساكنة تعكس سماء المساء. وبعد ذلك، اندمج مع شغف آخر خاص لدي بأبيات الشعر؛ فقد كنت أغوص وسط كتبي المدرسية بنهم وحماس من أجل استكشاف معانيها قبل أن تقرأ في الفصل وتصب عليها اللعنات.
وكان إفشاء أي من هذين الشغفين، سواء في المنزل أو في المدرسة، يضعني في حالة دائمة من الضعف ويجعلني عرضة للهجوم، وهي الحالة التي كنت أشعر بأنني أعيشها بالفعل بدرجة ما. كان كل ما على أحدهم أن يقوله، بصوت معين: «سوف تفعلين ...»، أو: «ما رأيك في ...»، فأشعر بالسخرية، الهواء الطاهر، الأبيات وقد رسمت أمامي. ولكن الآن صارت معي الدراجة، وبإمكاني قيادتها في عصر أيام الأحد داخل بقعة بدت في انتظار نوعية الولاء الذي أردت تقديمه. كانت توجد هنا صفحات الماء القادمة من الجداول المغمورة بالماء التي تتألق على الأرض، وأكداس نباتات التريليوم أسفل الأشجار ذات الأزهار الحمراء، كما كانت توجد أشجار كرز فيرجينيا، والكرز الأحمر، في الشريط المجدب على جانبي السور، وهي تنقسم إلى أجزاء صغيرة رقيقة من الزهرة قبل أن تنمو عليها أي ورقة.
دفعتني أزهار الكرز للتفكير في الأشجار بحقل ميريام ماكالبن، كانت لدي رغبة في النظر إليها وهي تزهر، وليس النظر إليها فحسب - مثلما يمكنك أن تفعل وأنت سائر في الشارع - بل والدخول أسفل تلك الأفرع والاستلقاء على ظهري مسندة رأسي إلى جذع الشجرة ومعرفة مدى ارتفاعه، وكأنه قد خرج من جمجمتي، سيرتفع إلى أعلى ويستغرق تماما داخل بحر مضطرب من الأزهار المتفتحة، ولمعرفة أيضا إن كانت ثمة أجزاء من السماء تظهر خلال ذلك، حتى أستطيع أن أغلق عيني بشدة لكي أجعل تلك الأجزاء مشهدا أماميا وليس خلفية، أجزاء ذات لون أزرق زاه على هذا البحر الأبيض العريض. كان في هذه الفكرة شيء أشبه بطقس طالما اشتقت إليه؛ فقد كان أشبه تقريبا بالركوع في الكنيسة، وهو الشيء الذي لم نكن نفعله في كنيستنا. كنت قد فعلته مرة واحدة، حين كنت صديقة لداليا كافانا واصطحبتنا والدتها إلى الكنيسة الكاثوليكية في أحد أيام السبت لإعداد الزهور. رسمت إشارة الصليب وجثوت على ركبتي في أحد المقاعد، وقالت داليا، من دون حتى أن تهمس: «لماذا تفعلين هذا؟ ليس من المفترض بك أن تفعلي هذا، إنه لنا نحن فقط.» •••
تركت الدراجة ممددة وسط الحشائش. كنا في المساء، وكنت قد اتخذت طريقي نحو البلدة بالدراجة عبر الشوارع الخلفية، ولم يكن هناك أي أحد في فناء الإسطبلات أو حول المنزل، فتسلقت السور، وحاولت بأقصى ما لدي من سرعة، من دون ركض، أن أجتاز الأرض حيث كانت الخيول تأكل الحشائش المبكرة. خفضت رأسي أسفل أفرع الشجرة الكبيرة وظللت أنحني وأتعثر، وأحيانا ما كانت الأزهار تصطدم بوجهي ، إلى أن وصلت عند جذع الشجرة واستطعت القيام بما جئت للقيام به.
استلقيت على ظهري في انبطاح، كان ثمة جذر من جذور الشجرة له نتوء صلب تحتي؛ ما اضطرني للاستلقاء في الوضع المعاكس. وكان ثمة بقايا من تفاح العام الماضي، داكنة كقطع اللحم المجفف، حتى إنني اضطررت لإزاحتها من طريقي قبل أن أتمكن من الاستلقاء. وحتى بعد ذلك، حين استجمعت هدوئي، كنت أشعر بجسدي في وضع غريب وغير طبيعي، وحين نظرت لأعلى إلى كل البتلات اللؤلئية المتدلية بلونها الوردي الباهت، كل طاقات الزهور الصغيرة المعدة مسبقا، لم أكن قد استغرقت تماما في تلك الحالة الذهنية من التعبد التي كنت أرجوها. وكانت السماء غائمة قليلا، وذكرني ما استطعت رؤيته منها بقطع الخزف الداكنة من اتساخها.
لم يكن ذلك بالأمر الذي لا يستحق الإقدام عليه، على الأقل - حين بدأت أدرك حين نهضت وخرجت من هناك في اندفاع وتعجل - كان أمرا يستحق القيام به. وقد كان ذلك أقرب لاعتراف، وليس تجربة. اجتزت الحقل في عجالة، ثم تسلقت السور، واستعدت دراجتي، بل كنت قد بدأت في التحرك بالدراجة حين سمعت صفيرا عاليا واسمي ينادى. «يا هذه، أنت؟ نعم، أنت!»
كانت هذه هي ميريام ماكالبن. «تعالي إلى هنا دقيقة واحدة.»
فاستدرت بالدراجة. وهناك في الممر الكائن ما بين المنزل القديم وحظائر الخيول كانت ميريام تتحدث إلى رجلين، لا بد أنهما كانا في السيارة المتوقفة بجانب الطريق. كان كل منهما يرتدي قميصا أبيض، وصديري بذلة، وبنطلونا، مثلما يرتدي أي رجل كان يعمل في مكتب أو خلف خزينة في تلك الأيام منذ أن يرتدي ملابسه في الصباح حتى يخلع ملابسه للخلود إلى النوم. وبجوارهما كانت ميريام في بنطال العمل الخاص بها وقميص فضفاض ذي نقوش مربعة، وكانت تبدو كصبي مزهو بنفسه في الثانية عشرة من عمره، على الرغم من أنها كانت امرأة بين الخامسة والعشرين والثلاثين من عمرها. كانت تبدو كذلك، أو كانت تبدو أشبه بفارس، بشعرها القصير للغاية، وكتفيها المحدبين، وبشرتها الجافة. رمقتني بنظرة جمعت ما بين التهديد والاستهزاء.
قالت: «لقد رأيتك في حقلنا.»
لم أنطق بشيء؛ فقد كنت أعلم السؤال التالي وكنت أحاول التفكير في إجابة له. «حسنا، ماذا كنت تفعلين هناك؟»
قلت: «كنت أبحث عن شيء.» «تبحثين عن شيء! حسنا، ما هو؟» «سوار.»
لم أكن قد امتلكت سوارا في حياتي. «ولم ظننت أنه هناك؟» «ظننت أنني قد أضعته هناك.» «حسنا، أضعته هناك. كيف يمكن أن يحدث ذلك؟»
فقلت وقد انتابتني حالة من الارتباك: «لأنني كنت هناك قبل أيام للبحث عن فطر الموريل، وكنت أرتدي السوار آنذاك وظننت أنه ربما قد خلع من يدي.»
كنت صادقة بما يكفي في أن الناس كانوا يبحثون عن هذا الفطر تحت أشجار التفاح في الربيع، وإن كنت لا أعتقد أنهم كانوا يرتدون أساور وهم بصدد ذلك.
فقالت ميريام: «حسنا، وهل وجدت أيا منه؟ وتشاماكالوم؟ أو موريل؟»
فأجبت بالنفي. «عظيم؛ لأنها كانت ستصبح ملكا لي.»
راحت تنظر إلي من أعلى إلى أسفل وقالت ما كانت ترغب في قوله من البداية: «لقد بدأت مبكرا، أليس كذلك؟»
كان أحد الرجلين ينظر في الأرض، ولكن ظننت أنه كان يبتسم. أما الآخر، فكان ينظر إلي مباشرة، رافعا حاجبيه قليلا في توبيخ هزلي. فلم يكن الرجلان اللذان كانا يعرفان من أنا، واللذان كانا يعرفان والدي، على الأرجح ليسمحا لنظراتهما بأن تقول الكثير.
وأدركت الأمر؛ لقد كانت تعتقد - بل كانوا جميعا يعتقدون - أنني كنت تحت الشجرة، مساء أمس أو مساء يوم آخر، مع رجل أو صبي.
قالت ميريام: «اذهبي إلى منزلك. اذهبي إلى منزلك أنت وأساورك ولا تعودي للعبث في أملاكي في المستقبل! اذهبي.»
كانت ميريام ماكالبن معروفة بنزعتها للصياح في الآخرين بصوت عال؛ فقد سمعتها ذات مرة في متجر البقالة تصيح بأعلى صوتها بسبب بعض ثمار الخوخ المعطوبة. كانت الطريقة التي عاملتني بها متوقعة، وبدت الشكوك التي راودتها بشأني وقد أثارت داخلها شعورا واضحا لا التباس فيه من الاشمئزاز الشديد الذي لم يمثل أي مفاجأة لي.
كان الرجلان هما من أصاباني بالغثيان ؛ بنظراتهما التي رمقاني بها والتي جاءت موحية بالاستنكار المستحق والتخمين الحقير، والتهدل والغلظة السمجين في ملامح وجهيهما، مع ارتفاع مستوى الأفكار القذرة في رأسيهما.
خرج عامل الإسطبل وسط هذه الأحداث، كان يقود فرسا مملوكا لأحد الرجلين أو كليهما، وتوقف في الفناء ولم يقترب قيد أنملة. لم يكن يبدو أنه ينظر إلى مخدومته، أو إلى صاحبي الفرس، أو إلي، ولا يعير أي اهتمام للحدث من الأساس؛ فقد كان معتادا على أسلوب ميريام في تعنيف الآخرين.
كانت أفكار الآخرين بشأني - ولا أقصد فقط نوعية الأفكار التي ربما راودت الرجلين أو ميريام، فقد كان لكل نوع خطورة شديدة في حد ذاته - وأي أفكار على الإطلاق، تبدو لي كتهديد غامض، ووقاحة شديدة؛ فقد كنت أكره حتى أن أسمع شخصا يقول شيئا ليس به نسبيا ما يسوء. «لقد رأيتك تسيرين في الشارع قبل أيام، وقد بدوت حالمة.»
كانت كل الأحكام والتخمينات مثل سرب من البق يحاول التسلل إلى فمي وعيني. كان بإمكاني أن أسحقها، أتفلها. •••
همست لي شقيقتي حين عدت إلى المنزل قائلة: «دنس. هناك دنس على ظهر بلوزتك.»
شاهدتني وأنا أخلعها في الحمام، وأدعكها بقطعة من الصابون. لم نكن نشغل الماء الساخن إلا في الشتاء، ومن ثم عرضت علي أن تحضر لي بعض الماء الساخن من الغلاية. لم تسألني من أين جاء هذا الدنس، كان كل ما تتمناه هو التخلص من الدليل وتجنيبي المتاعب. •••
في ليالي السبت دائما ما كان ثمة تجمع في الشارع الرئيسي. في ذلك الوقت لم يكن يوجد ما يسمى بالمركز التجاري في أي مكان في البلدة، ولم تتحول ليلة التسوق الكبرى إلى يوم الجمعة إلا بعد الحرب بعدة سنوات. أتحدث عن عام 1944، حين كان لا يزال لدينا بطاقات تموين، وكان ثمة الكثير من الأشياء التي لا يمكنك شراؤها - مثل السيارات الجديدة والجوارب الحريرية - ولكن كان المزارعون يأتون إلى البلدة وبحوزتهم بعض المال، وكانت المتاجر قد انتعشت بعد حالة الركود التي أصابتها خلال فترة الكساد العظيم وكان كل شيء يظل مفتوحا حتى العاشرة مساء .
كان معظم أهل البلدة يتسوقون خلال الأسبوع وفي فترة النهار. وما لم يكونوا يعملون في المتاجر أو المطاعم، فإنهم كانوا يقبعون في المنازل في ليالي السبت يلعبون الورق مع جيرانهم أو يستمعون إلى الراديو. أما المتزوجون حديثا، والمخطوبون، والمرتبطون عاطفيا، فكانوا يتعانقون في دار السينما، أو يتوجهون بسياراتهم، حال استطاعوا الحصول على كوبونات الوقود، إلى إحدى صالات الرقص على شاطئ البحيرة. كان أهل الريف هم من كانوا يستولون على الشارع، وكان المتحررون من الرجال والفتيات من قاطني الريف هم من كانوا يذهبون إلى نيديز نايت آول، حيث كانت منصة الرقص منصوبة فوق أرض وحلة، وكانت كل رقصة تتكلف عشرة سنتات.
وقفت بالقرب من المنصة مع بعض الأصدقاء ممن هم في نفس عمري. لم يكن أحد يأتي ليدفع لأي منا عشرة سنتات، ولا عجب في ذلك. كانت ضحكاتنا تتعالى، وننتقد الرقص، وتسريحات الشعر، والملابس. وأحيانا ما كنا ننعت إحدى الفتيات بالداعرة، أو رجلا بالجني، وإن لم يكن لدينا تعريف محدد لأي من الكلمتين.
التفت نيدي، الذي كان يبيع التذاكر، بنفسه إلينا وقال: «ألا تعتقدن يا فتيات أنكن بحاجة إلى بعض الهواء المنعش؟» ابتعدنا في خيلاء وتبختر، وإلا لكنا سنمل وسنبادر بالرحيل من تلقاء أنفسنا. اشترينا آيس كريم وأعطت كل منا لعقة للأخرى لتجربة النكهات المختلفة، وسرنا عبر الشارع في خيلاء وزهو، دائرين حول زمر المتحدثين، وعبر حشود الأطفال الذين يرش بعضهم بعضا بالماء من نافورة الشرب. لم يكن أحد يستحق أن نعيره اهتمامنا.
لم تكن الفتيات المشاركات في تلك المسيرة من المنتميات إلى الطبقة العليا، كما كانت أمي تقول بنبرة حزينة وساخرة قليلا؛ فلم يكن لدى واحدة منهن في منزلها غرفة مشمسة، أو أب يرتدي بذلة في أي يوم سوى يوم الأحد. فالفتيات من تلك النوعية كن في ذلك الوقت قابعات في البيوت، أو في منازل إحداهن يلعبن لعبة مونوبولي، أو يعددن حلوى الفدج، أو يجربن تصفيفات جديدة للشعر. وكانت أمي تشعر بالأسف لكونها لا تراني مقبولة في هذه الزمرة.
ولكن لم يكن الأمر يسبب لي أي ضيق؛ فبهذه الطريقة كان بإمكاني أن أكون زعيمة وأستمتع بالصخب والثرثرة. لو كان ذلك تنكرا، فقد كان تنكرا أجيده بسهولة، أو ربما لم يكن تنكرا، ولكن مجرد واحدة من الشخصيات المفككة والمختلفة بالكامل التي يبدو أنها كانت تشكلني.
في قطعة أرض خاوية في الطرف الشمالي من البلدة وضع بعض أعضاء منظمة جيش الخلاص لافتاتهم. كان ثمة واعظ وجوقة صغيرة من المنشدين لإنشاد الترانيم والتراتيل، وصبي بدين على الطبلة، وكذا صبي طويل القامة للعزف على الترومبون، وفتاة للعزف على الكلارنيت، وبعض الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم بعد مزودين بآلات رق.
كان أفراد منظمة جيش الخلاص من طبقة اجتماعية أقل من الفتيات اللاتي كنت بصحبتهن. فالرجل الذي كان يقوم بالوعظ هو سائق العربة الذي يتولى نقل الفحم، لا شك أنه كان قد اغتسل جيدا، ولكن لا يزال على وجهه آثار غبار رمادية. كانت قطرات العرق تتساقط منه من إجهاد الوعظ، وبدا عرقه وكأنه رمادي أيضا. كانت بعض السيارات تطلق نفيرها لكي تشوش عليه أثناء مرورها. (فعلى الرغم من تبديد الوقود، كان ثمة بعض السيارات التي تقاد، بواسطة بعض الشباب، من بداية الشارع حتى الطرف الشمالي، ومن نهاية الشارع حتى الطرف الجنوبي، مرارا وتكرارا.) كان معظم الناس يمرون به وعلى وجوههم الضيق ولكن مع التزام الاحترام، ولكن البعض كان يتوقف للمشاهدة، مثلما كنا نفعل نحن؛ انتظارا لشيء كي نضحك عليه.
كانت الآلات الموسيقية تستعد لعزف إحدى الترانيم، ورأيت أن الصبي الذي كان يرفع الترومبون هو نفسه عامل الإسطبل الذي كان واقفا في الفناء بينما كانت ميريام ماكالبن تصب علي وابل التوبيخ. ابتسم لي بعينيه حين بدأ في العزف، وبدا أن ابتسامته لم تكن لتذكره إهانتي، ولكن كانت نابعة من سعادة تعذر كبحها، وكأن رؤيتي قد أيقظت لديه ذكرى شيء مختلف كثيرا عن ذلك المشهد؛ سعادة طبيعية.
أخذت الجوقة تغني: «هناك قوة، قوة، قوة، قوة، قوة في الدم.» كانت آلات الرق يلوح بها فوق رءوس العازفين، وانتقلت عدوى البهجة والحيوية إلى المتفرجين، حتى إن معظم الناس قد شرعوا في الغناء معهم بسخرية مرحة. وتركنا أنفسنا لمشاركة الآخرين الغناء.
بعد ذلك بقليل انتهى القداس. كانت المتاجر بصدد إغلاق أبوابها، واتخذت كل منا طريقا منفصلا للعودة إلى منزلها. كان ثمة طريق مختصر يمكنني أن أسلكه، وكان عبارة عن جسر مشاة فوق النهر. وحينما شارفت على الوصول إلى نهايته، سمعت صوت ركض شديد، أقرب إلى صوت ارتطام مكتوم، من خلفي، حتى إن ألواح الجسر قد اهتزت تحت قدمي. استدرت جانبا وظهري بمواجهة سور الجسر، وقد تملكني القليل من الخوف حرصت على ألا أظهره. لم يكن هناك أي أضواء بالقرب من الجسر وكانت الأجواء مظلمة للغاية آنذاك.
حين اقترب صاحب الصوت أدركت أنه عازف الترومبون مرتديا زيه شديد السواد. كانت حقيبة الترومبون هي مصدر صوت الارتطام حيث كانت تصطدم بالسور.
قال لي لاهثا: «لا عليك، إنه أنا. كنت أحاول فقط اللحاق بك.»
قلت: «كيف عرفتني؟» «بإمكاني الرؤية قليلا، وكنت أعرف أنك تسكنين في هذه الناحية، واستطعت أن أحدد أنه أنت من خلال مشيتك.»
تساءلت: «كيف؟» مع معظم الناس، كان مثل هذا الافتراض المسبق يجعلني في قمة الغضب بدرجة تعوقني عن التساؤل. «لا أعلم، إنها مشيتك فحسب.» •••
كان اسمه راسل كريك، كانت عائلته تنتمي إلى منظمة جيش الخلاص، فكان والده هو الواعظ سائق العربة، ووالدته واحدة من منشدي الترانيم. ونظرا لأنه كان يعمل مع والده ومعتادا على التعامل مع الخيول، وظفته لديها ميريام ماكالبن بمجرد أن ترك المدرسة، وكان ذلك بعد اجتيازه الصف الثامن، وكان هذا الأمر شائعا جدا بين الصبية في تلك السنين. فنظرا لظروف الحرب، كان ثمة العديد من الوظائف لشغلها بينما هم - وهو معهم - في انتظار أن يكبروا بحيث يلتحقوا بالجيش. وكان سيبلغ السن التي ستؤهله لذلك في سبتمبر.
لو كان راسل كريك قد أراد اصطحابي للخروج معه بالطريقة المعتادة، للذهاب إلى السينما أو للرقص، لما كانت هناك فرصة لقبول عرضه؛ فقد كانت أمي ستقول إنني ما زلت صغيرة جدا على ذلك. وعلى الأرجح أنها لم تكن لتشعر بضرورة أن تقول إنه عامل إسطبل ووالده ينقل الفحم وعائلته بأكملها كانت ترتدي ملابس جيش الخلاص ويشاهدون في الشارع باستمرار. وكانت تلك الاعتبارات تعني شيئا لي أنا أيضا، إذا تعلق الأمر بالظهور معه علنا باعتباره رفيقي. لقد كانت تعني شيئا على الأقل حتى يلتحق بالجيش ويصبح حسن المظهر بحيث يكون من اللائق تقديمه إلى الآخرين. ولكني في الواقع لم أكن مضطرة للتفكير في أي من ذلك. فلم يكن باستطاعة راسل اصطحابي إلى السينما أو إحدى صالات الرقص؛ لأن دينه كان يمنعه هو نفسه من الذهاب إلى هناك. لقد كانت العلاقة التي نشأت بيننا تبدو سلسة، وشبه طبيعية، بالنسبة إلي؛ لأنها كانت في بعض جوانبها - وليس كلها - تشبه كثيرا تلك العلاقة العادية المعترف بها بالكاد ذات الطبيعة المؤقتة التي تنشأ بين الأولاد والفتيات في مثل سني، وليس سنه.
كنا نركب الدراجات لسبب ما، فلم يكن راسل يمتلك سيارة ولم يكن أمامه من سبيل للحصول على واحدة، على الرغم من إجادته للقيادة؛ فقد كان يقود شاحنة إسطبل الخيول. لم يكن يأتي ليصطحبني من منزلي ولم أطلب منه ذلك مطلقا، بل كنا نخرج من البلدة بالدراجات كل بمفرده بعد ظهيرة يوم الأحد ونلتقي دائما في نفس المكان، عند مدرسة تقع عند مفترق طرق على بعد ميلين أو ثلاثة أميال من البلدة. كان لجميع المدارس الريفية أسماء تعرف بها وليس أرقاما رسمية تنقش على أبوابها، فلم تكن هناك أبدا مدرسة اسمها إس رقم 2، أو إس إس رقم 5، بل كانت هناك مدرسة لامبس، ومدرسة بروسترز، ومدرسة ريد بريك ومدرسة ستون. وكانت المدرسة التي وقع عليها اختيارنا، والتي كانت معروفة لي مسبقا، تسمى مدرسة فلوينج ويل (النبع المتدفق)، وكانت تلك التسمية تعزى إلى وجود نبع ضيق من الماء يتدفق باستمرار من إحدى المواسير في ركن من أركان فناء المدرسة.
كانت تحيط بذلك الفناء، الذي كانت حشائشه تجز دائما حتى في الإجازات الصيفية، أشجار قيقب يانعة تلقي بظلال شبه سوداء. وفي أحد الأركان كان ثمة كتلة من الحجر ينمو منها بعض الحشائش الطويلة، حيث كنا نخبئ دراجتينا.
كان الطريق أمام فناء المدرسة نظيفا ومفترشا بالحصى، إلا أن الطريق الجانبي، الذي كان يؤدي لأحد التلال، لم يكن يعدو أكثر من ممر ضيق في حقل، أو درب غير ممهد. على أحد جانبيه كان ثمة مرعى مغطى بالزعرور البري والعرعر، وعلى الجانب الآخر مجموعة من أشجار البلوط والصنوبر يفصل بينها وبين ضفة الطريق حفرة. كان في هذه الحفرة مقلب نفايات؛ ليس مقلب النفايات الرسمي للمنطقة، وإنما مجرد مقلب نفايات غير رسمي صنعه أهل المنطقة. وكان هذا يثير اهتمام راسل، وفي كل مرة كنا نمر به كان لا بد أن نميل فوقه ونحملق في الحفرة لنرى إن كان به أي شيء جديد أم لا. ولم يكن المقلب يحوي أي جديد قط؛ إذ كان في الغالب لم يستخدم لسنوات، ولكن كثيرا ما كان يتمكن من التقاط شيء لم يكن قد لاحظه من قبل. «أترين؟ هذه شبكة رادياتور محرك في-8.» «أترين أسفل عجلة العربة؟ ذاك راديو قديم يعمل بالبطارية.»
كنت قد ارتدت من قبل هذا الطريق بضع مرات بمفردي، ولم أر مقلب النفايات هناك ولو لمرة، ولكنني كنت أعرف أشياء أخرى. كنت أعرف أننا حين نجتاز هذا التل، سوف تختفي أشجار البلوط والصنوبر لتحل محلها أشجار التنوب والطمراق والأرز، وكذلك المرعى الوعر، وكل ما نراه، لفترة طويلة، سيكون نباتات سبخية على كلا الجانبين، مع وجود بسيط لأشجار التوت البري الأحمر العالية التي لم يكن يستطيع أحد الوصول إليها، وبعض الزهور القرمزية ذات الشكل الجميل التي لم أكن أدري اسمها؛ أظن أنها كانت تسمى حشيشة الغراب البرتقالية. وعلى فرع من فروع شجرة الأرز علق أحدهم جمجمة حيوان صغير، كان راسل ينتبه إليها، متسائلا في كل مرة نمر عليها إن كانت جمجمة ابن مقرض، أم ابن عرس، أم منك.
كان يقول إن ذلك على أي حال دليل على أن ثمة من ارتاد هذا الطريق قبلهما. وعلى الأرجح أنه كان ماشيا، ومن غير المرجح أنه كان في سيارة؛ فقد كانت أشجار الأرز نامية على مقربة شديدة من بعضها، وكان الجسر الخشبي المار فوق الجدول الصغير عند أدنى مستوى للمستنقع بدائيا؛ إذ كان مرنا أسفل أقدامنا وبلا سور. وفيما وراء ذلك كانت الأرض ترتفع ببطء، واختفت الأرض الموحلة لتظهر في النهاية حقول زراعية على كلا الجانبين يلمحها الناظر عبر أشجار الزان الضخمة. كان ثمة الكثير من تلك الأشجار الثقيلة، حتى إن ضوءها الرمادي الناعم بدا وقد أحدث تغييرا فعليا في الهواء؛ إذ جعله باردا وكأنك قد دخلت قاعة أو كنيسة عالية الجدران.
كان هذا الطريق ينتهي بعد أن امتد لميل وربع، مؤديا إلى طريق مستقيم آخر مفروش بالحصباء. كنا نستدير ونعود أدراجنا من نفس الطريق.
كان بالكاد يسمع صوت أي طيور في حرارة منتصف النهار، ولم يكن يرى أي منها، ولم يكن ثمة الكثير من البعوض؛ نظرا للجفاف الذي طال البرك في الأرض المنخفضة. ولكن كان ثمة يعاسيب أعلى الجدول، وسرب من الفراشات المتناهية الصغر ذات اللون الأخضر الباهت حتى إنك لتظن حين تراها أنها ربما تكون مجرد انعكاس لأوراق الشجر.
كان الشيء الوحيد الذي كان مسموعا في كل مرحلة من جولتنا هو صوت راسل الهادئ المفعم بالسعادة. كان يتحدث عن عائلته؛ كان له أختان يكبرانه تركتا المنزل، وأختان تصغرانه، وأخ أصغر، وكانوا جميعا موسيقيين؛ إذ كان كل منهم يعزف على آلة ما. كان الأخ الأصغر يدعى جاكي، وكان يتعلم العزف على الترومبون ليتسلم الراية من راسل. وكانت الأختان الصغريان اللتان بقيتا بالمنزل تدعيان مايفس وآني، وكانت أيونا وإيزابيل هما الشقيقتان الكبريان. كانت أيونا متزوجة من رجل يعمل في شركة هيدرو لخطوط الكهرباء، فيما كانت إيزابيل عاملة نظافة في أحد الفنادق الكبيرة. وكان له شقيقة أخرى، تدعى إيدنا، توفيت إثر إصابتها بشلل الأطفال داخل رئة حديدية بعد معاناة استمرت ليومين فقط وهي في الثانية عشرة من عمرها. كانت الوحيدة بين أفراد الأسرة التي كان لها شعر أشقر. وكان الأخ الأصغر جاكي على وشك الموت هو الآخر؛ إثر إصابته بتسمم الدم جراء الخطو على لوح به مسمار صدئ. وكان راسل نفسه يعاني من خشونة القدمين بسبب الخروج حافي القدمين في الصيف؛ فكان يستطيع السير على الحصى أو الأشواك أو الجذامة دون أن تصيبه أي جروح من أي نوع.
في الصف الثامن حدثت له طفرة مفاجئة في الطول؛ إذ وصل تقريبا إلى نفس الطول الذي أصبح عليه الآن، وحصل على دور علي بابا في الأوبريت المدرسي، وكان ذلك لقدرته على الغناء، ولطول قامته أيضا.
كان قد تعلم قيادة سيارة عمه حين كان عمه يأتي من مدينة بورت هورون. كان عمه يعمل في مجال السباكة، وكان يقايض سيارته بسيارة جديدة كل عامين. وكان يسمح لراسل بقيادة السيارة قبل أن يبلغ السن القانونية للحصول على رخصة القيادة بكثير. ولكن ميريام ماكالبن لم تكن لتدعه يقود شاحنتها إلى أن حصل على الرخصة، فكان يقودها الآن بعربة نقل الخيول ومن دونها، إلى إلميرا، وهاميلتون، وقادها ذات مرة إلى بيتربورو. كانت قيادتها صعبة؛ لأن عربة نقل الخيول كان يمكن أن تنقلب. كانت ميريام تذهب معه في بعض الأحيان، ولكنها كانت تترك له مهمة القيادة.
كان صوته يتغير حين كان يتحدث عن ميريام ماكالبن. فكان يصير متحفظا ونصف هازئ ونصف مستمتع. كان يقول عنها إنها كانت شخصا مخيفا، ولكن لا بأس بها إن كان المرء يعرف كيف يتعامل معها. كانت تحب الخيول أكثر من حبها للناس. وكانت ستصبح متزوجة الآن لو كان لها أن تتزوج بحصان.
لم أكن أتحدث كثيرا عن نفسي ولم أكن أنصت إليه بهذا الحد من الإمعان؛ فقد كان حديثه أشبه بحاجز من المطر السلس الرقيق بيني وبين الأشجار، والضوء والظلال على الطريق، والجدول الذي يتدفق بانسياب، والفراشات، والجزء مني الذي كان يولي انتباهه إلى هذه الأشياء لو كنت بمفردي. كان الجزء الأكبر مني مختفيا، مثلما كان الحال مع صديقاتي في ليالي السبت، ولكن التغيير الآن لم يكن متعمدا وطوعيا إلى هذه الدرجة. لقد كنت شبه منومة مغناطيسيا، ليس فقط بفعل وقع صوته، ولكن بفعل منكبيه العريضين المتألقين في قميص نظيف قصير الأكمام، وعنقه الأسمر وذراعيه الممتلئتين. كان يغتسل بصابون لايفبوي - فقد كنت أعرف رائحته مثلما كان يعرفه الجميع - ولكن كان اغتساله بنفس مستوى اغتسال معظم الرجال في تلك الأيام؛ إذ كانوا لا يعبئون بالعرق الذي سيتراكم في المستقبل القريب. ومن ثم، كان بإمكاني أن أشم تلك الرائحة أيضا، وكذا رائحة الخيول، والألجمة، والحظائر، والتبن بنفس الدرجة المحدودة.
حينما لم أكن معه، كنت أحاول أن أتذكر؛ هل كان وسيما أم لا؟ كان جسده نحيلا نوعا ما، ولكن كان ممتلئ الوجه قليلا، وكانت لشفتيه تقطيبة توحي بالتحكم والسيطرة. وكانت عيناه المتسعتان الزرقاوان الصافيتان تشي بشيء أشبه بسذاجة متعنتة، واحترام بريء للنفس، وكلها أمور ربما لم أكن لأهتم بها كثيرا في شخص آخر.
قال: «إنني أصر بأسناني ليلا، ولم يوقظني ذلك قط، ولكن ذلك يوقظ جاكي ويشعله غضبا؛ فيركلني ركلة تجعلني أتقلب في نومي، وهذا كفيل بإنهاء هذا الأمر؛ لأنني أقوم بذلك فقط عندما أكون مستلقيا على ظهري.»
قال: «هلا ركلتني؟» ثم مد يده في المسافة الفاصلة بيننا التي قاربت القدم أو نحو ذلك، وكان ضوء الشمس يغمرها، وأخذ يدي. قال إنه يشعر بالحرارة في الفراش مما يجعله ينفض كل الأغطية عنه، وكان هذا يثير غضب جاكي أيضا.
أردت أن أسأله إن كان يرتدي الجزء العلوي من بيجاماته أم الجزء السفلي فقط، أم كليهما، أم لا شيء على الإطلاق، ولكن الاحتمال الأخير جعلني أشعر بأنني ضعيفة جدا بحيث لا أقوى على فتح فمي. تشابكت أصابعنا معا، من تلقاء نفسها، حتى تعرقت على نحو جعلها تستسلم وتفترق بعضها عن بعض.
لم يسترع السبب وراء تمشينا معا، وأحسبه السبب الوحيد بقدر ما استطعت فهمه، جل انتباهنا حتى دنونا من فناء المدرسة وعدنا أدراجنا إلى البلدة كل بمفرده. كان يجذبني إلى الظل ويطوقني بذراعيه ويبدأ في تقبيلي. وبعيدا عن قارعة الطريق، كان يضمني إلى جذع شجرة ونتبادل القبلات باحتشام في البداية، ثم بمزيد من الحرارة، ويلتحم جسدانا معا - بينما لا نزال واقفين - في عجلة متقلقلة. وبعد ذلك - كم من الوقت؟ - بخمس أو عشر دقائق، كنا نفترق ونلتقط دراجاتنا ويودع كل منا الآخر. كان فمي يتحرق من شدة الاحتكاك ووجنتاي وذقني تسحج من الشعيرات الخشنة القصيرة الخفية في وجهه. وكان ظهري يتألم من كثرة دفعه إلى جذع الشجرة، وكان الجزء الأمامي من جسدي يتوجع من ضغط جسده. كان لبطني، بالرغم من كونه مستويا للغاية، القليل من المرونة وقابلية الانضغاط، ولكنني لاحظت أن بطنه لم يكن كذلك. كنت أظن أن الرجال لا بد أن تتسم بطونهم بالصلابة بل والبروز أيضا، ولم يكن ذلك ليتضح جليا إلا عندما يحتضنك أحدهم بقوة.
يبدو غريبا للغاية أنني لم أدرك ماهية هذا الضغط بالرغم من كم ما أعرفه. كانت لدي فكرة دقيقة نوعا ما عن جسد الرجل، ولكن بطريقة ما أغفلت المعلومات المتعلقة بوجود ذلك التغير في الحجم والحالة. يبدو أنني كنت أعتقد أن القضيب يكون في أقصى حجم له طوال الوقت، وفي شكله التقليدي، ولكن على الرغم من هذا يمكن أن يكون متدليا داخل ساق البنطال، ولا يرتفع للضغط على جسد شخص آخر بهذه الطريقة. سمعت الكثير من الدعابات في هذا الشأن، ورأيت حيوانات تتزاوج، ولكن بطريقة ما يمكن أن تظهر فجوات، حين يكون مصدر المعرفة غير رسمي. •••
بين الحين والآخر كان يتحدث عن الرب، كانت نبرة صوته في مثل هذه الأوقات صارمة وواقعية، وكأن الرب ضابط كبير، وكانت في بعض الأحيان ودودة، ولكنها في الغالب كانت تتسم بانعدام المرونة والجزع، بطريقة ذكورية. وحين وضعت الحرب أوزارها وترك الجيش (كان يقول بابتهاج: «إذا لم أقتل») ظلت هناك أوامر الرب وجيشه ليذعن لها ويحسب لها حسابا كبيرا. «سوف يتحتم علي أن أفعل ما يريدني الرب أن أفعله.»
أثار ذلك دهشتي، فيا له من انقياد وإذعان رهيب ذلك الذي تطلبه الأمر منه لكي يكون بهذا القدر من الإيمان!
أو ما تطلبه الأمر منه - حين تتأمل الحرب والجيش العادي - لكي يكون رجلا فقط.
ربما خطر بباله مستقبله؛ لأننا لاحظنا على جذع شجرة من أشجار الزان - تلك الأشجار التي كان لحاؤها الرمادي مكانا مثاليا للرسائل - وجها وتاريخا منقوشين عليه. كان العام هو 1909. ومنذ ذلك التاريخ فصاعدا، أخذت الشجرة تنمو، ويتسع جذعها، ومن ثم كانت ملامح الوجه قد اتسعت من الجانبين لتصبح عبارة عن بقع أعرض من الوجه نفسه. أما بقية التاريخ، فقد محي تماما، وربما كانت أرقام العام على وشك أن تفقد وضوحها أيضا عما قريب.
قلت: «كان ذلك قبل الحرب العالمية الأولى، ربما يكون من نقشها في عداد الموتى الآن، وربما يكون قد لقي حتفه في تلك الحرب.»
ثم أضفت في عجالة: «أو يمكن أن يكون ميتا بأي طريقة أخرى.»
أظن أننا في ذلك اليوم كنا نشعر بالحر الشديد في طريق عودتنا حتى إننا قد خلعنا أحذيتنا وجواربنا ونزلنا عن الألواح لكي نقف في مياه الجدول الصغير التي كانت ترتفع حتى مستوى الركبة، وبللنا أذرعنا ووجهينا بها.
قلت على نحو مفاجئ لي: «أتذكر تلك المرة التي ضبطت فيها وأنا أخرج من تحت شجرة التفاح؟» «أجل.» «لقد أخبرتها أنني كنت أبحث عن سوار، ولكن لم يكن ذلك صحيحا، لقد كنت هناك لسبب آخر.» «أهذا صحيح؟»
في تلك اللحظة تمنيت لو لم أخض في ذلك. «لقد أردت أن أكون أسفل الشجرة الضخمة حين تكون مزهرة بالكامل وأنظر إليها من أسفل.»
فضحك وقال: «هذا مضحك، لقد أردت أن أفعل ذلك أيضا، لم أفعله قط، ولكنني فكرت فيه.»
كنت مندهشة، ونوعا ما لم أكن سعيدة بهذه الدرجة لأن أجد تلك الرغبة الملحة مشتركة بيننا. ولكن بالتأكيد لم أكن لأخبره لو لم أكن قد تمنيت أن يكون هذا شيئا من شأنه أن يفهمه.
قال: «لتأتي إلى منزلنا لتناول العشاء.» «أليس عليك أن تسأل والدتك إن كان ذلك مقبولا؟» «إنها لا تهتم.»
كانت والدتي ستهتم لو كانت قد علمت، ولكنها لم تكن تعلم؛ لأنني كذبت عليها وقلت إنني ذاهبة إلى منزل صديقتي كلارا . والآن، وقد صار على أبي أن يكون بالمسبك في الخامسة تماما - حتى في أيام الأحد نظرا لكونه الحارس - وكانت والدتي كثيرا ما تشعر بالتوعك، أصبح العشاء في منزلنا غير منتظم. حين كنت أنا من يتولى الطهي، كانت هناك أشياء أحب إعدادها، منها شرائح الخبز والجبن التي يصب فوقها الحليب والبيض المخفوق وتخبز في الفرن. وكان من الوصفات الأخرى المخبوزة في الفرن أيضا رغيف من اللحم المعلب المغطى بالسكر البني، أو أكداس من شرائح البطاطس النيئة التي تقلى حتى تصبح مقرمشة. حين كان شقيقي وشقيقتي يتركان وشأنهما، كانا يعدان عشاء مكونا من أشياء مثل السردين على البسكويت المالح أو زبد الفول السوداني على رقائق البسكويت. كان يبدو أن تآكل العادات التقليدية في منزلنا كان يجعل تحايلي أسهل.
ربما لو كانت والدتي قد علمت، لوجدت طريقة لتقول لي بها إنني ما إن أدخل بيوتا بعينها كند وصديق - وكان هذا صحيحا حتى لو كانت بيوتا غاية في الاحترام نوعا ما - حتى أبرهن على أن القيمة التي أضفيها على نفسي لم تكن عالية للغاية، ومن ثم سيبدأ الآخرون في تقييمي على هذا الأساس. كنت سأجادلها، بالطبع، وعلى نحو قوي لأنني أعلم أن ما تقوله صحيح فيما يتعلق بالحياة في تلك البلدة؛ فقد كنت على أي حال من يختلق أي عذر الآن؛ لكيلا أمر مع صديقاتي أمام الناصية التي كان راسل وعائلته يتمركزون عندها في ليالي السبت.
أحيانا ما كنت أتطلع وكلي أمل إلى الوقت الذي سيضع فيه راسل زي الفرقة الموسيقية الكوميدي بعض الشيء ذا اللونين الأحمر والأزرق الداكنين جانبا ويستبدل زي الجيش الكاكي به. بدا وكأن التغيير قد يطال ما هو أكثر بكثير من الزي، وكأن هوية في حد ذاتها سوف تنسلخ لتتألق محلها هوية جديدة عصية على الهجوم والنقد بمجرد أن يرتدي زي المقاتل. •••
كانت عائلة كريك تعيش في شارع ضيق مائل يعادل طوله طول بناية، لا يبعد كثيرا عن حظائر الخيل. لم يكن لدي أي سبب قط للسير عبر هذا الشارع من قبل. كانت البيوت قريبة من الرصيف وقريبة أحدها من الآخر، دون مساحة بينها لممرات للسيارات أو أفنية جانبية. كان على الأشخاص الذين يملكون سيارات أن يوقفوا جزءا منها على الرصيف والجزء الآخر على مساحات الحشائش التي كانت بمنزلة حدائق أمامية. كان منزل آل كريك الخشبي الكبير مطليا باللون الأصفر - كان راسل قد أخبرني أن أبحث عن المنزل الأصفر - ولكن كان الطلاء متقشرا بفعل الجو.
كان مثل الطلاء البني الذي كان يوما ما، بغير تفكير وروية، يغطي الطوب الأحمر لمنزلنا الذي كنت أسكنه. ولم تكن الفوارق كبيرة بين عائلتينا حين يتعلق الأمر بالمال. في الواقع لم يكن ثمة أي فارق كبير على الإطلاق.
كانت هناك فتاتان صغيرتان تجلسان على السلم الأمامي، ربما جلستا هناك حال نسيت وصف المنزل.
غير أنهما قفزتا دون أن تنطقا بكلمة واحدة، وهرعتا إلى داخل المنزل كما لو كنت قطة برية تطاردهما. وأغلق الباب السلكي في وجهي بقوة، وتركت وحدي أحملق عبر مدخل طويل خاو. سمعت ضجيجا خافتا خلف المنزل، ربما كان يخص الشخص الذي يفترض أن يأتي للترحيب بي. عندئذ جاء راسل بنفسه عبر درجات السلم وشعره داكن من أثر تبليل حديث، وأدخلني إلى المنزل.
قال: «إذن، قد وصلت إلى هنا بلا مشكلة!» وامتنع عن ملامستي.
لم يكن السيد والسيدة كريك يرتديان زيهما الخاص بمنظمة جيش الخلاص في المنزل. لست أدري لم ظننت أنهما كانا سيفعلان ذلك! أقبل الأب بعد ذلك نظيفا متأنقا برأس أصلع لامع - وهو الذي كان وعظه المتجول دائما ما يميل إلى الشراسة والسخط حتى حين كان يتمسك بالأمل في الرحمة والخلاص، وكانت تعبيراته حين كان يجلس منحنيا على عربة الفحم دائما ما كانت تميل إلى السخط والغضب - ورحب بي كما لو كان سعيدا بالفعل لرؤيتي في منزله. كانت الأم طويلة القامة، مثل راسل، ضخمة الجثة ومسطحة الجبهة، وذات شعر أشيب تم قصه حتى كان يصل لمستوى أذنيها فقط. اضطر راسل لأن يخبرها باسمي مرتين، عبر الضجيج الذي كانت تحدثه أثناء هرسها للبطاطس، قبل أن يتمكن من لفت انتباهها كي تستدير إلينا. مسحت يدها على مريلتها وكأنها تفكر في مصافحتي، ولكنها لم تفعل، وقالت إنها سعيدة للقائي. كان صوتها حين كانت تنشد الترانيم في الشارع عميقا وعذبا، إلا أنها حين تحدثت الآن حوله الخجل والحرج إلى صوت حاد أجش كصوت صبي في سن المراهقة.
كان والد راسل متأهبا للقيام بعمل ليس من اختصاصه. سألني إن كان لدي أي خبرة مع دجاج البانتام، فأجبت بالنفي، فقال إنه كان يظن أنني ربما يكون لدي خبرة بها لكوني قد نشأت في مزرعة.
قال: «إن الدجاج هوايتي. تعالي لتلقي نظرة!»
عاودت الفتاتان الظهور وكانتا تتسكعان على مقربة من المدخل. كانتا على وشك أن تتبعا والدهما وراسل وإياي إلى داخل الفناء الخلفي، لولا أن والدتهما نادتهما. «آني ومايفس! لتبقيا هنا وتضعا الصحون على الطاولة.»
كان ديك البانتام يدعى الملك جورج.
قال السيد كريك: «هذه دعابة؛ لأن جورج هو اسمي.»
كانت الدجاجات مسماة على اسم ماي ويست، وتاجبوت آني، وديزي ماي وشخصيات أخرى من الأفلام السينمائية، أو القصص الهزلية المصورة، أو الفلكلور الشعبي. وقد أدهشني هذا؛ نظرا لحقيقة أن الأفلام كانت من محظورات هذه العائلة، وأن السينما كانت ترى في عظات السبت على أنها مكان بغيض على نحو خاص. وكنت أظن أن القصص الهزلية من ضمن المحظورات أيضا. ربما كان مستساغا أن تطلق مثل هذه الأسماء على دجاجات تافهة. أو لعل عائلة كريك لم تكن دوما منتمية إلى منظمة جيش الخلاص.
قلت: «كيف لكم أن تميزوا بعضها عن بعض؟» لم تكن بديهتي حاضرة معي تماما، وإلا لرأيت أن كلا منها كانت لها علامة تميزها، ولها نمطها الخاص من الريش الأحمر والبني والبني الضارب إلى البرتقالي والذهبي.
ظهر شقيق راسل من مكان ما، وكان يضحك ضحكة مكبوتة.
قال الأب: «أوه، هل تريدين أن تعرفي؟» وبدأ في تحديد كل واحدة منها لي، ولكن الدجاج كان يهيج بسبب الانتباه الموجه إليه، وتبعثر في أرجاء الفناء حتى لا نستطيع الإمساك بها. كان الديك جريئا وأخذ ينقر في حذائي.
قال والد راسل: «لا تنزعجي، إنه يستعرض نفسه لا أكثر.»
كان سؤالي الأحمق التالي هو: «هل يضع هذا الدجاج بيضا؟» «أوه، أجل، أجل، ولكنها واقعة لا تحدث كثيرا. إنها حتى لا تضع ما يكفي لمائدتنا؛ إنها سلالة من سلالات الزينة، ذاك هو تعريفها؛ سلالة زينة.»
قال راسل لشقيقه من وراء ظهري: «سأضربك بشدة.»
على العشاء، أومأ الأب لراسل برأسه لتلاوة صلاة مباركة الطعام، وفعل راسل ذلك. كانت صلوات المباركة هنا تتلى بتأن وتؤلف في حينها لتلائم المناسبة، وكانت بعيدة تماما عن الصلاة التي اعتدنا أن نتمتم بها على مائدتنا في المنزل حين كنا نتناول الطعام معا كأسرة؛ «بارك لنا يا رب طعامنا هذا ليفيد أجسادنا، وباركنا لنكون في خدمتك.» كان راسل يتحدث ببطء وثقة، وذكر اسم كل من كانوا على المائدة، وفيهم أنا داعيا أن يجعلني الرب موضع ترحيب. وخطرت لي تلك الفكرة المرعبة من أن الحرب ربما لا تغيره تماما، وأنه حين ينتهي منها قد يعود إلى الجيش الآخر ويرتدي زيه القديم، وأنه ربما قد تكون لديه موهبة وتعطش للوعظ العام.
لم تكن ثمة أطباق من الخبز والزبد، فقد كنت تضع شريحتك على المشمع أو على جانب طبقك الكبير، وتمسح طبقك بقطعة من الخبز قبل أن توضع عليه الفطيرة.
ظهر الديك عند المدخل، ولكن السيد كريك أمره بأن يبتعد، ما دفع مايفس وآني إلى الضحك ثم كتم فميهما.
قال راسل: «اجعلا الطعام يقف في حلقكما لتأخذا درسا قاسيا.»
كانت السيدة كريك تتجنب النطق باسمي - فكانت تقول لراسل في همس فظ: «مرر لها الطماطم» - ولكن بدا ذلك نابعا من الخجل الشديد، وليس سوء نية. استمر السيد كريك في إظهار إحساس ثابت لا يتزعزع بأننا في مناسبة اجتماعية، سائلا إياي عن صحة والدتي، وعن عدد ساعات عمل أبي في المسبك، وعن رأيه في العمل هناك، وهل وجده مختلفا عن أن يكون مدير نفسه؟ كان أسلوب حديثه معي أقرب إلى أسلوب معلم أو صاحب متجر، أو حتى رجل مهني في البلدة، من أن يكون أسلوب رجل يعمل على عربة فحم. وفيما يبدو أنه كان يسلم يقينا بأن عائلتينا كانتا على قدم المساواة وعلى معرفة وطيدة إحداها بالأخرى. وكان ذلك قريبا من الصواب، فيما يتعلق بنقطة المساواة، وكان صحيحا أيضا أن والدي كان على معرفة وطيدة بالجميع تقريبا. غير أن ذلك أثار لدي شعورا بالضيق والحرج، بل وبقليل من الخزي؛ لخداعي لهذه العائلة ولعائلتي؛ لقد كنت على هذه المائدة وأنا أخفي حقيقة أمري.
ولكن بدا لي بعد ذلك أني أنا وراسل كنا نخفي حقيقة أمرنا على أي مائدة عشاء عائلية، كنا نضطر للجلوس عليها وكأننا لا نهتم بشيء سوى الطعام وأي حديث يثار أيا ما كان، وبينما كنا في الواقع لا نفعل شيئا سوى الانتظار، حيث لم تكن احتياجاتنا الأساسية لتلبى هنا، وكان اهتمامنا الأوحد هو أن يكون كل منا في قرب الآخر.
لم يخطر ببالي قط أن رفيقين شابين في موقفنا كانا في موقعهما الطبيعي، وأننا قد دخلنا المرحلة الأولى من حياة سوف تجعلنا، عما قريب، أبا وأما. ربما كان والدا راسل يعلمان هذا، وربما يكون قد هالهما ذلك سرا، ولكنهما كانا إما يرجوان خيرا وإما كانا مذعنين لراسل. فقد كان راسل مركز قوة في الأسرة، ولم يكونا يملكان زمامه. وكان راسل يعلم ذلك، إن كان قادرا في تلك اللحظة على الذهاب بتفكيره إلى هذا الحد، فقد كان بالكاد ينظر إلي، ولكن حين فعل، كانت نظرة هادئة رصينة، ترسم ادعاء بامتلاكه لي، وقد أصابتني ورجع صداها وكأنني طبلة.
كنا في أواخر الصيف آنذاك، وكانت فترات المساء قصيرة. كان المصباح مضاء في المطبخ حين كنا نغسل الصحون، كان وعاء تنظيف الصحون موضوعا على الطاولة، بينما كان الماء يسخن على الموقد، وكانت تلك هي نفس الطريقة المتبعة حين أغسل الصحون في منزلنا. كانت الأم تغسل الصحون، بينما كنا أنا والشقيقتان نجففها. قالت والدة راسل بعض العبارات، ربما على أثر شعورها بالارتياح لانتهاء الوجبة وأنني كنت سأتركهم عما قريب . «دائما ما يتطلب الأمر صحونا أكثر مما تظنين لإعداد وجبة.» «لا تشغلي نفسك بالقدور، سوف أضعها على الموقد.» «يبدو أننا على وشك الانتهاء الآن.»
كانت تلك العبارة الأخيرة تبدو في وقعها نوعا من الشكر الذي لم تعرف كيف تعبر عنه.
لم تجرؤ مايفس وآني على الضحك لقربهما الشديد مني ومن والدتهما. وحين اعترض بعضنا طريق البعض عند لوح تصفية الصحون، قالتا لي في صوت خفيض: «معذرة.»
أقبل راسل بعد الانتهاء من مساعدة والده في وضع دجاج البانتام في حظيرته، وقال: «أعتقد أنه قد حان الوقت لتوصيلك إلى المنزل»، وكأن توصيلي إلى المنزل كان مجرد مهمة ليلية أخرى، بدلا من أول تمشية مترقبة لنا في الظلام معا؛ فقد كان التفكير في تلك التمشية يتنامى في صمت وترقب شديدين، من جانبي، طوال عملية تجفيف الصحون، بل وحول ذلك إلى تقليد نسائي ارتبط على نحو غامض بما هو قادم. •••
لم تكن الأجواء مظلمة جدا كما تمنيت؛ فلكي أصل إلى المنزل، كان لزاما علينا المرور بالبلدة من الشرق إلى الغرب، وكانت الأنظار سترقبنا على نحو شبه مؤكد.
ولكن لم يكن ذلك هو الطريق الذي كنا سنسلكه؛ ففي نهاية هذا الشارع القصير وضع راسل يده على ظهري، بضغط سريع وعملي ليدفعني ليس في اتجاه المنزل، ولكن في اتجاه إسطبل خيول ميريام ماكالبن.
استدرت لأرى ما إذا كان أحد يتتبعنا. «ماذا لو كان شقيقك أو شقيقتاك يتتبعوننا؟»
فقال: «لن يفعلوا، وإلا قتلتهم.»
كان الإسطبل مطليا باللون الأحمر، وكان اللون ناصعا في الظلام الخفيف. كانت أبواب الإسطبل في الطابق السفلي بالخلف. وعلى أبواب الإسطبل العلوية، والتي كانت مواجهة للشارع، رسم حصانان أبيضان يتبختران. كان هناك ممر من الحجارة والتراب مبنيا للصعود إلى تلك الأبواب، وكان ذلك هو الطريق الذي كانت شحنات التبن تنقل عبره. وفي أحد هذه الأبواب العلوية الكبيرة كان هناك باب بالحجم العادي، مثبت بإحكام بحيث لا تراه إلا بالكاد، وعليه صورة لحافر وجزء من الساقين الخلفيتين لحصان. كان الباب موصدا، ولكن راسل كان معه المفتاح.
جذبني إلى الداخل وراءه، وما إن أغلق الباب خلفنا حتى صرنا فيما كان في البداية ظلاما دامسا. كان كل ما حولنا، ويكاد يخنقنا، هو رائحة التبن الجديد لذلك الصيف. اقتادني راسل من يدي بثقة شديدة كما لو كان يرى كل شيء وسط هذا الظلام. كانت يده أكثر حرارة من يدي.
بعد لحظة استطعت أن أرى شيئا بنفسي، كانت حزم التبن موضوعة بعضها فوق بعض مثل قوالب طوب عملاقة. كنا فيما يشبه العلية التي تطل على الإسطبل. حينها استطعت أن أشم رائحة خيول قوية، وكذا رائحة تبن، وأن أسمع على نحو منتظم صوت جرجرة أقدام ومضغ بصوت طاحن، وصوت اصطدام خفيف داخل المرابط. كانت معظم الخيول تخرج إلى المرعى طوال الليل في هذا الوقت من العام، ولكن هذه الخيول كانت على الأرجح من القيمة بحيث لا تترك بالخارج في الظلام.
وضع راسل يدي على درجة سلم كان يمكننا من خلاله الصعود إلى قمة حزم التبن.
همس لي قائلا: «أتريدينني أن أصعد قبلك أم بعدك؟»
لم الهمس؟ هل كنا سنزعج الخيول؟ أم يبدو من الطبيعي دائما أن نتهامس في الظلام؟ أو حين يداهم الضعف ساقيك، ولكن يوجد ألم وإصرار في جزء آخر من جسدك؟
عندئذ حدث شيء ما، اعتقدت للحظة أنه كان انفجارا، أو ضربة برق، أو حتى زلزالا. بدا لي أن الإسطبل بأكمله اهتز حين ملأه الضوء. بالطبع لم يسبق لي الوجود بالقرب من موقع انفجار، أو على مقربة من مكان ضربه البرق، ولم أشعر بهزة واحدة لزلزال. سمعت طلقات رصاص، ولكنها كانت دائما بالخارج وعلى مسافة بعيدة مني. لم يسبق لي أن سمعت صوت إطلاق نار بالداخل تحت سقف عال.
كان ذلك هو ما كنت أسمعه الآن. كانت ميريام ماكالبن تطلق نيران بندقيتها، مصوبة إياها داخل مخزن التبن، ثم فجأة أضاءت كل أنوار الإسطبل. هاجت الخيول، وراحت تصهل وتقذف نفسها في الهواء، وتركل جوانب مرابطها، ولكن ظل بإمكاني سماع صوت صياح ميريام. «أعلم أنك هنا. أعلم أنك هنا.»
همس راسل في أذني قائلا: «عودي إلى المنزل.» ودار بي نحو الباب.
قال في غضب، أو على الأقل في إلحاح أشبه بالغضب: «عودي إلى المنزل»، وكأنني كلبة تتبعه، أو واحدة من شقيقتيه الصغيرتين، التي ليس لها الحق في الوجود هنا.
ربما كان يقول ذلك في همس أيضا، وربما لا؛ ففي وسط الضجيج الذي كانت تحدثه الخيول وميريام معا، لم يكن ذلك ليهم. ودفعني دفعة واحدة قوية وقاسية، ثم أدار وجهه نحو الإسطبل وأخذ يصيح: «لا تطلقي النار، إنه أنا ... مهلا يا ميريام، إنه أنا.» «أعلم أنك هناك ...» «إنه أنا. أنا راس.» وركض نحو مقدمة مخزن التبن. «من هناك؟ راس؟ أهذا أنت؟ راس؟»
لا بد أنه كان هناك سلم مؤد إلى الإسطبل؛ إذ سمعت صوت راسل وهو ينزل عبره. بدا في صوته جريئا ولكن مهتزا، وكأنه لم يكن واثقا كثيرا من أن ميريام لن تبدأ في إطلاق النار مجددا. «إنه أنا. أنا قادم في الطريق العلوي.»
قالت ميريام في غير تصديق: «لقد سمعت صوت أحدهم.» «أعرف. كان أنا. لقد جئت فقط لألقي نظرة على لو، لأرى كيف حال ساقها.» «أكان هذا أنت؟» «أجل. لقد قلت لك ذلك.» «لقد كنت في مخزن التبن بالأعلى.» «لقد دخلت من الباب العلوي.»
بدا صوته الآن وقد صار أكثر سيطرة، فقد كان قادرا على أن يطرح سؤالا. «منذ متى وأنت هنا؟» «لقد دخلت لتوي، كنت في المنزل وفجأة خيل لي أن ثمة خطبا ما في الإسطبل.» «علام كنت تطلقين النار؟ كان من الممكن أن تقتليني.» «أردت أن ألقي الرعب في قلب أي شخص قد يكون هنا.» «كان بإمكانك أن تنتظري، كان يمكن أن تصرخي أولا، كان من الممكن أن تقتليني.» «لم يخطر ببالي أنه أنت.»
حينئذ صاحت ميريام ماكالبن مرة أخرى، وكأنها قد ضبطت متطفلا جديدا. «كان يمكن أن أقتلك. أوه، راس. لم أفكر في ذلك قط. كان من الممكن أن أصيبك.»
قال راسل: «لا عليك، اهدئي. كان من الممكن أن تقتليني ولكنك لم تفعلي.» «كان من الممكن أن تكون مصابا الآن وبيدي أنا.» «لكنك لم تفعلي.» «ولكن ماذا لو كنت قد فعلت؟ رباه، رباه، ماذا لو فعلت؟»
كانت تبكي وتقول شيئا على غرار ذلك مرارا وتكرارا، ولكن بصوت مكتوم، وكأن شيئا قد حشر في فمها.
أو كأنها كانت تحتضن أو تدفع بفعل شيء أو شخص ما، ربما أراحها وهدأها.
كان صوت راسل، المفعم بالسيطرة والبراعة، هو مصدر التهدئة لها. «لا بأس. أجل. لا بأس يا حبيبتي. لا بأس.»
كان هذا هو آخر شيء سمعته. يا لها من كلمة غريبة يخاطب بها ميريام ماكالبن، «حبيبتي»، نفس الكلمة التي اعتاد أن يخاطبني بها أثناء نوبات تقبيلنا. كانت كلمة عادية وشائعة بما يكفي، ولكنها كانت تبدو لي حينئذ كشيء عذب كالعسل أستطيع أن ألعقه. لم يقولها الآن بينما لم أكن بالقرب منه؟ وبنفس الطريقة، نفس الطريقة.
كانت شفتاه تنطقها عبر شعر ميريام ماكالبن وفي أذنها.
كنت واقفة بجوار الباب. كنت أخشى أن يكون صوت فتحه مسموعا بالأسفل على الرغم من الضوضاء التي كانت لا تزال صادرة عن الخيول. وإلا أكن لم أفهم بحق أن وجودي هنا أصبح غير مرغوب وأن دوري قد انتهى. كان علي أن أخرج الآن، لم أكن أعبأ بما لو سمعا، ولكني لا أعتقد أنهما قد سمعاني. فأغلقت الباب، ثم ركضت عبر الممر ومنه إلى الشارع. كنت سأواصل الركض، ولكني أدركت أن أحد الأشخاص قد يراني ويتساءل عن الأمر، كان علي أن أكتفي بالسير بأقصى سرعة. كان من الصعب أن أتوقف ولو للحظة، حتى أعبر الطريق السريع الذي كان أيضا الطريق الرئيسي للبلدة. •••
لم أر راسل مجددا بعد ذلك؛ فقد التحق بالجيش. لم يقتل في الحرب، ولا أعتقد أنه قد استمر في منظمة جيش الخلاص. وفي الصيف الذي تلا كل تلك الأحداث رأيت زوجته؛ فتاة كنت أعرفها بالشكل فقط في المدرسة الثانوية، كانت تسبقني بعامين، وتركت المدرسة لتعمل في مصنع الألبان. كانت مع السيدة كريك وكانت في شهور الحمل الأخيرة، كانا يتفحصان صندوقا به بضائع متنوعة ذات أسعار مخفضة خارج متجر ستيدمان في عصر أحد الأيام. بدت مغتمة وعادية؛ ربما كان ذلك من تأثير الحمل، رغم أني كنت أراها عادية بما يكفي قبل ذلك، أو على الأقل متواضعة الجمال وخجولة. كانت لا تزال تبدو خجولة، وإن بدت متواضعة الجمال بالكاد، كان جسدها يبدو غريبا ولكنه مدهش ومبهر. وسرت في جسدي رعشة من الحسد الجنسي والاشتياق لدى رؤيتها والتفكير في الطريقة التي وصلت بها إلى ما هي عليه. هذا الخضوع، هذا الاحتياج.
في فترة ما بعد أن عاد راسل من الحرب، اشتغل بالنجارة، ومن خلال هذا العمل أصبح مقاولا؛ حيث كان يشيد بيوتا للتقسيمات الفرعية الدائمة التزايد حول تورونتو. تأكدت من هذا لأنه ظهر في حفل للخريجين القدامى في المدرسة الثانوية، وقد ظهرت عليه مظاهر الثراء الشديد، وراح يمزح بشأن عدم أحقيته في الوجود في هذا الحفل لكونه لم يلتحق بالمدرسة الثانوية قط. وقد وصلتني تلك الأخبار من كلارا التي كانت على اتصال بي.
قالت كلارا إن زوجته أصبح شعرها أصفر الآن، وبدينة نوعا ما، وكانت ترتدي فستانا صيفيا خفيفا عاري الظهر. كانت هناك كعكة من الشعر الأشقر بارزة من فتحة في قمة قبعتها الشمسية. لم تتحدث كلارا إليهما؛ ومن ثم لم تكن على يقين مما إذا كانت تلك هي نفس الزوجة أم زوجة جديدة.
على الأرجح أنها لم تكن نفس الزوجة، وإن كان من المحتمل أن تكون هي نفسها. تحدثت أنا وكلارا عن كيف أن حفلات الخريجين القدامى أحيانا ما تظهر إلى أي مدى عصفت الحياة بهؤلاء الذين كانوا يعيشون في رغد أو قللت من شأنهم نوعا ما، وإلى أي مدى ازدهر هؤلاء الذين كانوا على الهامش، وكانوا ينحنون ذلا ويطلبون الصفح. وربما يكون هذا هو ما حدث مع الفتاة التي رأيتها أمام متجر ستيدمان.
ظلت ميريام ماكالبن بإسطبل الخيول إلى أن احترق. لا أعرف ما السبب، لعله نفس السبب المعتاد؛ التبن الرطب والاشتعال التلقائي. تم إنقاذ جميع الخيول، إلا أن إصابة لحقت بميريام، وبعد ذلك عاشت على معاش للإعاقة. •••
كان كل شيء طبيعيا حين عدت إلى المنزل في ذلك المساء، كان هذا في الصيف الذي تعلم فيه شقيقي وشقيقتي لعبة سوليتير، وكانا يلعبانها في كل فرصة تتاح لهما. كانا يجلسان في تلك اللحظة عند طرفي طاولة غرفة الطعام، وكانا في عمر التاسعة والعاشرة، ولكن فيهما وقار ورصانة رفيقين كبيرين، وكانت أوراق اللعب منشورة أمامهما. كانت أمي قد أوت بالفعل إلى فراشها، كانت تمضي ساعات عديدة في الفراش، ولكن لم يكن يبدو أنها تنام مثل الآخرين؛ إذ كانت تغفو فقط لفترات قصيرة من النهار والليل، وربما كانت تنهض لاحتساء بعض الشاي أو لترتيب أحد الأدراج. كانت حياتها قد توقفت عن الارتباط الشديد بحياة الأسرة.
نادت من الفراش لتسألني إن كنت قد حظيت بعشاء لطيف في منزل كلارا، وماذا تناولت كتحلية.
قلت: «بودنج الكاسترد.»
ظننت أنني لو قلت أي جزء من الحقيقة، أي لو قلت «فطيرة»، لفضحت نفسي على الفور. لم تكن هي تعبأ بذلك؛ كان كل ما تريده أن تحظى ببعض الحديث، ولكن لم أستطع أن أوفر لها ذلك؛ فطويت اللحاف جيدا حول قدميها، بناء على طلبها، ونزلت إلى الطابق السفلي، ودخلت إلى غرفة المعيشة، حيث جلست على المقعد المنخفض الذي بلا مسند أمام خزانة الكتب وأخرجت كتابا. جلست هناك أمعن النظر في الكلمات المطبوعة في الضوء الخافت الذي كان لا يزال قادما من النافذة التي كانت بجواري، إلى أن اضطررت للنهوض وإضاءة المصباح. وحتى حينها لم أعبأ بالجلوس في كرسي عادي لكي أستريح، بل ظللت جالسة في انحناء على المقعد الذي بلا مسند، أملأ عقلي بجملة تلو الأخرى، مرددة إياها في رأسي بقوة فقط كي لا أضطر للتفكير فيما حدث.
لا أعرف أي كتاب كان ذلك الذي التقطته، فقد قرأتها جميعا من قبل، كل الروايات التي كانت في خزانة الكتب تلك، ولم يكن ثمة الكثير منها؛ «الشمس هي هلاكي»، «ذهب مع الريح»، «الرداء»، «نم في سلام»، «ولدي، ولدي»، «مرتفعات ويذرنج»، «آخر أيام بومبي». لم تكن المجموعة تعكس أي ذوق معين، وفي الواقع غالبا ما كان والداي لا يستطيعان تحديد كيف وجد أي كتاب طريقه إلى هناك؛ بالشراء، أم بالاستعارة، أم أن شخصا ما قد تركه.
ولكن لا بد أنه كان يعني شيئا في هذا المنعطف من حياتي أن ألتقط كتابا. فعلى مدار السنوات التالية كانت الكتب هي مكمن عشاقي الذين كانوا رجالا وليس صبية، وكانوا رابطي الجأش وساخرين، مع لمحة من الشراسة، ومخزون من الكآبة والأسى. لم يكن من بينهم إدجار لينتون، ولا أشلي ويلكز؛ فلم يكن أي منهما يصلح للمرافقة أو رقيقا.
لم يكن ذلك يعني أنني قد هجرت العاطفة؛ فقد كانت العاطفة، العاطفة الصادقة، حتى العاطفة الجامحة، هي ضالتي التي كنت أبحث عنها. كنت أبحث عن الحاجة والخضوع، ولم أستثن شكلا بعينه من أشكال القسوة والوحشية، ولكن لا وجود للحيرة، أو الخداع، أو أي نوع متدن من المفاجأة أو الإذلال. قلت في نفسي إن علي الانتظار وسوف يأتيني كل ما أستحق عندما أنضج.
الأجيرة
كانت السيدة مونتجوي تريني كيف أضع القدور والآنية في أماكنها، فقد كنت أضع بعضا منها في غير موضعه.
كانت تقول إن أكثر ما تبغضه هو أن تكون الخزانة مبعثرة.
قالت: «ستهدرين الكثير من الوقت، ستهدرين الكثير من الوقت في البحث عن شيء ما؛ لأنه لم يكن حيث كان آخر مرة.»
فقلت: «هكذا كان الحال مع الأجيرات في منزلنا؛ ففي الأيام القليلة الأولى كن دائما ما يضعن الأشياء حيثما لم نكن نستطيع إيجادها.»
وأضفت قائلة: «كنا نطلق على خادماتنا أجيرات. هكذا كنا نسميهن في منزلنا.»
فقالت: «حقا؟» ومرت لحظة من الصمت، ثم قالت: «والمصفاة معلقة على ذلك الخطاف هناك.»
لماذا كان علي أن أقول ما قلت؟ لم كان من الضروري أن أذكر أننا كان لدينا أجيرات في منزلنا؟
كان بإمكان أي شخص أن يدرك السبب؛ لكي أضع نفسي في موضع قريب من مستواها، وكأن ذلك كان ممكنا؛ وكأن أي شيء كان لدي لأقوله عن نفسي أو عن المنزل الذي جئت منه كان يمكن أن يثير اهتمامها أو يبهرها. •••
غير أن تلك كانت الحقيقة بشأن الأجيرات؛ ففي صباي عمل لدينا عدد كبير منهن؛ كانت هناك أوليف، تلك الفتاة الناعمة الناعسة التي لم تكن تحبني؛ لأنني كنت أدعوها أوليف أويل (زيت الزيتون)، وحتى بعد أن جعلوني أعتذر لها عن ذلك ظلت لا تحبني. لعلها لم تكن تحب أيا منا لكونها تنتمي إلى الطائفة الميثودية؛ ما جعلها سيئة الظن ومتحفظة. اعتادت أن تغني عندما كانت تغسل الصحون وأتولى أنا تجفيفها، كانت تغني: «كان يوجد بلسان في جلعاد ...». وكانت تتوقف لو حاولت مشاركتها الغناء.
بعدها جاءت جيني، التي كنت أحبها؛ لأنها كانت فتاة جميلة، وكانت تلف لي شعري بمشابك الشعر ليلا بعد أن تنتهي من لف شعرها، وكانت تحتفظ بقائمة للصبية التي كانت تواعدهم، وكانت تضع علامات غريبة بعد أسمائهم:
x x x o o ⋆ ⋆ . ولم تستمر معنا طويلا.
ولم تستمر طويلا أيضا دورثي، التي كانت تعلق الملابس على حبل الغسيل بطريقة غريبة - فكانت تعلقها من الياقة، أو أحد الكمين، أو من إحدى الساقين - وتكنس القاذورات إلى أحد الأركان وتضع المكنسة فوقها لكي تخفيها.
وحين ناهزت العاشرة أصبحت الأجيرات شيئا من الماضي. لا أعرف إن كان ذلك لكوننا قد أصبحنا أكثر فقرا، أم بسبب أنني اعتبرت كبيرة بما يكفي لكي أكون مصدر عون دائما في أعمال المنزل. كلا الأمرين صحيحان.
كنت قد صرت في السابعة عشرة وقادرة على أن أعمل لدى الآخرين، وإن كان في الصيف فقط؛ لأنني كان يتبقى لي عام في المدرسة الثانوية. أما شقيقتي فكانت في الثانية عشرة؛ ومن ثم، كان يمكنها أن تتولى شئون المنزل. •••
اصطحبتني السيدة مونتجوي من محطة القطار في بوان أوباريل، وأقلتني في قارب ذي محرك خارجي إلى الجزيرة. كانت السيدة التي تعمل في متجر بوان أوباريل هي من رشحتني للوظيفة. كانت صديقة قديمة لوالدتي؛ إذ كانتا تدرسان بالمدرسة معا. كانت السيدة مونتجوي قد سألتها إن كانت تعرف فتاة ريفية معتادة على القيام بأعمال المنزل وتكون متاحة في الصيف ، واعتقدت السيدة أن ذلك سيكون الشيء الأنسب لي، وكان ذلك هو اعتقادي أنا أيضا؛ فقد كنت متلهفة لمشاهدة المزيد من العالم.
كانت السيدة مونتجوي ترتدي شورتا بلون الكاكي وقميصا وضع بداخله. وكان شعرها القصير الذي بيضته الشمس خلف أذنيها. قفزت على متن القارب مثل الصبية، وأدارت المحرك بقوة، وأخذنا ننطلق عبر مياه الخليج الجورجي المسائية المتقلبة. وعلى مدى ثلاثين أو أربعين دقيقة، كنا نقطع طريقنا متفادين الجزر الصخرية والحجرية بأكواخها المنعزلة وقواربها التي تتمايل بجوار أرصفة القوارب. وكانت أشجار الصنوبر بارزة بزوايا غريبة، مثلما تكون في اللوحات.
تشبثت بجوانب القارب وأخذت أرتجف في ردائي الخفيف.
قالت السيدة مونتجوي بأقصر ابتسامة ممكنة: «أتشعرين بالغثيان قليلا؟» كان هذا بمنزلة الإشارة للابتسام، حين لا يبرر الموقف ذلك. كانت لها أسنان بيضاء كبيرة برزت وسط وجه طويل ضارب إلى السمرة، وبدا التعبير الطبيعي المرتسم على وجهها أقرب إلى جزع مكبوح بالكاد. لعلها كانت تعرف أن ما كنت أشعر به هو الخوف، وليس الغثيان، وألقت هذا السؤال علي حتى لا يكون هناك داع لي - ولها - للشعور بالحرج.
كان هذا العالم مختلفا بالفعل عن العالم الذي اعتدت عليه؛ ففي ذلك العالم، كان الخوف شيئا عاديا، على الأقل للإناث؛ فكان من الممكن أن تخاف من الأفاعي، والعواصف الرعدية، والمياه العميقة، والمرتفعات، والظلام، والثيران، والطريق المنعزل وسط المستنقع، دون أن يظن بك أي شخص سوءا. أما في عالم السيدة مونتجوي، كان الخوف عارا وشيئا يجب التغلب عليه دوما.
كان للجزيرة التي كنا نقصدها اسم هو نوسيكا. كان الاسم مكتوبا على أحد الألواح في نهاية رصيف القوارب. فرددته عاليا محاولة أن أظهر شعوري بالاطمئنان والهدوء والامتنان الشديد، فقالت السيدة مونتجوي بقليل من الدهشة: «أوه، نعم. كان ذلك هو اسمها حين اشتراها أبي. إنه اسم شخصية بإحدى مسرحيات شكسبير.»
فتحت فمي لكي أقول لا، ليس شكسبير، ولأخبرها أن نوسيكا هي الفتاة التي كانت على الشاطئ تلعب الكرة مع رفيقاتها وتفاجأت بيوليسيس حين استيقظ من غفوته. كنت قد تعلمت آنذاك أن معظم الناس الذين عشت بينهم لم يكونوا يرحبون بهذا النوع من المعلومات، وكنت ألتزم الصمت على الأرجح حتى لو سألنا المدرس في المدرسة، ولكن كنت أعتقد أن الناس في العالم الخارجي - العالم الواقعي - سيكونون مختلفين. وفي الوقت المناسب أدركت حدة نبرة صوت السيدة مونتجوي حين قالت «شخصية بإحدى مسرحيات شكسبير»؛ الإشارة أن نوسيكا وشكسبير وكذا أي ملاحظات من جانبي، كانت أشياء يمكنها الاستغناء عنها إلى حد كبير.
كان الرداء الذي ارتديته في يوم وصولي هناك من صنع يدي، وكان من القطن المخطط القرنفلي والأبيض. كانت الخامة رخيصة، وكان السبب وراء ذلك أنها في الواقع لم تكن معدة لتفصيل رداء، بل لبلوزة أو رداء للنوم، وأن التصميم الذي اخترته - التصميم ذا التنورة الطويلة والخصر الضيق الذي كان منتشرا في تلك الأيام - كان خاطئا؛ فحين كنت أسير، كان القماش يتجعد ويتجمع بين ساقي، وكنت مضطرة لفرده طوال الوقت. كان اليوم هو أول يوم أرتدي فيه هذا الرداء، وظللت أعتقد أن المشكلة قد تكون مؤقتة؛ فمع جذب قوي بما يكفي قد تفرد الخامة بالشكل الملائم. ولكن عندما خلعت حزامي اكتشفت أن حرارة النهار وسخونة القطار أثناء ركوبي إياه قد خلفتا مشكلة أسوأ. كان الحزام عريضا ومزودا برباط مرن وذا لون خمري، وقد بهت على الرداء، فصارت منطقة الخصر محوطة بصبغة حمراء.
اكتشفت هذا عندما هممت بخلع ملابسي في علية مستودع القوارب التي كان علي مشاركتها مع ابنة السيدة مونتجوي ذات الأعوام العشرة؛ ماري آن.
قالت ماري آن: «ماذا حدث لردائك؟ هل تتعرقين كثيرا؟ هذا سيئ جدا.»
فقلت لها إنه رداء قديم على أي حال وإنني لم أشأ أن أرتدي شيئا غاليا في القطار.
كانت ماري آن ذات شعر أشقر وبشرة منمشة، ووجه طويل مثل والدتها. ولكن لم يكن لها طلة والدتها المعبرة عن الأحكام السريعة التي تحتشد على السطح وتكون على استعداد للقفز في وجهك. كان تعبير وجهها لطيفا وجادا، وكانت ترتدي نظارة ذات عدسات سميكة حتى حين كانت تجلس في الفراش. وقد أخبرتني بعد فترة وجيزة أنها قد أجرت عملية جراحية لعلاج الحول الذي كان في عينيها، ولكن مع ذلك ظل بصرها ضعيفا.
قالت: «لقد ورثت عيني والدي، وورثت ذكاءه أيضا. يا له من شيء غاية في السوء أنني لم أكن صبيا.»
وكان هذا اختلافا آخر بين العالمين؛ فقد كان ثمة اعتقاد عام في موطني أن الصبية أقل ذكاء من الفتيات، وإن لم يكن في ذلك ميزة خاصة لهؤلاء أو أولئك. فكان بإمكان الفتيات أن يمضين في طريقهن ليصبحن معلمات، وكان ذلك أمرا لا بأس به - وإن كان قطار الزواج كان يفوتهن في أغلب الأحيان - ولكن كان استمرار الصبية في الدراسة عادة ما كان يعني أنهم مخنثون.
كان بإمكانك طوال الليل أن تسمع المياه تصطدم بألواح مستودع القوارب. وجاء الصباح مبكرا. تساءلت ما إذا كنت قد ابتعدت إلى شمال موطني بما يكفي لكي تشرق الشمس سريعا هكذا، فنهضت ونظرت إلى الخارج، وعبر النافذة الأمامية رأيت المياه الحريرية التي كان سطحها يرتد وميض ضوء السماء منه ليضيء قاعها. رأيت الشواطئ الصخرية لهذا الخليج الصغير، والقوارب الشراعية الراسية عليها، والقناة المفتوحة خلفها، ورابية جزيرة أخرى أو اثنتين، والشواطئ والقنوات القابعة خلف ذلك. وخطر لي أنني لن أكون قادرة، وحدي، على أن أجد طريقي للعودة إلى البر الرئيسي مرة أخرى.
لم أكن قد أدركت بعد أنه يجب ألا تجد الخادمات طريقهن إلى أي مكان؛ فهن يقبعن حيثما يكون العمل. وحدهم الأشخاص الذين يوجدون العمل هم من يستطيعون المجيء والذهاب.
كانت النافذة الخلفية تطل على صخرة رمادية أشبه بجدار مائل، ذات منحدرات وصدوع حيث كانت تنمو أشجار صنوبر وأرز صغيرة وشجيرات توت أزرق. وأسفل قاعدة ذلك الحائط كان ثمة طريق - سلكته فيما بعد - عبر الغابة يؤدي إلى منزل السيدة مونتجوي. كان كل شيء هنا لا يزال رطبا وشبه مظلم، رغم أنك لو مددت عنقك، لأمكنك أن ترى قطعا من السماء تتألق ببياضها عبر الأشجار القابعة أعلى الصخرة. كانت جميع الأشجار تقريبا متجهمة، دائمة الخضرة، ولها رائحة ، ولها أغصان كثيفة لم تكن تسمح بنمو أي نباتات أسفلها؛ فلم يكن ثمة نمو غزير لنباتات الكرم، والعليق، والشجيرات مثلما كنت معتادة في غابة أشجار الخشب الصلب. وقد لاحظت هذا عندما نظرت من القطار في اليوم السابق؛ لاحظت كيف أن ما كنا نسميه الدغل قد تحول إلى شكل الغابة الأكثر واقعية، والتي قضت على كل النباتات الغزيرة والفوضى والتغييرات الموسمية. بدا لي أن هذه الغابة الحقيقية مملوكة لأناس أثرياء - كانت بمنزلة الملعب اللائق لهم رغم كآبتها - وللهنود الذين كانوا يعملون لدى الأثرياء كمرشدين وتابعين غريبين، الذين كانوا يعيشون بعيدا عن العين وبعيدا عن العقل، في مكان لم يكن يمر به القطار.
غير أنه في ذلك الصباح كنت أنظر خارج النافذة في لهفة وكأن هذا المكان هو المكان الذي سوف أعيش فيه وسوف يصبح كل شيء فيه مألوفا بالنسبة إلي. وقد أصبح كل شيء مألوفا بالفعل، على الأقل في الأماكن التي كان عملي فيها وحيثما يفترض أن أذهب، ولكن كان ثمة حاجز قائم، ربما تكون كلمة «حاجز» كلمة أقوى من اللازم؛ فلم يكن ثمة أي تحذير أكثر من مجرد شيء كومضة في الهواء، مجرد تذكرة بليدة. «ليس لك»، لم يكن ذلك بالشيء الذي يجب أن يقال، أو يوضع على لافتة. «ليس لك». وعلى الرغم من استشعاري لها، فلم أكن لأعترف لنفسي بوجود مثل هذا الحاجز، لم أكن لأعترف بأنني قد شعرت حتى بالذل أو الوحدة، أو بأنني كنت خادمة حقيقية. ولكنني توقفت عن التفكير في مغادرة الطريق، والاستكشاف بين الأشجار. فلو أن أحدا قد رآني، لاضطررت إلى توضيح ما كنت أفعله، ولم يكن ذلك ليعجبهم؛ وأقصد بذلك السيدة مونتجوي.
وإحقاقا للحق، لم يكن هذا مختلفا كثيرا عما كانت عليه الأمور في موطني؛ حيث كان الاستكشاف غير المجدي للأماكن المحيطة بك، أو إضاعة الوقت في تأمل الطبيعة - أو حتى استخدام تلك الكلمة، كلمة «الطبيعة» - يمكن أن يعرضك للسخرية من جانب الآخرين. •••
كانت ماري آن تحب التحدث حين نكون مستلقيتين على أسرتنا الصغيرة ليلا. أخبرتني بأن كتابها المفضل هو «كون-تيكي»، وأنها لم تكن تؤمن بالرب أو بالجنة.
قالت لي: «لي أخت متوفاة، ولا أصدق أنها تهيم في مكان ما في رداء نوم أبيض، إنها ميتة، إنها مجرد عدم.»
وأضافت: «كانت أختي جميلة، كانت كذلك مقارنة بي على أي حال، لم تكن أمي جميلة على الإطلاق، وأبي كان بحق قبيحا. كانت عمتي مارجريت جميلة في السابق ولكنها الآن بدينة، وجدتي كانت جميلة ولكنها الآن عجوز. وصديقتي هيلين جميلة، ولكن صديقتي سوزان ليست كذلك. وأنت جميلة ولكن لا يهم لأنك الخادمة. هل قولي هذا يؤذي مشاعرك؟»
فأجبت بالنفي. «أنا فقط الخادمة حينما أكون هنا.»
لم أكن أقصد بذلك أنني الخادمة الوحيدة على الجزيرة؛ فقد كان الخادمان الآخران زوجين، هنري وكوري. لم يكن عملهما يجلب لهما الشعور بالمذلة والدونية، بل كانا راضيين به. كانا قد قدما إلى كندا من هولندا قبل بضعة أعوام ووظفهما السيد والسيدة فولي، وهما والد ووالدة السيدة مونتجوي واللذان كانا يمتلكان الجزيرة، وعاشا في البيت الكبير الأبيض ذي الطابق الواحد، بمظلاته وشرفاته، والذي كان يوجد فوق أعلى نقطة من الأرض. كان هنري يجز الحشائش ويعتني بملعب التنس ويطلي مقاعد الحديقة ويساعد السيد فولي في شئون القوارب وتنظيف الممرات وإصلاح رصيف القوارب. أما كوري، فكانت تتولى الأعمال المنزلية وطهي الوجبات والاعتناء بالسيدة فولي.
كانت السيدة فولي تمضي كل صباح مشمس جالسة بالخارج على مقعد على سطح القارب، وكانت تمد قدميها لتغمرهما الشمس بأشعتها، وكان ملحقا بالمقعد مظلة لتحمي رأسها. كانت كوري تخرج وتغير لها وضعيتها مع تحرك الشمس، وتأخذها إلى الحمام، وتحضر لها أكواب الشاي وكئوس القهوة المثلجة. وقد كنت شاهدة على ذلك حين كنت أصعد إلى منزل آل فولي قادمة من منزل آل مونتجوي في مهمة ما، أو لوضع أو أخذ شيء ما من الثلاجة؛ فقد كانت الثلاجات المنزلية لا تزال ابتكارا حديثا نوعا ما وضربا من الرفاهية في ذلك الوقت، ولم تكن ثمة واحدة في منزل آل مونتجوي.
كنت أسمع كوري تقول للسيدة فولي: «لا تمصي مكعبات الثلج.» ومن الواضح أن السيدة فولي لم تكن تلقي بالا لها وأخذت تمص أحد مكعبات الثلج، فقالت كوري: «هذا سيئ. كلا. الفظيه. الفظيه فورا في يد كوري. هذا سيئ. أنت لا تفعلين ما تقوله كوري.»
قالت لي بينما كانت تلحق بي على الطريق المؤدي إلى داخل المنزل: «أخبرتهم بأنها قد تختنق حتى الموت، ولكن السيد فولي دائما ما يقول لي: أعطيها مكعبات الثلج، فهي تريد شرابا كأي شخص آخر؛ لذا أظل أخبرها وأخبرها ألا تمص مكعبات الثلج. ولكنها لا تفعل ما أقول.»
في بعض الأحيان، كنت أرسل لمساعدة كوري في تلميع الأثاث أو جلي الأرضيات، وقد كانت كثيرة المطالب ومنهكة للغاية، فلم تكن تمسح مناضد المطبخ فقط، بل كانت تجليها. وكانت كل حركة تقوم بها تحمل طاقة وتركيز شخص يجدف بقارب ضد التيار، وكل كلمة تنطق بها تنطلق وكأنها في رياح عالية من المعارضة. وحين كانت تعصر ممسحة تنظيف، كانت تبدو وكأنها تلوي عنق دجاجة. كنت أفكر أنه قد يكون مثيرا لو استطعت استدراجها للحديث عن الحرب، ولكن كان كل ما تقوله أن الجميع كانوا جائعين جدا وأنهم قد احتفظوا بقشر البطاطس لإعداد حساء.
وقالت: «لا جدوى. لا جدوى من الحديث عن ذلك.»
كانت تفضل المستقبل؛ فكانت هي وهنري يدخران أموالهما لبدء عمل خاص بهما. كانا يعتزمان إنشاء دار للمسنين. قالت كوري ملقية رأسها للخلف وهي تعمل للإشارة إلى السيدة فولي وهي جالسة بالخارج في الحديقة: «هناك الكثير من الناس مثلها. وقريبا ما سيكون هناك المزيد والمزيد؛ لأنهم يعطونهم الأدوية التي تؤخر موتهم. فمن الذي سيعتني بهم؟»
ذات يوم نادتني السيدة فولي بينما كنت أجتاز الحديقة.
قالت لي: «إلى أين أنت ذاهبة بهذه السرعة؟ تعالي واجلسي بجواري واستريحي قليلا.»
كان شعرها الأبيض قابعا تحت قبعة مرنة من القش، وحين مالت إلى الأمام تخللت الشمس فتحات القبعة المرصعة البقع ذات اللون القرنفلي والبني الباهت بوجهها ببثور من الضوء. كان لعينيها لون شبه منقرض لم أستطع تمييزه، وكان شكلها غريبا؛ صدر ضيق مسطح ومعدة منتفخة تحت طبقات من الملابس الباهتة الفضفاضة. وكان جلد ساقيها اللتين كانت تمدهما في الشمس لامعا وباهتا ومغطى بتشققات شاحبة.
قالت: «معذرة لعدم ارتداء جواربي. أخشى أن أكون شاعرة ببعض الخمول اليوم، ولكن ألست فتاة رائعة لكي تقطعي كل هذه المسافة بمفردك، هل ساعدك هنري في حمل البقالة من رصيف القوارب؟»
لوحت لنا السيدة مونتجوي التي كانت في طريقها إلى ملعب التنس لتعطي ماري آن حصة في لعب التنس. كانت تعطي ماري آن حصة كل صباح، وعلى الغداء كانتا تناقشان معا ما ارتكبته ماري من أخطاء.
قالت السيدة فولي في إشارة إلى ابنتها: «ها هي تلك السيدة التي تأتي كي تلعب التنس. إنها تأتي كل يوم؛ لذا أعتقد أنه لا بأس تماما في ذلك. يمكنها أيضا أن تستخدمه إذا لم يكن لديها ملعب خاص بها.»
قالت لي السيدة مونتجوي فيما بعد: «هل طلبت منك السيدة فولي أن تأتي وتجلسي معها على الحشائش؟»
فقلت لها: «نعم، كانت تعتقد أنني شخص أحضر البقالة.» «أعتقد أنه كان ثمة فتاة لتوصيل البقالة كانت تدير قاربا لتوصيل البضائع، لم يعد هناك أي خدمة توصيل للبقالة منذ سنوات. إن الأمور تختلط على السيدة فولي بين الحين والآخر.» «لقد قالت إنك سيدة تأتي للعب التنس.»
فقالت السيدة مونتجوي: «أقالت ذلك حقا؟» •••
لم يكن العمل الذي كان علي القيام به هنا شاقا بالنسبة إلي؛ فقد كنت أجيد الخبز، وكي الملابس، وتنظيف الموقد. لم يكن أحد يخطو بقدمه الملطخة بوحل الفناء المجاور للإسطبل داخل المطبخ، ولم تكن ثمة ثياب عمل ثقيلة خاصة بالرجال للتصارع معها عبر العصارة، كان هناك فقط تلك الأعمال المتعلقة بوضع كل شيء في مكانه تماما، إلى جانب القيام ببعض التلميع؛ فكنت ألمع إطارات شعلات الموقد بعد كل استخدام، والصنابير، والباب الزجاجي الموصل إلى الساحة الأمامية إلى أن يبدو وكأنه لا يوجد زجاج فيه، حتى إن الناس يكونون عرضة لخطر اصطدام وجوههم به.
كان منزل آل مونتجوي ذا طابع عصري ، وكان له سقف مسطح وساحة أمامية تمتد فوق الماء والكثير من النوافذ التي كانت السيدة مونتجوي تحب رؤيتها، وقد أصبحت غير مرئية مثل الباب الزجاجي.
كانت تقول: «ولكن لا بد لي أن أكون واقعية. فأنا أعلم أنك إذا فعلت ذلك، فلن يكون لديك الوقت الكافي للقيام بالأعمال الأخرى.» لم تكن بأي حال من أرباب العمل الجائرين. كانت نبرتها معي أثناء الحديث صارمة ومنفعلة قليلا، ولكن ذاك كان أسلوبها مع الجميع. وكانت دائما تنتبه إلى الإهمال أو القصور الذي كانت تبغضه كثيرا، وكانت كلمة «مهمل» هي كلمتها المفضلة للتعبير عن الاستنكار، وكان من الكلمات الأخرى المفضلة لديها «تافه» و«غير ضروري». فكان الكثير من الأشياء التي يفعلها الناس غير ضروري، والبعض منها أيضا كان تافها. ربما كان يستخدم الآخرون كلمات مثل «مصطنع»، أو «منطقي»، أو «متساهل». وكانت السيدة مونتجوي تطيح بكل هذه الاختلافات والفروق.
كنت أتناول وجباتي وحدي فيما بين فترات تقديم الطعام لمن يأكل في الساحة الأمامية للمنزل أو في غرفة الطعام. وكدت أرتكب خطأ مريعا في هذا الشأن؛ فعندما ضبطتني السيدة مونتجوي وأنا متجهة إلى الساحة الأمامية ومعي ثلاثة أطباق - محمولة على الطريقة الاستعراضية المتباهية للنادلات - لأول وجبة غداء، قالت لي: «ثلاثة أطباق هناك؟ أوه، حسنا، اثنان على الساحة الأمامية وطبقك أنت هنا. أفهمت؟»
كنت أقرأ أثناء تناول الطعام؛ إذ كنت قد وجدت كومة من المجلات القديمة - مجلات «لايف»، و«لوك»، و«تايم»، و«كوليرس» - خلف خزانة المكانس. كان بإمكاني الجزم بأن السيدة مونتجوي لم تكن تحبذ فكرة الجلوس وقراءة المجلات أثناء تناول غدائي، ولكنني لم أعرف على وجه التحديد لماذا، هل لأن القراءة أثناء الأكل ليست من آداب الطعام، أم لأنني لم أكن أستأذنها؟ على الأرجح أنها قد رأت أن اهتمامي بأشياء لم تكن لها صلة بعملي شكل واضح من أشكال السفاهة، فذاك شيء غير ضروري.
كل ما كانت تقوله لي في هذا الشأن هو: «لا بد أن تلك المجلات القديمة مغبرة على نحو مريع .»
فأقول إنني دائما ما أمسح عنها الغبار.
في بعض الأحيان، كانت تحل علينا ضيفة على الغداء؛ صديقة كانت تأتي من إحدى الجزر القريبة. سمعت السيدة مونتجوي تقول: «... لا بد أن تجعلي فتياتك سعيدات وإلا فسوف يرحلن إلى الفندق ثم إلى الميناء، ويمكنهن الحصول على وظائف هناك بسهولة، لم تعد الأمور كما كانت في السابق.»
فقالت السيدة الأخرى: «هذا صحيح تماما.»
قالت السيدة مونتجوي: «لذا، عليك إعطاؤهن بعض الامتيازات، عليك أن تبذلي أقصى ما لديك من جهد معهن.» استغرق مني الأمر لحظات كي أدرك عمن تتحدثان. عني. لقد كانت كلمة «فتيات» تعني الفتيات أمثالي. حينئذ تساءلت ما هي تلك الامتيازات التي تعطيني إياها كي أكون سعيدة وراضية عن عملي، هل هي اصطحابي في رحلة مزعجة بالقارب بين الحين والآخر حين تذهب السيدة مونتجوي للحصول على مستلزماتها؟ أو السماح لي بارتداء بنطال قصير وبلوزة، أو حتى صديرة، بدلا من زي رسمي بياقة وأساور بيضاء؟
وأي فندق هذا؟ وأي ميناء؟ •••
قالت ماري آن: «ما أكثر ما تجيدينه؟ ما الرياضات التي تفضلينها؟»
قلت بعد لحظات من التفكير: «الكرة الطائرة.» كان علينا أن نمارس الكرة الطائرة في المدرسة. لم أكن بارعة جدا فيها، ولكنها كانت رياضتي المفضلة؛ لأنها كانت الرياضة الوحيدة المتاحة.
قالت ماري آن: «أوه، لا أقصد الرياضات الجماعية. أقصد أي رياضة «تجيدينها» أكثر؟ التنس، أم السباحة، أم ركوب الدراجات أم ماذا؟ إن رياضتي المفضلة حقا هي ركوب الدراجات؛ لأنها لا تعتمد كثيرا على قوة الإبصار. إن رياضة العمة مارجريت المفضلة هي التنس، وكذلك جدتي، وجدي دائما ما كان يمارس رياضة ركوب القوارب الشراعية، وأبي يمارس السباحة على ما أعتقد، والعم ستيوارت يمارس الجولف ورياضة ركوب القوارب الشراعية، وأمي تمارس الجولف والسباحة والقوارب الشراعية والتنس وكل شيء، ولكن ربما يكون التنس هو أفضل ما تجيده من بينها جميعا. لا أعرف الرياضة التي كانت شقيقتي جين ستفضلها لو لم تكن قد ماتت، ولكن ربما كانت السباحة؛ لأنها كانت تستطيع السباحة بالفعل وهي لم تتجاوز الثالثة .»
لم أكن قد وطئت بقدمي ملعب تنس في حياتي من قبل، وكانت فكرة الخروج في قارب شراعي أو امتطاء حصان تجعلني أرتعد. كنت أستطيع السباحة، ولكن لم أكن أجيد ذلك. كان الجولف بالنسبة إلي شيئا يمارسه الرجال البلهاء في أفلام الكارتون. لم يكن الكبار ممن كنت أعرفهم يمارسون أي ألعاب يتخللها نشاط بدني؛ فقد كانوا يجلسون وينالون قسطا من الراحة حينما كانوا يكفون عن العمل، وهو الأمر الذي لم يكن يحدث كثيرا. وإن كانوا في أمسيات الشتاء ربما كانوا يلعبون ألعاب الورق، مثل اليوكر واللوست إير. كانوا يمارسون أنواعا من ألعاب الورق لم تمارسها السيدة مونتجوي من قبل قط.
قلت لها: «كل من أعرفهم يعملون بكد شديد؛ ما يتعذر معه ممارسة أي رياضات. إننا حتى ليس لدينا ملعب للتنس في بلدتنا ولا ملعب جولف كذلك.» (في الواقع كان لدينا كلا هذين الملعبين يوما ما، ولكن لم يكن يوجد المال اللازم لصيانتهما والحفاظ عليهما أثناء فترة الكساد ولم يجددا منذ ذلك الحين.) وأضفت: «لا أحد ممن أعرفهم لديه قارب شراعي.»
ولم أذكر أن بلدتي ليست بها حلبة للهوكي ولا ملعب للبيسبول.
قالت ماري آن في تأمل: «حقا؟ وماذا يفعلون إذن؟» ««يعملون.» ولا يملكون أي أموال قط طوال حياتهم.»
بعد ذلك، أخبرتها أن معظم الناس الذين أعرفهم لم يروا مرحاضا دافقا ما لم يكن في بناية عامة، وأنه في بعض الأحيان كان المسنون (أي الأشخاص الذين وصلوا إلى سن يعجزون معها عن العمل) يضطرون لملازمة الفراش طوال الشتاء لكي يبقوا دافئين. وكان الأطفال يسيرون حفاة الأقدام حتى يأتي الصقيع للحفاظ على جلد أحذيتهم، وكانوا يموتون من آلام المعدة التي كانت في الحقيقة التهابا في الزائدة الدودية؛ لأن آباءهم لم يكونوا يملكون أي أموال يدفعونها للطبيب. وفي بعض الأحيان، كان الناس لا يأكلون شيئا سوى أوراق الهندباء البرية على العشاء.
لم تكن أي من هذه العبارات - حتى تلك الخاصة بأوراق الهندباء البرية - غير صحيحة. فقد سمعت عن مثل هذه الأمور. وربما تكون تلك المتعلقة بالمراحيض الدافقة هي الأقرب إلى الحقيقة، ولكنها كانت تنطبق على أهل الريف، وليس أهل البلدة، ومعظم من كانت تنطبق عليهم كانوا من الجيل السابق على جيلي. ولكن بينما كنت أتحدث إلى ماري آن، كانت تتكشف لي في عقلي كل الوقائع المفردة والقصص الغريبة التي كنت قد سمعتها، حتى إنني كدت أصدق أنني كنت أسير بقدمين حافيتين مزرقتين على الوحل البارد؛ أنا التي استفدت من زيت كبد الحوت واللقاحات وكنت أتدثر بالملابس الدافئة وأنا ذاهبة إلى المدرسة، وكنت أنام وأنا جائعة فقط لرفضي تناول أصناف مثل حلوى اللبن المخثر المحلى أو بودنج الخبز أو الكبدة المقلية. وبدا هذا الانطباع المزيف الذي كنت أعطيه أن يكون له ما يبرره، وكأن المبالغات أو شبه الأكاذيب التي كنت أقولها كانت بدائل لشيء لم أستطع توضيحه.
كيف لي أن أوضح، على سبيل المثال، الفارق بين مطبخ آل مونتجوي ومطبخنا في المنزل؟ لم يكن يمكنك أن توضح ذلك ببساطة بالإشارة إلى أسطح الأرضيات الجديدة واللامعة لأحدهما ومشمع الأرضيات البالي للآخر، أو حقيقة أن الماء اليسر كان يضخ من خزان إلى الحوض مقارنة بالماء الساخن والبارد الذي يتدفق من الصنابير. كنت ستقول إن لديك في حالة من الحالتين مطبخا يتبع بدقة مطلقة المفهوم الحديث لما ينبغي أن يكون عليه المطبخ، وفي الأخرى مطبخا كان يتغير بين الحين والآخر مع الاستخدام والارتجال، ولكنه لم يتغير مطلقا من عدة جوانب، وكان مملوكا لعائلة واحدة وللسنوات والعقود التي امتدت عبرها حياة تلك العائلة. وحين فكرت في ذلك المطبخ، بموقده الذي كان يعمل بالخشب والكهرباء الذي كنت أصقله بأغلفة الخبز الورقية المشمعة، وصفائح التوابل القديمة الداكنة اللون بحروفها الصدئة التي يحتفظ بها من العام إلى العام في خزانات المطبخ، وملابس الإسطبل المعلقة بجوار الباب، بدا وكأن علي أن أحميه من الازدراء؛ كأن علي أن أحمي أسلوبا معيشيا قيما وحميما، وإن لم يكن مبهجا، من الازدراء. لقد كان الازدراء هو ما كنت أتخيله في الانتظار دائما، يتأرجح على حبال متحركة، تماما تحت الجلد وفيما وراء مدارك الناس من أمثال آل مونتجوي.
قالت ماري آن: «هذا ليس عدلا. هذا بشع. لم أكن أعلم أن الناس يمكن أن يأكلوا أوراق الهندباء البرية.» ولكن بعد ذلك تهلل وجهها وقالت: «لماذا لا يذهبون ويصيدون بعض الأسماك؟» «لأن الناس الذين ليسوا بحاجة إلى لأسماك جاءوا واصطادوها جميعا بالفعل، أعني الأثرياء، على سبيل اللهو.»
بالطبع كان بعض الناس في موطني يصطادون الأسماك عندما يكون لديهم وقت، على الرغم من أن البعض الآخر، بمن فيهم أنا، وجدوا أن الأسماك الموجودة في نهرنا هزيلة جدا. ولكنني اعتقدت أن ذلك كان سيسكت ماري آن، لا سيما عندما علمت أن السيد مونتجوي كان يذهب في رحلات لصيد الأسماك مع أصدقائه.
ولم تستطع الكف عن التفكير في المشكلة. وقالت: «ألم يكن باستطاعتهم الذهاب إلى جيش الخلاص؟» «إنهم غاية في الإباء والاعتداد بالنفس.»
فقالت: «أشعر بالأسف والأسى من أجلهم. إنني أشعر بالأسف حقا من أجلهم، ولكنني أظن أن هذا غباء منهم. فماذا عن الرضع والأطفال الصغار؟ كان لا بد أن يفكروا بشأنهم. هل الأطفال أيضا غاية في الاعتداد بالنفس؟» «الجميع معتدون بأنفسهم.» •••
عندما كان السيد مونتجوي يأتي إلى الجزيرة في عطلات نهاية الأسبوع، دائما ما كان ثمة قدر كبير من الضجيج والحركة. كان بعض من ذلك يعزى إلى وجود ضيوف كانوا يأتون بالقارب للسباحة وتناول الشراب ومشاهدة سباقات القوارب الشراعية. ولكن الكثير منه كان مصدره هو السيد مونتجوي نفسه؛ فقد كان له صوت عال صاخب كالعاصفة وجسد مكتنز ذو بشرة لم تكتسب أي سمرة من قبل قط؛ ففي عطلة كل أسبوع كان يتحول لونه إلى الأحمر بفعل الشمس، وخلال الأسبوع كان الجلد المسفوع يتقشر تاركا إياه بلون وردي يعكره النمش وجاهزا للسفع مرة أخرى. وحينما كان يخلع نظارته، كان بإمكانك أن ترى أن إحدى عينيه تطرف بسرعة وبها حول، والأخرى ذات لون أزرق جريء ولكنها تحمل نظرة بائسة، وكأنه قد وقع في شرك.
كان صياحه غالبا ما يكون بشأن أشياء وضعها في غير موضعها، أو أوقعها ، أو اصطدم بها. فكان يقول: «أين ... بحق الجحيم؟»، أو «ألم يتصادف أن رأيت ...؟» ولذا بدا لي أنه كان أيضا يخطئ حتى، أو يعجز من الأساس، عن إدراك اسم الشيء الذي كان يبحث عنه. ولكي يواسي نفسه، قد يأخذ حفنة من الفول السوداني أو قطع البسكويت المملح أو أي شيء قريب منه، ويظل يأكل الحفنة تلو الأخرى إلى أن تنتهي جميعا. بعدها كان يحملق في الطبق الخاوي وكأن في ذلك ما أدهشه أيضا.
في صباح أحد الأيام سمعته يقول: «والآن أين بحق الجحيم ذلك ...؟» وكان يجوب الساحة الأمامية للمنزل محدثا الكثير من الضجيج.
قالت السيدة مونتجوي في نبرة من السيطرة الرائعة: «كتابك؟» وكانت تتناول قهوة ما قبل الظهر.
فقال: «أظن أنه هنا، فقد كنت أقرؤه.»
فقالت: «أتقصد كتاب الشهر؟ أظن أنك قد تركته في غرفة المعيشة.»
وكانت على حق؛ فقد كنت أنظف غرفة المعيشة بالمكنسة الكهربائية، وقبل بضع لحظات كنت قد التقطت كتابا دفع جزء منه تحت الأريكة. كان عنوانه «سبع حكايات قوطية»، وعنوانه جعلني أرغب في فتحه، وحتى بينما كنت أسترق السمع لحديث الزوجين مونتجوي كنت أقرأ، حاملة الكتاب مفتوحا في يد وبالأخرى أوجه المكنسة الكهربائية. لم يكن بإمكانهما أن يرياني من الساحة الأمامية للمنزل.
قالت ميرا: «كلا، أنا أتحدث من القلب. لقد كنت أحاول لوقت طويل أن أفهم الرب. والآن صرت صديقة له. ولكي تحبه بحق، لا بد أن تحب التغيير، ولا بد أن تحب الدعابة، لكون تلك هي النوازع الحقيقية لقلبه.»
قال السيد مونتجوي الذي دخل إلى الغرفة بغرابة، دون أصوات القرع والارتطام المعتادة منه، أو أنني على الأقل لم أسمع أيا منها: «ها هو هناك. يا لك من فتاة طيبة! لقد وجدت كتابي. تذكرت الآن. في الليلة الماضية كنت أقرؤه على الأريكة.»
فقلت: «كان على الأرض، لقد التقطته لتوي.»
لا بد أنه قد رآني وأنا أقرؤه. وقال: «إنه نوع غريب من الكتب، ولكن أحيانا ما ترغبين في قراءة كتاب ليس ككل الكتب الأخرى.»
قالت السيدة مونتجوي التي دخلت حاملة صينية القهوة: «لم أستطع أن أفهم منه شيئا. علينا الخروج من هنا لندعها تستكمل التنظيف.»
عاد السيد مونتجوي إلى البر الرئيسي، وإلى المدينة، في مساء ذلك اليوم. كان يعمل مدير بنك، وعلى ما يبدو أن ذلك لم يكن يعني أنه كان يعمل في بنك. وفي اليوم التالي لرحيله أخذت أبحث في كل مكان؛ بحثت أسفل الكراسي، وخلف الستائر، لعله قد ترك ذلك الكتاب، ولكن دون أن أتمكن من العثور عليه. •••
قالت السيدة فولي: «دائما ما كنت أرى أنه سيكون من اللطيف أن أعيش هنا طوال العام مثلما تفعلون أنتم.» لا بد أنها قد تعرفت علي بوصفي الفتاة التي تحضر البقالة. وفي بعض الأيام، كانت تقول لي: «أنا أعرف الآن من أنت. أنت الفتاة الجديدة التي تساعد السيدة الهولندية في المطبخ. ولكن أنا آسفة، لا أستطيع أن أتذكر اسمك.» وفي أيام أخرى، كنت أمر بجانبها دون أن تلقي علي أي تحية أو تظهر أدنى اهتمام بي.
كانت تقول: «لقد اعتدنا أن نأتي إلى هنا في الشتاء؛ فالخليج يتجمد ويكون ثمة طريق عبر الجليد. وكنا معتادين أن نتزلج بحذاء الثلج. لم يعد الناس يفعلون ذلك الآن. أليس كذلك؟ أيتزلجون بحذاء الثلج؟»
لم تنتظر مني إجابة. فمالت نحوي وقالت في حرج، متحدثة بصوت شبه هامس: «أيمكنك أن تخبريني بشيء؟ هل يمكنك أن تخبريني أين جين؟ لم أرها تجري حولي هنا منذ زمن طويل؟»
فقلت لها إنني لا أعرف. فابتسمت كما لو كنت أهزأ بها، ومدت إحدى يديها لتلمس وجهي. كنت منحنية لكي أسمعها، ولكن حينئذ اعتدلت في وقفتي، ولامست يدها صدري. كان يوما حارا وكنت أرتدي صديرتي؛ ومن ثم تصادف أن لمست جلدي. كانت يدها خفيفة وجافة كنشارة الخشب، ولكن الظفر خدشني.
فقالت: «أنا واثقة من أن كل شيء على ما يرام.»
بعد ذلك، كنت أكتفي بالتلويح بيدي لها عندما كانت تتحدث إلي وأمضي في طريقي مسرعة. •••
في عصر أحد أيام السبت في نهاية شهر أغسطس، أقام آل مونتجوي حفل كوكتيل . أقيم الحفل على شرف الأصدقاء المقيمين لديهم في عطلة ذلك الأسبوع؛ السيد والسيدة هاموند. كان ثمة الكثير من الشوك والملاعق الفضية الصغيرة التي ينبغي تلميعها استعدادا لهذا الحدث؛ لذا قررت السيدة مونتجوي أن جميع الفضيات يمكن أن تلمع في نفس الوقت. فقمت بالتلميع وكانت تقف بجانبي وأنا أفعل ذلك.
في يوم الحفل وصل المدعوون في قوارب بخارية وقوارب شراعية، وذهب البعض منهم للسباحة، ثم جلسوا حول الصخور بملابس السباحة، أو استلقوا على رصيف القوارب تحت الشمس. فيما صعد آخرون إلى المنزل مباشرة وراحوا يشربون ويتحدثون في غرفة المعيشة أو في الساحة الأمامية للمنزل. وجاء بعض الأطفال مع آبائهم، وجاء أطفال أكبر سنا بمفردهم، في قواربهم الخاصة. لم يكونوا أطفالا في سن ماري آن التي اصطحبت للجلوس مع صديقتها سوزان في جزيرة أخرى. كان ثمة بعض الأطفال الصغار للغاية، الذين جاءوا مزودين بمهاد قابلة للطي وأقفاص لعب، إلا أن معظمهم كانوا في نفس سني، صبيان وفتيات في سن الخامسة عشرة أو السادسة عشرة، وقد قضوا معظم فترة ما بعد الظهيرة في الماء، يصيحون ويغوصون ويتسابقون للوصول إلى الطوف.
كنت أنا والسيدة مونتجوي منشغلتين طوال فترة الصباح في إعداد مختلف أنواع الأطعمة، والتي كنا نرتبها في أطباق ونقدمها للضيوف. كان إعداد الطعام عملا شاقا ومنهكا؛ من حشو لخلطات متنوعة في وحدات عيش الغراب، ووضع شريحة صغيرة من أحد الأصناف فوق شريحة صغيرة من صنف آخر فوق قطعة مضبوطة من التوست أو الخبز. كان يجب أن تكون كل الأشكال مضبوطة؛ مثلثات مضبوطة، ودوائر ومربعات مضبوطة، ومعينات مضبوطة.
دخلت السيدة هاموند إلى المطبخ عدة مرات وأبدت إعجابها بما كنا نفعله.
فقالت: «كم يبدو كل شيء رائعا! لعلكما تلاحظان أنني لم أعرض المساعدة، فأنا جاهلة تماما في مثل هذه الأمور.»
أعجبني أسلوبها في قول ذلك، «أنا جاهلة تماما»، أعجبني صوتها الأجش، ونبرتها المرحة المشوبة بالتعب، وطريقتها التي بدت بها تشير إلى أن أشكال الطعام الهندسية الدقيقة لم تكن ضرورية، بل وقد تكون سخيفة وتافهة. تمنيت لو كنت هي، برداء سباحة أملس أسود اللون، وسمرة تشبه التوست الأسمر، وشعر داكن ناعم منسدل حتى كتفيها، وأحمر شفاه ذي لون أرجواني خفيف.
لم يكن هذا يعني أنها بدت سعيدة، ولكن طابع التجهم والتذمر الذي تميزت به بدا لي جذابا، وتلميحاتها الدرامية الكئيبة كانت مثار حسد من جانبي. كانت هي وزوجها نوعية مختلفة تماما من الأثرياء مقارنة بالسيد والسيدة مونتجوي؛ فقد كانا أقرب إلى الأشخاص الذين كنت أقرأ عنهم في الأخبار بالمجلات وفي الكتب على شاكلة كتاب «الباعة المتجولون»؛ أي من تلك النوعية من الناس الذين يكثرون من الشرب ولهم الكثير من العلاقات الغرامية ويذهبون إلى الأطباء النفسيين.
كان اسمها كارول، وكان زوجها يدعى إيفان. كانا يردان بخاطري باسميهما الأولين، وهذا شيء لم أحاول قط فعله مع آل مونتجوي.
طلبت مني السيدة مونتجوي أن أرتدي ثوبا، فارتديت الثوب القطني ذا الخطوط القرنفلية والبيضاء، موارية الجزء الملطخ عند الخصر أسفل الحزام ذي الرباط المرن. كان جميع الحاضرين يرتدون بناطيل قصيرة وأردية السباحة. وأخذت أمر بينهم أقدم الطعام. لم أكن أعرف كيفية القيام بذلك؛ ففي بعض الأحيان كان الناس يضحكون أو يتحدثون بحرارة بالغة لدرجة أنهم لم يكونوا يلاحظونني، وكنت أخشى أن تتسبب حركات أيديهم في الإطاحة بقطع الطعام؛ لذا كنت أقول: «معذرة، أتود واحدة من هذه؟» بصوت مرتفع بدا غاية في الحسم أو حتى التعنيف. حينها كانوا ينظرون إلي بتندر مشوب بالدهشة، وراودني شعور بأن مقاطعتي قد أصبحت مزحة أخرى لهم.
قالت السيدة مونتجوي: «كفى مرور الآن.» وجمعت بعض الكئوس وطلبت مني غسلها، قائلة: «الناس لا يلقون بالا لكئوسهم إطلاقا. من الأسهل أن تغسليها وتحضري كئوسا نظيفة. حان الآن وقت إخراج كرات اللحم من الثلاجة وتسخينها، هل يمكنك القيام ذلك؟ راقبي الموقد؛ فالأمر لن يستغرق طويلا.»
وبينما كنت مشغولة في المطبخ، إذا بي أسمع السيدة هاموند تنادي: «إيفان! إيفان!» كانت تجوب الغرف الخلفية للمنزل. ولكن السيد هاموند دخل عبر باب المطبخ المؤدي إلى الغابة، ووقف هناك ولم يجبها. وأقبل نحو النضد وصب بعضا من خمر الجين في كأسه.
قالت السيدة هاموند قادمة من غرفة المعيشة: «أوه، إيفان، ها أنت هنا.»
فقال السيد هاموند: «ها أنا هنا.»
فقالت: «وأنا أيضا.» ودفعت كأسها عبر النضد.
ولم يلتقطها، بل دفع زجاجة الجين نحوها وتحدث إلي قائلا: «هل تستمتعين بوقتك يا ميني؟»
فأطلقت السيدة هاموند ضحكة أقرب إلى العواء قائلة: «ميني؟ من أين جاء لك أن اسمها ميني؟»
فقال السيد هاموند، إيفان، متحدثا بصوت حالم مصطنع: «ميني، هل تستمتعين بوقتك يا ميني؟»
قلت بصوت قصدت أن أجعله مصطنعا كصوته: «أوه، نعم.» كنت مشغولة برفع كرات اللحم السويدية الصغيرة من الموقد وأردت أن أزيح السيد هاموند من طريقي تحسبا لوقوع بعضها مني؛ فقد كانا سيعتقدان أن تلك مزحة كبيرة وقد يبلغان عني السيدة مونتجوي، التي بدورها ستجعلني ألقي كرات اللحم التي سقطت وتنزعج من الفاقد من الكرات. فلو كنت وحدي حين حدث ذلك، لكان بإمكاني أن أزيلها عن الأرض بالجاروف فحسب.
قال السيد هاموند: «عظيم.»
قالت السيدة هاموند: «لقد كنت أسبح حول المنطقة. إنني أطور أدائي لكي أسبح حول الجزيرة بأكملها.»
فقال السيد هاموند: «تهانئي لك»، وقالها بنفس الأسلوب الذي قال به «عظيم.»
تمنيت لو لم يكن صوتي بهذه النبرة المرحة والمضحكة، كنت أتمنى لو حاكيت نبرته الشديدة الارتياب والحنكة.
قالت السيدة هاموند، كارول: «حسنا إذن، سوف أترك الأمر لك.»
كنت قد بدأت في وضع أعواد الأسنان في كرات اللحم وترتيبها على أحد الأطباق حين قال إيفان: «أتريدين بعض المساعدة؟» وحاول أن يفعل مثلما أفعل، ولكن أعواد الأسنان الخاصة به لم توضع على نحو مناسب، مفككة كرات اللحم على النضد.
فقال: «حسنا»، ولكنه بدا وقد فقد تسلسل أفكاره؛ ومن ثم انصرف بعيدا وتناول كأسا أخرى، وقال: «حسنا يا ميني.»
كنت أعرف شيئا ما عنه. كنت أعرف أن السيد والسيدة هاموند كانا هنا في إجازة خاصة؛ لأن السيد هاموند قد فقد وظيفته. كانت ماري آن هي من أخبرني بذلك، حيث قالت: «إنه مكتئب جدا بسبب ذلك ، ولكنهما لن يصبحا فقراء؛ فالعمة كارول ثرية.»
لم يكن يبدو لي مكتئبا، بدا جزعا نافد الصبر - لا سيما مع السيدة هاموند - ولكن بصفة عامة كان سعيدا بنفسه. كان طويل القامة نحيل القوام، وله شعر داكن ممشط إلى الخلف من عند الجبهة في خط مستقيم، وكان شاربه عبارة عن خط مثير للضحك فوق شفته العليا. حين كان يتحدث إلي، مال للأمام، مثلما رأيته يفعل في وقت سابق حين كان يتحدث إلى السيدات في غرفة المعيشة، حتى إنني فكرت حينها أن الوصف الذي ينطبق عليه هو أنه «مجامل». «أين تذهبين للسباحة يا ميني؟ هل تمارسين السباحة؟»
قلت: «أجل، بجوار مستودع القوارب.» وقررت أن اسم ميني الذي يدعوني به كان بمنزلة دعابة خاصة بيننا. «أهو مكان جيد؟»
فأجبت: «أجل.» كان جيدا بالنسبة إلي؛ لأنني كنت أفضل أن أكون قريبة من رصيف القوارب، ولم يسبق لي مطلقا، قبل ذلك الصيف، أن سبحت في مياه تعلو مستوى رأسي. «هل دخلت المياه من قبل دون ارتداء رداء السباحة خاصتك؟»
قلت: «كلا.» «لا بد أن تجربي ذلك.»
وجاءت السيدة مونتجوي عبر مدخل غرفة المعيشة متسائلة إن كانت كرات اللحم جاهزة.
قالت: «هذا الجمع جائع بالتأكيد، إن هذا من أثر السباحة. كيف حالك يا إيفان؟ لقد كانت كارول تبحث عنك للتو.»
قال السيد هاموند: «كانت هنا.»
أخذت السيدة مونتجوي تنثر البقدونس هنا وهناك بين كرات اللحم، ثم قالت مخاطبة إياي: «والآن أظن أنك قد انتهيت من كل ما يجب عليك فعله هنا. أعتقد أن بإمكاني تسيير الأمور بعد ذلك، فلماذا لا تصنعين لنفسك شطيرة وتهرعين إلى مستودع القوارب؟»
فقلت إنني لست جائعة. أعد السيد هاموند لنفسه كأسا من الجين مع بعض مكعبات الثلج ودخل إلى غرفة المعيشة.
قالت السيدة مونتجوي: «حسنا، من الأفضل أن تأخذي شيئا معك؛ لأنك سوف تشعرين بالجوع لاحقا.»
كانت تقصد أنني لن أعود.
في طريقي إلى مستودع القوارب التقيت اثنتين من الضيوف؛ فتاتين في نفس سني، حافيتي الأقدام وفي أردية السباحة المبتلة وتضحكان في لهاث. لعلهما كانتا تسبحان حول الجزيرة وخرجتا من الماء عند مستودع القوارب. كانتا في تلك اللحظة تتسللان لمفاجأة شخص ما. فأفسحا مكانا لي في حياء كي لا تتساقط منهما قطرات ماء علي، ولكنهما لم تكفا عن الضحك. وبينما كانتا تفسحان مجالا لي، لم تنظرا إلى وجهي ولو بلمحة خاطفة.
كانتا من نوعية الفتيات اللاتي كن سيصحن بصرخات حادة ويحدثن جلبة من حولي، لو كنت قطة أو كلبة. •••
استمر ضجيج الحفل في التصاعد، فاستلقيت على سريري دون أن أخلع ثوبي، فلم أكف عن الحركة منذ الصباح الباكر وكنت متعبة، ولكن لم أستطع أن أسترخي، وبعد فترة وجيزة نهضت من سريري واستبدلت بثوبي ثوب السباحة ونزلت للسباحة. نزلت من السلم إلى داخل الماء بحذر مثلما كنت أفعل دائما - فقد كنت أظن أنني سأهبط مباشرة إلى الأعماق ولن أخرج أبدا لو قفزت - وأخذت أسبح في الظل. جعلتني المياه التي كانت تغسل أطرافي أفكر فيما قاله السيد هاموند؛ ومن ثم فككت أربطة ثوب السباحة خاصتي، وأخيرا جذبت ذراعا تلو الأخرى حتى يستطيع ثدياي أن يطفوا بحرية. وأخذت أسبح على هذا النحو بينما المياه تنشق بعذوبة عند حلمتي ...
جال بخاطري أن من الممكن أن يأتي السيد هاموند للبحث عني، تخيلته يلمسني. (لم أستطع أن أفكر تحديدا كيف كان سيدخل الماء؛ فلم أكن أعبأ بتخيله وهو ينزع عن نفسه ملابسه. ربما كان سيجلس القرفصاء على السطح وأسبح أنا نحوه.) كانت أصابعه تمس جلدي العاري مثل شرائط من الضوء. كانت فكرة أن أكون مرغوبة من رجل في هذا العمر - ترى في الأربعين أم في الخامسة والأربعين؟ - وأن يلمسني فكرة مثيرة للاشمئزاز بطريقة ما، إلا أنني كنت أعرف أنني كنت سأستمد منها المتعة، مثلما قد تجد متعة في أن تمس من قبل تمساح مستأنس. ربما كان جلد السيد هاموند - إيفان - أملس، ولكن السن والمعرفة والفساد الأخلاقي كانت ستصبح أشبه ببثور وحراشف غير مرئية عليه.
واتتني الجرأة كي أرفع نفسي من الماء على نحو جزئي، متشبثة بالرصيف بإحدى يدي . أخذت أصعد وأهبط في تمايل وأرتفع في الهواء مثل عروس البحر. كنت كالوميض الذي يبرق في الهواء دون أن يراني أحد.
بعدها سمعت صوت خطوات، سمعت صوت شخص ما قادم، فغطست داخل الماء وظللت هناك بلا حرك.
اعتقدت للحظة أنه السيد هاموند، وأنني قد دخلت بالفعل عالم الإشارات السرية، عالم الهجمات المفاجئة والصامتة للرغبة. لم أغط نفسي، وإنما انكمشت أمام الرصيف في لحظة تعجيزية من الذعر والخضوع.
أضيئ مصباح مستودع القوارب، واستدرت في هدوء داخل الماء ورأيت أن هذا الشخص كان السيد فولي العجوز، والذي كان لا يزال في ثياب الحفل المكونة من بنطال أبيض وقبعة بحرية وسترة. جلس لتناول كأسين من الشراب وأوضح لجميع الحضور أن السيدة فولي ليست مؤهلة لإجهاد رؤية العديد من الناس، ولكنه أبلغ أطيب تمنياتها للجميع.
كان يفتش في الأشياء الموجودة على رف الأدوات، وسرعان ما وجد ما أراد، أو ربما يكون قد أعاد ما كان يعتزم إعادته، وأطفأ النور وغادر المكان دون أن يدري مطلقا بوجودي هناك.
رفعت ثوب السباحة خاصتي لأعلى وخرجت من الماء وصعدت الدرج. كان جسدي يبدو كثقل بالنسبة إلي لدرجة أنني كنت ألهث حين وصلت إلى أعلى.
تواصل صوت ضجيج الحفل، وكان علي أن أفعل شيئا لكي أتمالك نفسي أمامه، فما كان مني سوى أن بدأت في كتابة خطاب إلى صديقتي داونا التي كانت أقرب صديقاتي إلي في ذلك الوقت. ورحت أصف الحفل بألفاظ شنيعة؛ أشخاص يتقيئون على سور رصيف القوارب، وامرأة أغمي عليها؛ ما جعلها تخر ساقطة على الأريكة بطريقة جعلت جزءا من ثوبها ينزلق كاشفا عن ثدي عجوز ذي حلمة بنفسجية اللون. وتحدثت عن السيد هاموند وقلت عنه إنه رجل شهواني، وإن كنت قد أضفت أنه وسيم جدا. أخبرتها أنه كان يلاطفني في المطبخ بينما كانت يداي منشغلتين بكرات اللحم وأنه فيما بعد تبعني إلى مستودع القوارب وأمسك بي على الدرج، ولكنني ركلته حيثما لن ينسى؛ مما جعله يتراجع، وهو ما عبرت عنه بكلمة «عدا مسرعا».
واصلت الكتابة قائلة: «احبسي أنفاسك للحلقة التالية التي بعنوان «مغامرات منحطة لخادمة مطبخ»، أو «اعتداء على صخور الخليج الجورجي».»
حين رأيت أنني قد كتبت «اعتداء» بدلا من «اغتصاب»، خطر لي أن بإمكاني أن أتغاضى عن التصحيح؛ لأن داونا لم تكن لتدرك الفارق مطلقا. ولكنني أدركت أن الجزء الخاص بالسيد هاموند كان مبالغا فيه، حتى بالنسبة إلى ذلك النوع من الخطابات، وحينها، ملأني الخطاب بأكمله بالخزي وبإحساس من الفشل والوحدة، وما لبثت أن قطعته. لم يكن ثمة أي مغزى من كتابة هذا الخطاب سوى طمأنة نفسي بأن لدي اتصالا بالعالم وأن أشياء مثيرة - أو بالأحرى أشياء جنسية - قد حدثت لي. ولم يكن هذا أو ذاك صحيحا. •••
بينما كنت أنا والسيدة مونتجوي نلمع الفضيات، أو بالأحرى حينما كانت تراقبني وأنا ألمعها، أخبرتها قائلة: «لقد سألتني السيدة فولي عن جين، أكانت جين واحدة من الفتيات اللاتي كن يعملن هنا في الصيف؟»
للحظة ظننت أنها ربما لن تجيب، ولكنها أجابت.
قالت: «جين هي ابنتي الأخرى، شقيقة ماري آن، وقد ماتت.»
فقلت: «أوه، لم أكن أعرف. أوه، أنا آسفة.»
ولما لم يكن لدي من الذكاء، أو بالأحرى الكياسة، لكيلا أستمر في الحديث، وجدتني أقول: «أتوفيت بسبب شلل الأطفال؟» وفي تلك الأيام كان الأطفال لا يزالون يموتون بسبب شلل الأطفال كل صيف.
قالت السيدة مونتجوي: «كلا، لقد لقيت مصرعها حينما كان زوجي يحرك التسريحة في غرفة نومنا؛ كان يبحث عن شيء ظن أنه ربما يكون قد أوقعه خلفها، ولم يكن يعلم أن جين في طريقه، فاشتبكت إحدى عجلات التسريحة بالسجادة ووقعت بأكملها عليها.»
بالطبع كنت أعلم كل شيء عن هذا الأمر؛ إذ كانت ماري آن قد أخبرتني به سابقا. بل أخبرتني به حتى قبل أن تسألني السيدة فولي عن جين وتخدش صدري.
قلت: «يا للبشاعة!» «حسنا. إنه واحد فقط من تلك الأشياء.»
أصابني ما مارسته من خداع عليها بالاضطراب، ما جعلني أوقع شوكة على الأرض.
فالتقطتها السيدة مونتجوي. «لا تنسي أن تغسلي هذه مرة أخرى .»
كم كان غريبا أنني لم أشك في حقي في التدخل والتطفل وإثارة هذا الأمر مرة أخرى، لا بد أن جزءا من السبب كان يكمن في المجتمع الذي جئت منه، والذي كانت مثل هذه الأمور لا تدفن فيه للأبد، ولكنها تثار كنوع من الطقوس الدينية، وكانت مثل هذه الفظائع بمنزلة شارة يرتديها الناس - أو ترتديها النساء في الأغلب - على مدار حياتهم.
كذلك قد يعزى ذلك إلى أنني لم أكن لأهدر الفرصة قط حين يتعلق الأمر بحميمية قاسية، أو على الأقل نوع من المساواة، حتى ولو كانت مع شخص لم أكن أحبه.
كانت القسوة شيئا لم أكن أعترف به في نفسي، فلم أظن نفسي ملومة هنا، ولا في تعاملاتي مع هذه العائلة. وكل ذلك لكوني صغيرة، وفقيرة، وعلى دراية بأمر نوسيكا.
لم تكن لدي الرغبة أو الجلد لكي أكون خادمة. •••
في آخر يوم أحد لي مع آل مونتجوي، كنت بمفردي في مستودع القوارب أحزم أشيائي في الحقيبة التي كنت قد أحضرتها، وكانت نفس الحقيبة التي كانت مع أبي وأمي في رحلة زفافهما وحقيبة السفر الوحيدة التي كانت لدينا في المنزل. حين سحبتها من أسفل سريري وفتحتها، فاحت منها رائحة المنزل؛ عبق الخزانة الكائنة في نهاية ردهة الطابق العلوي حيث موضعها المعتاد، بالقرب من معاطف الشتاء المنثورة بكرات النفتالين والغطاء المطاطي الذي كان يستخدم على أسرة الأطفال. ولكن حين كنت أخرجها في المنزل، دائما ما كانت تفوح منها رائحة خفيفة للقطارات ونيران الفحم والمدن؛ رائحة الأسفار والرحلات.
سمعت خطوات على الممر، صوت خطوة متعثرة داخل مستودع القوارب، وطرقا على الحائط. كان السيد مونتجوي. «هل أنت هناك؟ هل أنت هناك؟»
كان صوته هادرا ومرحا مثلما سمعته من قبل حينما كان يشرب، وكان بالطبع يشرب؛ حيث وجد زوار مرة أخرى للاحتفال بنهاية الصيف؛ فصعدت إلى قمة الدرج، كان يتكئ بإحدى يديه على الحائط لكي يوازن نفسه؛ إذ كان ثمة قارب يمر بجوارنا عبر القناة ويبعث بأمواجها نحو مستودع القوارب.
قال السيد مونتجوي وهو ينظر إلي بتركيز مشوب بالتجهم والعبوس: «انظري هنا. انظري هنا. فكرت أنني يمكنني أن أنزل هذا وأعطيك إياه بينما كنت أفكر به. هذا الكتاب.»
كان يحمل كتاب «سبع حكايات قوطية».
وأردف قائلا: «لقد رأيتك تطلعين عليه في ذلك اليوم، وبدا لي أنك كنت مهتمة به. والآن بعد أن انتهيت منه، أظن أنني يمكنني أن أعطيك إياه. لقد خطر لي أن أعطيك إياه. أعتقد أنك قد تستمتعين به.»
فقلت: «أشكرك.» «إنني على الأرجح لن أقرأه مرة ثانية رغم أنني أظنه مشوقا جدا. إنه بعيد تماما عن المألوف.» «شكرا جزيلا لك.» «لا عليك. أعتقد أنك قد تستمتعين به.»
قلت: «أجل.» «حسنا إذن. أتمنى ذلك.» «أشكرك.»
فقال: «حسنا إذن، وداعا.»
فقلت: «أشكرك. وداعا.»
لماذا كنا نقول وداعا في حين أننا كنا على يقين من أن أحدنا سيرى الآخر مرة أخرى قبل أن أغادر الجزيرة، وقبل أن أستقل القطار؟ ربما كان يعني أن هذه الواقعة، واقعة إعطائي الكتاب، سوف تبقى طي الكتمان، ولن أذكرها لأحد أو أشير إليها، وهو ما لم أفعله، أو ربما كان كل ما في الأمر أنه كان ثملا ولا يدرك أنه سيراني لاحقا. وسواء كان ثملا أم لا، فإنني أراه الآن منزها عن أي أغراض، عندما كان متكئا على حائط المستودع وأعطاني الهدية، كان مجرد شخص استطاع أن يظنني جديرة بهذه الهدية؛ جديرة بهذا الكتاب.
غير أنني في لحظتها لم أشعر بسعادة أو امتنان خاص، على الرغم من تكرار شكري له؛ فقد راودني شعور بالغ بالذهول، وبالإحراج نوعا ما، كانت فكرة تسليط الضوء على جانب صغير مني وأن أجد من يفهمني بحق تثير انزعاجي مثلما كان عدم الانتباه لي يثير استيائي، وربما كان السيد مونتجوي على الأرجح هو أقل شخص أثار اهتمامي، وأكثر من كان تقديره لا يعني لي الكثير من بين كل من قابلتهم خلال ذلك الصيف.
وغادر المستودع وسمعته يمشي بتثاقل وجلبة عبر الممر عائدا إلى زوجته وضيوفه. دفعت الحقيبة جانبا وجلست على السرير، وفتحت الكتاب في أي موضع مثلما فعلت في المرة الأولى وبدأت في القراءة.
كانت جدران الغرفة مطلية فيما سبق باللون القرمزي، ولكن مع الوقت بهت اللون متحولا إلى تدرجات وفيرة من الألوان، مثل كوب مليء بالزهور الذابلة ... كان ثمة مزيج من أوراق الورد المجففة تحترق على الموقد الطويل، الذي على جانبيه كان يقود نبتون، ومعه رمحه الثلاثي الأسنة، فريقه من الخيول عبر الأمواج العالية ...
نسيت السيد مونتجوي على نحو شبه فوري. وبسرعة، اعتقدت أن هذه الهدية دائما ما كانت ملكا لي.
التذكرة
أحيانا ما أحلم بجدتي وشقيقتها، خالتي تشارلي، التي لم تكن خالتي بالطبع، بل خالتي الكبيرة. أحلم بأنهما لا تزالان تعيشان في المنزل الذي كانتا تعيشان به على مدى عشرين عاما أو نحو ذلك، حتى وفاة جدتي ونقل خالتي الكبيرة للإقامة في دار للمسنين، والذي حدث بعد ذلك بفترة قصيرة. تصيبني الصدمة لاكتشاف أنهما كانتا على قيد الحياة، وأذهل وأشعر بالخجل حين أفكر أنني لم أكن أزورهما، ولم أكن قريبة منهما طوال كل هذا الوقت الذي ناهز أربعين عاما أو أكثر. إن المنزل كما هو، وإن كان يغطيه الظلام، وهما نفساهما على القدر نفسه من الجمال والحسن، وترتديان نفس الفساتين والمآزر ولهما نفس تسريحات الشعر مثلما كانتا دائما. نفس الشعر الملفوف والمنسدل الذي لم يكن يعرف لمصففي الشعر طريقا، ونفس الفساتين المصنوعة من الحرير الصناعي الداكن أو القطن المطبوعة عليه أزهار صغيرة أو أشكال هندسية، دون وجود لبدلات، أو شعارات لاذعة، أو أقمشة بلون فيروزي أو أصفر بلون زهرة الحوذان أو قرنفلي بلون نبات الفاوانيا.
ولكن يبدو جسداهما وقد تفلطحا، وقد صارتا شبه عاجزتين عن الحركة تماما، وتتحدثان بصعوبة. أسألهما كيف تسيران أمورهما، كيف تحضران بقالتهما على سبيل المثال؟ هل تشاهدان التليفزيون؟ ألا تزالان على صلة بالعالم الخارجي؟ فتقولان إنهما على خير ما يرام. لا تقلقي. ولكنهما في كل يوم كانتا تنتظران؛ تنتظران لتريا إن كنت سآتي لرؤيتهما أم لا.
إن الرب يعيننا في كل يوم. وحتى الآن وأنا في عجلة من أمري، ولا أستطيع البقاء، فأخبرهما أن لدي الكثير جدا من المهام للقيام بها، ولكني سأعود قريبا. فتقولان نعم، نعم، سيكون هذا رائعا. إلى اللقاء قريبا. •••
كان من المفترض أن يتمم زواجي خلال فترة أعياد الكريسماس، وأذهب بعد ذلك للإقامة في مدينة فانكوفر. كان ذلك في عام 1951. كانت جدتي والخالة تشارلي - وكانت إحداهما أكبر والأخرى أصغر مما أنا عليه الآن - تحزمان حقيبتي السفر اللتين سآخذهما معي. كانت إحداهما حقيبة متينة محدبة الظهر توارثتها العائلة على مدى زمن طويل، والتي تساءلت بصوت عال إن كانت قد عبرت المحيط الأطلنطي معهما.
فقالت جدتي: من يعلم!
لم يكن التعطش للتاريخ، حتى التاريخ العائلي، يمثل لها الكثير؛ فقد كان هذا النوع من الأمور مجرد ترف ومضيعة للوقت؛ مثل قراءة القصة المسلسلة في الجريدة اليومية، وهو الشيء الذي كانت هي نفسها تفعله، ولكن ظلت مستنكرة له.
أما الحقيبة الأخرى، فكانت جديدة، ذات أركان معدنية، وقد اشتريت خصوصا لغرض الزواج. كانت هدية من الخالة تشارلي؛ فقد كان دخلها أكبر من دخل جدتي، وإن كان ذلك لا يعني أنه كان كبيرا جدا. كان دخلا كافيا بحيث يمكن أن يكفي للمشتريات الفجائية العارضة؛ ككرسي ذي مسندين لغرفة المعيشة منجد بقماش مطرز بلون السلمون (ومغطى بغطاء بلاستيكي لحمايته، ما لم يكن هناك زوار)، أو مصباح قراءة (ظلته ملفوفة أيضا بالبلاستيك)، أو حقيبة زواجي.
كان زوجي سيقول لاحقا: «أهذه هدية زفافها لك؟ «حقيبة سفر؟»» فقد كان شيء على شاكلة حقيبة السفر في عائلته من الأشياء التي تذهب لشرائها عند الحاجة إليها، لا شيئا تقدمه كهدية.
كانت الأشياء الموجودة في حقيبة السفر المحدبة الظهر قابلة للكسر، وملفوفة في أشياء لم تكن قابلة للكسر. كانت عبارة عن أطباق، وكئوس، ودوارق، وزهريات ملفوفة في ورق جرائد ومحمية بمناشف صحون، ومناشف حمام، ومناديل مائدة وأغطية أفغانية من الكروشيه، ومفارش أطباق مطرزة. كانت الحقيبة الكبيرة المسطحة شبه مكتظة بملاءات السرير، ومفارش المائدة (والتي كان أحدها من الكروشيه أيضا)، وألحفة، وأكياس الوسائد، وكذلك بعض الأشياء الكبيرة المسطحة القابلة للكسر مثل لوحة ذات إطار رسمتها ماريان شقيقة جدتي والخالة تشارلي، التي توفيت صغيرة. كانت لوحة لعقاب يقف على فرع شجرة منفرد، وأسفله بحر أزرق وأشجار خفيفة الأوراق. كانت ماريان قد نسختها في سن الرابعة عشرة من تقويم، وفي الصيف التالي توفيت جراء حمى التيفود.
كانت بعض هذه الأشياء هدايا زفاف من أفراد عائلتي، وصلتني مبكرا، ولكن أغلبها كان أشياء صنعت من أجلي لكي أبدأ بها إدارة المنزل، كالألحفة، والأغطية الأفغانية، ومشغولات الكروشيه، وأكياس الوسائد بتطريزها الخشن الخادش للوجنات. لم أكن قد جهزت شيئا، ولكن جدتي والخالة تشارلي كانتا منشغلتين بهذا الأمر، حتى على الرغم من أن توقعاتي بدت كئيبة لفترة طويلة نوعا ما. وكانت والدتي قد وضعت بعض كئوس الماء الرائعة، وبعض الملاعق الصغيرة، وطبق تقديم كبيرا بنقوش الصفصاف من الفترة الوجيزة المتهورة التي تاجرت خلالها في التحف، قبل أن يتسبب تيبس وارتعاش أطرافها في جعل أي عمل - إلى جانب القيادة، والمشي، وأخيرا حتى الكلام - بالغ الصعوبة بالنسبة إليها.
غلفت الهدايا المقدمة من عائلة زوجي في المحلات التي اشتريت منها، وشحنت إلى فانكوفر، وكانت عبارة عن أطباق تقديم فضية، ومفارش مائدة سميكة، وست كئوس نبيذ من الكريستال. كانت تلك هي نوعية الأدوات المنزلية التي كانت متوافرة لدى أصهاري وصديقاتهن.
لم يصب أي خدش أيا من الأشياء الموجودة في حقيبتي؛ فقد كانت كئوس والدتي من الزجاج المضغوط، وكان طبق التقديم المنقوش بالصفصاف من خزف المطبخ السميك. لم تصبح مثل هذه الأشياء موضة شائعة إلا بعد سنوات، ولم تكن شائعة تماما لبعض الناس. ولم تكن الملاعق الصغيرة الست، التي يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر، من الفضة الخالصة. وكانت الألحفة مناسبة لسرير ذي طراز قديم، والذي كان أضيق من السرير الذي اشتراه لنا زوجي. أما الأغطية الأفغانية ومناديل المائدة وأغطية الوسائد، وبالطبع اللوحة المنسوخة من تقويم، فكانت أقرب إلى دعابة هزلية.
ولكن زوجي أقر بأننا قد قمنا بعمل جيد فيما يتعلق بتحزيم الحقائب؛ فلم ينكسر أي شيء. كان محرجا ولكن يحاول أن يكون لطيفا. وفيما بعد حينما حاولت وضع بعض تلك الأشياء في مكان يمكن لأي شخص يأتي إلى منزلنا أن يراها منه، اضطر للتحدث صراحة. وأنا نفسي أدركت السبب في ذلك. •••
كنت في التاسعة عشرة حين تمت خطبتي، وفي العشرين في يوم زفافي. كان زوجي هو أول رفيق لي. لم يكن المشهد مبشرا بخير؛ ففي نفس ذلك الخريف، كان أبي وأخي يقومان ببعض الإصلاحات في غطاء البئر في فنائنا الجانبي، حين قال أخي: «من الأفضل أن نقوم بعمل جيد هنا؛ إذا سقط ذلك الرجل في البئر، فلن تجد غيره أبدا.»
وصارت تلك دعابة مفضلة في العائلة. ضحكت أنا أيضا بالطبع عليها. ولكن ما كان يثير قلق من حولي كان مثار قلق لي أنا أيضا، ولو على نحو متقطع على الأقل. ما الذي كان يعيبني؟ لم تكن مسألة شكل، كان شيئا آخر، شيئا آخر واضحا كجرس إنذار كان يطيح بالرفقاء والأزواج المحتملين لي من طريقي. ومع ذلك، كان لدي إيمان بأن هذا الشيء أيا كان سوف ينتهي ويزول بمجرد أن أخرج من المنزل ومن هذه البلدة.
وقد حدث ذلك؛ فجأة وعلى نحو ساحق، فقد وقع مايكل في حبي وعزم على الزواج بي، شاب طويل القامة حسن الطلعة قوي البنية أسود الشعر ذو ذكاء وطموح علق آماله علي. اشترى لي خاتما من الألماس، ووجد لي وظيفة في فانكوفر التي كانت ستقودني حتما إلى أشياء أفضل، وألزم نفسه بإعالتي وإعالة أطفالنا لبقية حياته. فلم يكن شيء ليجعله أسعد من ذلك.
كان هو من قال ذلك، وصدقت أنه حقيقي.
قليلا ما كان يمكنني الوثوق بحظي. لقد كتب لي أنه يحبني، ورددت عليه بأنني أحبه أيضا. فكرت كم هو وسيم وذكي وجدير بالثقة، وقبيل رحيله مباشرة ضاجعني - مارسنا الجنس معا على الأرض الوعرة أسفل إحدى أشجار الصفصاف بجوار حافة النهر - واعتقدنا أن ذلك أمر مهم كأي من مراسم الزواج؛ لأننا الآن لم يعد بإمكاننا على الأرجح أن نكرر الشيء نفسه مع أي شخص آخر. •••
كان ذلك هو أول خريف منذ أن كنت في الخامسة لا أقضي فيه أيام الدراسة في المدرسة. فقد مكثت في المنزل أقوم بالأعمال المنزلية؛ إذ كان المنزل في أشد الحاجة إلي؛ فلم تعد أمي قادرة على الإمساك بيد مكنسة أو فرش الأغطية على الأسرة، كان لزاما أن يوجد شخص آخر للمساعدة بعد رحيلي، ولكن في الوقت الحالي كنت آخذ الأمر كله على عاتقي.
كان الروتين يحاصرني، وسرعان ما صار من الصعب أن أصدق أنني كنت قبل عام واحد فقط أجلس إلى طاولة المكتبة في صباح أيام الإثنين، بدلا من الاستيقاظ مبكرا لتسخين الماء على الموقد لملء غسالة الملابس ثم وضع الملابس المبللة في العصارة ونشرها على حبل الغسيل في النهاية. أو أنني كنت أتناول عشائي على نضد صيدلية وكان عبارة عن شطيرة أعدها شخص آخر غيري.
كنت أغطي مشمع الأرضيات البالي بالشمع، وأتولى كي مناشف الأطباق وأردية النوم إلى جانب القمصان والبلوزات، وجلي القدور والأواني القديمة، وتنظيف الأرفف المعدنية المسودة وراء الموقد بقطعة من الليف السلكي. كانت تلك هي الأشياء المهمة آنذاك في منازل الفقراء، ولم يكن شخص يفكر في تبديل ما هو موجود هناك، فقط كانوا يفكرون في الحفاظ على كل الأشياء في حالة جيدة لأطول فترة ممكنة، ثم الحفاظ على بعض منها. وكانت مثل هذه الجهود تضع خطا فاصلا بين الكفاح المحترم والانكسار المهين. وكان اهتمامي بهذا يزداد كلما اقترب موعد تركي لهذا المكان.
وجدت تقارير وأخبار إدارة شئون المنزل طريقها إلى خطاباتي لمايكل وكان منزعجا وغاضبا لذلك؛ ففي خلال زيارته القصيرة لمنزلنا رأى الكثير مما أدهشه على نحو غير سار؛ وهو ما جعله أكثر إصرارا وعزما على إنقاذي. والآن ولما لم يكن لدي شيء آخر للكتابة عنه، ولرغبتي في توضيح سبب قصر خطاباتي، فقد كان مرغما على أن يقرأ كيف أنني كنت أغرق نفسي في الأعمال اليومية في المكان والحياة اللذين من المفترض أنني أتعجل الرحيل عنهما.
كان يرى من وجهة نظره أنني ينبغي أن أكون متلهفة لنسيان كل شيء متعلق بمنزل عائلتي وحياتي فيه، وأن أركز على الحياة وعلى البيت اللذين سنبنيهما معا.
كنت بالفعل آخذ ساعتين راحة بعد الظهر في بعض الأيام، ولكن ما كنت أفعله خلال هذا الوقت لم يكن ليرضيه كثيرا إن كتبت له عنه؛ فقد كنت أضع أمي في فراشها للحصول على قيلولتها الثانية خلال النهار، وأمسح أسطح المطبخ المسحة الأخيرة، وأمشي من منزلنا على أقصى أطراف البلدة إلى الشارع الرئيسي، حيث أقوم ببعض التسوق، وأذهب إلى المكتبة لإعادة كتاب واستعارة آخر؛ فلم أكن هجرت القراءة، رغم ما بدا من أن الكتب التي أقرؤها الآن لم تكن صعبة أو مرهقة مثل نظيرتها التي كنت أقرؤها قبل عام. كنت أقرأ القصص القصيرة لإيه إي كوبارد، وكان لإحداها عنوان دائما ما كنت أجده مغريا، رغم أنني لا أستطيع تذكر أي شيء آخر بشأنه، وكان هذا العنوان هو «روث السمراء». وقرأت أيضا رواية قصيرة لجون جالزوورثي، والتي تضمنت سطرا في صفحة العنوان أبهرني:
شجرة التفاح، والغناء، والذهب ...
بعد الانتهاء من مهامي في الشارع الرئيسي، كنت أذهب لزيارة جدتي والخالة تشارلي، وفي بعض الأحيان - بل معظمها - كنت أفضل التمشية بمفردي، ولكنني كنت أشعر أنني لا أستطيع إهمالهما مع كل ما كانتا تبذلانه من أجل مساعدتي. ولم أكن أستطيع على أي حال أن أتجول هنا في حالة من الاستغراق الحالم مثلما كنت أفعل في المدينة حيث كنت أذهب إلى المدرسة. في تلك الأيام لم يكن أحد في البلدة يذهب للتمشية، فيما عدا بعض العجز الذين كانوا يجوبون الطريق لإبداء ملاحظاتهم على أي مشروعات بلدية وانتقادها. فقد كان مؤكدا أن الآخرين سيرونك إذا ما لوحظ وجودك في جزء من البلدة ليس لديك سبب وجيه للوجود فيه؛ فحينها كان أحدهم سيقول: «لقد رأيناك منذ أيام ...» وسيكون من المفترض بك أن تقدم تفسيرا.
ولكن البلدة كانت مغرية بالنسبة إلي، بأجوائها الشاعرية الحالمة في تلك الأيام الخريفية؛ كانت أجواء كالسحر بضوء من الوحشة ينعكس على الجدران ذات الطوب الرمادي أو الأصفر، وقد ساد سكون غريب بعد أن هاجرت الطيور إلى الجنوب وسكت صوت ماكينات الحصد المنتشرة عبر الريف. في أحد الأيام، وبينما كنت أصعد التل بشارع كريستينا في اتجاه منزل جدتي، إذا بي أسمع سطورا تتردد في رأسي من بداية إحدى القصص. «كانت الأوراق تتساقط عبر أرجاء البلدة، في صمت وخفة كانت تتساقط الأوراق الصفراء؛ إنه الخريف.»
وبالفعل كنت قد بدأت في كتابة قصة في ذلك الحين أو في وقت ما لاحقا تبدأ بتلك العبارات؛ لا أذكر عم كانت تدور. لولا أن أحدهم قد أشار إلي أنه من الطبيعي أن يكون ذلك في الخريف، وأنه من الخيال الشعري الأحمق والمتكلف أن أقول ذلك؛ فأي شيء آخر يجعل الأوراق تتساقط، ما لم تكن الأشجار في البلدة قد أصيبت بنوع من الأوبئة التي تطيح بالأوراق؟ •••
كان لدى جدتي مهرة سميت على اسمها حين كانت صغيرة، وكان ذلك على سبيل التكريم، كان اسم المهرة واسم جدتي هو سيلينا. وكان يقال عن المهرة إنها «عالية الخطوة»، فيما يعني أنها مفعمة بالحيوية والطاقة والنشاط ومحبة للتبختر على طريقتها الخاصة. إذن لا بد أن جدتي نفسها كانت عالية الخطوة. كان ثمة الكثير من الرقصات آنذاك كان من الممكن إظهار تلك النزعة فيها؛ كالرقصات التربيعية، ورقصات البولكا والشوتيش. وكانت جدتي شابة جذابة على أي حال؛ فقد كانت طويلة القامة، ناهدة، نحيلة الخصر، بساقين قويتين طويلتين وشعر أحمر داكن ذي تموجات غجرية، إلى جانب تلك البقعة الجريئة ذات اللون السماوي الموجودة في قزحية إحدى عينيها ذات اللون البندقي.
كل هذه الأشياء تجمعت، وأضيف إليها شيء ما في شخصيتها، لتصبح بلا شك الشيء الذي حاول الرجل التعليق عليه حين جاملها بتسمية مهرته على اسمها.
لم يكن هذا هو الرجل الذي كان يعتقد أنه يحبها (والذي كان يعتقد أنها تحبه)، فقط كان جارا لها يكن لها إعجابا.
لم يكن الرجل الذي أحبته هو الرجل الذي تزوجته أيضا؛ أي لم يكن جدي، وإنما كان رجلا كانت على معرفة به طوال حياتها، وفي الواقع إنني قد قابلته مرة واحدة . وربما أكثر من مرة، حين كنت طفلة، ولكن لا أذكر مقابلته سوى مرة واحدة.
كان ذلك حين كنت أقيم مع جدتي في منزلها في داوني، وكان ذلك بعد أن أصبحت أرملة، وقبل أن تصبح الخالة تشارلي أرملة هي الأخرى؛ فحين أصبحت الاثنتان أرملتين انتقلتا معا إلى البلدة التي كنا نعيش خارجها.
عادة ما نكون في الصيف حين كنت أقيم في داوني، ولكن كان ذلك في يوم شتوي كانت الثلوج الخفيفة تتساقط فيه. كنا في بداية الشتاء؛ إذ لم يكن ثمة أي ثلوج على الأرض. كنت في الخامسة أو السادسة من عمري، واضطر أبي وأمي لتركي هناك في ذلك اليوم، لعلهما كانا ذاهبين لحضور جنازة، أو كانا يصطحبان شقيقتي الصغيرة، التي كانت تعاني من الضعف ومن حالة متوسطة من مرض السكري، لزيارة طبيب بالمدينة.
سرنا عبر الطريق فيما بعد الظهيرة لندخل أراضي المنزل الذي كانت تعيش فيه هنرياتا شاربلس. كان أكبر منزل دخلته على الإطلاق، وكان ممتدا من شارع إلى آخر. كنت أتطلع لدخوله؛ إذ كان مسموحا لي بأن أنطلق وأنظر إلى أي شيء يعجبني، وكانت هنرياتا دائما ما تحتفظ بطبق ممتلئ بحلوى الطوفي الملفوفة في غلاف أحمر أو ذهبي أو بنفسجي لامع. لم تكن هنرياتا لتهتم إذا تناولتها جميعا، إلا أن جدتي كانت تراقبني وتضع لي حدا.
في ذلك اليوم أخذنا منعطفا. وبدلا من التوجه إلى باب منزل هنرياتا الخلفي، انعطفنا نحو كوخ على أراضيها بجوار منزلها. كان للسيدة التي فتحت لنا الباب كتلة منتفخة من الشعر الأبيض، وبشرة قرنفلية متوهجة، وبطن عريض ملفوف في مئزر من النوع الذي كان معظم السيدات يرتدينه آنذاك داخل المنزل. وقد طلب مني أن أدعوها بالخالة مابل. جلسنا في مطبخها، الذي كان شديد الحرارة، ومع ذلك لم نخلع معاطفنا؛ لأنها ستكون مجرد زيارة قصيرة. كانت جدتي قد أحضرت معها شيئا في طبق مغطى بفوطة مائدة وأعطته للخالة مابل؛ ربما كان بعضا من فطائر المافن الطازجة، أو بسكويت الشاي، أو صوص التفاح الساخن، ولم يكن إحضارنا له يعني أن الخالة مابل كانت تحتاج إلى صدقة خاصة؛ فحين كانت سيدة تخبز أو تطهو شيئا، غالبا ما كانت تأخذ معها جزءا منه حين تذهب إلى منزل جيرانها. وأغلب الظن أن الخالة مابل قد اعترضت على مثل هذا السخاء، كما جرت العادة، ثم قبلته وراحت تثني على نحو مبالغ فيه على رائحته الطيبة ومدى روعة مذاقه، أيا كان.
بعدها ربما انشغلت في محاولة تقديم شيء ما من صنعها، وأصرت على إعداد شيء ولو كوبا من الشاي، ويتراءى لي أنني أسمع جدتي ترفض وتقول إننا جئنا في زيارة قصيرة فقط. وربما تكون قد أسهبت في التوضيح بالإشارة إلى أننا كنا في طريقنا إلى منزل شاربلس. ربما لم تكن لتذكر الاسم، أو أننا كنا ذاهبين في زيارة محددة. ربما اكتفت فقط بقول إننا لن نستطيع المكوث أكثر من ذلك، وإن لدينا مجموعة من المهام التي علينا قضاؤها؛ فقد كانت دائما ما تخفي زيارتها لهنرياتا بأن تقول إن لديها مجموعة من المهام التي عليها قضاؤها، حتى لا يبدو أبدا أنها تزهو بهذه الصداقة؛ فهي لم تكن تهوى التفاخر مطلقا.
كان هناك ضجيج في سقيفة الحطب الملحقة بالكوخ، ثم دخل رجل متورد الوجنتين إما من البرد وإما من ممارسة الرياضة، وألقى التحية على جدتي وصافحني. كنت أكره طريقة الرجال المسنين في تحيتي سواء بوكزة في البطن أو بدغدغة أسفل الذراعين، ولكن هذه المصافحة بدت ودودة ولائقة.
كان ذلك هو كل ما لاحظته بشأنه، فيما عدا أنه كان طويل القامة ولم يكن ممتلئا عند البطن مثل الخالة مابل، وإن كان له شعر أبيض كثيف مثلها. كان اسمه العم ليو. كانت يده باردة، ربما من تكسير الحطب من أجل مدافئ هنرياتا، أو من وضع أكياس حول شجيراتها لحمايتها من الصقيع.
غير أنني لم أعلم بشأن قيامه بهذه المهام من أجل هنرياتا إلا فيما بعد. كان يقوم بأعمالها الشتوية الخارجية؛ من كسح للثلج، وتكسير للكتل الجليدية المتدلية، والحفاظ على مخزون الحطب، إلى جانب تقليم أسياج الشجيرات وجز الحشائش في الصيف. وفي مقابل ذلك كانت تؤجر الكوخ له وللخالة مابل بلا مقابل، وربما كان يتقاضى أجرا كذلك. وظل يقوم بهذه المهام لعامين إلى أن توفي جراء إصابته بالتهاب رئوي، أو سكتة قلبية، تلك الأشياء التي يتوقع أن تؤدي إلى الوفاة لدى الناس في هذه السن.
طلب مني أن أدعوه بالعم، مثلما طلب مني أن أدعو زوجته بالخالة، ولم أجادل في هذا أو أتساءل عن صلة قرابتهما بنا؛ فلم تكن تلك هي المرة الأولى التي أتقبل فيها عما أو خالة غامضين وهامشيين بالنسبة إلي.
ربما لم يكن العم ليو والخالة مابل يعيشان هنا من زمن طويل، بالنظر إلى نظام عمل العم ليو، قبل الزيارة التي قمنا بها أنا وجدتي لهما. فلم نكن قد انتبهنا من قبل لوجود الكوخ، أو لمن يعيشون به في زياراتنا السابقة لهنرياتا؛ ومن ثم بدا محتملا أن تكون جدتي قد اقترحت على هنرياتا هذا الإجراء، «توصية» كما يقول الناس. ولكن أهي توصية لأن العم ليو كان «وضعه المالي سيئا للغاية»؟
لست أدري. فلم أسأل أي شخص قط. وما لبثت الزيارة أن انتهت، حتى كنت أنا وجدتي نعبر ممر السيارات المفروش بالحصى ونطرق الباب الخلفي، وكانت هنرياتا تنادي عبر ثقب المفتاح قائلة: «ابتعد، أستطيع أن أراك، ماذا تبيع اليوم؟»، ثم فتحت الباب وضمتني بين ذراعيها الهزيلتين وصاحت قائلة: «أيتها الشقية الصغيرة! لماذا لم تقولي إنه أنت؟ من هذه السيدة الغجرية العجوز التي جئت بها معك؟» •••
لم تكن جدتي توافق على تدخين السيدات أو معاقرة أي شخص للكحوليات.
وكانت هنرياتا تدخن وتتناول الكحوليات.
كانت جدتي تعتقد أن البناطيل للسيدات أمر مستقبح، وأن النظارات الشمسية نوع من التكلف والحذلقة. وكانت هنرياتا ترتدي الاثنتين.
كانت جدتي تلعب اليوكر، إلا أنها كانت تعتقد أنه من التكبر أن تلعب البريدج، وكانت هنرياتا تلعب البريدج.
والقائمة تطول؛ فلم تكن هنرياتا امرأة غير عادية في زمانها، ولكنها كانت امرأة غير عادية في تلك البلدة.
كانت هي وجدتي تجلسان أمام نيران المدفأة في غرفة المعيشة الخلفية وتتحدثان وتضحكان طيلة فترة ما بعد الظهيرة، بينما كنت أنا أجوب المنزل، أتمتع بمطلق الحرية لتفحص المرحاض المنقوش بالأزهار الزرقاء في دورة المياه، أو النظر عبر الزجاج الأحمر الداكن لباب خزانة الصيني. كان صوت هنرياتا عاليا، وكان حديثها هو ما كنت أستطيع سماعه في معظم الوقت، وكان تتخلله نوبات من الضحك الساخر، يشبه إلى حد كبير ذلك النوع من الضحك الذي يصاحب اعتراف امرأة بارتكاب حماقة كبيرة أو قصة من قصص الخيانة التي تفوق حد التصديق.
فيما بعد سمعت حكايات عن هنرياتا، وعن الرجل الذي هجرته، والرجل الذي وقعت في حبه - وكان رجلا متزوجا ظلت تقابله طوال حياتها - ولا أشك في أنها كانت تتحدث عن ذلك، وعن أشياء أخرى لا أعرفها، ولعل جدتي كانت تتحدث عن حياتها الخاصة، ربما ليس بهذه الصراحة، أو بصوت أجش، ولكن ظلت تتبع نفس الأسلوب، فكانت تحكيها كقصة تذهلها، وبالكاد تستطيع أن تصدق أنها تخصها. كان يبدو لي أن جدتي كانت تتحدث في ذلك المنزل مثلما لم تكن تفعل - أو لم تعد تفعل - في أي مكان آخر، ولكنني لم يتسن لي مطلقا أن أسأل هنرياتا عما كان يسر به وعما يقال بينهما لأنها ماتت في حادث سيارة - فطالما كانت متهورة في قيادتها - قبل وفاة جدتي بفترة، ومن غير المحتمل أنها كانت ستخبرني على أي حال. •••
هذه هي القصة، أو ما أعرفه منها.
كانت جدتي، والرجل الذي أحبته - ليو - والرجل الذي تزوجته - جدي - يعيشون جميعا على بعد أميال قليلة بعضهم من بعض. كانت تذهب إلى المدرسة مع ليو الذي كان يكبرها بثلاث أو أربع سنوات فقط. ولكن لم تكن تذهب مع جدي الذي كان يكبرها بعشر سنوات. كان الرجلان أبناء عمومة ويحملان نفس اللقب، لم يكن بينهما أي تشابه في الشكل، وإن كان كل منهما وسيما حسبما أستطيع أن أجزم. كان جدي في صورة زفافه يقف منتصبا؛ فقد كان أطول قليلا من جدتي التي أنقصت حجم خصرها إلى أربع وعشرين بوصة من أجل المناسبة، وكانت تبدو محتشمة ورزينة في ردائها الأبيض ذي الكشكشة. كان جدي عريض المنكبين، قوي البنية، غير مبتسم، وذا هيئة توحي بالذكاء والاعتداد بالنفس والالتزام الجاد بأي شيء يطلب منه. ولم يتغير كثيرا في اللقطة المكبرة التي لدي له، والتي التقطت له حين كان في الخمسينيات أو أوائل الستينيات من عمره. كان في هذه الصورة رجلا لا يزال يحتفظ بقوته وقدراته، إلى جانب قدر ضروري من اللطف وقدر كبير من التحفظ، رجلا يحترم، وليس لديه من الإحباط أكثر مما يمكن أن يتوقع أن يكون لدى أي شخص في سنه.
تعود ذكرياتي عنه إلى العام الذي قضاه ملازما الفراش، العام السابق على وفاته أو، كما قد تقول، العام الذي كان يحتضر فيه. كان في الخامسة والسبعين، وكان قلبه يزداد ضعفا شيئا فشيئا. كان والدي في نفس السن وفي نفس الحالة واختار أن يخضع لعملية جراحية، ومات بعدها ببضعة أيام دون أن يسترد وعيه. أما جدي، فلم يكن لديه هذا الخيار.
أذكر أن سريره كان في الطابق السفلي، في غرفة الطعام، وكان يحتفظ بكيس من النعناع أسفل وسادته، ربما كان يخفيه عن جدتي، ويعطيني بعضا منه حين تكون مشغولة في مكان آخر. كانت له رائحة طيبة من رغوة الحلاقة والتبغ (كنت أقلق من رائحة كبار السن، وأشعر بارتياح حين لا تكون كريهة)، وكان أسلوبه معي رقيقا وعطوفا، ولكن لم يكن به أي تطفل.
بعد ذلك مات، وذهبت لحضور جنازته مع أبي وأمي. لم أشأ النظر إليه؛ ومن ثم لم أكن مضطرة لذلك. كانت عينا جدتي حمراوين من البكاء، وكان الجلد حولهما مجعدا. كان الاهتمام الذي توليه لي قليلا؛ ما دفعني للخروج والتدحرج على التل العشبي فيما بين المنزل والرصيف، كان ذلك من الأشياء المفضلة لدي عند الإقامة هناك، ولم يكن أحد يبدي أي اعتراض على ذلك قط. ولكن في هذه المرة نادتني أمي للدخول، وراحت تنفض بعض الحشائش عن ردائي. كانت في حالة من السخط تعني أنني كنت أسلك سلوكا سوف تلام عليه.
ماذا كان اعتقاد جدي بشأن حقيقة أن جدتي في شبابها كانت تحب ابن عمه ليو؟ هل كان يحبها آنذاك؟ هل كان يأمل أن تحبه، وهل تحطمت آماله على صخرة الحب المتقد الدائر أمام عينيه؟ تحطمت لكونه متقدا؛ فقد كانت قصة حب ظاهرة للأبصار استمرت ما بين المشاحنات والمصالحات التي كان مضطرا هو وجميع من حولهما أن يكونوا على وعي بها. فكيف كان لقصة حب أن تستمر في تلك الأيام إلا على نحو علني إذا كانت الفتاة محترمة؟ لم تكن التمشية إلى الغابة واردة، وكذلك التسلل من الرقصات. وكانت الزيارات لمنزل الفتاة تشمل جميع أفراد العائلة، على الأقل حتى تتم خطبة الحبيبين. وكانت النزهات في عربة مفتوحة ترصد من كل نافذة مطبخ عبر الطريق، وإذا تم التخطيط لنزهة بعد حلول الظلام، كانت تصبح في نطاق زمني محدود جدا.
غير أن الممارسات الحميمية كانت ممكنة؛ فقد كانت شقيقتا جدتي الصغريان، تشارلي وماريان، ترسلان معها رقيبتبن عليها، ولكن أحيانا ما كانتا تخدعان وترشيان.
قالت الخالة تشارلي حين تحدثت إلي حول هذا الأمر: «لقد كانا مغرمين كل منهما بالآخر مثلما يمكن لأي حبيبين أن يكونا. لقد كانا شيطانين.»
دار ذلك الحديث خلال الخريف الذي سبق زواجي، وقت تحزيم الأمتعة. كانت جدتي قد أجبرت على أخذ إجازة من العمل، وكانت في الطابق العلوي في الفراش تعاني من الالتهاب الوريدي. كانت منذ سنوات ترتدي ضمادات مرنة لدعم أوردتها المنتفخة المصابة بالدوالي، كانت الضمادات والأوردة غاية في القبح في رأيها، حتى إنها كانت تكره أن يراها أي شخص. وقد أسرت لي الخالة تشارلي أن الأوردة كانت ملتفة حول ساقيها كأفاع سوداء كبيرة. فبعد كل اثني عشر عاما أو نحو ذلك يلتهب أحد الأوردة، بعدها تضطر لملازمة الفراش خشية أن تتحرك إحدى الجلطات الدموية وتشق طريقها نحو قلبها.
على مدار الأيام الثلاثة أو الأربعة التي لازمت فيها جدتي الفراش، لم تكن الأمور تسير على نحو جيد مع الخالة تشارلي فيما يخص حزم الأمتعة ؛ فقد اعتادت أن تكون جدتي هي من يتخذ القرارات.
قالت دون استياء: «سيلينا هي القائد. لا أعرف ماذا أفعل من دون سيلينا.» (وقد ثبت بالدليل صحة ذلك؛ فبعد وفاة جدتي سرعان ما ضعفت قدرة الخالة تشارلي على السيطرة على مجريات الحياة اليومية، وصار لزاما أن تنقل إلى دار المسنين، حيث توفيت عن عمر يناهز الثامنة والتسعين، بعد فترة صمت طويلة.)
بدلا من القيام بالعمل معا، كنت أنا وهي نجلس إلى طاولة المطبخ ونتناول القهوة ونتحدث، أو بالأحرى نتهامس؛ فقد كان للخالة تشارلي طريقة في الهمس، وفي هذه الحالة ربما كان ثمة سبب - فقد كانت جدتي بسمعها السليم موجودة في الطابق العلوي فوقنا مباشرة - ولكن غالبا ما لا يكون ثمة سببا محددا. يبدو أن همسها كان فقط من أجل ممارسة سحرها وجاذبيتها - فالجميع تقريبا يرونها جذابة - لكي تستدرجك إلى نوع أكثر دفئا وأهمية من الحديث، حتى لو كانت الكلمات التي تتفوه بها مجرد شيء عن الطقس، وليس - كالآن - حياة جدتي العاصفة في شبابها.
ماذا حدث؟ كنت أتأرجح ما بين الأمل والخوف من أن أكتشف أن جدتي، في تلك الأيام التي لم تحلم فيها قط بأن كانت ستصبح جدة لي، قد وجدت نفسها حبلى.
ولكن بقدر جموحها وبقدر ما يجعل الحب المرء ماكرا، لم يحدث ذلك.
ولكن فتاة أخرى كانت حبلى، أو بالأحرى امرأة أخرى، مثلما قد تقول؛ لأنها كانت أكبر بثماني سنوات من الأب المتهم.
ليو.
إنها السيدة التي كانت تعمل في متجر الأقمشة في البلدة.
قالت الخالة تشارلي وكأنها كانت مكاشفة مؤسفة تخبرني بها على مضض: «ولم تكن سمعتها طيبة.»
كثيرا ما كانت هناك فتيات وسيدات أخريات، وكان هذا هو محور المشاحنات بينهما؛ فقد كان ذلك ما دفع بجدتي إلى ركل خطيبها في رجليه ودفعه من عربته والعودة إلى المنزل بمفردها بحصانه. وكان هو ما جعلها تقذف علبة شوكولاتة في وجهه، ثم داست عليها حتى لا يكون بإمكان أحد أن يلتقطها من الأرض ويستمتع بها، حال كان بهذه الدرجة من اللامبالاة والطمع لكي يحاول القيام بذلك.
ولكنها هذه المرة كانت باردة كالجبل الجليدي.
كان كل ما قالته هو: «حسنا، سوف تضطر للزواج منها، أليس كذلك؟»
فقال إنه لم يكن واثقا تمام الثقة من أنه طفله.
فقالت له: «ولكنك لست واثقا من أنه ليس طفلك.»
فقال إنه من الممكن إصلاح كل شيء إذا اتفق معها على أن يدفع نفقات إعالة الطفل، وقال إنه واثق تماما من أن هذا هو كل ما تسعى إليه.
قالت سيلينا: «ولكنه ليس كل ما أسعى إليه أنا.» ثم قالت إن ما كانت تسعى إليه هو أن يفعل ما هو صواب.
وقد تحقق ما أرادت؛ ففي خلال فترة قصيرة جدا، تزوج هو وسيدة متجر الأقمشة. ولم يمر وقت طويل على هذا الزواج حتى كانت جدتي - سيلينا - قد تزوجت هي الأخرى من جدي. واختارت لزفافها نفس التوقيت الذي اخترته أنا، وهو منتصف الشتاء.
ولد طفل ليو - إن كان طفله، وفي الغالب أنه كان كذلك - في نهاية الربيع وتوفي فور ولادته، ولم تستمر والدته في الحياة بعده لأكثر من ساعة.
وبعد فترة وجيزة وصل خطاب موجه إلى تشارلي، ولكنه لم يكن لها على الإطلاق؛ فقد كان بداخله خطاب آخر من المفترض أن تحمله إلى سيلينا.
قرأت سيلينا الخطاب وأخذت تضحك وقالت: «أخبريه أنني حبلى»، على الرغم من عدم ظهور أي معالم عليها، وكانت تلك هي أول مرة تعرف فيها تشارلي بأمر حملها. «وأخبريه أن آخر شيء أحتاج إليه هو تلقي مزيد من الخطابات البلهاء من شخص مثله.»
كان الطفل الذي تحمله آنذاك هو أبي، الذي ولد بعد عشرة أشهر من الزفاف في ولادة متعسرة إلى حد كبير للأم. وكان الطفل الوحيد الذي ولد لها ولجدي. سألت الخالة تشارلي عن السبب، هل ثمة إصابة ما لحقت بجدتي، أم كانت هناك مشكلة وراثية جعلت في الإنجاب خطورة كبيرة على حياتها؟ قلت إنها بالطبع لم تكن تعاني من مشكلة في الحمل، وإلا ما كانت قد حملت بأبي بعد شهر من الزواج.
ساد بعض الصمت، ثم قالت الخالة تشارلي: «لا أعرف شيئا عن ذلك.» لم تكن تهمس، بل تحدثت بصوت طبيعي مرتفع وبعيد قليلا، ظهرت به نبرة بسيطة من الجرح أو التوبيخ.
لم هذا الانسحاب؟ ما الذي جرحها؟ أعتقد أنه سؤالي الطبي، واستخدامي لكلمة مثل «حمل». فقد كنا على أعتاب عام 1951، وكان زواجي وشيكا، وها هي تخبرني للتو بقصة عن الحب وحمل غير موفق. ولكن لم يكن ليجدي نفعا، ولم يجد نفعا، لامرأة شابة - بل لأي امرأة - أن تتحدث بهذا البرود، والاطلاع، والوقاحة، عن تلك الأشياء، «الحمل».
ربما كان ثمة سبب آخر لرد الخالة تشارلي لم يدر بخلدي وقتها. فلم ترزق الخالة تشارلي والعم سيريل بأطفال قط، وحسب علمي لم يكن ثمة حتى حمل؛ لذا ربما أكون قد تعثرت بمنطقة حساسة.
بدا للحظة وكأن الخالة تشارلي لم تكن تعتزم مواصلة قصتها. كانت تبدو وكأنها قد قررت أنني لست جديرة بمعرفتها. ولكن بعد لحظة لم تستطع أن تتمالك نفسها واستمرت في سردها.
بعد ذلك سافر ليو، وحقق نجاحا كبيرا في حياته. فعمل مع فريق لتجارة قطع الأخشاب وإعدادها للتصنيع في أونتاريو الشمالية. وذهب للعمل في الحصاد وأصبح أجيرا في الغرب. وحين عاد بعد سنوات، جاء وبصحبته زوجة، وفي مكان ما تعلم نجارة المنازل وتسقيفها؛ ومن ثم عمل في هذا المجال. كانت الزوجة شخصية لطيفة، وكانت تعمل بالتدريس. في مرحلة ما من رحلتهما معا، أنجبت طفلا، ولكنه توفي مثل طفل ليو السابق. عاشت هي وليو في البلدة، ولم يكونا يذهبان إلى أي كنيسة محلية؛ إذ كانت تنتمي إلى ديانة غريبة من نوعية الديانات التي لديهم في الغرب؛ ومن ثم لم يتسن لأحد أن يتعرف عليها عن كثب، حتى إن أحدا لم يعرف أنها مصابة بسرطان الدم إلا قبل وفاتها به بفترة قصيرة. وكانت تلك هي أول حالة سرطان دم سمع بها الناس في هذا الجزء من البلاد.
استمر ليو في حياته هنا، وحصل على عمل. وأخذ يكثر من زياراته لأقاربه، واشترى سيارة وكان يذهب بها لزيارتهم. وانتشرت الأقاويل عن عزمه الزواج للمرة الثالثة، وأنها كانت أرملة من مكان ما بالقرب من ستراتفورد.
ولكن قبل هذا كان قد جاء إلى منزل جدتي في عصر أحد الأيام. كان ذلك في الوقت الذي تلا نزول الصقيع ولكن قبل هطول الثلج الشديد. وحينها كان جدي وأبي، الذي كان قد أنهى دراسته بالمدرسة في ذلك الوقت، يجران الحطب من الغابة. لا بد أنهما قد شاهدا سيارة ليو، ولكنهما واصلا ما كانا يفعلانه. ولم يصعد جدي إلى المنزل ليرحب بابن عمه.
وعلى أي حال لم يمكث ليو وجدتي في المنزل الذي كان يمكنهما الاستئثار به بأكمله، فقد رأت جدتي أنه من اللائق أكثر أن ترتدي معطفها وأن يخرجا إلى السيارة. ولم يجلسا فيها طويلا أيضا، بل انطلقا بها عبر الممر الضيق ثم خرجا عبر الطريق إلى الطريق السريع، حيث انعطفا وعادا أدراجهما. وفعلا ذلك عدة مرات على مرأى أي شخص كان ينظر عبر نوافذ أي منزل ريفي يقع على الطريق. وفي ذلك الوقت كان كل شخص على الطريق يعرف سيارة ليو.
خلال هذه الجولة طلب ليو من جدتي أن تهرب معه، أخبرها أنه لا يزال غير مرتبط، ولم يلتزم بأي التزام مع الأرملة. وربما يكون قد ذكر أنه لا يزال يحبها، يحبها هي، يحب جدتي، سيلينا.
فذكرته جدتي أنها لم تكن غير مرتبطة مثله، أيا كانت حالته هو، وهو ما لا يجعل لمشاعرها دخل في الأمر.
قالت الخالة تشارلي بإيماءة أو إيماءتين صغيرتين مضطربتين برأسها: «وكلما احتدت في الحديث، كان قلبها يزداد تحطما. بالتأكيد كان الأمر كذلك.»
أوصلها ليو إلى منزلها، وتزوج بالأرملة، وكانت تلك السيدة هي التي طلب مني أن أدعوها الخالة مابل.
قالت الخالة تشارلي: «لو عرفت سيلينا أنني قد أخبرتك بأي شيء عن هذا الأمر، لغضبت مني بشدة.» •••
كان لدي ثلاث زيجات لأتأملها عن كثب نوعا ما في هذا الجزء المبكر من حياتي؛ زواج والدي، وأعتقد أنك قد تقول إنها كانت الأقرب، ولكنها على نحو ما كانت الأكثر غموضا وبعدا؛ بسبب الصعوبة الطفولية التي كنت أجدها في التفكير في وجود أي علاقة بين والدي سوى تلك التي كانت تربطهما في شخصي؛ فقد كان أبي وأمي، كمعظم الآباء والأمهات الذين عرفتهم، يتناديان بأبي وأمي، وكانا يفعلان ذلك حتى في الحوارات التي لم تكن لها صلة بأطفالهما. كان يبدو وكأن كلا منهما قد نسي اسم الآخر. ولما لم يكن ثمة أي تفكير لدي في طلاقهما أو انفصالهما - إذ لم أكن أعرف أي والدين، أو زوجين، فعلا ذلك - فلم أكن مضطرة للحكم على مشاعرهما أو الانتباه الحثيث للأجواء بينهما مثلما يفعل غالبا الأبناء هذه الأيام؛ فقد كانا من وجهة نظري رعاة في المقام الأول؛ رعاة للمنزل، والمزرعة، والحيوانات، ونحن الأبناء.
حين سقطت أمي فريسة للمرض - المرض الدائم، وليس مجرد معاناة من أعراض فردية - انقلبت الموازين. حدث هذا حين كنت في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة تقريبا. ومنذ ذلك الحين فصاعدا صارت عبئا على كاهل الأسرة، فيما كنا نحن - أي أنا وأبي وأخي وأختي - نحاول أن نحافظ على استقرار الأمور وتوازنها؛ ومن ثم بدا أبي مرتبطا بنا أكثر مما كان مرتبطا بها، فقد كانت تكبره بثلاث سنوات على أي حال؛ ما يعني أنها قد ولدت في القرن التاسع عشر فيما ولد هو في القرن العشرين، ومع تطور مرضها الطويل، بدأت تبدو كأمه أكثر من زوجته، وصارت بالنسبة إلينا أقرب إلى قريب مسن يعيش في كنفنا وتحت رعايتنا من كونها أما لنا.
كنت أعلم أن كون والدتي أكبر من والدي كان أحد الأشياء التي كانت جدتي تراها غير مناسبة منذ البداية. وسرعان ما تكشفت أشياء أخرى، مثل حقيقة أن والدتي قد تعلمت قيادة السيارات، وأن طراز ملبسها من الطراز الحديث، وأنها قد انضمت إلى معهد السيدات العلماني وليس إلى الجمعية التبشيرية للكنيسة المتحدة، والأسوأ من ذلك كله أنها قد شرعت تجوب الريف لتبيع الأوشحة والقبعات المصنوعة من فراء الثعالب التي كان زوجها يربيها، ثم اتجهت إلى مجال التحف حين بدأت صحتها تضعف. وبقدر ما كان التفكير على هذا النحو قد يكون جائرا - وهي نفسها كانت تعرف أنه جائر - ظلت جدتي عاجزة عن منع نفسها من النظر إلى هذا المرض، الذي ظل مجهولا لفترة طويلة، وكان نادرا لمن هم في سن أمي، كمظهر آخر من مظاهر التعمد والافتعال، وسعي آخر وراء جذب الأنظار.
أما زواج جدي، فلم أشهده عمليا، ولكن سمعت عدة روايات له؛ من أمي التي لم تكن تهتم بجدتي مثلما لم تكن جدتي تهتم بها، ومع تقدمي في العمر سمعت روايات من أناس آخرين أيضا لم يكن لديهم أي تحيزات؛ فكان الجيران الذين كانوا يمرون بمنزل جدي في طريقهم إلى منازلهم عائدين من المدرسة عندما كانوا صغارا يحكون عن حلوى المارشميلو المنزلية التي كانت تصنعها جدتي بيديها، وعن مضايقاتها للآخرين وضحكها، ولكنهم قالوا إنهم كانوا يخشون قليلا من جدي. لم يكونوا يقصدون أنه كان سيئ الطباع أو وغدا؛ فقط كان صامتا. فقد كان الناس يكنون احتراما كبيرا له؛ فقد خدم لسنوات في مجلس البلدة، وكان معروفا بأنه الشخص الذي يلجأ إليه الآخرون حين يضطرون لطلب المساعدة في ملء وثيقة، أو في كتابة خطاب عمل، أو حال احتاجوا إلى شرح لإجراء حكومي جديد. كان مزارعا ماهرا، ومديرا ممتازا، ولكن لم يكن هدف إدارته هو كسب المزيد من المال، بل لإفساح مزيد من الوقت للقراءة. كان صمته يجعل الناس في حالة اضطراب، وكانوا يعتقدون أنه لم يكن بالرفيق المناسب لامرأة مثل جدتي؛ فقد كان يقال إنه لم يكن ثمة أي وجه شبه بينهما وكأنهما قد جاءا من جانبين مختلفين للقمر.
لم يقل أبي قط إنه قد وجد هذا البيت الصامت الذي نشأ فيه غير مريح على نحو خاص؛ فدائما ما يوجد الكثير للقيام به في أي مزرعة. وقد كان إنجاز الأعمال والمهام الموسمية هو ما كان يشكل محتوى أي حياة - أو كان كذلك آنذاك - وكان هذا هو أهم ما في معظم الزيجات.
غير أنه لاحظ كيف أن والدته قد أصبحت شخصا آخر مختلفا، وكيف أنها كانت تنفجر فرحا عند قدوم رفقة.
كان ثمة آلة كمان في الردهة، وكان أبي قد نضج وكبر قبل أن يعلم سبب وجود هذا الكمان، وأنه يخص والده، وأن والده اعتاد العزف عليه.
كانت أمي تقول إن حماها كان رجلا نبيلا عجوزا يتميز بالرقة والهيبة والمهارة، وإنها لم تكن تتعجب من صمته؛ لأن جدتي كانت دائما ما تغضب منه لأتفه الأشياء. •••
لو كنت قد سألت الخالة تشارلي صراحة عما إذا كان جداي قد نعما بالسعادة معا، لعادت إلى نبرة التعنيف والتوبيخ مرة أخرى. سألتها عن سمات جدي الأخرى خلاف الصمت، وقالت إنها لا يمكنها تذكره جيدا في واقع الأمر. «كان غاية في الذكاء والعدل، رغم أنه كان عنيفا في غضبه.» «كانت أمي تقول إن جدتي كانت دائما ما تضجر منه.» «لا أعرف من أين أتت والدتك بهذا الكلام.» •••
لو نظرت إلى صورة العائلة التي التقطت حين كانوا صغارا، وقبل وفاة شقيقة جدتي ماريان، لقلت إن جدتي قد خطفت معظم الأنظار وسط العائلة، بطول قامتها، ووقفتها المعتدة بنفسها، وشعرها الرائع؛ فهي لا تبتسم إلى المصور فقط، بل تبدو ضاحكة ضحكة مقتضبة. كانت في قمة الحيوية والثقة، ولم تتغير هيئتها، ولم تقصر قامتها أكثر من نصف بوصة فقط. ولكن في هذا الوقت الذي أتذكره (وقت كانت كلتاهما فيه في نفس عمري تقريبا) كانت الخالة تشارلي هي مثار حديث الناس الذين كانوا يصفونها بالسيدة العجوز الحسناء؛ فقد كانت لها عينان زرقاوان صافيتان، بلون أزهار نبات الشيكوريا، وخفة كبيرة في حركاتها، وميلة رأس لطيفة. لعل أفضل كلمة تصفها هي أنها كانت «فاتنة».
كان زواج الخالة تشارلي هو أكثر الزيجات التي استطعت رصدها؛ لأن العم سيريل لم يفارق الحياة حتى بلغت الثانية عشرة.
كان رجلا قوي البنية مفتول العضلات ذا رأس كبير زاده حجما شعره المجعد الضخم، كان يرتدي نظارة كانت إحدى عدستيها من الزجاج ذي اللون الكهرماني الداكن لتخفي العين التي كانت قد أصيبت حين كان طفلا. لا أعرف إن كان لا يبصر تماما بتلك العين أم لا؛ فلم تتسن لي رؤيتها مطلقا، وكنت أشعر بالغثيان من مجرد التفكير فيها؛ فقد رسمت في خيالي ركاما صغيرا من هلام داكن يهتز. أتيحت له قيادة سيارة أيا كان، وكانت قيادته سيئة جدا. أذكر ذات مرة حين عادت أمي إلى المنزل، وقالت إنها قد رأته والخالة تشارلي في البلدة وكان قد دار بسيارته للخلف في منتصف الشارع ولم تكن لديها أدنى فكرة كيف سمح له بالإفلات بهذه الفعلة. «إن تشارلي تخاطر بحياتها في كل مرة تطأ قدماها تلك السيارة.»
سمح له بالإفلات بفعلته هذه، وأعتقد أن ذلك لكونه شخصا مهما على المستوى المحلي، ومعروفا ومحبوبا، واجتماعيا، وواثقا بنفسه. كان مثل جدي مزارعا، ولكنه لم يكن يقضي وقتا كبيرا في الزراعة. كان كاتب عدل، وكاتب البلدة التي كان يعيش فيها، وكان عضوا مهما في حزب الأحرار الكندي. وكان يملك بعض الأموال التي لم يتحصل عليها من الزراعة، ربما كانت من الرهون العقارية؛ فقد كانت ثمة أقاويل حول امتلاكه استثمارات. كان هو والخالة تشارلي يملكان بعض الأبقار، ولكن لم يكونا يملكان أي ماشية أخرى. أذكر أنني رأيته في الإسطبل يدير فاصل القشدة مرتديا قميصا وصدرية بذلة، وقد علق قلمه الحبر وقلمه الرصاص الإيفرشارب بجيب الصدرية. لا أذكر رؤيته فعليا وهو يحلب الأبقار؛ فهل كانت الخالة تشارلي تضطلع بهذه المهمة على نحو تام، أم كان لديهم خادم يقوم بها؟
لم تكن الخالة تشارلي تظهر انزعاجها من قيادته قط إذا انزعجت منها؛ فقد كانت قصة غرامهما قصة أسطورية. لم تكن كلمة «حب» تستخدم لوصف ما بينهما، كان يقال إنهما «مغرمان كل منهما بالآخر». وكان أبي قد علق لي بعد فترة من وفاة العم سيريل أن العم سيريل والخالة تشارلي كانا بحق مغرمين كل منهما بالآخر. لست أدري ما الذي أثار هذا الحديث؛ فقد كنا نقود السيارة في أحد الأوقات، وربما كان ثمة تعليق - أو دعابة - عن قيادة العم سيريل. وشدد أبي على كلمة «بحق»، وكأنما يقر بأن هذا هو ما كان يفترض بالأزواج أن يشعروا به بعضهم تجاه البعض، وأنه من الممكن حتى أن يدعوا هذا الشعور، ولكن في الواقع كانت مثل هذه الحالة نادرة الوجود.
أحد الأسباب هو أن العم سيريل والخالة تشارلي كان يدعو كل منهما الآخر باسمه الأول، وليس أبي وأمي؛ ومن ثم وضعهما عدم الإنجاب في مكانة مميزة عمن حولهم وربط بينهما ليس بدورهما، ولكن بذاتيهما الدائمتين. (حتى جدي وجدتي كان كل منهما يشير إلى الآخر، على الأقل حسبما كنت أسمع، بجدي وجدتي، ليصعدا بالدور لدرجة أعلى.) لم يستخدم العم سيريل والخالة تشارلي ألفاظا توددية أو أسماء حيوانات أليفة مطلقا ولم أرهما قط يلامس أحدهما الآخر. لكنني أعتقد الآن أنه كان ثمة انسجام، سيل من الرضا، فيما بينهما كان يكسب الجو من حولهما إشراقة وتألقا كان بوسع الجميع إدراكه حتى ولو كان طفلا متمركزا حول ذاته. ولكن ربما كان هذا هو ما قيل لي فقط، وما أعتقد أنني أتذكره. ومع ذلك، فأنا على يقين من أن المشاعر الأخرى التي أذكرها - إحساس الالتزام والحاجة الذي نما على نحو وحشي فيما يتعلق بأبي وأمي، وجو الانفعال السخيف والاضطراب الراسخ الذي أحاط بجدي وجدتي - كانت غائبة عن تلك الزيجة، وهو ما كان ينظر إليه بوصفه شيئا يستحق التعليق، كيوم رائع في فصل غير مستقر. •••
لم تكن جدتي ولا الخالة تشارلي كثيرتي الحديث عن زوجيهما الراحلين؛ فكانت جدتي قد صارت آنذاك تدعو زوجها بعد وفاته باسمه؛ «ويل». كانت تتحدث دون ضغينة أو أسى، وكأنها تتحدث عن شخص تعرفه من المدرسة. أما الخالة تشارلي، فربما كانت تتحدث إلي عندما نكون بمفردنا وفي غياب جدتي من حين لآخر عن «عمك سيريل». كان كل ما يمكن أن يكون لديها لتقوله أنه لم يكن يرتدي جوارب صوفية على الإطلاق، أو أن البسكويت المفضل لديه كان بسكويت دقيق الشوفان المحشو بالتمر، أو أن أول شيء كان يحب تناوله في الصباح هو كوب من الشاي. وعادة ما كانت تستخدم همسها المكتوم؛ كان ثمة إيحاء بأن هذا الشخص كان شخصا بارزا تعرفه كل منا، وأنها عندما قالت كلمة «العم»، إنما كانت تمنحني شرف الانتساب إليه بصلة قرابة. •••
اتصل بي مايكل، وكانت تلك مفاجأة لي؛ فقد كان حريصا على نقوده، ومدركا للمسئوليات القادمة الملقاة على عاتقه، وفي تلك الأيام كان الناس الحريصون على نقودهم لا يجرون مكالمات هاتفية لمسافات بعيدة ما لم يكن ثمة خبر خاص ومهم في العادة.
كان هاتفنا في المطبخ، وقد جاء اتصال مايكل قرب وقت الظهيرة في يوم سبت، وكانت أسرتي جالسة على بعد بضع أقدام قليلة مني، يتناولون وجبة منتصف اليوم. بالطبع، كانت الساعة التاسعة صباحا فقط في فانكوفر.
قال مايكل: «لم أستطع النوم طوال الليل. كنت قلقا جدا لأنني لم أتلق منك أي خطابات. ما الخطب؟»
قلت: «لا شيء.» حاولت أن أتذكر آخر مرة كتبت له خطابا فيها، بالتأكيد لم يمر أكثر من أسبوع.
قلت: «لقد كنت مشغولة، وكان لدي الكثير من المهام التي كان علي إنجازها.»
كنا قبل بضعة أيام قد ملأنا القادوس بنشارة الخشب. كان هذا هو ما نحرقه في موقدنا؛ فقد كان أرخص وقود يمكن شراؤه. ولكن عندما وضعنا أول قدر منه في القادوس، خلف سحبا من غبار ناعم جدا انتشر أثره في كل مكان حتى على أغطية الفراش. ومهما حاولت منع ذلك، لم يكن بوسعك أن تمنع دخوله إلى المنزل عبر حذائك، وكان التخلص منه يتطلب الكثير من الكنس والنفض.
قال لي: «هذا ما استنتجته.» رغم أنني لم أكن قد كتبت له أي شيء عن مشكلة نشارة الخشب، ثم أردف قائلا: «لم تقومين بكل هذا العمل؟ لم لا يحضرون مديرة منزل؟ ألن يضطروا لذلك بمجرد رحيلك؟»
قلت: «لا عليك، أتمنى أن يعجبك ثوبي، هل أخبرتك أن الخالة تشارلي هي من يصنع لي ثوب الزفاف؟» «ألا يمكنك التحدث؟» «ليس بالضبط.» «حسنا. فقط اكتبي لي.» «سوف أفعل. واليوم.» «إنني أطلي المطبخ.»
كان يعيش في علية بها لوح تسخين للطهي، ولكن كان قد وجد مؤخرا شقة بغرفة نوم واحدة نستطيع أن نبدأ فيها حياتنا معا . «ألا تهتمين حتى بمعرفة لون الطلاء؟ سوف أخبرك على أي حال، أصفر مع أشغال خشبية بيضاء. خزانات بيضاء، لكي تدخل إليه أكبر قدر ممكن من الضوء.»
قلت: «يبدو هذا لطيفا حقا.»
حين أغلقت الهاتف قال أبي: «أنا واثق من أنها ليست مشاجرة حبيبين، أليس كذلك؟» كان يتحدث بأسلوب بدا فيه التصنع والممازحة فقط ليكسر الصمت الذي كان يلف الغرفة. غير أنني شعرت بالإحراج.
فضحك أخي ضحكة مكبوتة.
كنت أعلم رأيهم في مايكل. كانوا يعتقدون أنه غاية في البشاشة، وذو بشرة حليقة وحذاء لامع، وغاية في الخلق والأدب بكل ما في الكلمة من معنى. ومن غير المحتمل أن يكون قد نظف إسطبلا من الروث أو أصلح سياجا؛ فقد كانت لهم عادة من عادات الفقراء - ربما عادة يختص بها الفقراء المثقلين بذكاء يفوق ما تؤهلهم له مكانتهم المتواضعة - هي عادة، أو بالأحرى ضرورة، تحويل من هم أعلى منهم، أو هؤلاء الذين يشكون في أنهم يعتقدون أنفسهم أعلى وأفضل منهم، إلى مثل هذه الشخصيات الكاريكاتورية.
لم تكن أمي على هذه الشاكلة؛ فقد كانت موافقة على مايكل، وكان يعاملها معاملة طيبة، وإن كان لا يشعر بالارتياح في وجودها، نظرا لكلامها القانط الجامد وأطرافها المرتعشة والطريقة التي قد تخرج بها حركة عينيها عن السيطرة؛ ما يجعلها تزوغ لأعلى. فلم يكن معتادا على المرضى، أو الفقراء. ولكنه كان يبذل أقصى جهده خلال زيارة لا بد أنها كانت تبدو له مرعبة، وأقرب إلى معتقل موحش.
معتقل كان يتلهف لإنقاذي منه.
كان هؤلاء الأشخاص الجالسون إلى المائدة - ما عدا أمي - يعتقدون إلى حد كبير أنني خائنة لعدم بقائي حيثما أنتمي؛ أي البقاء في هذه الحياة، على الرغم من أنهم في واقع الأمر لم تكن لديهم رغبة في ذلك أيضا؛ فقد كانوا يشعرون بالارتياح أن ثمة شخصا يريد أن يتزوجني. ربما كانوا يشعرون بالأسف أو بقدر يسير من الخزي أنه لم يكن أحد الشباب ممن كانوا في محيط موطننا، إلا أنهم كانوا يتفهمون كيف أن ذلك لم يكن ممكنا ، وأن هذا سيكون أفضل بالنسبة إلي من جميع النواحي. كانوا يريدون أن يمازحوني بأسلوب حاد بشأن مايكل (كانوا يقولون إنه مجرد مزاح فقط)، ولكن بوجه عام، كانوا يرون أنني يجب أن أتمسك به.
وقد كنت عازمة على التمسك به، وتمنيت لو استطاعوا أن يتفهموا أنه بالفعل لديه حس من الدعابة، وأنه ليس مغرورا كما يظنون، وأنه لا يخشى العمل. كما كنت أود منه أن يتفهم أن حياتي هنا ليست بهذه الدرجة من البؤس أو الحقارة كما كانت تبدو له.
كنت عازمة على التمسك به وبعائلتي أيضا، كنت أفكر أنني سأظل على ارتباطي بهم دوما ما حييت، وأنه لا يستطيع أن يعيب علي أو يجادلني من أجل الابتعاد عنهم.
وكنت أعتقد أنني أحبه. كان الحب والزواج في خيالي مساحة مستحبة ومضيئة تدخل إليها ويتوافر لك بداخلها الأمان، لم يظهر العشاق الذين تخيلتهم في صورة ضوار جريئة مجنحة، وربما لم يكن لهم وجود، واستطعت بالكاد أن أرى نفسي ندا لهم على أي حال.
لقد كان مايكل حقا يستحق من هي أفضل مني. لقد كان يستحق قلبا كاملا خالصا له. •••
في عصر ذلك اليوم ذهبت إلى البلدة كالعادة. كانت الحقيبتان قد امتلأتا تقريبا، وكانت جدتي قد انتهت لتوها من تطريز كيس وسادة، كان واحدا من اثنين قصدت جدتي إضافتهما إلى مجموعة الأشياء التي سآخذها إلى بيتي الجديد، وكان ذلك بعد أن برئت من آلام الالتهاب الوريدي. فيما كانت الخالة تشارلي قد كرست وقتها لحياكة ثوب زفافي. فنصبت ماكينة الحياكة في النصف الأمامي من غرفة المعيشة والذي كان مفصولا بأبواب جرارة من خشب البلوط عن النصف الخلفي حيث كانت الحقيبتان موضوعتين. كانت حياكة الملابس هي الشيء الذي تجيده، ولم تستطع جدتي قط أن تضاهيها أو تتداخل معها في هذه النقطة.
كان مزمعا أن يكون طول ثوب زفافي حتى الركبتين ومصنوعا من القماش المخملي ذي اللون الخمري، وذا تنورة مكشكشة وخصر ضيق وما يسمى بتقويرة قلبية، وأكمام منتفخة. الآن أدرك أنه بدا منزلي الصنع؛ ليس لأي خطأ في حياكة الخالة تشارلي، ولكن فقط بسبب التصميم، الذي كان فخما في حد ذاته، ولكن لم يكن فيه أي ابتكار؛ فكان مجرد ثوب منسدل على نحو عادي يفتقر إلى أي تميز في تصميمه. وقد كنت معتادة على الملابس المنزلية الصنع حتى إنني لم أع ذلك.
بعد أن جربت الثوب وبينما كنت أرتدي ملابسي العادية مرة أخرى، دعتنا جدتي للمجيء إلى المطبخ وتناول القهوة. لو كانت هي والخالة تشارلي وحدهما، لكانا قد تناولا الشاي، ولكنهما اعتادتا شراء النسكافيه من أجلي. وكانت الخالة تشارلي هي من بدأت ذلك حين كانت جدتي تلازم الفراش.
أخبرتني الخالة تشارلي أنها ستلحق بنا خلال لحظات؛ إذ كانت تحل بعض خيوط التسريج.
وبينما أنا بمفردي مع جدتي، سألتها عما كانت تشعر به قبل زفافها.
فقالت وهي تشير إلى النسكافيه: «إنه مركز جدا.» وهمت أن تقف على قدميها بتلك النخرة البسيطة التي صارت تصاحب أي حركة مفاجئة لها. وشغلت الغلاية للحصول على مزيد من الماء الساخن. ظننت أنها لن تجيبني، ولكنها قالت: «لا أذكر شعوري حينها على الإطلاق على أي حال، أذكر أنني لم أكن آكل لأنني اضطررت لإنقاص مقاس خصري لكي يتناسب مع ذلك الثوب؛ لذا أتوقع أنه كان شعوري حينها هو الجوع.» «ألم تشعري قط بالخوف من ...؟» أردت أن أقول «من أن تعيشي حياتك مع ذلك الشخص.» ولكن قبل أن أتمكن من قول أي شيء آخر، أجابت بخفة وسرعة: «هذا الأمر سوف يحل نفسه بنفسه بمرور الوقت، فقط لا تشغلي بالك.»
ظنت أنني أتحدث عن الجنس، ذلك الأمر الذي كنت أعتقد أنني لم أكن بحاجة لأي إرشادات أو طمأنة بشأنه.
وأوحت إلي نبرتها أنه ربما كان ثمة شيء منفر في إثارتي لهذا الموضوع وأنها لا تنوي تقديم أي إجابة كاملة بشأنه.
كان انضمام الخالة تشارلي إلينا كما فعلت في تلك اللحظة سيجعل إصدار أي تعليق آخر أمرا غير محتمل على أي حال.
قالت الخالة تشارلي: «ما زلت قلقة بشأن الأكمام. ترى هل ينبغي أن أقصرها ربع بوصة؟»
بعد أن تناولت قهوتها، عادت وقامت بذلك، وفكت تسريج كم واحد فقط لترى كيف سيبدو. ونادتني لكي آتي وأجرب الثوب مرة أخرى، وعندما فعلت، فاجأتني وراحت تنظر بتمعن في وجهي بدلا من ذراعي. كانت تطبق على شيء في قبضة يدها كانت تريد أن تعطيه لي؛ ففردت يدي وهمست لي قائلة: «خذي هذا.»
أربع ورقات من فئة الخمسين دولارا.
قالت وهي لا تزال تتحدث بهمس مرتعش متعجل: «إذا غيرت رأيك؛ إذا كنت لا ترغبين في إتمام الزواج، فسوف تحتاجين إلى بعض المال للهروب.»
حين قالت «إذا غيرت رأيك»، ظننت أنها تمازحني فقط، ولكن حين وصلت لعبارة «فسوف تحتاجين إلى بعض المال»، أدركت أنها كانت جادة فيما تقول. وقفت متحجرة في ثوبي المخملي يراودني شعور بالألم في صدغي، وكأني قد تناولت جرعة من شيء بارد أو حلو جدا.
شحبت عينا الخالة تشارلي من الانزعاج مما قالته لتوها، ومما كان لا يزال لديها لتقوله، بمزيد من التشديد، رغم أن شفتيها كانتا لا تزالان ترتعشان. «ربما لا تكون تلك هي التذكرة المناسبة لك.»
لم يسبق لي أن سمعتها تستخدم كلمة «تذكرة» بهذه الطريقة من قبل؛ فقد بدت وكأنها كانت تحاول التحدث بأسلوب فتاة شابة، كان الأسلوب الذي كانت تعتقد أنني أتحدث به، ولكن ليس لها.
كان بوسعنا سماع صوت الحذاء الأكسفوردي الثقيل الخاص بجدتي في الردهة.
فهززت رأسي ووضعت النقود تحت قطعة من قماش ثوب الزفاف كانت فوق ماكينة الحياكة. لم تبد لي حتى كنقود حقيقية؛ فلم أكن معتادة على شكل العملات فئة الخمسين دولارا.
لم أكن أستطيع أن أدع مخلوقا يكتشف طبيعتي الحقيقية، ناهيك عن شخص ببساطة الخالة تشارلي.
انحسر الألم والوضوح اللذان كانا في الغرفة وفي صدغي. ومرت لحظة الخطر كنوبة من الفواق.
قالت الخالة تشارلي في صوت مبتهج وهي تقبض على الكم بإحكام: «حسنا إذن، لعل الأكمام كانت ستبدو أفضل بالشكل الذي كانت عليه.»
كان ذلك موجها إلى أذني جدتي. أما أنا، فكان موجها إلي بعض الهمس المتقطع . «إذن لا بد - لا بد أن تعديني - «لا بد أن تكوني زوجة صالحة».»
فقلت: «بالطبع»، وكأنه لم يكن ثمة داع للهمس، ودخلت جدتي الغرفة ووضعت يدها على ذراعي.
وقالت: «أخرجيها من هذا الثوب قبل أن تفسده، لقد بدأت تعرق.»
المنزل
أعود إلى المنزل مثلما فعلت عدة مرات خلال العام الماضي، مسافرة عبر ثلاث حافلات؛ الحافلة الأولى كبيرة ومكيفة الهواء وسريعة ومريحة، ولا يولي المسافرون على متنها الكثير من الانتباه بعضهم لبعض؛ فتجدهم ينظرون عبر النوافذ إلى حركة المرور على الطريق السريع والتي تجتازها الحافلة بسهولة بالغة. في هذه الحافلة نسافر غربا ثم شمالا من المدينة، وبعد خمسين ميلا أو نحو ذلك نصل إلى بلدة كبيرة تتميز بالرخاء السوقي والصناعي. وهنا أنتقل إلى حافلة أصغر مع الركاب المسافرين في نفس اتجاهي، والتي تكون ممتلئة نوعا ما بالمسافرين الذين تبدأ رحلتهم في هذه البلدة؛ ما بين مزارعين مسنين جدا بحيث لم يعد بمقدورهم القيادة، وزوجات المزارعين من جميع الأعمار، وطلاب التمريض وطلاب كلية الزراعة العائدين إلى منازلهم لقضاء عطلة نهاية الأسبوع، وأطفال يتنقلون بين آبائهم وأجدادهم. تسكن هذه المنطقة شريحة كبيرة من المستوطنين الألمان والهولنديين، وبعض من كبار السن يتحدثون بلغة من هاتين اللغتين. في هذه المرحلة من الرحلة، قد ترى أن المسئول بمحطة الحافلات يسلم سلة أو طردا لشخص ما ينتظر عند بوابة إحدى المزارع. •••
تستغرق رحلة الثلاثين ميلا إلى البلدة التي يتم فيها آخر تغيير للحافلة نفس الوقت الذي تستغرقه رحلة الخمسين ميلا من المدينة أو أطول. وبحلول موعد وصولنا إلى تلك البلدة يكون العدد الكبير من ذوي الأصول الألمانية ذوي الحس الدعابي، والهولنديين الأحدث عهدا، قد نزلوا من الحافلة، وازداد ظلام المساء توغلا وبرودة، وكف المزارعون عن العمل ورعاية ماشيتهم. أسير عبر الطريق مع واحد أو اثنين من المتبقين من الحافلة الأولى، واثنين أو ثلاثة من الثانية؛ وهنا يبتسم أحدنا للآخر مع إدراكنا لوجود زمالة أو تشابه لم يكونا ليتضحا لنا في الأماكن التي بدأنا منها رحلتنا؛ فنصعد على متن الحافلة الصغيرة المنتظرة أمام إحدى محطات الوقود؛ إذ ليس ثمة محطة للحافلات هناك.
كانت هذه الحافلة حافلة مدارس قديمة ذات مقاعد غير مريحة تماما لا يمكن تعديلها بأي شكل من الأشكال، ونوافذ تقطعها إطارات معدنية أفقية؛ ما يجعل من الضروري أن تنحني أو تجلس في وضعية مستقيمة للغاية وتمد عنقك لكي تحظى برؤية لا يعوقها شيء. وهو ما أراه أمرا مؤرقا؛ لأن الريف هنا هو أكثر ما أود مشاهدته؛ أشجار الخريف المخضبة بالحمرة، والحقول الجافة المليئة ببقايا الحصاد، والأبقار المحتشدة في مداخل الحظائر. طالما كنت أعتقد أن مثل هذه المشاهد غير اللافتة، في هذا الجزء من القرية، هي آخر شيء سوف أعبأ بمشاهدته في حياتي.
ولدهشتي أن هذا الأمر قد يتضح أنه حقيقي، وبأسرع مما توقعت، مع قيادة السائق للحافلة بما يبدو أنها سرعة متهورة؛ حيث يقفز وينحرف على مدى العشرين ميلا المتبقية من الطريق شبه الممهد.
وهذا المكان يعد مرتعا خصبا للحوادث؛ فالصبية الذين لم يبلغوا بعد سن الحصول على رخصة قيادة يأتون للقيادة الحمقاء على سرعة 90 ميلا في الساعة على طرق مفروشة بالحصى تضم تلالا أو منحدرات غير واضحة للعيان. ويملأ السائقون المحتفلون الجو ضجيجا بنفير سياراتهم عبر القرى في وقت متأخر من الليل دون إضاءة مصابيح سياراتهم، ويبدو أن معظم الرجال البالغين قد نجوا على الأقل مرة واحدة من الاصطدام بعمود هاتف محطم والانقلاب في المصرف. •••
قد يخبرني أبي وزوجته عن هذه الخسائر في الأرواح حين أعود إلى المنزل. فأبي يتحدث ببساطة عن حادث بشع، فيما تتولى زوجته سرد التفاصيل، من انفصال الرأس عن الجسد، وتهشم الصدر من اصطدامه بعجلة القيادة، وتحطم الوجه بسبب الزجاجة التي كان أحدهم يشرب منها.
فيكون ردي المقتضب: «حمقى.» ليس الأمر فقط أنني لا أملك ذرة تعاطف نحو المتسابقين على الطرق الحصوية، والثملة؛ فأنا أرى هذه المحادثة، بما تلاها من إفاضة واستمتاع من جانب زوجة أبي، قد تكون مصدر إحراج لأبي. غير أنني سأتفهم لاحقا أن الأمر ربما لا يكون كذلك .
ترد زوجة أبي قائلة: «هذا أبسط وصف لهم. حمقى. يجب ألا يلوموا إلا أنفسهم.»
أجلس مع أبي وزوجة أبي - واسمها إرلما - إلى طاولة المطبخ نحتسي الويسكي، فيما يرقد كلبهما باستر عند قدمي إرلما. يصب أبي شراب الجاودار في ثلاث كئوس عصير حتى تمتلئ إلى ثلاثة أرباعها، ثم يكملها بالماء. حين كانت أمي على قيد الحياة، لم تكن ثمة زجاجة شراب واحدة في هذا المنزل، أو حتى زجاجة من الخمر أو الجعة؛ فقد أخذت على أبي عهدا قبل زواجهما ألا يقرب الخمر مطلقا. لم يكن هذا بسبب معاناتها من الرجال السكيرين في منزلها؛ لقد كان ذلك فقط العهد الذي كانت تشترطه العديد من النساء اللاتي يحترمن أنفسهن قبل أن يهبن أنفسهن لرجل في تلك الأيام.
كانت طاولة المطبخ الخشبية التي كنا دائما نأكل عليها، والمقاعد التي كنا نجلس عليها، قد نقلت إلى الحظيرة، فلم تكن المقاعد ملائمة؛ إذ كانت غاية في القدم، وكان اثنان منها يفترض أنهما قد جاءا مما كان يسمى مصنع الكراسي - ربما كان مجرد ورشة لا أكثر - في صن شاين، وهي قرية اختفت من الوجود بنهاية القرن التاسع عشر. وعلى ذلك فإن لدى أبي استعدادا تاما لبيعها بلا مقابل، أو التبرع بها إذا كان أحد يريدها؛ فهو لا يستطيع قط أن يتفهم أي إعجاب لما يسميه الخردة القديمة، ويعتقد أن المشتغلين فيها ما هم إلا مدعون. كان هو وإرلما قد اشتريا طاولة جديدة ذات سطح بلاستيكي يبدو أشبه بالخشب ولا تعلق به أي علامات أو آثار للأشياء، وأربعة مقاعد بوسائد مغطاة بالبلاستيك بها نقوش من أزهار صفراء، والحق أنها مريحة في الجلوس أكثر بكثير من المقاعد الخشبية القديمة.
أما وقد أصبحت الآن أعيش على بعد مائة ميل فقط، صرت أعود إلى المنزل كل شهرين أو نحو ذلك. قبل ذلك، ولفترة طويلة، كنت أعيش على بعد أكثر من ألف ميل وتمر سنوات دون رؤية هذا المنزل. كانت فكرتي عنه آنذاك كمكان ربما لن أراه مرة أخرى أبدا، وكانت ذكراه تحرك مشاعري كثيرا. كنت أجوب غرفه في ذهني، التي كانت كلها صغيرة وكما هو مألوف في المنازل الريفية القديمة ليست مصممة للاستفادة من المساحة الخارجية، بل لتجاهلها إن أمكن. ربما لم يرد الناس أن يهدروا وقت راحتهم أو مأواهم في النظر إلى الحقول التي يجب أن يعملوا بها، أو إلى أكوام الجليد التي يتعين عليهم إماطتها من الطريق من أجل إطعام ماشيتهم. أما الأشخاص المغرمون بالطبيعة - أو حتى هؤلاء الذين يتمادون ويستخدمون كلمة «طبيعة» - فكانوا يعتبرون مجانين بعض الشيء.
حين أكون بعيدة عن المنزل، كنت أشاهد في ذهني أيضا سقف المطبخ المؤلف من ألواح ضيقة ملطخة بالدخان ومزودة بلسان وحز، وإطار نافذة المطبخ الذي قرضه كلب كان محبوسا هناك قبل ميلادي. كان ورق الحائط به بقع باهتة من أثر مدخنة راشحة، وكان مشمع الأرضية يعاد طلاؤه كل ربيع على يد أمي ما دامت توافرت لديها القدرة على ذلك. كانت تطليه بلون داكن - بني أو أخضر أو كحلي - ثم باستخدام قطعة من الإسفنج ترسم عليه تصميما تتخلله نقاط صغيرة لامعة باللون الأصفر أو الأحمر.
توارى هذا السقف الآن خلف قوالب من القرميد الأبيض، واستبدل بإطار النافذة الخشبي المقروض إطار معدني جديد. وتم تركيب زجاج جديد للنافذة أيضا لا يضفي أي خطوط تموجية أو حلزونية غريبة على ما تشاهده عبره. وعلى أي حال لم يعد ما ينتظرك لرؤيته عبر تلك النافذة هو تلك الشجيرة ذات الوهج الذهبي التي كانت نادرا ما تقطع والتي كانت تغطي كلا اللوحين الزجاجيين السفليين، أو البستان ذو أشجار التفاح الجرب وشجرتا الكمثرى اللتان لم تحملا الكثير من الثمار قط، كونهما في أقصى الشمال. لم يعد هناك الآن سوى حظيرة طويلة رمادية بلا نوافذ للديوك الرومي، وفناء لها، باع أبي قطعة أرض من أجل بنائهما.
ركب ورق حائط جديد للغرف الأمامية - ورق حائط أبيض ذو تصميم مبهج ولكنه تصميم أحمر بارز تقليدي - وغطيت الأرضية بأكملها بالموكيت الأخضر بلون الطحالب. لما كان أبي وإرلما قد نشآ وعاشا جزءا من حياتهما في مرحلة النضج في منازل تضاء بمصابيح الكيروسين، فإن الضوء يغطي كل أرجاء المنزل؛ فتجد مصابيح للسقف، ومصابيح موصلة بالكهرباء، ومصابيح فلورسنت طويلة تتوهج بالضوء، ولمبات تعمل بجهد مائة واط.
حتى خارج المنزل، الطوب الأحمر الذي كانت رياح شرقية تخترق مونته المفتتة، سيغطى بألواح معدنية بيضاء. ويفكر أبي في تركيبها بنفسه؛ ومن ثم يبدو أن هذا المنزل الغريب - بمطبخه المبني جزء منه في ستينيات القرن الثامن عشر - يمكن أن يذوب، بطريقة ما، وينصهر داخل منزل عادي مريح على الطراز الحديث.
إنني لا أتحسر على هذه الخسارة كما كنت سأفعل ذات مرة. بل أقول إن الطوب الأحمر له لون ناعم وجميل، وإنني قد سمعت عن أناس (من أهل المدن) يدفعون مبالغ باهظة من أجل شراء هذا الطوب القديم، إلا أنني في أغلب الأحيان أقول ذلك لاعتقادي أن أبي يتوقعه. فأنا الآن من أهل المدينة في نظره، ومنذ متى كنت شخصا عمليا؟ (وهذا لا يعد خطيئة كما كان من قبل؛ لأنني شققت طريقي، على عكس التوقعات، وسط أناس ربما يفتقرون إلى العملية مثلي.) وهو يسعد الآن بإعادة توضيح قصة الريح الشرقية وتكلفة الوقود وصعوبة الإصلاحات. وأنا أعلم أنه يقول الحقيقة، وأعلم أن المنزل الذي سيختفي ليس بالمنزل الجميل أو الأنيق بأي حال؛ فهو أحد منازل الفقراء، الذي تمتد درجات سلمه دائما بين حائطين، وغرف نومه مفتوحة كل منها على الأخرى؛ منزل يعيش فيه أناس في عوز لما يزيد على المائة عام. إذن، فإن كان أبي وإرلما يتمنيان الراحة بدمج معاشي تقاعدهما معا؛ ما يجعلهما أكثر ثراء ورغدا من أي وقت مضى في حياتيهما، وإذا كانا يبغيان أن يكونا «عصريين» (وهي الكلمة التي كانا يستخدمانها دون علامات اقتباس، ببساطة وعلى نحو إيجابي)؛ فمن أنا لكي أتذمر من خسارة بعض قوالب الطوب القرنفلية، وجدار محطم؟
ولكن يظل صحيحا أيضا أن أبي بطريقة ما يريد بعض الاعتراضات، بعض الحماقة مني. وأنا أشعر بأنني ملزمة بأن أخفي عنه حقيقة أن المنزل لا يمثل لي الكثير مثلما كان في يوم من الأيام، ولا يعنيني حقا شكل التغييرات التي يضفيها عليه الآن.
يقول لي بنبرة اعتذارية، ولكنها لا تخلو من الرضا: «أعلم مدى حبك لهذا المكان.» لا أخبره أنني لا أعرف الآن ما إذا كان لدي حب لأي مكان أم لا، وأن ما أحببته هنا هو نفسي؛ نفس انتهت كل صلة لي بها، وفي الوقت المناسب.
لا أدخل الآن الغرفة الأمامية للتفتيش في مقعد البيانو عن النوت الموسيقية والصور الفوتوغرافية القديمة. ولا أذهب للبحث عن كتبي المدرسية القديمة في المرحلة الثانوية، وقصائد الشعر اللاتينية، ورواية «ماريا تشابدلين»، أو أكثر الكتب مبيعا لعام ما في أربعينيات القرن التاسع عشر حين كانت والدتي تنتمي إلى نادي كتاب الشهر؛ وكان عاما رائعا للروايات التي تدور حول زوجات هنري الثامن، وللروائيات ذوات الأسماء الثلاثية، ولفهم الكتب التي تتحدث عن الاتحاد السوفييتي. لا أفتح «الكلاسيكيات» المجلدة بجلد مقلد ضعيف، والتي اشترتها أمي قبل زواجها، فقط لأرى اسمها قبل الزواج مكتوبا بخط اليد الجميل التقليدي لمعلمة على الورقة الأخيرة المجزعة بعد تعهد الناشر: «أيها الإنسان العادي، سأكون معك، وسأرشدك، في أقصى لحظات احتياجك إلى وقوفي بجانبك.»
ليس من السهل العثور على أشياء تذكرني بأمي في هذا المنزل، على الرغم من هيمنتها عليه لزمن طويل بما كان يبدو لنا من طموحاتها المحرجة، ثم بشكاواها المحرجة بنفس القدر وإن كان لها ما يبررها. فلم يكن المرض الذي كانت تعاني منه معروفا على نحو كبير آنذاك، وكان غاية في الغرابة في تأثيراته، حتى إنه بدا مجرد شيء ربما تكون قد اختلقته، بدافع الحماقة وحاجتها الحقيقية إلى الاهتمام، ولأبعاد أكبر في حياتها؛ فإن الاهتمام الذي كانت عائلتها تمنحها إياه كان بدافع الضرورة، صحيح أنه لم يكن يمنح كرها منهم، ولكنه كان يمنح على نحو روتيني حتى إنه قد بدا باردا، ومتبرما، وخاليا من الحنان والحب، والذي لم يكن أبدا، أبدا، كافيا بالنسبة إليها.
جمعت إرلما الكتب التي دائما ما كانت تتناثر تحت الأسرة وعلى الطاولات في جميع أرجاء المنزل وأقحمتها في خزانة الكتب الموجودة بالغرفة الأمامية وأغلقت عليها أبوابها الزجاجية. ويقول أبي، المطيع لزوجته، إنه لم يعد يقرأ تقريبا لكثرة مشاغله. (على الرغم من أنه يحب بالفعل الاطلاع على «الأطلس التاريخي» الذي كنت أرسلته إليه.) إن إرلما لا تهتم بمنظر الناس وهم يقرءون لأنه شيء غير اجتماعي، وما الطائل من وراء ذلك في النهاية؟ إنها تعتقد أنه من الأفضل أن يمارس الناس ألعاب الورق، أو يصنعوا أشياء؛ فبإمكان الرجال أن يقوموا بأعمال خشبية، وبإمكان السيدات أن يصنعن ألحفة ويغزلن أبسطة، أو يقمن بأعمال كروشيه أو بالتطريز؛ فهناك دائما الكثير للقيام به.
على النقيض من ذلك، تكن إرلما احتراما لما يقوم به أبي في شيخوخته من كتابة؛ إذ قالت لي: «إن كتابته رائعة فيما عدا عندما يكون متعبا للغاية، إنها أفضل من كتابتك على أي حال.»
استغرق مني الأمر لحظة لإدراك أنها كانت تتحدث عن تدوين الأفكار والذكريات؛ فدائما ما كان هذا هو ما تعنيه «الكتابة» هنا في هذا المنزل، أما المعنى الآخر، فكان التأليف أو هكذا يسمى. وهما في نظرها متصلان بطريقة ما دون أن تثير أي اعتراضات، على أي مما يكتب.
تقول: «إنها تنشط عقله.»
كذلك تعتقد أن لعب الورق له نفس الأثر. ولكنها دائما لا تملك الوقت الكافي للجلوس واللعب معه في منتصف اليوم.
يتحدث إلي أبي عن تغطية خارج المنزل بألواح، فيقول لي: «أحتاج إلى مهمة كهذه لتعيدني إلى لياقتي التي كنت عليها قبل عامين.»
كان قد أصيب قبل حوالي خمسين شهرا بأزمة قلبية خطيرة.
تعد إرلما أكواب القهوة، وطبقا من رقائق البسكويت المالح، وبسكويت جراهام، والجبن والزبد، ومافن النخالة، وبسكويت مسحوق الخبيز، وقطع الكعك الطيب المغطى بطبقة السكر المغلية.
وتقول: «هذا ليس كثيرا، أراني أزداد كسلا في شيخوختي.»
فأقول إن هذا لن يحدث أبدا؛ فلن يصيبها الكسل أبدا. «أخجل من أن أخبرك أنه حتى الكعك مصنوع من خليط جاهز. بعد ذلك، سنشتري الكعك جاهزا.»
فأقول: «إنه جيد. بعض الخلطات الجاهزة تكون جيدة حقا .»
فتقول إرلما: «حقا.» •••
في اليوم التالي يزورنا هاري كروفتون - الذي يعمل بدوام جزئي في مزرعة الديوك الرومي التي كان والدي يعمل بها - في وقت الغداء، وبعد بعض الاعتراضات الضرورية والمتوقعة يقتنع بالبقاء معنا. يحين موعد الغداء في الظهيرة، ونتناول فيه قطع لحم مستديرة تم دقها وتغطيتها بالدقيق وطهيها في الفرن، والبطاطس المهروسة في صوص اللحم، والجزر الأبيض المسلوق، وسلطة الكرنب، والبسكويت، وكعك الزبيب، والتفاح الحامض المحفوظ، وفطيرة القرع العسلي بطبقة المارشميلو، إلى جانب الخبز والزبد، والعديد من المقبلات، والقهوة الفورية والشاي.
ينقل هاري رسالة فحواها أن جو تومس، الذي يعيش عند النهر في كارافان، ولا يوجد لديه هاتف، سوف يكون ممنونا لو زاره والدي ومعه جوال من البطاطس، وبالطبع سوف يدفع ثمنه. كان سيأتي ويأخذه بنفسه لو كان يستطيع، ولكنه لا يستطيع القدوم.
تقول إرلما: «أراهن أنه يستطيع.»
فيحاول أبي صرف الانتباه عن هذه السخرية بأن يقول لي: «إنه شبه أعمى هذه الأيام.»
يضيف هاري: «إنه بالكاد ما يجد طريقه إلى متجر الخمور.»
فيضحك الجميع.
فتقول إرلما معقبة: «إنه يستطيع أن يجد طريقه إلى هناك عن طريق أنفه.» ثم تعيد ما قالته بحس من الاستمتاع كعادتها: «إنه يجد طريقه إلى هناك عن طريق أنفه.»
إرلما امرأة بدينة ذات وجه متورد، وضفائر مصبوغة باللون البني الذهبي، وعينين بنيتين لا يزال بهما لمعان، وطلة من الاستعداد العاطفي، والوقوف دائما على شفا المرح الصاخب. أو على شفا الجزع الذي يتحول تدريجيا إلى غضب وثورة؛ فهي تحب إضحاك الآخرين، وإضحاك نفسها. وفي أوقات أخرى تجدها تضع يديها على وركيها دافعة رأسها إلى الأمام لتطلق عبارة لاذعة، وكأنها تتمنى لو أثارت شجارا، وهو السلوك الذي تربطه بكونها أيرلندية وبكونها قد ولدت على متن قطار. «أنا أيرلندية، كما تعلم؛ لذا أتشاجر على الطريقة الأيرلندية. وولدت على متن قطار متحرك، لم أستطع الانتظار، كان القطار يسير على خط كيكينج هورس (بمعنى الحصان الرافس) للسكك الحديدية، أتعلم ماذا يعني ذلك؟ إن كونك مولودا على ظهر حصان رافس يعني أنك تعرف كيف تدافع عن نفسك، وتلك حقيقة.» بعدها، وسواء رد مستمعوها بنفس الطريقة أو تراجعوا في صمت مرتبك، سوف تطلق ضحكة يشوبها التحدي.
تقول موجهة الحديث لهاري: «ألا يزال جو يعيش برفقة تلك السيدة التي تدعى بيجي؟»
أنا لا أعرف بيجي؛ ومن ثم سألت عنها.
فيرد هاري في نبرة تعنيف قائلا: «ألا تذكرين بيجي؟» ثم يخاطب إرلما قائلا: «أنت تراهنين أنه لا يزال يعيش معها.»
كان هاري يعمل لدينا حين كان أبي يملك مزرعة الثعالب وكنت أنا صغيرة. كان يعطيني حلوى العرقسوس من غياهب جيوبه الضبابية، وحاول أن يعلمني قيادة الشاحنة، وكان يدغدغني عند رباط بنطالي المرن.
يقول لي: «بيجي جورينج؟ كانت هي وشقيقاها يعيشون بجوار السكك الحديدية الواقعة على هذا الجانب من شركة كندا باكرز؟ إنهم من أصول هندية. هيو وبد جورينج. هيو الذي كان يعمل في مصنع الألبان؟»
يتدخل أبي قائلا: «كان بد هو الحارس في مبنى مجلس البلدة.»
فتقول إرلما بشيء من الحدة: «أتتذكرينهم الآن؟» فمن الممكن أن يبدو نسيان الأسماء والحقائق في محيطك شيئا متعمدا، وسلوكا وقحا غير لائق.
فأقول إنني قد تذكرتهم، رغم أن الواقع غير ذلك.
تقول: «لقد رحل هيو ولم يعد مطلقا؛ ما جعل بد يغلق المنزل، ويعيش في الغرفة الخلفية منه فقط. إنه يتقاضى المعاش الآن، ولكنه بخيل لدرجة أنه لا يدفئ المنزل بأكمله.»
فيقول أبي: «لقد صار غريب الأطوار بعض الشيء مثل بقيتنا.»
يقول هاري الذي يعرف ودائما ما كان يعرف كل قصة وكل شائعة وكل فضيحة، وربما الأنساب في نطاق أميال عديدة: «إذن هل تذكرت بيجي؟ بيجي التي كانت رفيقة جو؟ قبل سنوات. ولكن بعد ذلك رحلت وتزوجت من شخص آخر، وكانت تعيش في الشمال. وبعد فترة رحل جو إلى هناك وعاشا معا، ولكن دبت بينهما مشاجرة كبيرة ورحل إلى الغرب.» يضحك في صمت مثلما كان يفعل دائما، وبكم كبير من السخرية المكتومة التي تبدو مكبوتة بداخله؛ ما يجعلها تولد رعشة تسري عبر صدره وكتفيه.
تقول إرلما: «هكذا كان حالهما. هكذا استمرا.»
يواصل هاري حديثه قائلا: «بعد ذلك انطلقت بيجي غربا وراءه وانتهى الأمر بأن عاشا معا هناك، ويبدو أنه كان يعتدي عليها بالضرب المبرح لدرجة أنها استقلت القطار في النهاية وعادت إلى هنا. ويبدو أنه قد ضربها بعنف قبل أن تستقل القطار، لدرجة أن الناس اعتقدوا أنهم سيضطرون للتوقف ونقلها إلى المستشفى.»
تقول إرلما: «كم أود أن أرى ذلك. أود أن أرى رجلا يجرب فعل ذلك معي.»
يقول هاري: «أجل، حسنا. ولكن لا بد أنها قد تحصلت على بعض المال أو جعلت بد يدفع لها مقابل نصيبها في المنزل؛ لأنها اشترت لنفسها الكارافان. ربما ظنت أنها ستسافر. ولكن ظهر جو مرة أخرى ونقلا المقطورة إلى النهر وتزوجا. لا بد أن زوجها الآخر كان قد مات.»
تقول إرلما: «لقد تزوجا حسبما يقولون.»
فيقول هاري: «لست أدري. إنهم يقولون إنه لا يزال يمعن في ضربها حين تواتيه الرغبة في ذلك.»
تقول إرلما: «ليت أي شخص يجرب فعل ذلك معي، وسوف أضربه. سوف أضربه في مكان حساس بجسده.»
يقول أبي في ذعر هازئ: «اهدئي، اهدئي.»
يقول هاري: «ربما يكون لجذورها الهندية دخل في ذلك؛ فهم يقولون إن الهنود يضربون نساءهم بين الحين والآخر وهذا يجعلهن يحببنهم أكثر.»
أشعر بأنني مضطرة لأن أقول: «أوه، هكذا يتحدث الناس عن الهنود.» وتقول إرلما - التي سرعان ما يتسلل إليها شيء من السمو أو التميز - إن ما يقوله الناس عن الهنود به قدر كبير من الحقيقة، وإنني يجب ألا أعبأ بالأمر.
يقول أبي: «حسنا، إن هذه المحادثة مشوقة أكثر من اللازم لعجوز مثلي، أعتقد أنني سأذهب للاضطجاع في فراشي قليلا في الطابق العلوي.» •••
تقول إرلما بعد أن نسمع خطوات أبي البطيئة على الدرج: «إنه ليس كعادته؛ فهو يشعر بالإرهاق منذ يومين أو ثلاثة الآن.»
أقول وبداخلي شعور بالذنب لعدم ملاحظتي ذلك: «حقا؟» يبدو لي الآن مثلما يبدو لي دائما حين تجمعني زيارة مع إرلما؛ مضطربا ومتوجسا بعض الشيء، وكأن عليه أن يكون يقظا ، كأن الأمر يتطلب بعض الطاقة لكي تشرح كل منا موقفها وتدافع عنه أمام الأخرى.
تقول إرلما: «إنه ليس على ما يرام. أستطيع أن أجزم بذلك.»
تلتفت لهاري الذي كان قد ارتدى سترته.
تقول له وقد حالت بينه وبين الباب لتعترض طريقه: «فقط أخبرني بشيء قبل أن تخرج من هذا الباب. أخبرني كم من الحبال يلزم لتقييد امرأة؟»
يتظاهر هاري بالتفكير ويقول: «امرأة ضخمة أم رفيعة؟» «أي امرأة من أي حجم.» «أوه، لا أستطيع أن أخبرك. لا أستطيع.»
تقول إرلما: «خصيتان وقضيب.» ويطالنا بعض الرذاذ البعيد من مدى الضحكة المكبوتة التي شعر بها هاري. «إرلما، أنت فظيعة.» «أنا كذلك. أنا فظيعة. أنا كذلك.» •••
أذهب مع أبي في السيارة لتسليم البطاطس لجو تومس. «ألست على ما يرام؟» «لست في أفضل حال.» «ما وجه هذا الشعور؟» «لا أعلم، لا أستطيع النوم، لن أفاجأ إذا أصبت بالأنفلونزا.» «هل ستستدعي الطبيب؟» «إذا لم أشعر بتحسن، فسوف أستدعي الطبيب. لكن إذا استدعيته الآن فأنا فقط أضيع وقته.»
جو تومس، الذي يكبرني بحوالي عشر سنوات، رجل واهن ومرتجف على نحو مثير للانزعاج، وذو ذراعين طويلتين هزيلتين، ووجه وسيم فاسد وغير محلوق، وعينين ضعيفتين. لا أستطيع أن أدرك كيف يمكنه ضرب أي شخص، يتلمس طريقه ليقابلنا ويأخذ جوال البطاطس، ويحثنا على الدخول إلى الكارافان المليء بالدخان.
يقول: «أعتزم أن أسدد لك ثمنه هنا. فقط أخبرني كم يساوي؟»
فيقول أبي: «لا عليك.»
تقف امرأة بدينة عند الموقد تقلب شيئا في قدر.
فيقول أبي: «بيجي، هذه ابنتي. إن هذا الذي تطهينه رائحته طيبة.»
لا تجيب، فيقول جو تومس: «إنه أرنب قدم إلينا كهدية. لا جدوى من الحديث إليها؛ فهي لن تسمعك. إنها صماء وأنا كفيف. أليس هذا من فعل الشيطان؟ إنه مجرد أرنب، ولكننا لا نرفض الأرانب؛ فالأرانب طعام نظيف.»
يتضح لي الآن أن السيدة ليست بدينة على الإطلاق. فقد كان الجزء العلوي من ذراعها المتاخم لنا لا يتناسب مع جسدها؛ إذ كان متورما كالفطر النفاث. كان الكم منزوعا من ردائها، تاركا منطقة الإبط منسلة تتدلى منها الخيوط، جاعلا لحمها المتورم مكشوفا ومتلألئا في وسط دخان وظل الكارافان.
يقول أبي: «يكفي هذا الأرنب.»
يقول جو: «أعتذر لأنني لم أقدم لك شرابا، ولكن لا يوجد شراب هنا في المنزل، فلم نعد نشرب على الإطلاق.» «أصدقك القول، إنني أيضا أشعر بأنني لا أقوى عليه.» «لم يعد ثمة أي شراب منذ التحقنا بالمعبد المورموني أنا وبيجي. أسمعت بانضمامنا إليه؟» «كلا يا جو، لم أسمع بذلك.» «لقد فعلنا هذا. وكم من راحة جلبها لنا ذلك.» «عظيم.» «أدرك الآن أنني قد قضيت حياتي في الطريق الخطأ، وبيجي أيضا تدرك ذلك.»
فيقول أبي في تأمل: «امممم.» «أحدث نفسي بأن لا غرابة في أن الرب قد سلبني بصري، لقد جعلني ضريرا، ولكني أرى حكمته في ذلك. إنني أرى حكمة الرب؛ نحن لم ندخل المنزل قطرة واحدة من الشراب منذ أول عطلة نهاية أسبوع في شهر يوليو، كانت تلك هي آخر مرة. الأول من يوليو.»
يقرب وجهه من وجه أبي. «أترى حكمة الرب؟»
فيقول أبي وهو يتنهد: «أوه يا جو. جو، أعتقد أن كل ذلك ما هو إلا هراء.»
اندهش من ذلك؛ لأن أبي عادة ما كان رجلا لديه قدر كبير من الدبلوماسية والقدرة على بعض المراوغة الرقيقة؛ فلطالما كان يتحدث إلي، بأسلوب شبه تحذيري، عن الحاجة إلى التوافق مع الناس وعدم استفزازهم.
وكانت دهشة جو تومس أكبر من دهشتي. «أنت لا تقصد قول ذلك، لا تقصده. أنت لا تعرف ما تقول، أليس كذلك؟» «نعم، أعرف.» «إذن عليك أن تقرأ كتابك المقدس، وعليك أن ترى كل ما يقوله.»
فيضرب أبي بيديه على ركبتيه في عصبية أو نفاد صبر. «من الممكن لأي شخص أن يتفق أو يختلف مع الكتاب المقدس يا جو؛ فالكتاب المقدس مجرد كتاب مثل أي كتاب آخر.» «من الإثم أن تقول ذلك. لقد كتب الرب الكتاب المقدس وخطط العالم وخلقه وخلق كل واحد منا يعيش هنا.»
يقول أبي وهو يزيد من ضرب يده على ركبتيه: «لا أعرف شيئا عن ذلك يا جو، لا أعرف، وإذا تحدثنا عن تخطيط العالم، فمن قال إنه لا بد أن يكون قد خطط له من الأساس؟» «حسنا، فمن الذي خلقه؟» «لا أعرف الإجابة، ولا أهتم بذلك.»
أرى أن وجه أبي على غير عادته؛ فلا يبدو عليه القبول والاستساغة (اللذان كانا أكثر تعابيره شيوعا) ولا العبوس أيضا. يبدو عليه العناد والتعنت ولكن من دون تحد، كان فقط منغلقا على نفسه في كلل متعنت، وكأن شيئا بداخله قد تجمد ووصل إلى نقطة توقف. •••
يقود أبي السيارة متجها إلى المستشفى، وأنا أجلس بجواره وعلى ركبتي علبة صفيح قديمة، على استعداد لحملها له حال اضطر للوقوف على جانب الطريق وشعر بالغثيان مرة أخرى؛ فقد ظل ساهرا طوال الليل وتقيأ كثيرا، وفي الأوقات التي تخللت ذلك جلس إلى طاولة المطبخ يتطلع في «الأطلس التاريخي». يعرف هذا الرجل الذي قلما غادر مقاطعة أونتاريو بعض المعلومات عن أنهار آسيا والحدود القديمة في الشرق الأوسط، ويعرف أين يقع أعمق خندق في أرضية المحيط، ويعرف مسار فتوحات الإسكندر الأكبر، ومسار فتوحات نابليون، وأن الخزر قد أنشئوا عاصمتهم عند التقاء نهر الفولجا ببحر قزوين.
قال إنه يعاني من ألم في كتفيه وظهره، وما كان يسميه عدوه القديم؛ ألم البطن.
في حوالي الساعة الثامنة صعد إلى الطابق العلوي ليحاول النوم، وقضيت أنا وإرلما الصباح في الحديث والتدخين في المطبخ، آملتين أن يكون قد فعل ذلك.
راحت إرلما تتذكر ما كان لها من تأثير على الرجال، والذي بدأ مبكرا حين حاول أحد الرجال التغرير بها حين كانت تشاهد إحدى المسيرات ولم تزل في التاسعة من عمرها. وخلال السنوات الأولى من زيجتها الأولى وجدت نفسها تسير في أحد شوارع تورونتو تبحث عن مكان كانت قد سمعت عنه يبيع قطع غيار للمكانس الكهربائية. فقال لها رجل، وكانت لا تعرفه: «دعيني أسد إليك نصيحة يا سيدتي الصغيرة، لا تسيري في المدينة وعلى وجهك مثل هذه الابتسامة؛ فقد يسيء الناس فهمها.» «لم أكن أعرف كيف كنت أبتسم . لم أكن أقصد أي سوء؛ فقد كنت دوما ما أبتسم أكثر مما أعبس. لم أذهل في حياتي قط مثلما ذهلت حينها.» «لا تسيري في المدينة وعلى وجهك مثل هذه الابتسامة.» تنحني إلى الوراء في مقعدها، فاتحة ذراعيها في قلة حيلة، وتضحك.
تقول: «كم كنت مثيرة! ولم أدر حتى ذلك.»
تخبرني بما كان أبي يقوله لها، كان يقول لها إنه كان يتمنى لو كانت هي من صارت زوجته من البداية وليس أمي. «هذا ما قاله. قال إنني أنا من كانت ستناسبه، وإنه كان من المفترض أن يكون هو أول من يتزوجني.»
وهذه هي الحقيقة، على حد قولها. •••
حين نزل أبي، قال إنه قد تحسن، وإنه قد نال قدرا قليلا من النوم وإن الألم قد تلاشى، أو على الأقل ظن أنه يتلاشى. كان بإمكانه أن يحاول تناول شيء؛ فقدمت له إرلما شطيرة، وبيضا مقليا، وصوص تفاح، وكوبا من الشاي. حاول أبي أن يتناول كوب الشاي، ثم تقيأ وظل يتقيأ مادة صفراء.
ولكن قبل أن يغادر إلى المستشفى كان عليه أن يصطحبني إلى الحظيرة ليريني مكان التبن، وكيف أضعه للأغنام. يربي هو وإرلما 24 رأسا أو نحو ذلك من الأغنام، لا أعرف لماذا يفعلان ذلك؛ فلا أظن أنهما يتكسبان من الأغنام ما يكفي من المال لكي يكون هذا العمل الذي يتكبدانه بسببها يستحق العناء. ربما يكون من قبيل الطمأنة فقط أن يكون ثمة بعض الحيوانات حولهما. كان لديهما كلب باستر بالطبع، ولكنه ليس من حيوانات المزرعة بالمعنى الدقيق؛ فالأغنام تولد مهاما؛ أعمالا حقلية تظل بحاجة إلى القيام بها، وهو نوع العمل الذي عرفاه طوال حياتهما.
الأغنام لا تزال ترعى بالخارج، ولكن الحشائش التي تتغذى عليها فقدت بعضا من قيمتها الغذائية - إذ كانت هناك عاصفتان من الصقيع - لذا لا بد أن تتناول التبن كذلك. •••
أجلس في السيارة بجواره حاملة العلبة ونتبع ذلك الطريق القديم المعتاد ببطء - شارع سبنسر، شارع الكنيسة، شارع ويكسفورد، شارع ليدي سميث - نحو المستشفى. البلدة لا تزال على حالها إلى حد كبير على عكس المنزل ؛ فما من شخص يسعى لتجديدها أو تغييرها. غير أنها تغيرت في نظري. لقد كتبت عنها واستهلكت كل مكان فيها؛ فلا تزال هنا على نحو أو آخر نفس البنوك ومتاجر الأدوات المعدنية والبقالة وصالون الحلاقة وبرج مجلس البلدة، غير أن كل رسائلها البلدة الكثيرة والسرية التي كانت تبعث بها إلي تلاشت جميعا.
ولكن لم تتلاش بالنسبة إلى أبي؛ فقد عاش هنا وليس في أي مكان آخر، ولم يهرب من الأشياء عن طريق مثل هذا الاستخدام. •••
يحدث أمران غريبان بعض الشيء عند اصطحابي لأبي إلى داخل المستشفى؛ يسألونني عن عمره، وأجيب على الفور: «اثنان وخمسون»، وهو عمر رجل تربطني به علاقة حب. فأضحك وأعتذر وأهرع إلى السرير الذي يرقد عليه في قسم الطوارئ، وأسأله إن كان عمره اثنين وسبعين أم ثلاثة وسبعين؛ فينظر إلي وكأن السؤال قد أثار استغرابه هو الآخر، ويقول: «معذرة.» بأسلوب رسمي لكي يكسب وقتا للتركيز، ثم يستطيع أن يخبرني بأنه في الثانية والسبعين. تسري رعشة بسيطة عبر جسده بأكمله، إلا أن ذقنه يرتعش على نحو ملحوظ مثلما كان يحدث مع أمي. وفي خلال الفترة القصيرة منذ دخوله المستشفى حدث بعض الاستسلام. بالطبع كان يعرف أنه سيحدث، وهذا ما جعله عازفا عن القدوم. تأتي الممرضة لقياس ضغط الدم لديه ويحاول أن يشمر كم قميصه ولكنه لا يستطيع؛ فتضطر هي للقيام بذلك بدلا منه.
تقول لي الممرضة: «يمكنك الذهاب والجلوس في الغرفة بالخارج؛ فالجلوس هناك مريح أكثر.»
أما الشيء الغريب الثاني، فيتصادف أن الطبيب باراكولام، طبيب أبي الخاص - والمعروف محليا بالطبيب الهندوسي - هو الطبيب المتأهب للاستدعاء في قسم الطوارئ. يصل بعد فترة وأسمع أبي يبذل جهدا لتحيته بطريقة دمثة لطيفة. وأسمع الستائر تسدل حول السرير. وبعد الفحص يخرج الطبيب باراكولام ويتحدث إلى الممرضة التي كانت وقتها مشغولة على المكتب الموجود في الغرفة التي أنتظر فيها. «حسنا. أدخلوه. في الطابق العلوي.»
يجلس الطبيب قبالتي بينما تتحدث الممرضة في الهاتف.
تقول عبر الهاتف: «لا؟ حسنا إنه يريده هناك. لا . حسنا، سوف أبلغه .» «يقولون إنه سيضطر لدخول عنبر 3ج؛ فلا توجد أسرة.»
فيقول الطبيب: «لا أريده في قسم الحالات المزمنة، أريده في قسم الرعاية المركزة، أريده بالطابق العلوي.» ربما يتحدث إليها بطريقة أكثر تسلطا، أو بنبرة أقرب إلى شخص مغلوب على أمره، من طبيب نشأ في هذه البلاد.
فتقول: «حسنا، إذن، ربما عليك أن تتحدث إليهم. أتريد التحدث إليهم؟»
إنها ممرضة طويلة نحيلة، في منتصف العمر، مرحة وذات لهجة عامية، وتتصرف قليلا كالرجال، ونبرتها معه أقل تحفظا، وأقل لياقة واحتراما من النبرة التي توقعت أن تعتمدها ممرضة مع طبيب. ربما هو ليس بالطبيب الذي يحظى باحترام من حوله. أو ربما أن نساء هذه البلاد والبلدة الصغيرة، اللاتي يتسمن عامة بالتحفظ الشديد في آرائهن، يمكن في الغالب أن يكون أسلوبهن متسلطا وجريئا.
يلتقط الطبيب باراكولام سماعة الهاتف. «لا أريده في قسم الحالات المزمنة. أريده في الطابق العلوي. حسنا، ألا تستطيعون - نعم أعرف. ولكن ألا تستطيعون؟ - هذه حالة - أعلم. ولكنني أقول - نعم. نعم حسنا. حسنا. فهمت.»
ويضع السماعة ويقول للممرضة: «أنزليه إلى عنبر 3ج.» وتأخذ سماعة الهاتف لترتيب الأمر.
قلت له: «ولكنك تريده في قسم الرعاية المركزة»، ظنا مني أنه لا بد أن ثمة طريقة ما يمكن بها أن تكون لاحتياجات أبي الغلبة. «نعم، أريده هناك، ولكن ما من شيء بإمكاني فعله إزاء ذلك.» لأول مرة ينظر إلي الطبيب مباشرة وربما صرت أنا الآن عدوته، وليس الشخص الذي على الهاتف. إنه رجل أنيق قصير القامة، وذو بشرة بنية، وعينين كبيرتين لامعتين.
قال لي: «لقد بذلت أقصى ما في وسعي. ماذا يمكنني أن أفعل أكثر من ذلك في ظنك؟ ما قيمة الطبيب؟ لم يعد الطبيب يساوي شيئا الآن.»
لا أعلم من يظن أنه الملام في ذلك - الممرضات، أم المستشفى، أم الحكومة - ولكنني لم أعتد رؤية الأطباء بهذا الانفعال، وآخر شيء أريده منه هو الاعتراف منه بالعجز وقلة الحيلة؛ فهذا يبدو نذير شؤم على أبي.
فقلت: «أنا لا ألومك ...» «حسنا إذن. لا تلوميني.»
تفرغ الممرضة من الحديث عبر الهاتف ، وتخبرني بأن علي التوجه إلى قسم الإدخال وملء بعض الاستمارات، وتقول: «أمعك بطاقته؟» ثم تخاطب الطبيب قائلة: «إنهم يدخلون شخصا صدمته سيارة على طريق لاكناو السريع. وبقدر ما فهمت، حالته ليست سيئة جدا.» «حسنا، حسنا.» «إنه يومك!» •••
يودع أبي في عنبر مكون من أربعة أسرة، أحدها خاو، وفي السرير المجاور له، بجانب النافذة، يوجد رجل عجوز ينام مستلقيا على ظهره ويتلقى الأكسجين ولكن يستطيع التحدث. يقول إنه خلال العامين المنصرمين خضع لتسع عمليات جراحية، وأمضى معظم العام الفائت في مستشفى المحاربين القدماء في المدينة. «لقد استأصلوا كل شيء استطاعوا استئصاله ثم أتخموني بحبات الدواء وأرسلوني إلى المنزل كي أموت.» يقول هذا وكأنه دعابة ألقاها عدة مرات بنجاح.
في حوزة هذا الرجل راديو كان يشغله على محطة لموسيقى الروك. ربما هذا هو كل ما استطاع الوصول إليه، وربما كان يحبها.
على الجانب الآخر من أبي كان ثمة سرير لمسن آخر كان قد نقل منه ووضع على كرسي متحرك. هذا الرجل له شعر أبيض قص على نحو قصير للغاية، ولكن لا يزال كثيفا، وله الرأس الكبير والجسد النحيل المميز الذي لطفل سقيم. يرتدي رداء مستشفى قصيرا ويجلس في الكرسي المتحرك وساقاه متباعدتان، كاشفا عن خصيتين بنيتين جافتين. توجد صينية في مقدمة الكرسي مثل تلك الموجودة في كرسي الأطفال العالي، وكان قد أعطي منشفة وجه ليلعب بها. يلف هذا الرجل المنشفة على هيئة أسطوانة ويطرقها ثلاث مرات بقبضة يده، ثم يحلها ويعاود لفها مجددا بعناية، ويطرقها مرة أخرى. كان دائما يطرقها ثلاث مرات، مرة عند كل طرف من طرفيها ومرة في المنتصف. ويستمر هذا الفعل طوال الوقت.
يقول أبي بصوت خفيض: «ديف إيلرز.» «أتعرفينه؟» «بالتأكيد، إنه عامل السكة الحديد العجوز.»
يرمقنا عامل السكة الحديد العجوز بنظرة سريعة، دون أن يوقف ما يقوم به، ويقول بنبرة تحذير: «ها.»
فيقول أبي دون سخرية كما بدا: «لقد تدهورت حالته.»
فأقول: «حسنا، أنت أجمل رجل في الغرفة والأكثر أناقة أيضا.»
حينئذ يبتسم بوهن وإرهاق. كانوا قد سمحوا له بارتداء بيجامته المقلمة باللونين الكستنائي والرمادي التي أخرجتها إرلما له من علبتها، حيث كانت هدية تلقاها بمناسبة الكريسماس. «ألا تشعرين أن حرارتي مرتفعة قليلا؟»
ألمس جبهته لأجدها ملتهبة من الحرارة.
فأميل نحوه هامسة: «ربما قليلا، سوف يعطونك شيئا، أعتقد أيضا أنك قد حصدت ميزة الدخول المبكر في نطاق الخطر الفكري.»
فيقول: «ماذا؟ أوه.» وينظر حوله، ثم يردف قائلا: «ربما لا أستطيع أن أحتفظ بها.» وحتى بينما يقول هذا يرمقني بتلك النظرة العاجزة التي تعلمت تفسيرها اليوم، وعلى الفور أنتزع الحوض الصغير من الحامل القابع بجوار السرير وأحمله له.
وبينما أبي يحاول التقيؤ، إذا بالرجل الذي أجرى تسع جراحات يرفع صوت الراديو على أغنية تقول:
جالس على السقف
أنظر من أعلى إلى أسفل
أشاهد جميع الناس
وهم يدورون ويدورون.
أعود إلى المنزل وأتناول العشاء مع إرلما. وسأذهب إلى المستشفى مجددا بعد العشاء، على أن تذهب إرلما غدا؛ فقد قال أبي إنه من الأفضل ألا تأتي إرلما الليلة.
قال: «انتظري حتى تصبح حالتي تحت السيطرة، لا أريد أن أزعجها.»
تقول إرلما: «إن باستر في مكان ما بالخارج. لا أستطيع أن أناديه ليعود. وإذا لم يأت إلي، فلن يذهب إلى أي شخص آخر.»
باستر هو كلب إرلما في الأساس؛ فهو الكلب الذي أحضرته معها حين تزوجت أبي. كان نصفه شيبرد ألمانيا والنصف الآخر كولي اسكتلنديا، وهو كلب عجوز جدا وله رائحة كريهة، وكئيب على نحو عام. إن إرلما على حق؛ فهو لا يثق بأحد سواها. ومن وقت لآخر خلال أكلنا، تنهض وتناديه من عند باب المطبخ. «تعال إلى هنا يا باستر. باستر، باستر. عد إلى المنزل.» «أتودين أن أخرج وأناديه؟» «لن يجدي ذلك. فلن يلقي بالا لك.»
يبدو لي صوتها أضعف وأكثر إحباطا عند مناداتها على باستر عما تسمح له أن يكون حين تتحدث مع أي شخص آخر. تصفر له، بأقوى ما تستطيع، ولكن تصفيرها أيضا يفتقد الحيوية والقوة.
تقول: «أراهنك أنني أعرف أين ذهب. عند النهر .»
يدور بخلدي أنني سأضطر لارتداء حذاء أبي العالي المطاطي وأذهب للبحث عنه بصرف النظر عما تقوله. حينئذ، ودون أي ضجة أستطيع سماعها، ترفع رأسها وتهرع إلى الباب وتنادي: «تعال هنا أيها العجوز باستر. ها هو هناك. ها هو هناك. فلتحضر الآن. تعال يا باستر. ها هو العجوز هناك.»
تقول وهي تنحني وتحتضنه: «أين كنت؟ أين كنت أيها الشقي العجوز؟ أعلم، أعلم. لقد ذهبت وبللت نفسك في النهر.»
تفوح من باستر رائحة عفن وأعشاب النهر. ويتمطى على السجادة ما بين الأريكة وجهاز التليفزيون.
تقول وهي تحتضنه في المنشفة التي تستخدمها لتنظيفه: «لقد عاوده اضطراب معدته مرة أخرى، هذا كل ما في الأمر. هذا ما جعله ينزل إلى الماء؛ إنه يسبب له حرقة ما تجعله ينزل الماء ليخففها. ولكنه لن يشعر بأي راحة حقيقية حتى يخرجها. لا، لن يشعر براحة. مسكين هذا العجوز.»
توضح لي مثلما فعلت من قبل أن الاضطراب المعوي الذي يعاني منه باستر سببه التسكع في حظيرة الديوك الرومي والتهام أي شيء يجده هناك. «إنه يأكل بقايا الديوك النافقة والتي بها بعض الريش، فتدخل جسمه ولا يستطيع إخراجها مثلما يفعل الكلب الأصغر منه سنا؛ فهو لا يستطيع التعامل معها، فتتجمع في أمعائه وتسبب انسدادا هناك ولا يستطيع إخراجها ويظل يتألم. فقط أنصتي له.»
وبالفعل باستر ينخر ويتأوه، ويدفع نفسه باتجاه قدميه. «ربما يظل على ذلك طوال الليل. لا أعرف. ربما لا يستطيع إخراجها على الإطلاق. ولا يسعني عمل شيء إزاء ذلك سوى الخوف. أنا أعلم إن أخذته إلى العيادة البيطرية أنهم لن يساعدوه. سوف يكتفون بقول إنه عجوز جدا، ولن يرغبوا في حجزه.»
ويستمر باستر في التأوه. •••
يقول السيد إيلرز، عامل السكة الحديد: «لا أحد يعبأ حتى بالقدوم لوضعي في السرير.» إنه في السرير يجلس مسندا. كان صوته أجش وقويا، ولكنه لم يشأ إيقاظ أبي. جفنا أبي يرتعشان، وطاقم أسنانه قد نزع؛ ما جعل فمه يهبط عند الأركان، فيما تختفي شفتاه تقريبا. ترتسم على وجهه النائم نظرة من الإحباط الثابت المستعصي على التغيير.
يقول السيد إيلرز مخاطبا الردهة الساكنة: «أخرسوا تلك الضجة هناك. أخرسوها وإلا غرمتكم مائة وثمانين دولارا.»
فيقول الرجل صاحب الراديو: «فلتخرس أنت أيها المعتوه العجوز.» ثم يشغل الراديو. «مائة وثمانين دولارا.»
يفتح أبي عينيه ويحاول الجلوس في السرير ويضطجع في استرخاء، ويقول لي في نبرة شابها بعض الإلحاح: «كيف يمكننا أن نجزم بأن النتاج النهائي إنسان؟» «أخرج يديك من جيبي ...»
يقول أبي: «إنه التطور. ربما نكون قد أخطأنا فهم الموقف فيما يتعلق بذلك. ثمة شيء يدور لم نعرفه في البداية.»
ألمس جبهته فأجد حرارته مرتفعة كالعادة. «ما رأيك في ذلك؟» «لا أعرف يا أبي.»
لأنني لا أفكر في أمور كهذه. فعلتها مرة واحدة، ولكن لم أكررها مجددا أبدا؛ فكل تفكيري الآن في عملي وفي الرجال.
كانت قدرته على الحديث في طريقها إلى النفاد. «ربما تكون قادمة؛ عصور مظلمة جديدة.» «أتعتقد ذلك؟» «لقد تفوقت علينا إرلما نحن الاثنين.»
يبدو صوته رقيقا بالنسبة إلي، ولكن مشوبا بالحزن. بعدها يبتسم ابتسامة واهنة. أظن أن الكلمة التي ينطق بها هي ... «عجيبة». •••
ترحب بي إرلما لدى عودتي إلى المنزل قائلة: «لقد تجاوز باستر الأزمة.» وعلا وجهها بريق من الارتياح والانتصار. «أوه، هذا رائع.» «بعد أن ذهبت إلى المستشفى مباشرة، خلا إلى المهمة. سوف أعد لك فنجانا من القهوة حالا.» تشغل الغلاية، وكانت قد وضعت على الطاولة شطائر لحم خنزير، ومخللات بالمستردة، وجبنا، وقطع بسكويت، وعسلا أسود وأبيض، رغم فراغنا من العشاء قبل ساعتين فقط. «لقد بدأ ينخر ويجوب المكان جيئة وذهابا ويتململ على السجادة. كاد يجن من البؤس ولم يكن بيدي شيء أفعله. بعدها وفي حوالي السابعة والربع سمعت صوت التغيير. يمكنني أن أحدد من الصوت الذي يحدثه حين ينزوي إلى مكان أفضل حيث يمكنه أن يحاول التبرز. لا يزال هناك فطيرة متبقية، فنحن لم ننته منها. هل تفضلين تناول الفطيرة؟» «لا، أشكرك؛ فهذا جيد.»
ألتقط شطيرة لحم. «لذا أفتح الباب وأحاول إقناعه بأن يخرج حيث يمكنه التبرز.»
تصدر الغلاية صفيرها ، وتصب الماء على قهوتي الفورية . «انتظري دقيقة. سوف أحضر لك بعض اللبن الحقيقي، ولكن فات الوقت؛ فقد تبرز على السجادة هناك. كانت كتلة ضخمة كهذه.» تطبق قبضتيها معا وتريني إياهما، ثم تردف قائلة: «وهي صلبة. يا مسكين. لا بد أن تريها. إنها تشبه الصخرة.»
وتضيف: «وكنت على حق؛ فقد كانت ممتلئة عن آخرها بريش الديك الرومي.»
أقلب القهوة الداكنة.
تقول مخاطبة باستر الذي رفع رأسه: «وبعد ذلك تسارع الصوت مع نزول الفضلات اللينة. لقد حطمت السد.» ثم تقول وهي تدير ظهرها لي: «لقد نشرت رائحة كريهة عبر المكان. ولكن أغلبها كانت على السجادة؛ لذا أخرجتها وسلطت خرطوم الحديقة عليها، ثم أخذت الصابون وفرشاة الحك ثم شطفتها بالخرطوم مرة أخرى، ثم دعكت الأرضية أيضا ورششتها بالليزول، وتركت الباب مفتوحا. لا يمكن أن يصل إلى أنفك أي رائحة لها هنا الآن، أليس كذلك؟» «كلا.» «لا شك أنني كنت سعيدة حين رأيته وقد تخلص من معاناته. مسكين هذا العجوز. لو كان بشرا لكان عمره الآن أربعة وتسعين عاما.» •••
خلال أول زيارة قمت بها لأبي وإرلما بعد أن انفصلت عن زوجي واتجهت شرقا، ذهبت للنوم في الغرفة التي كانت غرفة نوم أبي وأمي؛ حيث صار أبي وإرلما ينامان في الغرفة التي كانت غرفتي. وحلمت بأنني قد دخلت لتوي هذه الغرفة التي كنت نائمة فيها بالفعل، ووجدت أمي جاثية على ركبتيها. كانت تطلي إزار الحائط باللون الأصفر. فقلت لها: ألا تعلمين أن إرلما سوف تطلي هذه الغرفة باللونين الأزرق والأبيض؟ فقالت أمي: بلى أعلم، ولكن أعتقد أنني لو أسرعت وانتهيت منها بالكامل، فسوف تدعها وشأنها ولن تكلف نفسها عناء طلائها من جديد، ولكنك ستضطرين لمساعدتي. سوف يكون عليك مساعدتي في الانتهاء من الطلاء؛ لأن علي أن أفعل ذلك بينما هي نائمة.
وقد كانت على نفس هذه الشاكلة بالضبط في الماضي؛ فكانت تبدأ شيئا بدفقة كبيرة من الطاقة، ثم تحشد الجميع لمساعدتها؛ بسبب نوبة مفاجئة من الإرهاق والعجز.
فقالت لي موضحة: «أنا ميتة كما تعلمين، لذا علي أن أقوم بذلك وهي نائمة.» ••• «لقد تفوقت علينا إرلما نحن الاثنين.»
ماذا كان أبي يقصد بذلك؟
أيقصد أنها لا تعرف سوى الأشياء النافعة لها، ولكنها تعرف تلك الأشياء جيدا؟ أنها كان يمكن الاعتماد عليها في الحصول على ما تحتاج إليه، تحت أي ظروف؟ كونها شخصا لا يفند رغباته، لا يشكك في أنه على صواب في أي شيء يشعر به أو يقوله أو يفعله؟
قلت في وصفي لها لأحد الأصدقاء إنها شخص على استعداد لفعل أي شيء من أجل مصلحتها. وبعدها بالطبع قلت، ما العيب في ذلك؟ «... عجيبة.» «إنها عجيبة.» •••
حدث شيء أشعر إزاءه بالخجل. حين قالت إرلما ما فعلته بشأن أمنية أبي أن لو كان قد عاش معها طوال حياته، وعن تفضيله لها عن أمي، قلت لها بنبرة باردة متزنة - تلك النبرة المهذبة التي تحوي بداخلها قدرة على إيذاء المشاعر - إنني لا أشك في كونه قد قال ذلك. (وأنا لست كذلك. فأنا وأبي تجمعنا عادة - ليست محمودة جدا - تجعلنا كثيرا ما نقول للناس ما نعتقد على نحو أو آخر أنهم يرغبون في سماعه.) قلت إنني لم أكن أشك في كونه قد قال ذلك، ولكن لا أظن أنه من الكياسة أن تخبرني بذلك. «كياسة»، نعم. تلك هي الكلمة التي استخدمتها.
كانت مندهشة من أن أحدا قد استطاع أن يحاول صفعها على هذا النحو، في الوقت الذي كانت فيه سعيدة بنفسها وفي أوج زهوها. وقالت إنه لو كان ثمة شيء لا تستطيع تحمله، فهو الناس الذين يسيئون فهمها، الناس بالغو الحساسية، واغرورقت عيناها بالدموع. ولكن حينئذ نزل أبي ونسيت شكواها - على الأقل نسيتها مؤقتا - في خضم لهفتها للعناية به، وتقديم شيء له يستطيع تناوله.
في خضم لهفتها؟ أستطيع أن أقول: في خضم حبها؛ فقد تهلل وجهها وتورد وبش وتخضب بالحب. •••
أتحدث إلى الطبيب باراكولام عبر الهاتف. «ما سبب هذا الارتفاع في درجة حرارته في اعتقادك؟» «إنه يعاني من عدوى في مكان ما.» الكلمة التي لم يقلها هي «من الواضح». «هل يأخذ ... حسنا، أعتقد أنه يأخذ مضادات حيوية لذلك، أليس كذلك؟» «إنه يأخذ كل شيء.»
لحظة صمت. «حسب رأيك، أين توجد العدوى ...» «إنني أجري له تحاليل اليوم. تحاليل دم، ورسم قلب آخر.» «أتظن أنه قلبه؟» «نعم. أظن أنه هو في الأساس. هذه هي المشكلة الأساسية؛ قلبه.» •••
في عصر يوم الإثنين، تذهب إرلما إلى المستشفى. كنت سأصطحبها إلى هناك - فلم تكن تجيد القيادة - لولا أن جاء هاري كروفتون في شاحنته وقررت أن تذهب معه، حتى يتسنى لي البقاء بالمنزل؛ فهي وأبي ينزعجان من فكرة «عدم وجود أحد بالمنزل».
أخرج إلى الحظيرة، وأحضر حزمة من التبن وأقطع الخيط المحيط بها وأقسم التبن وأوزعه.
حين آتي إلى هنا، عادة ما أمكث من ليل الجمعة حتى ليل الأحد، لا أكثر، والآن وقد امتدت إقامتي للأسبوع التالي، فيبدو لي أن شيئا في حياتي قد خرج عن نطاق السيطرة. لا أشعر بالثقة كثيرا في كونها مجرد زيارة؛ فلم تعد الحافلات المتنقلة من مكان إلى مكان تبدو مرتبطة بي.
أرتدي صندلا مفتوحا من جلد جاموس الماء الرخيص. هذا النوع من النعال يرتديه الكثير من النساء ممن أعرفهن، ويعتبر دلالة على تفضيل للحياة الريفية، وإيمان بكل ما هو بسيط وطبيعي. ولكنه غير عملي حين تقوم بعمل مثل الذي أقوم به الآن؛ فقد كانت أجزاء من التبن وروث الأغنام، الذي كان أشبه بحبات زبيب سوداء كبيرة، تسحق بين أصابع قدمي.
تأتي الأغنام لتحتشد نحوي. ولما كان صوفها قد اجتز في الصيف، فقد عاد للنمو مجددا، ولكنه لم يكن طويلا جدا بعد. بعد جز صوفها مباشرة، تبدو الأغنام من بعيد كالماعز على نحو مثير للدهشة، بل وتفتقر إلى النعومة والثقل. فتبرز عظام الوركين الكبيرة والجباه المقلمة. أتحدث إليها في خجل نوعا ما وأنا أنشر التبن، وأضع لها الشوفان في الحوض الطويل.
يقول بعض من معارفي إن هذا النوع من الأعمال مجدد للنشاط وذو مهابة فريدة وخاصة، ولكنني جبلت عليه، وشعوري تجاهه مختلف؛ فمن الممكن أن يحاصرني الزمان والمكان، ومن الممكن بسهولة للغاية أن أبدو وكأنني لم أهرب أبدا من هنا، وأنني قد قضيت حياتي بأسرها هنا. كأن حياتي في مرحلة النضج كانت أشبه بحلم لم يتحقق له السيطرة علي مطلقا. لا أرى نفسي مثل هاري وإرلما، اللذين كان عليهما أن يزدهرا في هذه الحياة إلى حد ما، أو مثل أبي، الذي أقلم نفسه لكي يتلاءم معها، بل أشبه بواحدة من هؤلاء الأسرى المقيدين، الذين لا يتوافقون معها - ممن لا نفع لهم، ويعيشون وحدهم دون شريك، وكأن الصدأ قد طالهم - الذين كان ينبغي أن يغادروها، ولكن لم يفعلوا، أو بالأحرى لم يستطيعوا، وباتوا لا يصلحون لأي مكان قط. أتخيل رجلا ترك أبقاره تتضور جوعا حتى الموت ذات شتاء بعد وفاة والدته، لا لأنه قد تجمد من الحزن، بل لأنه لم يكن يعبأ بالخروج إلى الحظيرة لإطعامها، ولم يكن ثمة أحد ليخبره بأن عليه أن يفعل ذلك. بإمكاني تصديق ذلك، بإمكاني أن أتخيله. بإمكاني أن أرى نفسي كابنة في منتصف العمر أدت واجبها، ومكثت في المنزل تعتقد أنها يوما ما ستواتيها فرصتها إلى أن أفاقت وأدركت أنها لن تأتي. والآن صارت تقضي الليل بأكمله تقرأ ولا تجيب على من يطرق بابها، وتخرج في غيبوبة عابسة لإعطاء التبن للأغنام. •••
بينما أنا بصدد الانتهاء من إطعام الأغنام، تأتي كوني ابنة شقيقة إرلما وتدخل بسيارتها إلى فناء الحظيرة، بعد أن أخذت ابنها الأصغر من المدرسة الثانوية وجاءت للاطمئنان علينا.
كوني أرملة تعول ابنين وتملك مزرعة صغيرة تقع على بعد بضعة أميال. وتعمل ممرضة مساعدة في المستشفى. وإلى جانب كونها ابنة شقيقة إرلما، فهي ابنة عم من الدرجة الثانية لي؛ وفي ظني أن علاقة أبي بإرلما قد توطدت أكثر عن طريقها. لها عينان بنيتان ولامعتان، مثل إرلما، ولكنهما أكثر مراعاة للآخرين وأقل مطالب. وجسدها قوي، وبشرتها جافة، ولذراعيها عضلات قوية، وشعرها الداكن قصير جدا وعلى وشك المشيب. وصوتها وتعبير وجهها يحمل سحرا متقطعا، ولا تزال حركتها كحركة راقص جيد. تضع أحمر شفاهها وتزين عينيها قبل الذهاب إلى العمل ومرة أخرى عند انتهائه، ووجهها ينضح بما قد تصفه وصفا غير كاف بمعنويات مرتفعة، أو حس دعابي جيد، أو رقة إنسانية، وهي نتاج حياة لم تكن الاختيارات المتاحة فيها كثيرة، وليس بها قدر وافر من الحظ.
أرسلت ابنها ليغلق لي البوابة - كان ينبغي أن أفعل ذلك - لمنع الأغنام من الانحراف نحو الحقل السفلي.
قالت إنها قد توجهت لزيارة أبي في المستشفى وإنه يبدو في حال أفضل كثيرا اليوم، وانخفضت حرارته وتناول غداءه.
قالت لي: «لا بد أنك متلهفة للعودة إلى حياتك.» تقول ذلك وكأن ذلك هو الشيء الطبيعي في العالم وهو نفس ما كانت ستريده هي ذاتها لو كانت في مكاني. ليس بإمكانها معرفة أي شيء عن حياتي التي تتلخص في الجلوس في إحدى الغرف للكتابة والخروج أحيانا لمقابلة صديق أو حبيب، ولكن لو كانت تعلم، لربما قالت إن لدي الحق في فعل ذلك. «يمكنني أنا والصبيين أن نصعد ونفعل ما يجب أن نفعله للخالة إرلما. قد يمكث أحدهما معها إذا لم ترغب في البقاء وحدها. يمكننا تدبير الأمور الآن على أي حال. يمكنك الاتصال لمعرفة التطورات. ويمكنك أن تعودي مجددا في عطلة نهاية الأسبوع. ما رأيك؟» «هل أنت واثقة من أن كل شيء سيكون على ما يرام؟»
تقول: «لا أظن أن الأمر رهيب إلى هذا الحد. إنه يسير كما يسير عادة، لا بد أن تعاني بعض المخاوف قبل أن يسدل الستار كما تعلمين. هذا هو المعتاد على أي حال.»
أفكر أن بإمكاني المجيء إلى هنا سريعا إذا اضطررت لذلك، وبإمكاني دائما أن أستأجر سيارة.
فأردفت قائلة: «بإمكاني أن آتي لزيارته يوميا؛ فأنا وهو صديقان، وسوف يتحدث إلي. سوف أطمئن عليه وأبلغك بأي شيء، أعني حال حدوث أي تغيير أو أي شيء.»
ويبدو أن هذا هو ما سيكون عليه الحال.
أذكر شيئا قاله لي أبي ذات مرة: «لقد أعادت لي إيماني بالنساء.»
كان يقصد الإيمان بغريزة النساء، غريزتهن الطبيعية، شيء عاطفي ونشط وواضح. شيء لا أملكه، على حد اعتقادي؛ شيء مكبوت بداخلي. ولكنني بينما أتحدث الآن إلى كوني، أستطيع أن أدرك المزيد مما كان يقصده بهذه المقولة، على الرغم من أنه لم يكن يتحدث عن كوني، بل عن إرلما. •••
حين أفكر في كل هذا فيما بعد، سوف أدرك أن ذلك الركن البعيد من الحظيرة حيث كنت واقفة لتوزيع التبن، وحيث بدأ الذعر يحل بي، هو مشهد أول ذكرى واضحة في حياتي؛ فهناك في هذا الركن سلم ذو درجات خشبية منحدرة تؤدي إلى مخزن التبن، وفي داخل المشهد أتذكر جلوسي على الدرجة الأولى أو الثانية أشاهد أبي يحلب البقرة المرقطة بالأبيض والأسود. أعرف ماذا كان هذا العام؛ فقد نفقت البقرة المرقطة بالأبيض والأسود إثر إصابتها بالالتهاب الرئوي في أسوأ شتاء شهدته في طفولتي، وكان عام 1935. وكانت تلك خسارة فادحة ليس من الصعب تذكرها.
ولما كانت البقرة لا تزال على قيد الحياة وأنا أرتدي ملابس ثقيلة نوعا ما، عبارة عن معطف صوفي وبنطال ضيق، وفي وقت الحلب يكون قد حل الليل - حيث يوجد مصباح معلق على مسمار بجوار المربط - فعلى الأرجح أننا في أواخر الخريف أو بدايات الشتاء. ربما كنا لا نزال في عام 1934، قبيل حلول وطأة فصل الشتاء مباشرة.
المصباح معلق على المسمار. البقرة المرقطة بالأبيض والأسود تبدو كبيرة على نحو ملحوظ ومميزة على نحو قاطع، على الأقل مقارنة بالبقرة الحمراء، أو البقرة الداكنة الضاربة إلى الحمرة، الناجية من الشتاء المدمر، في المربط المجاور. يجلس أبي على كرسي الحلب ذي الأرجل الثلاثة في ظل البقرة. بإمكاني أن أتذكر إيقاع سيلي اللبن في طريقهما إلى الدلو، ولكن ليس الصوت ذاته. ربما شيء صلب وخفيف مثل كرات البرد؟ وخارج المساحة الصغيرة من الحظيرة المضاءة بالمصباح توجد المعالف الممتلئة بالتبن الخشن، وحوض الماء حيث ستغرق قطتي الصغيرة بعد بضعة أعوام في المستقبل؛ والنوافذ التي يغطيها نسيج العنكبوت، والأدوات الكبيرة القاسية - المناجل، والفئوس، والجرافات - معلقة بعيدا عن متناولي. وخارج تلك المساحة، يعم ظلام ليالي الريف حين كانت بعض السيارات القليلة ترتاد طريقنا ولم تكن ثمة أي مصابيح خارجية.
وهناك البرد الذي لا بد وأنه كان يتراكم حتى في هذا الحين، متحولا إلى البرد القارس الذي ساد ذلك الشتاء غير العادي الذي قتل كل أشجار الكستناء والعديد من البساتين.
لماذا تريد أن تعرف؟
كنت قد رأيت السرداب قبل زوجي. كان على الجانب الأيسر، الجانب الذي يجلس فيه في السيارة، ولكنه كان مشغولا بالقيادة؛ فقد كنا على طريق ضيق غير ممهد.
قلت: «ماذا كان ذلك؟ شيء غريب.»
كان ربوة كبيرة غير طبيعية مغطاة بالحشائش.
انعطفنا بمجرد أن استطعنا العثور على مكان للانعطاف، رغم أنه لم يكن لدينا الكثير من الوقت؛ فقد كنا في طريقنا لتناول الغداء مع أصدقاء يعيشون على الخليج الجورجي. ولكننا مهووسون بهذه القرية، ونحاول ألا نترك أي شيء يفوتنا منها دون أن نشاهده.
ها هو هذا الشيء يقبع هناك في منتصف جبانة ريفية صغيرة، مثل حيوان صوفي كبير، مثل ومبت عملاق يجلس في استرخاء في مشهد من عصور ما قبل التاريخ.
تسلقنا ركاما ما ونزعنا خطاف إحدى البوابات وذهبنا لمشاهدة الطرف الأمامي لهذا الشيء. كان ثمة حائط حجري بين قوس علوي وسفلي، وحائط من الطوب داخل القوس السفلي. لا أثر لأسماء أو تواريخ، لا شيء سوى صليب رفيع منقوش بإمعان داخل الحجر المركزي للقوس العلوي، كأنه منقوش بعصا أو إصبع. على الطرف السفلي الآخر للربوة، لم يكن ثمة شيء سوى تراب وحشائش وبعض الأحجار الكبيرة البارزة، ربما وضعت هناك لتثبيت التراب في موضعه. لا وجود لأي علامات عليها أيضا؛ لا دلائل على هوية الشخص أو الشيء الذي ربما كان مختبئا بالداخل.
ثم عدنا إلى السيارة. •••
بعد حوالي عام من تلك الواقعة، تلقيت مكالمة هاتفية من الممرضة التي تعمل في عيادة طبيبي. كان الطبيب يرغب في رؤيتي، وتم تحديد موعد، علمت دون سؤال بما ستدور حوله هذه المقابلة؛ فقبل ثلاثة أسابيع أو نحو ذلك، ذهبت إلى إحدى العيادات بالمدينة لإجراء أشعة على ثديي. ولم يكن ثمة سبب خاص دفعني إلى ذلك، فلم تكن توجد أي مشكلة، كل ما في الأمر أنني قد وصلت إلى السن الذي يحبذ فيه إجراء أشعة على ثديي كل عام. غير أنني أغفلت عمل تلك الأشعة العام الماضي لانشغالي بالكثير من المهام الأخرى.
وها هي نتائج الأشعة قد أرسلت إلى طبيبي الآن.
كانت ثمة كتلة صلبة في عمق الثدي الأيسر، لم أستطع أنا ولا طبيبي استشعار وجودها، ولم نزل لا نستطيع تلمسها. قال طبيبي إنها ظهرت في الأشعة في حجم حبة البازلاء، وحدد لي موعدا لزيارة طبيب بالمدينة لأخذ عينة منها. وبينما كنت على وشك المغادرة، إذا به يضع يده على كتفي. كانت إشارة اهتمام أو طمأنة؛ فهو صديق لنا، وكنت أعرف أن وفاة زوجته الأولى قد بدأت على هذا النحو بالضبط. •••
كان لا يزال متبقيا عشرة أيام قبل أن أتمكن من زيارة طبيب المدينة؛ فشغلت تلك الفترة بالرد على الخطابات وتنظيف منزلي وتفحص ملفاتي ودعوة الناس على العشاء. كان شغل نفسي على هذا النحو بدلا من التفكير فيما قد تسميه أمورا أهم وأعمق بمنزلة مفاجأة لي؛ فلم أمارس أي قراءة جادة أو أستمع إلى الموسيقى، ولم أدخل في شردة مضطربة كما أفعل في الغالب، بالنظر من النافذة الكبيرة في الصباح الباكر مع تسلل ضوء الشمس عبر أشجار الأرز. لم أشأ حتى أن أذهب للتمشية بمفردي، رغم أني أنا وزوجي اعتدنا التمشية معا أو التنزه بالسيارة.
خطر ببالي فجأة أنني أود أن أرى السرداب مرة أخرى، وأن أعرف شيئا عنه؛ ومن ثم انطلقنا واثقين - أو واثقين على نحو معقول - من أننا نتذكر الطريق الذي كان عليه. ولكننا لم نجده. فأخذنا الطريق المجاور ولم نجده على هذا الطريق أيضا. قلنا إنه كان يقع في بروس بلا أدنى شك، وكان على الجانب الشمالي من طريق غير ممهد يمتد من الشرق إلى الغرب، وكان ثمة الكثير من الأشجار الدائمة الخضرة بالقرب منه. قضينا فترة ما بعد الظهيرة على مدى ثلاثة أو أربعة أيام في البحث عنه، وانتابتنا حالة من الحيرة والبلبلة. ولكن كعهدنا دائما كنا سعداء بوجودنا معا في هذا الجزء من العالم نتطلع إلى الريف الذي نعتقد أننا نعرفه جيدا والذي دائما ما يفجر لنا مفاجأة من نوع ما. •••
إن المشهد هنا بمنزلة سجل لأحداث تاريخية قديمة؛ فقد تكون بفضل الثلج المتصاعد، والثابت والمنحسر. فقد قام الثلج بغزوات وانسحابات هنا عدة مرات، وكان آخر انحسار منذ حوالي خمسة عشر ألف عام.
منذ عهد قريب للغاية، كما يمكنك أن تقول، اعتدت طريقة بعينها في حساب التاريخ وتقديره.
إن مشهدا جليديا كهذا معرض للخطر؛ فالعديد من معالمه الحدودية المتنوعة مؤلف من الحصى، ومن السهل الوصول إلى الحصى، ومن السهل تفريغه، وهو مطلوب دائما؛ فتلك هي المادة التي تجعل الطرق الخلفية مهيأة للمرور؛ الحصى المأخوذ من التلال المتآكلة، والمدرجات الجبلية المستولى عليها، والتي تحولت إلى حفر في الأرض. وهي أيضا وسيلة للتكسب لدى المزارعين. فمن أولى ذكرياتي ما فعله والدي حين باع الحصى الكائن على السهول على النهر عندنا، واستمتاعنا بمشهد الشاحنات وهي تمر بنا طوال اليوم، وبأهمية اللافتة المعلقة على بوابة منزلنا؛ «يوجد أطفال يلعبون.» كان هؤلاء هم نحن. بعدها وحين رحلت الشاحنات، تلاشى الحصى ولم يتبق سوى المشهد الجديد للحفر والتجاويف التي تحتفظ بداخلها، تقريبا خلال الصيف، ببقايا فيضانات الربيع. ومثل هذه الحفر تنبت في النهاية كتلا من العشب المزهر الخشن، الذي يتحول بعد ذلك إلى حشائش وشجيرات.
في الحفر الحصوية الكبيرة ترى التلال وقد تحولت إلى تجاويف، وكأن جزءا من المشهد قد تمكن بطريقة عشوائية من قلب نفسه بطنا لظهر، وتتموج البحيرات الصغيرة حيث لم يكن من قبل سوى مدرجات أو سهول على جانب النهر. وتنبت في الجوانب المنحدرة للتجاويف في النهاية نباتات خضراء. ولكن مسارات النهر الجليدي تتلاشى إلى الأبد.
لذا فعليك أن تستمر في تبين ما يحدث، واستيعاب ما يحدث من تغييرات، ورؤية الأشياء بينما تدوم وتبقى.
لدينا خرائط خاصة نصطحبها معنا عند السفر، وهي خرائط تباع بصحبة كتاب يسمى «الجغرافيا الطبيعية لأونتاريو الجنوبية»، تأليف ليمان تشابمان ودونالد بوتنام، اللذين نشير إليهما على سبيل رفع الكلفة ، التي لا تخلو من التبجيل والتوقير، ببوت وتشاب. تبين هذه الخرائط الطرق والبلدات والأنهار المألوفة، ولكنها توضح أشياء أخرى كذلك؛ أشياء كانت مفاجئة لي تماما حين رأيتها لأول مرة.
يكفي أن تنظر إلى خريطة واحدة منها - توضح قسما من أونتاريو الجنوبية جنوب الخليج الجورجي - لتجد طرقا وبلدات وأنهارا تظهر، إلى جانب حدود المناطق. ولكن انظر ماذا هناك أيضا؛ رقع بألوان الأصفر الزاهي، والأخضر اليانع، ورمادي البوارج ورمادي طيني أكثر دكانة، والرمادي الفاتح للغاية، وبقع أو مساحات ممتدة أو أذناب رفيعة أو سميكة باللون الأزرق والبني الضارب إلى الصفرة والبرتقالي والأرجواني والقرنفلي الوردي والبني الخمري، إلى جانب مجموعات من النقاط الصغيرة، وشرائط باللون الأخضر تشبه ثعابين العشب. وعلامات ضيقة متناثرة بقلم أحمر.
ما كل هذا؟
يشير اللون الأصفر إلى الرمال، ليس بمحاذاة شاطئ البحيرة، بل البر المتماسك، الذي غالبا ما يحد مستنقعا أو بحيرة جفت منذ زمن. أما النقاط، فليست مستديرة، بل على شكل معين، وتظهر في المشهد مثل بيضات نصف مدفونة، يواجه طرفها غير الحاد تيار الجليد. هذه النقاط هي كثبان جليدية، تظهر مجمعة في بعض الأماكن ومتفرقة في أماكن أخرى. البعض منها يكون مميزا كتلال كبيرة ملساء، والبعض يخترق الأرض بالكاد. وهي تعير اسمها للتربة التي تظهر بها (تربة الكثبان الجليدية - وتميز على الخريطة باللون البني الضارب إلى الصفرة) وللتربة الأكثر خشونة نوعا ما التي لا تحوي أيا منها بداخلها (التربة غير الجليدية - وتميز بلون رمادي البوارج). في الواقع إن النهر الجليدي قد كونها هنا مثل البيض، ليتخلص بذلك من المادة التي التقطها في تقدمه الجارف بطريقة متقنة واقتصادية. وحيثما لم يتمكن من ذلك، تكون الأرض أكثر خشونة بطبيعتها.
أما عن الأذناب الأرجوانية، فهي ركامات جليدية طرفية وتظهر حيث توقف الجليد في رحلة انحساره الطويلة، مكونا أخدودا من الحطام عند حافته. أما العلامات الخضراء البارزة، فهي عبارة عن كثبان جليدية طولية، وهي أسهل ما يمكنك تمييزه من بين كل هذه المعالم حين تنظر إليها عبر نافذة السيارة. هي أشبه بسلاسل جبلية مصغرة أو أخاديد ظهر التنين؛ وتبين مسار الأنهار التي تسير تحت الجليد بزوايا قائمة حتى مقدمته. وهذه الأنهار عبارة عن سيول محملة بالحصى تفرغه أثناء جريانها. وعادة ما يكون ثمة جدول صغير هادئ يجري بجانب أحد الكثبان الجليدية الطولية؛ وهو فرع مباشر من ذلك النهر القديم المنحدر.
يرمز اللون البرتقالي لقنوات التصريف، تلك القنوات الضخمة التي كانت تحمل الجليد المذاب، فيما يبين اللون الرمادي الداكن المستنقعات التي تكونت في قنوات التصريف ولا تزال موجودة هناك. أما الأزرق، فيوضح التربة الطينية، حيث تجمع الجليد المذاب في بحيرات. وهذه الأماكن مسطحة ولكنها ليست ملساء، إلى جانب وجود سمة من الحامضية والتكتل فيما يتعلق بالحقول الطينية؛ فالتربة ثقيلة، والحشائش جافة، والصرف رديء.
أما الأخضر العشبي، فيرمز للتربة المشطوفة، ذلك السطح الأملس على نحو رائع الذي قامت بحيرة وارين القديمة بتسويته وتمهيده في الرواسب الموجودة بمحاذاة ساحل بحيرة هورون القائمة اليوم.
وبالنسبة إلى العلامات الحمراء والخطوط الحمراء المتقطعة التي تظهر على التربة المشطوفة، أو على الرمال القريبة منها، فهي بقايا الأجراف والشواطئ المهجورة لتلك البحيرات التي تنحدر منها البحيرات العظمى، التي لا يمكن تمييز حدودها الآن إلا من خلال ارتفاع بسيط للأرض. تلك البحيرات التي سميت بأسماء حديثة تقليدية ذات وقع رسمي؛ بحيرة وارين، وبحيرة ويتليسي.
على شبه جزيرة بروس يوجد حجر جيري أسفل تربة رقيقة (وهي المميزة بالرمادي الفاتح)، وحول مدينة أوين ساوند وعلى كيب ريتش يوجد طفل في قاع جرف نياجرا ينكشف حيث يتآكل الحجر الجيري، ذلك الصخر السهل التفتيت الذي يمكن تحويله إلى طوب بنفس اللون الذي يظهر به على الخريطة؛ اللون القرنفلي الوردي.
والمعلم المفضل لدي من بين جميع أنواع معالم الريف هو ذلك الذي تركته حتى النهاية؛ إنه التلال الركامية، أو تلال الركام الجليدي، التي لها اللون البني الخمري على الخريطة وتظهر عموما في شكل فقاعات، وليس شرائط؛ فتجد فقاعة كبيرة هنا، وأخرى صغيرة هناك. تظهر تلك التلال حيث توجد كومة من الجليد الميت، انفصلت عن بقية النهر الجليدي المتحرك، وهي عبارة عن ترسبات ترابية تصب عبر جميع فتحاته وشقوقه. أو أحيانا ما تظهر حيث ينفصل فصان من الجليد، ويمتلئ الشق المتكون بينهما. والركامات الجليدية الطرفية منحدرة بطريقة معقولة فيما يبدو، وليست ملساء مثل الكثبان الجليدية، ولكنها تظل متجانسة وذات إيقاع منتظم، بينما جميع التلال الركامية جامحة ووعرة ولا يمكن التنبؤ بها، وذات شكل يوحي بمصادفات وأسرار. •••
لم أتعلم أيا من هذا في المدرسة. أظن أنه كان هناك آنذاك بعض التوتر والنزق فيما يتعلق بالاختلاف في الرأي مع الكتاب المقدس في مسألة خلق الأرض. لقد تعلمت هذا حين أتيت للعيش هنا مع زوجي الثاني، العالم الجغرافي؛ حين عدت إلى حيث لم أتوقع أن أكون، إلى الريف حيث نشأت؛ وهو ما جعل معلوماتي خالصة لا تشوبها شائبة؛ فأنا أجد متعة بريئة وخاصة في مطابقة ما أراه على الخريطة مع ما يمكنني رؤيته عبر نافذة السيارة، وكذلك من محاولة التوصل إلى الجزء الذي نحن فيه فيما حولنا، قبل النظر في الخريطة، وصحة توقعاتي في كثير من الأحيان. إنها لمتعة مثيرة لي أن أستكشف الحدود، حين يتعلق الأمر بسهول جليدية مختلفة، أو الموضع الذي تبدأ عنده التلال الركامية من الركامات الجليدية الطرفية.
ولكن هناك دائما متعة أكبر من مجرد المتعة القوية المستمدة من الاستكشاف؛ فهناك حقيقة وجود هذه النطاقات المستقلة، بما لكل منها من تاريخ وسبب مستقل بذاته، ومحاصيلها وأشجارها ونباتاتها المفضلة - فأشجار البلوط والصنوبر، على سبيل المثال، تنمو على الرمال، وأشجار الأرز وأشجار الليلك المتناثرة على الحجر الجيري - وما لكل منها من شكل خاص، وصورتها الخاصة في الخيال؛ وحقيقة أن هذه القرى الصغيرة تظهر متلاصقة دون إثارة أي شكوك، مثلما يمكن ولا يمكن للأشقاء أن يكونوا، في مشهد عادة ما يهمل، أو ينبذ باعتباره غطاء زراعيا باهتا. إنها الحقيقة التي تعلق بذهنك. •••
ظننت أن الموعد المحدد لي مع الطبيب كان من أجل أخذ عينة، ولكن اتضح أنه ليس كذلك. كان موعدا لكي يقرر طبيب المدينة ما إذا كان سيأخذ عينة أم لا، وبعد فحص ثديي وفحص نتائج أشعة الثدي، قرر أخذ العينة. لم يطلع إلا على نتائج أحدث أشعة ثدي لي؛ فلم تكن تلك التي أجريت في عامي 1990 و1991 قد وصلت بعد من مستشفى القرية حيث أجريت. تم تحديد موعد أخذ العينة بعد أسبوعين، وتم إعطائي ورقة بها تعليمات تتعلق بكيفية الاستعداد لها.
قلت إن أسبوعين يبدوان فترة طويلة للانتظار.
فقال الطبيب إن فترة أسبوعين في هذه المرحلة من المشكلة غير ذات أهمية.
لم يكن هذا ما دفعت لاعتقاده. ولكنني لم أتذمر بعد أن ألقيت نظرة على بعض الناس الجالسين في غرفة الانتظار. لقد تجاوزت الستين، وموتي لن يكون بالكارثة بالمقارنة بموت أم شابة، أو عائل أسرة، أو طفل. فلم يكن ليبدو ككارثة. •••
أصابنا الضيق لعدم تمكننا من العثور على السرداب؛ فوسعنا نطاق بحثنا. ربما لم يكن في بروس ولكن في جراي المجاورة؟ في بعض الأحيان لم نكن على يقين من أننا على الطريق الصحيح، ولكن دائما ما كنا نصاب بخيبة الأمل؛ فما كان مني سوى أن اتجهت إلى مكتبة البلدة للاطلاع على أطالس المنطقة في القرن التاسع عشر، لأرى ما إذا كان من المحتمل أن تكون الجبانات الريفية مؤشرة بعلامات على خرائط المنطقة. وبدا أنها مؤشرة على خرائط هورون، ولكن ليس في بروس أو جراي. (لم يكن هذا صحيحا، مثلما اكتشفت لاحقا؛ فقد كانت مؤشرة، أو كان بعضها مؤشرا، إلا أنني أغفلت حروف
C (التي ترمز لكلمة جبانة بالإنجليزية) المكتوبة بخط صغير جدا.)
في المكتبة قابلت صديقا زارنا الصيف الماضي لرؤيتنا بعد فترة قصيرة من اكتشافنا هذا. كنا قد أخبرناه بشأن السرداب، وأعطيناه بعض الإرشادات التقريبية بشأن كيفية العثور عليه؛ نظرا لكونه من المهتمين بالجبانات القديمة. وأخبرني آنذاك في المكتبة أنه قد كتب الإرشادات بمجرد أن عاد إلى المنزل. وكنت قد نسيت تماما أنني قد أعطيته إياها، فاتجه مباشرة إلى المنزل ووجد الورقة المدونة بها الإرشادات؛ وكان العثور عليها أشبه بالمعجزة، على حد قوله ؛ إذ وجدها وسط ركام مختلط من الأوراق الأخرى. وعاد إلى المكتبة حيث كنت لا أزال أتفحص الأطالس. «بيبادي، سكون، بحيرة ماكولا.» كان ذاك هو ما كتبه.
كان السرداب يقع في اتجاه الشمال في نقطة أبعد مما كنا نظن؛ خلف حدود المنطقة التي قتلناها بحثا.
ومن ثم وجدنا الجبانة الصحيحة، وبدا السرداب الذي غطته الحشائش مدهشا وبدائيا مثلما تذكرناه. وكان لدينا حينئذ الوقت الكافي لتفحص المكان. ورأينا أن معظم ألواح البلاط القديم قد جمعت معا ووضعت في شكل صليب. وكانت جميع هذه الألواح تقريبا عبارة عن شهود لقبور أطفال. وفي أي من هذه المقابر القديمة كانت التواريخ تميل لأن تكون تواريخ وفاة أطفال، أو أمهات شابات فقدن حياتهن أثناء الولادة، أو شباب لقوا حتفهم في حوادث عرضية؛ فمنهم من غرق، أو سقطت عليه شجرة، أو قتله حصان جامح، أو تعرض لحادث أثناء تشييد حظيرة؛ فقلما كان هناك مسنون ليموتوا في تلك الأيام.
كانت جميع الأسماء تقريبا ألمانية، والعديد من الكتابات المنقوشة على القبور بالألمانية التي تبدأ بعبارة
Hier ruhet in Gott (هنا يرقد بسلام)، ثم
Geboren (المولود في)، يتبعها اسم بلدة أو مقاطعة ألمانية، ثم كلمة
Gestorben (المتوفى في)، يتبعها تاريخ في ستينيات أو سبعينيات القرن التاسع عشر.
كان مكتوبا على أحد الشواهد أن المتوفى توفي هنا في بلدة سوليفان بجراي في إحدى المستعمرات الإنجليزية، في وسط الأحراش، ثم كتب ما يلي:
Das arme Herz hienieden
Von manches Sturm bewegt
Erlangt den renen Frieden
Nur wenn es nicht mehr schlagt.
دائما كان لدي اعتقاد بأنني أجيد القراءة باللغة الألمانية، على الرغم من عدم إجادتي لذلك؛ فقد كنت أظن أن هذه العبارات تتحدث عن شيء يتعلق بالقلب، أو الروح، أو الشخص المدفون أسفل هذه الأرض وقد أصبح الآن بعيدا عن كل شرور الدنيا، وصار في مكان أفضل تماما؛ فقلما كان ثمة مجال للخطأ في فهم كلمات
Herz
و
Sturm
و
nicht mehr . ولكن حين عدت إلى المنزل وتبينت معاني الكلمات في قاموس إنجليزي-ألماني، ووجدت جميع الكلمات عدا كلمة
renen
التي كان من الممكن أن تكون مجرد خطأ في تهجئة كلمة
reinen ، وجدت أن المقطع الشعري لم يكن مريحا للدرجة؛ فقد بدا أنه يقول إن القلب المسكين المدفون هنا لن يهنأ بأي راحة حتى يتوقف عن الخفقان. «الموت أفضل.»
ربما كان هذا المقطع من كتاب للمقاطع الشعرية التي تنقش على شواهد القبور، ولم يكن ثمة الكثير من الخيارات.
لم يكن ثمة كلمة واحدة على السرداب، على الرغم من أننا قد تعمقنا في البحث أكثر مما فعلنا من قبل. لم يكن ثمة شيء سوى ذلك الصليب الوحيد المرسوم بلا إتقان. ولكننا وجدنا مفاجأة في الركن الشمالي الشرقي من الجبانة. كان ثمة سرداب ثان أصغر كثيرا من الأول، له قمة خرسانية ملساء. لا وجود لتراب أو حشائش، ولكن كانت توجد شجرة أرز كبيرة تنمو من شق في الخرسانة التي كانت جذورها تتغذى على ما كان بداخل الشق أيا كانت ماهيته.
قلنا إنه شيء أشبه بالركام الترابي الذي يوضع فوق القبور. لعله من الأطلال الباقية في أوروبا الوسطى من عصور ما قبل المسيحية؟ •••
في نفس المدينة المزمع أن تؤخذ فيها العينة، والتي أجريت فيها أشعة الثدي، توجد كلية كنت أنا وزوجي طالبين فيها يوما ما. ليس مسموحا لي باستعارة كتب منها؛ لأنني لم أتخرج فيها، ولكن بإمكاني استخدام بطاقة زوجي الجامعية، وبإمكاني البحث وسط أكداس الكتب وقاعات المراجع كما أشاء. وأثناء زيارتنا التالية هناك دخلت قاعة المراجع الإقليمية لقراءة بعض الكتب عن جراي وعرفت كل ما استطعت معرفته عن بلدة سوليفان.
قرأت عن اكتساح للبلدة من جانب أسراب رهيبة من الحمام المهاجر الذي دمر كل المحاصيل في أحد الأعوام في أواخر القرن التاسع عشر، وعن شتاء عصيب في أربعينيات القرن الثامن عشر استمر لفترة طويلة جدا وصاحبه برد مهلك حتى إن المستوطنين الأوائل كانوا يعيشون على كرنب البقر الذي كان يقتلع من الأرض. (لم أكن أعرف شيئا عن كرنب البقر هذا - هل كان مجرد كرنب عادي تعلف به الحيوانات أم نباتا بريا وأكثر خشونة مثل كرنب الظربان؟ وكيف كان يمكن أن يقتلع في مثل هذا الطقس والأرض تشبه الصخر؟ هناك دوما ألغاز.)
وقرأت عن رجل يدعى بارنز مات جوعا ليدع عائلته تحصل على نصيبه من الطعام حتى يبقوا على قيد الحياة.
وبعد ذلك ببضعة أعوام كتبت امرأة شابة لأحد أصدقائها في تورونتو عن أن ثمة محصولا هائلا من التوت يفوق قدرة أي شخص على قطفه من أجل تناوله أو تجفيفه، وأنها بينما كانت تقطف بعضا منه، إذا بها أمام دب كان قريبا منها لدرجة أنها استطاعت أن ترى قطرات عصير التوت تلمع على شعيراته. قالت إنها لم تخف، وإنها كانت ستسير عبر الأحراش لإرسال هذا الخطاب بالبريد، سواء كانت هناك دببة أم لا.
طلبت الاطلاع على السجلات التاريخية للكنائس، ظنا مني أنه قد يكون ثمة شيء عن الكنائس اللوثرية أو الكنائس الكاثوليكية الألمانية من شأنه أن يساعدني. من الصعب إبداء مثل هذه الطلبات في مكتبات المراجع؛ إذ غالبا ما ستسأل عما ترغب في معرفته تحديدا، ولم تريد معرفته؟ بل في بعض الأحيان يكون حتى من الضروري أن تدون السبب كتابة. إذا كنت بصدد بحث، أو دراسة، فبالطبع سيكون لديك سبب وجيه، ولكن ماذا لو كان «مجرد اهتمام بالموضوع» من جانبك لا أكثر؟ ربما يكون أفضل شيء أن تقول إنك تتحرى تاريخ عائلتك. فأمناء المكتبات معتادون على قيام الأشخاص بهذا - لا سيما من بلغوا المشيب - ويعتقد عموما أنها طريقة معقولة لقضاء الوقت. أما عبارة «مجرد اهتمام بالموضوع»، فتبدو ذات وقع تبريري، إن لم يكن مراوغا، وتعرضك لخطر النظر إليك باعتبارك متسكعا تتسكع بلا هدف بين جنبات المكتبة، شخصا عاطلا بلا عمل وبلا اتجاه محدد في الحياة، «وليس لديك ما هو أفضل من ذلك لتفعله». فكرت أن أكتب على استمارتي: «بحث من أجل ورقة بحثية عن بقاء الركام الترابي للقبور في أونتاريو القديمة». ولكن لم تواتني الشجاعة لذلك؛ فقد خطر لي أنهم قد يطلبون مني إثبات ذلك.
وبالفعل حددت موقع كنيسة رأيت أنها قد تكون مرتبطة بجبانتنا، باعتبار أنها كانت تقع على بعد قريتين غربا وقرية واحدة شمالا. كانت تسمى كنيسة سانت بيتر الإنجيلية اللوثرية، لو كانت لا تزال موجودة. •••
وأنت في بلدة سوليفان تتذكر كيف كانت تبدو الحقول الزراعية في كل مكان قبل دخول الماكينات الزراعية الحديثة؛ فقد كانت هذه الحقول تحتفظ بالحجم الذي يمكن حرثه بالمحراث الذي تقوده الخيول، والمحصدة الحازمة، وجزازة العشب. لا تزال الأسوجة ذات القضبان موجودة - رغم وجود سور حجري في بعض الأماكن - وبطول هذه الحدود تنمو أشجار الزعرور البري، وكرز الطيور، والقضبان الذهبية، والياسمين البري.
إن مثل هذه الحقول لا تتغير لعدم وجود أي ربح أو منفعة تجنى من التوسع فيها؛ فالمحاصيل التي يمكن زراعتها فيها لا تستحق التعب؛ فهناك ركامان جليديان كبيران وعران ينحدران عبر الجزء الجنوبي من البلدة - وهنا تتحول الشرائط الأرجوانية على الخريطة إلى ثعابين منتفخة وكأن كل واحد منها قد ابتلع ضفدعا - تتوسطهما قناة تصريف مستنقعية. وتتميز الأرض جهة الشمال بأنها طينية. ومن المرجح أن المحاصيل التي تزرع هنا لم تكن أبدا ذات جودة عالية، على الرغم من أن الناس كانوا أكثر إذعانا للعمل في أرض غير مربحة، وأكثر امتنانا لأي شيء يستطيعون نيله، مما هم عليه الآن. وحين تستغل مثل هذه الأراضي على أي نحو الآن، تستغل كمرعى. أما الأجزاء الدغلية - الأحراش - فهي بصدد عودة قوية لسابق عهدها؛ ففي ريف كهذا لم يعد الاتجاه السائد نحو ترويض الطبيعة وزيادة السكان، وإنما العكس. لن تستعيد الأحراش السيطرة على نحو تام مرة أخرى مطلقا، ولكنها بصدد طفرة جيدة؛ فقد استعادت الغزلان والذئاب، التي كانت قد اختفت تماما في وقت من الأوقات، بعضا من مناطق سيطرتها. وربما سيكون ثمة دببة قريبا تستمتع مرة أخرى بولائم التوت الأسود وتوت السلمون وسوف توجد في البساتين البرية. وربما توجد هنا بالفعل.
ومع زوال فكرة الزراعة فيها، تقفز أعمال ومشروعات أخرى غير متوقعة لتحل محلها. ومن الصعب أن تعتقد أنها ستدوم؛ فتجد لافتة متقشرة مكتوبا عليها «معرض البطاقات الرياضية»، وأخرى مكتوبا عليها «بيوت للكلاب ببابين للبيع». مكان يمكن فيه إعادة تقشيش الكراسي. «ساحة فاخرة للإطارات». معروضات من التحف وعلاجات التجميل. بيض بني، شراب قيقب، دروس في عزف مزمار القربة ، تسريحات شعر للجنسين.
وصلنا إلى كنيسة سانت بيتر اللوثرية في صباح يوم أحد مع تعالي دقات الجرس إيذانا ببدء مراسم الصلاة بينما الأيدي التي تعلو برج الكنيسة تشير إلى الحادية عشرة. (وقد علمنا فيما بعد أن تلك الأيدي لا تشير إلى الوقت؛ إذ تشير دائما إلى الحادية عشرة. موعد انعقاد الصلاة.)
كانت تلك الكنيسة كبيرة وأنيقة ومبنية من قوالب الحجر الجيري، وتعلو برجها قمة عالية ويوجد رواق زجاجي حديث لصد الرياح والجليد. وملحقة بها أيضا سقيفة طويلة للسيارات من الحجر والخشب، تذكرك بتلك الأيام حين كان الناس يذهبون إلى الكنيسة مستقلين العربات ذات الأحصنة ومركبات الجليد. كما كان يوجد بيت حجري جميل، هو بيت القسيسة، محاط بالأزهار الصيفية.
استقللنا السيارة في اتجاه ويليامزفورد على الطريق السريع رقم 6 لتناول الغداء، ولإمهال القسيسة فترة مناسبة للاستراحة من مراسم الصلاة الصباحية قبل أن نطرق باب منزلها لاستقاء المعلومات. وبعد ميل أو نحو ذلك على الطريق تعثرنا في اكتشاف محبط؛ فقد اكتشفنا جبانة أخرى - جبانة كنيسة سانت بيتر نفسها بتواريخها القديمة وأسمائها الألمانية - ما جعل جبانتنا، القريبة جدا منها، تبدو أكثر من لغز.
عدنا على أي حال إلى الكنيسة في الساعة الثانية تقريبا. وطرقنا الباب الأمامي لبيت القسيسة، وبعد فترة ظهرت لنا فتاة صغيرة وحاولت فتح مزلاج الباب، إلا أنها لم تفلح، وأشارت لنا كي نستدير نحو الباب الخلفي. وجاءت مسرعة لتقابلنا في الطريق.
أخبرتنا أن القسيسة غير موجودة بالمنزل؛ إذ كانت قد ذهبت لأداء الصلوات المسائية في ويليامزفورد. لم يكن في المنزل سوى مجيبتنا وشقيقتها ترعيان كلب القسيسة وقططها. ولكن إن أردنا معرفة أي شيء عن الكنائس أو الجبانات أو التاريخ، يجدر بنا التوجه إلى والدتها التي تعيش على التل في المنزل الخشبي الجديد الكبير.
وأخبرتنا باسمها. ريتشل. •••
لم يبد على والدة ريتشل أي معالم اندهاش لفضولنا أو انزعاج من زيارتنا؛ فقد دعتنا لدخول منزلها، حيث كان يوجد كلب فضولي مزعج وزوج رابط الجأش كان يفرغ من غداء متأخر. كان المنزل عبارة عن غرفة واحدة كبيرة يحظى بإطلالة بانورامية على الحقول والأشجار.
أخرجت كتابا لم أره في قاعة المراجع الإقليمية. كان كتابا قديما ذا غلاف ناعم عن تاريخ البلدة. كانت تعتقد أنه يحوي فصلا عن الجبانات.
والواقع أنه كان كذلك. وفي غضون وقت قصير كنت أنا وهي نقرأ جزءا عن جبانة مانرو «المعروفة بسردابيها». كان ثمة صورة فوتوغرافية مجزعة للسرداب الأكبر حجما. ورد في الكتاب أنه قد بني في عام 1895 لاستقبال جثمان صبي في الثالثة، وكان أحد أبناء عائلة مانرو، وتوالى دفن جثامين أفراد آخرين من تلك العائلة هناك في السنوات التالية. ودفن جثمانا زوج وزوجة من عائلة مانرو في السرداب الأصغر في أحد جوانب الجبانة. وقد أصبحت الجبانة، التي كانت في الأصل جبانة عائلية، جبانة عامة وتغير اسمها من مانرو إلى سيدارديل.
وكان السردابان مسقوفين من الداخل بالخرسانة.
قالت والدة ريتشل إنه لم يعد متبقيا من عائلة مانرو سوى واحد فقط يعيش في البلدة اليوم، والذي يعيش في سكون.
قالت: «إنه يعيش في المنزل المجاور لمنزل أخي. أتعرفين أنه لا يوجد سوى ثلاثة منازل في سكون؟ هذا كل ما يوجد. المنزل الأصفر المصنوع من الطوب ومنزل أخي، والمنزل الأوسط، وهو منزل آل مانرو؛ لذا ربما يخبرونك بشيء آخر إذا ذهبت إلى هناك وسألتهم.» •••
بينما كنت أتحدث إلى والدة ريتشل وأنظر في كتاب التاريخ، جلس زوجي إلى الطاولة وراح يتحدث إلى زوجها؛ فتلك هي الطريقة اللائقة التي تسير بها الأحاديث في هذا الجزء من العالم. سأل الزوج من أين أتينا، ولدى سماعه أننا قادمون من هورون، قال إنه يعرفها جيدا. قال إنه قد وصل إلى هناك حين رحل من هولندا بعد الحرب بفترة ليست بالطويلة، أي في عام 1948، (فهو يكبر زوجته بكثير). وعاش لفترة بالقرب من بليث وعمل في إحدى مزارع الديوك الرومي.
سمعته يقول هذا، وحين شارف حواري مع زوجته على الانتهاء سألته إن كانت المزرعة التي عمل بها هي مزرعة والاس للديوك الرومي.
فقال نعم هي، وأضاف أن شقيقته كانت متزوجة من ألفين والاس.
فقلت: «كوري والاس.» «هذا صحيح. إنها هي.»
فسألته إن كان يعرف أيا من أفراد عائلة ليدلو في تلك المنطقة، وكانت إجابته بالنفي.
فأخبرته أنه إذا كان قد عمل في مزرعة آل والاس، فلا بد أنه كان يعرف بوب ليدلو.
أخبرته قائلة: «كان يعمل في تربية الديوك الرومي أيضا، وكان على معرفة بعائلة والاس منذ كانوا يذهبون إلى المدرسة معا، وقد عمل معهم في بعض الأحيان.»
فقال بنبرة متصاعدة: «بوب ليدلو؟ أوه، بالتأكيد، كنت أعرفه. ولكن أظن أنك قصدت من حول بليث؛ فقد كان لديه منزل بالقرب من وينجهام، غرب وينجهام، بوب ليدلو.»
فأخبرته أن بوب ليدلو قد نشأ بالقرب من بليث على الطريق الثامن لبلدة موريس، ومن هنا جاءت معرفته بالأخوين والاس، والد ألفين وعمه. كانوا جميعا يذهبون إلى مدرسة إس رقم 1، بجوار مزرعة والاس مباشرة.
فنظر إلي عن كثب وضحك. «هل تريدين أن تقولي لي إنه والدك؟ أنت لست شيلا، أليس كذلك؟» «إن شيلا شقيقتي. أنا الشقيقة الكبرى.»
فقال: «لم أكن أعلم أن هناك شقيقة كبرى لها، لم أكن أعلم ذلك، ولكن كنت أعرف فقط بيل وشيلا. كانا معتادين على النزول معنا لتجهيز الديوك قبل أعياد الكريسماس. لم تكوني هناك، أليس كذلك؟» «لم أكن بالمنزل آنذاك.» «بوب ليدلو. بوب ليدلو كان والدك. حسنا. كان لا بد أن يخطر لي ذلك مباشرة. ولكن حين قلت من حول بليث، لم أدرك الأمر. كنت أظن أن بوب ليدلو كان من مكان بالقرب من وينجهام. لم أكن أعرف أبدا أنه كان من بليث في الأساس.»
وضحك ومد يده عبر الطاولة ليصافحني. «حسنا. بإمكاني الآن أن أرى ليدلو فيك. أنت ابنة بوب ليدلو. أرى ذلك حول عينيك. لقد مر زمن طويل. مر زمن طويل.»
لست أدري إن كان يقصد أنه قد مر زمن طويل منذ كان أبي وأبناء والاس يذهبون معا إلى المدرسة في بلدة موريس، أم منذ كان هو نفسه شابا صغيرا قادما لتوه من هولندا، وعمل مع أبي وشقيقي وشقيقتي في تجهيز الديوك الخاصة بالكريسماس. ولكنني اتفقت معه في الرأي، وحينئذ قال كلانا إنه عالم صغير. قلنا ذلك، كما يفعل الناس عادة، بحس من التعجب والانتعاش. (حين ينزعج الناس من اكتشاف مثل هذا، فإنهم عادة ما يتجنبون القيام به.) أخذنا نستكشف الصلة بقدر ما طالت، وسرعان ما وجدنا أننا لن نجني الكثير من وراء ذلك. ولكننا كنا سعداء. كان سعيدا أن ذكره أحد بنفسه في شبابه، وهو لا يزال جديدا في القرية وقادرا على شغل أي عمل يعرض عليه، وكله ثقة في المستقبل الذي بانتظاره، وبمنظر هذا المنزل الجيد البناء بمشهده الواسع الذي يطل عليه، وزوجته الرائعة، وابنته الجميلة ريتشل، وجسده الذي لا يزال يقظا ونافعا؛ لقد بدا بالفعل وكأن الأمور قد دانت له تماما.
أما أنا، فكانت سعادتي لعثوري على شخص لا يزال يمكنه أن يراني جزءا من عائلتي، ويستطيع أن يتذكر أبي، والمكان الذي عمل وعاش فيه والداي طوال حياتهما الزوجية معا، بالأمل في البداية ثم بالكفاح المشرف؛ المكان الذي نادرا ما أمر به وأستطيع بالكاد أن أجد له رابطا بحياتي الآن، على الرغم من أنه لا يبعد عني أكثر من عشرين ميلا.
لقد تغير بالطبع، بل تغير كلية، وتحول إلى مستودع للسيارات الخردة. الفناء الأمامي والفناء الجانبي وحديقة الخضراوات وشرائط الأزهار، وحقل التبن، وشجيرات البرتقال المكسيكي، وأشجار الليلك، وجذل شجرة كستناء، والمرج والأرض اللذان كانا يوما ما مغطيين بحظائر الثعالب، سحقت جميعا تحت مد من أجزاء السيارات، وأجسام السيارات المفرغة من أحشائها، والمصابيح الأمامية المهشمة، وشبكات الرادياتور، ورفارف العجلات، ومقاعد السيارات المقلوبة بحشوها النتن المنتفخ، إلى جانب أكداس من الأجزاء المعدنية المطلية والصدئة والمسودة واللامعة، كاملة كانت أو معوجة، والتي لا تزال باقية وتقاوم عامل الزمن.
ولكن ليس هذا هو الشيء الوحيد الذي يجرده من معناه بالنسبة إلي. كلا. إنها حقيقة أنه على بعد عشرين ميلا فقط، وكان بمقدوري أن أراه كل يوم لو شئت؛ فالماضي بحاجة للتعامل معه من على بعد.
سألتنا والدة ريتشل إن كنا نود إلقاء نظرة على الكنيسة من الداخل قبل أن ننطلق إلى سكون، فلم نمانع. فترجلنا من على التل واصطحبتنا في ترحاب إلى داخل الكنيسة المغطى بالسجاد الأحمر. كانت رائحتها رطبة ونتنة قليلا كحال المباني الحجرية في الغالب، حتى حين يحافظ على نظافتها إلى أقصى حد.
تحدثت إلينا بشأن أحوال هذا المبنى وجماعات المصلين المترددين عليه.
أنشئت الكنيسة بأكملها قبل بضع سنوات وأضيفت تحتها مدرسة الأحد والمطبخ.
كان الجرس لا يزال يدق لإعلان وفاة كل فرد من أفراد الكنيسة، فكان يدق دقات بعدد سنوات حياة الشخص المتوفي. بإمكان كل شخص على مرمى السمع أن يسمع ويحصي عدد المرات التي يقرع فيها ويحاول أن يتوصل إلى هوية الشخص الذي يقرع له. في بعض الأحيان يكون ذلك سهلا؛ شخصا ينتظر موته. وفي أحيان أخرى يكون الأمر مفاجأة.
ذكرت لنا أن الرواق الأمامي للكنيسة على الطراز العصري، كما لا بد أن نكون قد لاحظنا. وحين أنشيء، نشب جدال كبير بين هؤلاء الذين كانوا يعتقدون أنه ضروري، بل وكانوا معجبين به، وأولئك الذين عارضوا وجوده، وفي النهاية حدث انفصال؛ فانطلق هؤلاء الذين لم يعجبهم إلى ويليامزفورد وكونوا كنيستهم الخاصة هناك، وإن كان بنفس القسيسة.
ففي آخر مرة كان يجب تعيين قسيس أو قسيسة لتلك الكنيسة، كان خمسة من المرشحين السبعة لشغل المنصب من النساء، وكانت هذه السيدة متزوجة من طبيب بيطري، وكانت هي نفسها طبيبة بيطرية. كانت محبوبة من الجميع، على الرغم من أنه في إحدى المرات نهض رجل ينتمي إلى الكنيسة اللوثرية في ديسبورو وغادر إحدى الجنازات حين وجدها تلقي عظة فيها؛ فلم يستطع تحمل فكرة وجود امرأة تعظ.
فالكنيسة اللوثرية جزء من المجمع الكنسي بميسوري، وهذا هو أسلوبهم.
نشب حريق كبير بالكنيسة منذ فترة، أتى على قدر كبير من محتوياتها من الداخل، ولكن لم يمس الهيكل. وبينما كانت الجدران الداخلية الناجية من الحريق تدعك بعد ذلك، سقطت طبقات من الطلاء مع الدخان، وكانت ثمة مفاجأة أسفلها : نص باهت باللغة الألمانية، بالكتابة القوطية الألمانية، الذي لم يكن قد أزيل بالكامل، وكان مختبئا أسفل الطلاء.
وها هو قد ظهر. أزالوا الطلاء وها هو قد ظهر.
Ich hebe meine augen auf zu den Bergen, von welchen mir Hilfe Kommt . كان هذا هو ما كتب على أحد الجدران الجانبية، فيما كتب على الحائط المقابل:
Dein Wort ist meines Fusses Leuchte und ein Licht auf meinem Wege .
وترجمة ذلك هي: «سأرفع عيني إلى الجبال من حيث يأتي عوني.» «سراج أهتدي به كلامك ونور لدربي.»
لم يكن أحد يعرف أو يتذكر وجود الكلمات الألمانية هناك حتى كشفها الحريق وما أعقبه من عمليات تنظيف. لا بد أن الجدار قد طلي فوقها في وقت ما، وبعدها لم يورد أحد لها ذكرا، وهكذا ذهبت ذكرى وجودها في هذا المكان طي النسيان.
في أي وقت حدث هذا؟ الاحتمال الأرجح أن يكون قد حدث في بداية الحرب العالمية الأولى، التي امتدت فيما بين عامي 1914 و1918. فلم يكن ذلك وقتا مناسبا لإظهار كتابة باللغة الألمانية أو حتى إلقاء نصوص مقدسة بها. وظل شيئا يجب عدم الإتيان على ذكره لسنوات بعد ذلك.
كان وجودي في الكنيسة مع هذه السيدة كمرشدة يمنحني شعورا بالضياع قليلا، أو شعورا بالحيرة والارتباك، شعورا بأن كل الأمور قد سارت في الاتجاه الخطأ. لقد مستني بشدة الكلمات المنقوشة على الحائط، ولكنني لست مؤمنة وليس لهذه الكلمات أن تجعلني مؤمنة. كانت تبدو وكأنها تفكر في كنيستها، بما فيها هذه الكلمات، وكأنها حارستها اليقظة. بل إنها ذكرت بنبرة نقدية أن جزءا من الطلاء - في حرف
L
المزخرف في كلمة
Licht - قد تلاشى أو تقشر، ولا بد من استبداله. ولكنها كانت مؤمنة. كان يبدو وكأن عليك دائما أن تعتني بما هو فوق السطح، وسوف يتولى ما خلفه، بضخامته وإزعاجه، الاعتناء بنفسه.
في ألواح منفصلة من النوافذ الزجاجية المتسخة ظهرت هذه الرموز:
الحمامة (على المذبح).
الرمزان ألفا وأوميجا (في الجدار الخلفي).
الكأس المقدسة.
حزمة القمح.
الصليب في التاج.
مرساة السفينة.
حمل الرب يحمل الصليب.
البجعة الخرافية، ذات الريش الذهبي، التي يعتقد أنها تطعم صغارها على دم ثديها الممزق، كرمز لكنيسة المسيح. (البجعة الخرافية كما هي ممثلة هنا تشبه البجعة الحقيقية من حيث كونها طائرا فقط.)
قبل بضعة أيام من خضوعي لعملية أخذ العينة، تلقيت اتصالا من مستشفى المدينة لإبلاغي بأن العملية قد ألغيت.
ظل الموعد قائما على أي حال للتحدث مع طبيبة الأشعة، ولكن لم أكن بحاجة للإسراع في الإعداد للعملية.
فقد ألغيت.
لماذا؟ هل وردت معلومات عن أشعتي الثدي الأخريين؟
ذات مرة تعرفت إلى رجل دخل المستشفى لاستئصال ورم من عنقه. وضع يدي عليه، على هذا الورم الصغير السخيف، وأخذنا نضحك من إمكانية أن نهول من خطورته ونجعله يحصل على إجازة من العمل لمدة أسبوعين للذهاب لقضاء إجازة معا. تم فحص الورم، ولكن ألغيت عملية أخرى كان من المقرر إجراؤها نظرا لاكتشاف وجود الكثير والكثير من الأورام الأخرى، وصدر القرار النهائي بأن العمليات التي ستجرى لن تجدي نفعا. وعلى حين غرة صار رجلا في دائرة الخطر. لم يعد يضحك؛ فحين ذهبت لرؤيته أخذ يحدق في بغضب شبه أحمق لم يتمكن من إخفائه؛ فقد قالوا إن المرض «منتشر في كل جسده.»
اعتدت أن أسمع نفس الشيء يقال حين كنت طفلة، وكان دائما ما يقال بصوت خافت للغاية بدا ينبئ، على نحو شبه طوعي، بفاجعة. شبه طوعي، حتى ولو كان بتلميح مكشوف. •••
توقفنا بالفعل عند المنزل الأوسط في سكون، ليس بعد زيارة الكنيسة، بل في اليوم التالي لاتصال المستشفى. كنا نبحث عن شيء يسلينا. ثمة شيء ما تغير؛ فقد لاحظنا كم بدأ المشهد الطبيعي لبلدة سوليفان والكنيسة والجبانات، وقريتي ديسبورو وسكون وبلدة تشيسلي؛ يبدو مألوفا لنا، وكيف قصرت المسافات بين الأماكن. ربما نكون قد اكتشفنا كل ما كنا قادمين لمعرفته. وربما كان هناك مزيد من الإيضاح والتفسير - فربما تكون فكرة السرداب قد جاءت نتيجة عدم رغبة شخص ما في وضع طفل في الثالثة تحت الأرض - ولكن أكثر ما كان ساحرا وجذابا مجسد الآن في نموذج لأشياء نعرفها.
لم يجب أحد الباب الخارجي. كان المنزل والفناء مرتبين. أخذت أنظر حولي إلى أحواض الحوليات الزاهية وزهرة من شجيرة شارون وصبي أسود البشرة يجلس على جذل شجرة وفي يده علم كندي. لم يكن ثمة الكثير من الصبية الصغار السود في أفنية منازل الأهالي كما كان الحال من قبل. ربما كان الأطفال البالغون قاطنو المدن قد حذروهم منهم، وإن كنت لا أعتقد أن أي إهانة عنصرية كانت تصدر عن عمد ووعي. لقد كان الأمر كما لو أن الناس كانوا يشعرون بأن وجود صبي أسود يضيف لمسة من الصخب والسحر.
كان الباب الخارجي مفتوحا على رواق ضيق، فدخلت وقرعت جرس باب المنزل. كان ثمة مساحة كافية للمرور من أمام كرسي ذي مسندين عليه غطاء أفغاني ملون وطاولتين من الخيزران عليهما أصص نباتات.
ما من مجيب حتى الآن، ولكن استطعت أن أسمع صوت إنشاد ديني عاليا داخل المنزل. كانت هناك جوقة تنشد: «إلى الأمام أيها الجنود المسيحيون». وعبر النافذة التي كانت بالباب رأيت المنشدين على شاشة التليفزيون في غرفة داخلية. ورأيت ثيابا زرقاء والعديد من الوجوه المتمايلة على صفحة السماء في وقت الغروب. ترى أهم جوقة المعبد المورموني؟
أخذت أستمع إلى الكلمات التي اعتدت سماعها جميعا قبل ذلك. وفي تقديري أن هؤلاء المنشدين كانوا في نهاية المقطع الغنائي الأول.
فتركت القرع على الجرس حتى يفرغوا.
أعدت المحاولة ثانية، وجاءت السيدة مانرو التي كانت امرأة قصيرة القامة ذات طلة تنم عن البراعة والاقتدار وخصلات شعر مموجة مضغوطة ذات لون بني ضارب إلى الرمادي، وترتدي بلوزة زرقاء مزينة بالأزهار لتلائم بنطالها الأزرق.
أخبرتني أن زوجها يعاني صعوبة شديدة في السمع؛ ومن ثم لن يجدي الحديث معه كثيرا. وكان عائدا للتو من المستشفى قبل بضعة أيام؛ ومن ثم لم يكن يرغب في الحديث، ولم تكن هي ذاتها لديها متسع من الوقت للحديث؛ إذ كانت تتأهب للخروج. كانت ابنتها قادمة من تشيسلي لاصطحابها. كانتا ذاهبتين في نزهة عائلية للاحتفال بعيد زواج والدي زوجها الخمسين.
ولكنها لم تكن لتمانع في إخباري بما تعرفه.
وعلى الرغم من أنها لم تتزوج إلا من داخل العائلة، فلم تكن تعرف الكثير عنهم .
بل إن كلتيهما لم تكن تعرف الكثير على الإطلاق.
استرعى انتباهي شيء جديد في استعداد كل من هذه السيدة العجوز والسيدة الشابة المفعمة بالحيوية في المنزل الخشبي وتأهبهما للمساعدة؛ فلم يبد عليهما أي استغراب من أن يكون ثمة من يرغب في معرفة أمور ليس لها نفع معين أو أهمية عملية؛ فلم تلمحا إلى أن لديهما أمورا أهم للتفكير فيها؛ أعني أمورا حقيقية، عملا حقيقيا. فحين كنت في طور النضج لم تكن الرغبة النهمة في اكتساب أي معرفة غير عملية من أي نوع تحظى بالتشجيع. لا بأس في معرفة أي حقل سوف يتناسب مع محاصيل بعينها، ولكن لم يكن مقبولا تماما معرفة أي شيء عن الجغرافيا الجليدية التي ذكرتها. كان من الضروري أن تتعلم القراءة، ولكن لم يكن مستحبا تماما أن ينتهي بك الحال إلى الاستغراق في قراءة كتاب. وإن كان لا بد أن تتعلم التاريخ واللغات الأجنبية للنجاح في المدرسة، فكان الشيء الطبيعي الوحيد أن تنسي مثل هذا النوع من الأمور بأسرع ما يمكن، وإلا أصبحت «مختلفا» عن الآخرين، ولم تكن تلك بالفكرة الجيدة. وكان التساؤل عن «الزمن القديم» - ما الذي كان موجودا هنا، ماذا حدث هناك، ولماذا، لماذا؟ - كانت طريقة مضمونة لكي تجعل نفسك مختلفا.
بالطبع، كان بعض من هذه الأمور متوقعا لدى الغرباء، من أهل المدينة، الذين كان لديهم متسع من الوقت لذلك. لعل هذه السيدة تعتقد أن هذا هو الحال بالنسبة إلي، ولكن السيدة الشابة كان إدراكها مختلفا، ومع ذلك بدت لا تزال ترى أن لفضولي ما يبرره.
قالت السيدة مانرو إنها اعتادت أن تتساءل، حين كانت في بداية زواجها؛ لماذا كانوا يدفنون أهلهم هناك على هذا النحو، من أين جاءتهم الفكرة؟ لم يكن زوجها يعرف السبب؛ فقد كان جميع أفراد آل مانرو يتعاملون مع الأمر على نحو مسلم به، لم يكونوا على دراية بالسبب، كانوا يتعاملون معه على نحو مسلم به لأن ذلك هو ما كانوا يفعلونه دائما. كانت تلك هي طريقتهم دائما، ولم يخطر لهم مطلقا أن يسألوا لماذا أو من أين أتت عائلتهم الفكرة.
هل كنت أعلم أن السرداب بأكمله مسقوف بالخرسانة من الداخل؟
لقد كان السرداب الأصغر من الخرسانة أيضا من الخارج. أجل. فلم تكن قد ذهبت إلى الجبانة منذ فترة ونسيت كل شيء بشأن هذا السرداب.
تذكرت آخر جنازة أقاموها حين دفنوا آخر شخص في السرداب الكبير؛ آخر مرة فتحوه فيها. كان من أجل السيدة ليمبكي التي كانت تنتمي إلى عائلة مانرو. لم تكن توجد مساحة إلا لشخص واحد، وكانت هي هذا الشخص، ومن بعدها لم تعد ثمة مساحة لأي جثمان آخر.
كانوا يحفرون عند الطرف ويرفعون قوالب الطوب، وحينئذ كان لك أن ترى بعضا مما كان في داخل السرداب قبل أن يسجوا تابوتها داخله. كان بإمكانك أن ترى أنه كانت ثمة توابيت هناك سبقت تابوتها على كلا الجانبين، ولا أحد يعرف متى بدأ هذا.
قالت: «لقد منحني هذا شعورا غريبا، حقا، فقد اعتدنا رؤية التوابيت حين تكون جديدة، ولكن لم نعتد رؤيتها حين تكون قديمة.»
كانت هناك طاولة صغيرة قابعة في مقدمة المدخل مباشرة، في الطرف الأقصى، وعليها نسخة مفتوحة من الكتاب المقدس.
وكان بجوار الكتاب المقدس مصباح.
كان مجرد مصباح عادي قديم الطراز، من النوع الذي اعتادوا إضاءته بالكيروسين.
وقبع التابوت هناك كما هو في ذلك اليوم، وأغلق كل شيء بإحكام، ولن يراه أحد مرة أخرى مطلقا.
قالت: «لا أحد يعرف لماذا كانوا يفعلون ذلك. لقد فعلوه فحسب.»
وابتسمت لي ابتسامة ودودة يشوبها شيء من الارتباك، واتسعت عيناها شبه الباهتتين لتصبح كعيني البومة، بفضل نظارتها، وأومأت إلي برأسها إيماءتين مرتجفتين، وكأنها تقول إنه أمر يتجاوز نطاق استيعابنا، أليس كذلك؟ ثمة أمور عديدة تتجاوز نطاق استيعابنا. أجل. •••
قالت طبيبة الأشعة إنها حين اطلعت على أشعتي الثدي الواردتين من المستشفى الريفي، رأت أن الورم كان موجودا في عامي 1990 و1991، ولم يطرأ عليه أي تغيير، فهو لا يزال في نفس المكان وبنفس الحجم، قالت إنني لا أستطيع مطلقا أن أكون متيقنة مائة بالمائة أن مثل هذه الكتلة آمنة، ما لم تؤخذ عينة منها. وأضافت أن بإمكاني أن أطمئن؛ فأخذ العينة في حد ذاته يعتبر إجراء تدخليا، وأنها لو كانت مكاني، لم تكن لتجريه. وبدلا من ذلك قالت لي إنها سوف تجري لي أشعة أخرى على الثدي في غضون ستة أشهر أخرى، وإنه لو كان ثديها، لظلت تراقبه، ولكن في الوقت الراهن كانت ستدعه وشأنه.
تساءلت لماذا لم يخبرني أحد من قبل عن هذه الكتلة حين ظهرت لأول مرة.
فقالت إنه لا بد أنهم لم يروها. •••
إذن فتلك أول مرة تظهر.
ستظل مثل هذه المخاوف تظهر وتختفي.
وسيأتي الخوف الذي لن يختفي. الخوف الذي لن يختفي.
ولكن الآن، ها هي الذرة في الشرابة، وذروة الصيف على وشك الانتهاء، والوقت يتسع ليفسح مجالا من جديد للمشاحنات الصغيرة والتفاهات. لم تعد للأيام حواف حادة، لم يعد ثمة شعور بطنين القدر المزعج يسري في عروقك كسرب من الحشرات الصغيرة التي لا ترحم. ها قد عدنا إلى حيث لا يبدو هناك أي تغيير كبير يرجى أكثر من تغيير الفصول. وعادت نطاقات السماء والأرض تحمل قدرا من الاهتراء، واللامبالاة، بل وإمكانية متقطعة للملل والسأم. •••
ونحن في طريقنا إلى المنزل عائدين من مستشفى المدينة قلت لزوجي: «أتعتقد أنهم يضعون أي زيت في ذلك المصباح؟»
وعلى الفور أدرك ما أتحدث عنه، وقال إنه كان يتساءل عن نفس الشيء.
خاتمة
الرسول
كتب أبي أن الريف الذي صنع بجهود الرواد الأوائل قد تغير قليلا في زمانه؛ فكانت المزارع لا تزال بالحجم الذي كان يسهل التعامل معه في ذلك الوقت ومناطق الغابات في نفس الأماكن، والأسوار لا تزال حيث كانت دائما، وإن كانت قد أصلحت عدة مرات. والشيء نفسه بالنسبة إلى الحظائر الكبيرة ذات الطابقين؛ ليست تلك هي الحظائر الأولى التي ظهرت، ولكن المباني التي شيدت قرب نهاية القرن التاسع عشر، وأقيمت في الأساس من أجل تخزين التبن وحماية الماشية خلال الشتاء. والعديد من المنازل - المنازل المصنوعة من الطوب التي خلفت المباني الخشبية الأولى - كانت هناك منذ فترة ما في سبعينيات أو ثمانينيات القرن الثامن عشر. والواقع أن أبناء عمومة لنا قد احتفظوا بالمنزل الخشبي الذي شيده أبناء ليدلو الأوائل في بلدة موريس، واكتفوا ببناء ملحقات له في فترات مختلفة. كان المنزل من الداخل مدهشا وفخما، وله العديد من المنحنيات ودرجات سلم قليلة.
الآن هدم المنزل، وهدمت الحظائر (وكذلك حظيرة الأبقار القديمة المبنية من الخشب). والشيء نفسه حدث للمنزل الذي ولد فيه أبي، والمنزل الذي عاشت فيه جدتي طفولتها، وكل الحظائر والسقائف. من الممكن تحديد الأراضي التي كانت هذه البنايات قائمة عليها ربما من ارتفاع قليل في الأرض، أو بأجمة من أشجار الليلك؛ وفيما عدا ذلك فقد أصبحت مجرد رقع زراعية.
قديما في مقاطعة هورون كان هناك رواج كبير لتجارة التفاح؛ فحسبما قيل لي، كانت مئات الآلاف من البوشلات منه تشحن إلى الخارج، أو تباع لمصنع التبخير في كلينتون. غير أن هذه التجارة اندثرت وتلاشت منذ عدة أعوام حين ظهرت البساتين في كولومبيا البريطانية، بما كان لها من ميزة طول موسم نموها. ربما لم يتبق الآن سوى شجرة أو شجرتين من أشجار التفاح بثمارهما الجربة القليلة، وشجيرات الليلك الدائمة النمو. هذا كل ما تبقى من المزارع المفقودة ومبانيها؛ وفيما عدا ذلك لا تجد أي علامة تشير إلى وجود بشر كانوا يعيشون هنا من قبل؛ فقد هدمت الأسوار أينما حلت المحاصيل الزراعية محل الماشية. وبالطبع، ظهرت في العقد الأخير الحظائر المنخفضة التي تماثل في ارتفاعها ارتفاع البنايات الحضرية، وتماثل الإصلاحيات في تحصينها وسريتها؛ إذ تئوى الماشية بداخلها ولا تظهر مطلقا للعيان؛ لقد صار الدجاج والديوك الرومية والخنازير تربى بالطريقة الحديثة التي تجمع بين الربح والفاعلية.
كان من تأثير إزالة العديد من الأسوار والبساتين والمنازل والحظائر في نظري أن جعلت الريف يبدو أصغر بدلا من أن يبدو أكبر؛ مثلما تبدو المساحة التي كان يشغلها منزل في وقت ما صغيرة على نحو مثير للدهشة بمجرد ألا ترى أمام عينيك سوى أساسه؛ فقد ذهبت كل تلك الأعمدة والأسلاك والأسوجة ومصدات الرياح، تلك الصفوف من أشجار الظل ، تلك الاستخدامات المتنوعة لقطع الأرض، تلك المستعمرات الخاصة من المنازل والحظائر المأهولة والمباني الملحقة النافعة التي كنت تجدها كل ربع ميل أو نحو ذلك؛ كل تلك التدابير والحماية التي كانت تتوافر لأرواح منها ما كان معروفا ومنها ما كان خفيا. لقد جعلت كل ركن من سور أو منعطف في جدول ماء يبدو ملحوظا ومميزا.
وكأنه كان بإمكانك آنذاك أن ترى المزيد، رغم أن بإمكانك الآن أن ترى لمسافة أبعد. •••
في صيف عام 2004 قمت بزيارة إلى جوليت بحثا عن أي أثر أو ملمح لحياة ويليام ليدلو، جدي الأكبر الذي توفي هناك. استقللنا السيارة من أونتاريو عبر ميشيجان على ما كان يسمى في وقت ما شيكاجو تيرنبايك، وقبل ذلك كان الطريق الذي سلكه الرحالة لاسال وعدة أجيال من رحالة شعوب كندا الأولى، وأصبح الآن يسمى الطريق السريع رقم 12، مارين ببلدات كولدووتر وستيرجيس ووايت بيجون القديمة. كانت أشجار البلوط غاية في الروعة والتنوع ما بين البلوط الأبيض والأحمر والسنديان الكبير الثمار، بأفرعها المنحنية التي تلقي بظلالها على شوارع البلدة ومساحات كبيرة من الطرق الريفية. هذا، ناهيك عن أشجار البندق والقيقب الضخمة الوارفة الظلال بمنطقة الغابات الكارولينية التي تعتبر غير مألوفة لي قليلا؛ كونها تقع جنوب المنطقة التي أعرفها. إن نباتات اللبلاب السام هنا تنمو لارتفاع ثلاثة أقدام بدلا من افتراش أرض الغابة كالسجادة، فيما تبدو كرمات العنب وكأنها تغلف كل جذع شجرة، وهو ما يجعلك لا تستطيع النظر داخل الغابات المنتشرة على جانبي الطريق؛ فكل مكان مزين بجدائل وستائر خضراء.
كنا نستمع إلى الموسيقى على الراديو الوطني العام، وحين ضعفت إشارة البث رحنا نستمع إلى واعظ يجيب عن أسئلة عن الشياطين. إن الشياطين قادرة على أن تسكن الحيوانات والمنازل ومعالم الطبيعة وكذلك البشر، وأحيانا ما تسكن جماعات وطوائف بأكملها؛ فالعالم يكتظ بهم والنبوءات تثبت أنهم سوف يكثرون وينتشرون خلال أيام العالم الأخيرة التي تحل علينا الآن.
كانت الأعلام في كل مكان، واللافتات ترتفع بعبارة: فليبارك الرب أمريكا.
مررنا بعدها بالطرق الحرة جنوب شيكاجو لنجد إصلاحات بها، ونقاطا غير متوقعة لتحصيل الرسوم، والمطعم الذي بني على معبر علوي وقد صار الآن خاويا على عروشه ويعمه الظلام، بعد أن كان إحدى عجائب الزمن السالف. وصارت جوليت محاطة بمنازل حضرية جديدة، مثل أي مدينة في هذه الأيام؛ فتجد المنازل تمتد على مدى أفدنة وأميال، تتشابه فيما بينها سواء أكانت متصلة أم منفصلة. وحتى هذه المنازل، في رأيي، مفضلة عن المنازل الجديدة الأكبر مساحة الموجودة هنا أيضا في أماكن مميزة، دون تشابه كبير بينها من حيث الشكل ولكنها جميعا تشترك في بعض الأشياء؛ فلها سقيفة واسعة للسيارات ونوافذ عالية تشبه نوافذ الكاتدرائية. •••
لم تسجل أي وفيات في جوليت حتى عام 1843، ولم يكن أي من عائلة ليدلو مدرجا ضمن قائمة المستوطنين الأوائل أو هؤلاء الذين دفنوا في الجبانات القديمة الأولى. يا لها من حماقة مني أن آتي إلى مكان كهذا - أي إلى مكان عمه الرخاء، أو حتى حدث به نمو، خلال القرن الماضي - على أمل الحصول على فكرة عما كانت عليه الأمور قبل أكثر من مائة وخمسين عاما، وبحثا عن مقبرة وذكرى. ولم يلفت انتباهي في السجلات سوى شيء واحد. «مقبرة مجهولة.»
في ركن ما من بلدة هومر، توجد مقبرة لم يعثر فيها إلا على شاهدين فقط، ولكن كان بها ما يقرب من عشرين شخصا في وقت ما حسبما يقال. يحمل الشاهدان المتبقيان، وفقا للسجلات، أسماء أشخاص ماتوا في عام 1837. ويخمن أن بعضا من الأشخاص الآخرين ربما كانوا من الجنود الذي قضوا نحبهم في حرب بلاك هوك.
هذا يعني أن ثمة مقبرة كانت موجودة قبل وفاة ويل.
فتوجهنا إلى هناك مستقلين السيارة في اتجاه الركن رقم 143 وبلدة باركر. في الركن الشمالي الغربي، يوجد ملعب جولف، وعلى الركنين الشمالي الشرقي والجنوبي الشرقي منازل حديثة البناء بساحات خارجية تطل على الشارع. وعلى الركن الجنوبي الغربي يوجد منازل، جديدة نوعا ما أيضا، ولكن مع الفارق أن ساحاتها الخارجية التي تطل على الركن لا تمتد إلى الشارع حيث يفصلها عنه سور عال . وبين هذا السور والشارع قطعة أرض صارت مقفرة تماما.
تسلقت السور بصعوبة ورحت أزيح بيدي نباتات اللبلاب السام جانبا. وفي وسط الأشجار نصف النامية والشجيرات الصغيرة التحتية التي لا يمكن اختراقها، جلست مختبئة عن الشارع أحدق في كل ما حولي؛ لم أستطع أن أعتدل في وقفتي؛ بسبب أفرع الأشجار. لم أر أي شواهد قبور مائلة أو منهارة أو محطمة، أو أي نباتات نامية - كشجيرات ورد على سبيل المثال - قد تمثل علامة على وجود قبور هنا يوما ما. إنه مكان لا جدوى منه. وتملكني الخوف من اللبلاب السام؛ فتلمست طريقي إلى الخارج.
ولكن لم بقيت الأرض المقفرة هناك؟ إن دفن البشر هو واحد من الأسباب القليلة جدا لعدم استغلال أي أرض في نشاط بشري هذه الأيام حين تكون كل الأرض المحيطة بها مستغلة.
واستطعت أن أقتفي أثر ذلك، هذا ما يفعله الناس، بمجرد أن يبدءوا سوف يتتبعون أي خيط، فيغرق الناس الذين لم يمارسوا القراءة إلا قليلا طوال حياتهم أنفسهم وسط الوثائق، والبعض ممن كانوا يجدون صعوبة في إخبارك بالسنوات التي بدأت فيها الحرب العالمية الأولى وانتهت سوف يحتارون فيما يتعلق بالتواريخ التي من القرون الماضية. نحن في حالة من الحيرة. هذا ما يحدث في أغلب الأحيان في مشيبنا، حين ينغلق مستقبلنا الشخصي ولا نستطيع تخيل مستقبل أحفادنا، وأحيانا لا نستطيع الإيمان به؛ فليس بمقدورنا مقاومة هذا التنقيب في الماضي، وغربلة الأدلة غير الموثوقة، وربط الأسماء الشاردة والتواريخ المشكوك فيها والنوادر معا، والتشبث بالخيوط الرفيعة، والإصرار على الارتباط بالموتى ومن ثم بالحياة. •••
ثمة مقبرة أخرى في بليث، حيث نقل جثمان جيمس لدفنه بعد عقود من مصرعه إثر سقوط شجرة عليه. وهنا دفنت ماري سكوت، التي كتبت خطابا من إتريك لاستمالة الرجل الذي كانت ترغب في قدومه والزواج منها. وكتب على شاهد قبرها اسم ذلك الرجل، «ويليام ليدلو». «المتوفى في إلينوي». ولا أحد يعلم أين دفن سوى الرب.
وبجوارها رقد جثمان وشاهد قبر ابنتها جين، الفتاة التي ولدت يوم وفاة والدها، ونقلت من إلينوي وهي رضيعة، وتوفيت وهي في السادسة والعشرين من عمرها وهي تلد طفلها الأول. ولم تقض ماري نحبها إلا بعد وفاة ابنتها بعامين، ما يعني أنها قد تلقت صدمة أخرى كان عليها أن تمتصها قبل أن تنتهي هي الأخرى.
وبالقرب من جين يرقد جثمان زوجها. كان اسمه نيل أرمور ومات شابا هو الآخر. وكان شقيقا لمارجريت أرمور التي كانت زوجة لتوماس ليدلو، وهما أبناء جون أرمور، أول مدرس بمدرسة إس إس رقم 1 ببلدة موريس، حيث كان العديد من أفراد عائلة ليدلو يدرسون. وقد سمي الرضيع الذي كلف جين حياتها جيمس أرمور.
وهنا تأتيني ذكرى حية تخترق ذهني برعشة تسري عبره. جيمي أرمور. «جيمي أرمور». لست أدري ماذا حدث له ولكني أعرف اسمه. وليس هذا فحسب، بل أعتقد أنني قد رأيته مرة أو أكثر من مرة، رجل عجوز جاء في زيارة من المكان الذي كان يعيش فيه إلى المكان الذي ولد فيه، كان عجوزا وسط عجز آخرين؛ جدي وجدتي وشقيقات جدي. والآن يخطر لي أنه لا بد أنه قد تربى ونشأ مع هؤلاء الناس؛ أقصد جدي وعماتي الكبيرات، أبناء توماس ليدلو ومارجريت أرمور؛ فقد كانوا أبناء عمومته من الدرجة الأولى، بل أبناء عمومة مزدوجة من الدرجة الأولى. عمتي آني، وعمتي جيني، وعمتي ماري، وجدي ويليام ليدلو، الذي أشار إليه أبي ب «الأب» في مذكراته الشخصية.
والآن، كل تلك الأسماء التي كنت أدونها ترتبط بالأحياء في ذهني، وبالمطابخ القديمة التي لم تعد موجودة، بالإطارات المصقولة المصنوعة من النيكل على المواقد السوداء الكبيرة، وألواح التصريف الخشبية ذات الرائحة الكريهة والتي لا تجف أبدا، والضوء الأصفر لمصابيح الكيروسين. علب القشدة على الرواق، التفاح المخزن في القبو، مداخن المواقد التي تمر عبر الفتحات في السقف، الإسطبل الذي يعمه الدفء في الشتاء من أثر أجسام الأبقار وأنفاسها؛ تلك الأبقار التي كنا لا نزال نتحدث إليها بكلمات كانت شائعة في زمن حرب طروادة. الردهة الباردة المغطاة بالمشمع حيث كان يوضع التابوت حين يفارق الناس الحياة.
وفي واحد من هذه المنازل - لا أذكر منزل من - كان ثمة حاجز باب سحري عبارة عن صدفة لؤلؤة كبيرة كنت أعتبرها كرسول يأتيني بالأخبار من كل مكان؛ لأنني كان بإمكاني أن أضعها عند أذني - عندما لا يوجد من قد يستوقفني - وأكتشف ذلك التدفق الهائل لدمي، وللبحر.
Bilinmeyen sayfa